يعقوب بن إسحاق (ع)
* لقبه اسرائيل وبنوه بنو إسرائيل.
* تشريع اللّه جل اسمه لهم أحكاما استثنائية.
* آيات كريمة.
* شرح الكلمات.
* تفسير الايات.
يعقوب بن إسحاق الملقّب بإسرائيل وبنوه بنو إسرائيل
وما شرّع اللّه لهم من أحكام
أ ـ في سورة آل عمران:
(كُلُّ الطَّعامِ كان حلاً لبني إسرائيلَ إلاّ ما حرَّم إسرائيلُ على نفسِه من قبلِ أن تُنزَّل التَّوراةُ قُل فأتُوا بالتَّوراةِ فاتلُوها إن كُنتُم صادقينَ)(الاية: 93)
ب ـ في سورة الاسراء:
(وآتينا مُوسى الكِتاب وجعلناهُ هُدىً لبني إسرائيل...)(الاية: 2)
ج ـ في سورة السجدة:
(ولقد آتينا مُوسى الكتابَ فلا تكُن في مريةٍ من لقائِه وجعلناهُ هُدىً لبني إسرائيل)(الاية: 23)
د ـ في سورة المائدة:
(إنّا أنزلنا التَّوراةَ فيها هُدىً ونُورٌ يحكُمُ بها النَّبيُّون الّذين أسلموا للَّذين هادوا والرَّبانيُّون والاحبارُ بما استُحفظوا من كتابِ اللّهِ وكانوا عليه شُهداء فلا تخشوُا النّاسَ واخشونِ ولا تشترُوا بآياتي ثمنا قليلاً ومن لم يحكُم بما أنزل اللّهُ فاُولئك هُمُ الكافرُونَ)(الاية: 44)
هـ ـ في سورة الصف:
(وإذ قال مُوسى لقومِه يا قومِ لمَ تُؤذُونني وقد تعلمُونَ أنّي رسُولُ اللّهِ إليكُم) (الاية: 5)
و ـ في سورة آل عمران:
(... يا مريمُ إنَّ اللّه يُبشِّرُكِ بكلمةٍ منهُ اسمُهُ المسيحُ عيسى ابنُ مريم وجيها في الدُّنيا والاخرةِ ومن المُقربينَ *... * ورسولاً إلى بني إسرائيلَ...) (الايتان:45 و49)
ز ـ في سورة الصف أيضا:
(وإذ قال عيسى ابنُ مريمَ يا بني إسرائيل إنّي رسُولُ اللّهِ إليكم...)(الاية:6)
أ ـ هادُوا:
هاد هنا بمعنى دان باليهودية.
ب ـ الربّانيون:
الربّاني: العالم الراسخ في علوم الدين.
ج ـ الاحبار:
جمع الحبر بكسر الحاء وفتحها: العالم، واُطلق الحبر في القرآن على علماء أهل الكتاب.
د ـ كلمة:
الكلمة هنا بمعنى المخلوق الّذي خلقه اللّه تعالى بكلمة (كن) أو نحوها دون توسط المألوف من أسباب الخلق.
هـ ـ المسيح:
لقب نبي اللّه عيسى (ع) لانّه كان يمسح ذا العاهة فيبرأ، وقالوا غير ذلك ولكنّا فضّلنا هذا المعنى على غيره مما ذكروا في معنى المسيح.
أحكام استثنائية لقوم في ظروف استثنائية:
عاش بنو إسرائيل في ديار الغربة بمصر حياة الذلّة والقلّة: استعبدهم الاقباط وقتلوا أبناءهم واستحيوا نساءهم، ولمّا نجّاهم اللّه من مصر كان عليهم أن يقاتلوا أقواما طغاة جبابرة في الشام بعد أن تجسّدت فيهم روح الاستضعاف والخوف والجبن والهلع على أثر استعبادهم في مصر نسلاً بعد نسل وجيلاً بعد جيل، فاقتضت الحكمة الربانية أن يشرّع لحياتهم نظاما يقوّي فيهم روح الاعتماد على النفس والاعتزاز بآبائهم الانبياء والرسل وأنّهم متميّزون عن الاقوام الكافرة الطاغية الذين يقاتلونهم، وكان أوّل ما شرّع لهم في هذا السبيل تحريم ما حرّم أبوهم نبي اللّه إسرائيل على نفسه ليشعروا بامتياز نبوّة إسرائيل نبي اللّه، ثم أتمّ التشريع الخاص لهم بإنزال التوراة على موسى والانجيل على عيسى، وسوف نذكر بعض ذلك بعد دراسة خبر شُعيب حفظا لتسلسل أخبار الانبياء حسب تسلسل زمانهم.
* سيرته مع قومه في آيات كريمة.
* شرح الكلمات.
* تفسير الايات.
أ ـ في سورة هـود:
(وإلى مدينَ أخاهُم شُعيبا قال يا قومِ اعبُدوا اللّهَ ما لكُم من إلهٍ غيرُهُ ولا تنقُصُوا المكيالَ والميزانَ إنّي أراكُم بخيرٍ وإنّي أخافُ عليكُم عذابَ يومٍ مُحيطٍ* ويا قومِ أوفُوا المكِيال والميزان بالقسطِ ولا تبخسُوا النَّاسَ أشياءهُم ولا تعثوا في الارضِ مُفسدينَ * بقيَّةُ اللّهِ خيرٌ لكُم إن كُنتُم مُؤمنينَ وما أنا عليكُم بحفيظٍ* قالوا يا شُعيبُ أصلاتُك تأمُرُك أن نترُكَ ما يعبُدُ آباؤنا أو أن نفعلَ في أموالِنا ما نشاء إنّك لانت الحليمُ الرَّشيدُ * قال يا قومِ أرأيتُم إن كُنتُ على بينةٍ من ربّي ورزقني منهُ رزقا حسنا وما اُريدُ أن أُخالفَكُم إلى ما أنهاكُم عنهُ إن أُريد إلاّ الاصلاحَ مَا استطعتُ وما توفيقي إلاّ باللّهِ عليه توكَّلتُ وإليه أُنيبُ * ويا قومِ لا يجرمنَّكُم شقاقي أن يُصيبَكُم مثلُ ما أصاب قومَ نُوحٍ أو قوم هُودٍ أو قوم صالحٍ وما قومُ لُوطٍ منكُم ببعيدٍ * واستغفروا ربَّكُم ثُمَّ توبوا إليه إنّ ربّي رحيمٌ ودُودٌ* قالُوا يا شُعيبُ ما نفقهُ كثيرا ممّا تقُولُ وإنّا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطُك لرجمناك وما أنت علينا بعزيزٍ * قال يا قومِ أرهطي أعزُّ عليكُم من اللّهِ واتَّخذُوتُموهُ وراءكُم ظهريّا إنّ ربّي بما تعملون مُحيط * ويا قومِ اعملوا على مكانتِكُم إنّي عاملٌ سوف تعلمُون من يأتيه عذابٌ يُخزيه ومن هُو كاذبٌ وارتقبوا إنّي معكُم رقيبٌ* ولمّا جاء أمرُنا نجَّينا شُعيبا والّذين آمنوا معهُ برحمةٍ منّا وأخذت الّذين ظلمُوا الصَّيحةُ فأصبحوا في ديارهم جاثمينَ * كأن لم يغنوا فيها ألا بُعدا لمدينَ كما بعدت ثمُودُ) (الايات: 84 ـ 95)
ب ـ في سورة الاعراف:
(قال الملاُ الّذين استكبروا من قومِه لنُخرجنَّك يا شُعيبُ والّذين آمنوا معك من قريتِنا أو لتعُودُنَّ في ملَّتنا قال أولو كُنّا كارهينَ * قد افترينا على اللّهِ كذبا إن عُدنا في ملَّتِكُم بعد إذ نجّانا اللّهُ منها...)(الايتان: 88 ـ 98)
أ ـ مَدْيَن:
مَدْيَن: اسم قوم شُعيب وباسمهم سُمّيت مدينتهم، وفي معجم البلدان انّها على بحر القلزم ـ البحر الاحمر ـ محاذية لتبوك نحو ست مراحل.
وقيل: إنّها بين وادي القرى والشام، ووادي القرى مجموعة قرىً كانت قريبة من المدينة.
ب ـ لا يَجْرِمَنَّكُم:
جرم الشيء: كسب المكروه، وجرمه الشيء أكسبه المكروه، وجرمه: حمله عليه.
ج ـ شِقاقي:
شاقّه شِقاقا: خالفه وعاداه.
د ـ تَعثوا:
عثا: أفسد أشدّ الافساد.
هـ ـ بقيّة اللّه:
البقيّة اسم للشيء الباقي، والبقيّة هنا بمعنى طاعة اللّه وما ادُّخر عنده من ثواب.
أرسل اللّه شُعيبا إلى مَدْيَن بشيرا ونذيرا فقام بدعوتهم إلى العمل بشريعة إبراهيم (ع) الحنيفة، وكان قومه أهل مدين كسائر الاُمم المشركة باللّه التي تتّصف بذمائم الاخلاق موبوؤون بأفسد الاخلاق الذميمة، وكان أهل مدين قوم شعيب يبخسون الناس أشياءهم وينقصون المكيال والميزان ويرون ذلك من حقّهم لانّهم أحرار في التصرّف بأموالهم، ولم تنفعهم دعوة شعيب ونصحه وتنبيههم إلى ما أصاب الاقوام المشركة قبلهم من العذاب؛ وقالوا له: (لنُخرجنَّك ومن اتّبعك من قريتنا أو لتعُودُنَّ في ملَّتنا)؛ إذا فإنّ قوم شعيب كانوا يرون لانفسهم الحريّة في ظلم الاخرين وهضم حقوقهم ولا يرون ذلك لشعيب والمؤمنين في عبادتهم للّه وحده وترك الاخلاق الذميمة، وتارة يستهزئون بشعيب ويقولون له:
أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو نفعل في أموالنا ما نريد؟ ويزدادون عتوّا وظلما ويقولون له: لولا رهطك فينا لرجمناك، ومن هذه الاية وممّا نعلم من نسب خاتم الانبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) ندرك أنّ اللّه كان يصطفي رسله من أعزّ رهط في قومه ليدافع رهطه عنه في تبليغه رسالات اللّه.
ولما كذّبوه واستضعفوه وسائر المؤمنين معه استحقّوا العذاب فأهلكهم بالصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين، وأرسل اللّه بعد شعيب موسى (ع) وسائر انبياء بني اسرائيل كما نورد اخبارهم في ما يأتي باذنه تعالى:
اخبار بني اسرائيل وانبيائهم وتفصيل حالاتهم الاستثنائية في القرآن الكريم
* ولادة موسى وتبني فرعون ايّاه.
* آيات اللّه التسع.
* بنو اسرائيل في سيناء.
* داود وسليمان(ع).
* زكريا ويحيى(ع).
* عيسى بن مريم(ع).
المشهد الاول: ولادة موسى وتبني فرعون ايّاه
قال اللّه سبحانه وتعالى في سورة القصص:
أ ـ (وأوحينا إلى أُم مُوسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليمِّ ولا تخافي ولا تحزني إنّا رادُّوهُ إليك وجاعلُوهُ من المُرسلينَ * فالتقطهُ آلُ فرعونَ ليكُون لهُم عدُوّا وحزنا إنَّ فرعونَ وهامانَ وجُنُودَهُما كانُوا خاطئينَ * وقالت امرأةُ فرعونَ قُرَّةُ عيّنٍ لِي ولك لا تقتُلُوهُ عسى أن ينفعنا أو نتَّخذهُ ولدا وهُم لا يشعُرُونَ * وأصبح فُؤادُ أُمّ مُوسى فارغا إن كادت لتُبدي به لولا أن رَبطنا على قلبها لتكُونَ من المُؤمنينَ * وقالت لاُختِه قُصّيه فبصُرت به عن جُنُبٍ وهُم لا يشعُرُون * وحرَّمنا عليه المراضعَ من قبلُ فقالت هل أدُلُّكُم على أهلِ بيتٍ يكفُلُونه لكُم وهُم لهُ ناصحُونَ * فرددناهُ إلى أُمِّهِ كي تقرّ عينُها ولا تحزن ولتعلم أنَّ وعدَ اللّه حقُّ ولكنَّ أكثرهُم لا يعلمُونَ)(1) (الايات: 7 ـ 13)
شرح الكلمات:
أ ـ فارغا:
ذاهلاً من الحزن.
ب ـ قصّيه: تتبّعي أثره.
ج ـ فبصرت به عن جُنبٍ: عن بعد.
المشهد الثاني: آيات اللّه التسع
قال اللّه سبحانه:
أ ـ في سورة النمل:
(إذ قال مُوسى لاهلِه إنّي آنستُ نارا سآتيكُم منها بخبرٍ أو آتيكُم بشهابٍ قبسٍ لَعلَّكُم تصطلُونَ * فلمَّا جاءها نُودي أن بُورك من في النَّارِ ومن حولهَا وسُبحان اللّهِ ربِّ العالمين * يا مُوسى إنَّـهُ أنا اللّهُ العزيزُ الحكيمُ * وألقِ عصاك فلمَّا رَآها تهتزُّ كأنَّها جانُّ ولَّى مُدبرا ولم يُعقّب يا مُوسى لا تخف إنّي لا يخافُ لديَّ المُرسلُون * إَّلا من ظلم ثُمَّ بدَّل حُسنا بعد سُوء فإنّي غفُورٌ رحيمٌ * وأدخل يدك في جيبك تخرُجْ بيضاء من غيرِ سُوء في تسعٍ آياتٍ إلى فرعونَ وقومِه إنَّهُم كانُوا قوما فاسقين)(الايات: 7 ـ 12)
ب ـ في سورة الاعراف:
(ثُمَّ بعثنا من بعدهم مُوسى بآياتنا إلى فرعون وَمَلَئهِ فظلمُوا بها فانُظر كيف كان عاقبةُ المُفسدينَ * وقال مُوسى يا فرعونُ إنّي رسُولٌ من ربّ العالمينَ* حقيقٌ على أن لا أقُول على اللّه إلاّ الحقَّ قد جئتُكُم ببيّنةٍ من ربّكُم فأرسل معي بني إسرائيلَ * قال إن كُنتَ جئت بآيةٍ فأتِ بها إن كُنت من الصادقينَ * فألقى عصاهُ فإذا هي ثُعبانٌ مُبينٌ * ونزع يدَهُ فإذا هي بيضاء للنَّاظرينَ * قال الملاُ من قومِ فرعونَ إنَّ هذا لساحرٌ عليمٌ * يُريدُ أن يُخرجكُم من أرضِكُم فماذا تأمُرُونَ * قالُوا أرجه وأخاهُ وأرسلْ في المدائنِ حاشرينَ * يأتُوك بكُلّ ساحرٍ عليمٍ * وجاء السحرةُ فرعونَ قالُوا إنَّ لنا لاجرا إن كُنَّا نحنُ الغالبينَ * قال نعم وإنَّكُم لمن المُقرَّبين * قالُوا يا مُوسى إمَّا أن تُلقي وإمَّا أن نَكُون نحنُ المُلقينَ * قال ألقُوا فلمَّا ألقوا سحرُوا أعيُن النَّاسِ واسترهبُوهُم وَجاؤُوا بِسحرٍ عظيمٍ * وأوحينا إلى مُوسى أن ألقِ عصاك فإذا هي تلقفُ ما يأفكُونَ * فوقع الحقُّ وبطل ما كانُوا يعملُونَ * فغُلبُوا هُنالك وانقلبُوا صاغرين * وأُلقي السحرةُ ساجدينَ * قالُوا آمنَّا بربّ العالمينَ * ربّ مُوسى وهارُونَ * قال فرعونُ آمنتُم به قبل أن آذن لكُم إنَّ هذا لمكرٌ مكرتُمُوهُ في المدينة لتُخرجُوا منها أهلَها فسوف تعلمُونَ * لاُقطّعنَّ أيديكُم وأرجُلكُم من خلافٍ ثُمَّ لاُصلّبنَّكُم أجمعينَ * قالُوا إنَّا إلى ربّنا مُنقلبُونَ * وما تنقمُ منَّا إَّلا أن آمنَّا بآياتِ ربّنا لمَّا جاءتنا ربَّنا أفرغ علينا صبرا وتوفَّنا مُسلمين * وقال الملاُ من قوم فرعونَ أتذرُ مُوسى وقومَهُ ليُفسدُوا في الارض ويذرَك وآلهتَك قال سنُقتّلُ أبناءهُم ونستحيي نساءهُم وإنَّا فوقهُم قاهرُونَ * قال مُوسى لقومه استعينُوا باللّه واصبرُوا إنَّ الارضَ للّهِ يُورثُها من يشاء من عبادِه والعاقبةُ للمُتَّقينَ * قالُوا أُوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربُّكُم أن يُهلكَ عدُوَّكُم ويستخلفكُم في الارضِ فينظُر كيف تعملُونَ * ولقد أخذنا آل فرعونَ بالسّنين ونقصٍ من الثَّمراتِ لعلَّهُم يذَّكَّرُونَ * فإذا جاءتهُمُ الحسنةُ قالُوا لنا هذه وإن تُصبهُم سيئةٌ يطَّيَّرُوا بمُوسى ومن مَعهُ ألا إنَّما طائرهم عند اللّهِ ولكنَّ أكثرهُم لا يعلمُونَ * وقالُوا مهما تأتنا به من آيةٍ لتسحرنا بها فما نحنُ لك بمُؤمنين* فأرسلنا عليهمُ الطُّوفانَ والجرادَ والقُمَّلَ والضَّفادعَ والدَّمَ آياتٍ مُفصَّلاتٍ فاستكبروا وكانُوا قوما مُجرمينَ * ولمّا وقع عليهمُ الرجزُ قالُوا يا موسى ادعُ لنا ربَّك بما عهد عندك لئن كشفت عنَّا الرّجزَ لنُؤمننَّ لك ولنُرسلنَّ معك بني إسرائيل * فلمَّا كشفنا عنهُمُ الرجزَ إلى أجلٍ هُم بالغُوهُ إذا هُم ينكُثُون)(2) (الايات:103 ـ 135)
ج ـ في سورة الشعراء:
(فأخرجناهُم من جنَّاتٍ وعُيُونٍ * وكُنُوزٍ ومقامٍ كريمٍ * كذلك وأورثناها بني إسرائيل * فأتبعُوهُم مُشرقين * فلمَّا ترَاءى الجمعان قال أصحابُ مُوسى إنَّا لمُدركُون * قال كّلا إنَّ معِيَ ربّي سيهدين * فأوحينا إلى مُوسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كُلُّ فرقٍ كالطَّود العظيم * وأزلفنا ثمَّ الاخرين* وأنجينا مُوسى ومن مَعهُ أجمعين * ثُمَّ أغرقنا الاخرين)(الايات:57ـ66)
د ـ في سورة يونس:
(وجاوزنا ببني اسرائيلَ البحرَ فأتبعهم فرعونُ وجنودُه بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرقُ قال آمنت أنه لا إله إلاّ الذي آمنت به بنو إسرائيلَ وأنا من المسلمين* آلان وقد عصيتَ قبلُ وكنتَ من المفسدينَ * فاليوم ننجّيك ببدنِك لتكونَ لمنْ خلفكَ آيةً وإن كثيرا من الناسِ عن آياتِنا لغافلونَ)(الايات: 90 ـ 92)
المشهد الثالث ـ بنو اسرائيل في سيناء
أخبار طغيان بني إسرائيل في زمان موسى (ع) وما بعده:
أ ـ في سورة الاعراف:
(وجاوزنا ببني إسرائيلَ البحرَ فأتوا على قومٍ يعكُفُونَ على أصنامٍ لهُم قالُوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهةٌ قال إنَّكُم قومٌ تجهلُونَ * إنّ هؤلاء مُتبَّرٌ ما هُم فيه وباطلٌ ما كانوا يعملونَ * قال أغير اللّه أبغيكُم إلها وهُو فضَّلكُم على العالمينَ *... * وقطَّعناهُمُ اثنتي عشرة أسباطا أُمما وأوحينا إلى مُوسى إذ استسقاهُ قومُهُ أن اضرب بعصاك الحجرَ فانبجست منهُ اثنتا عشرةَ عينا قد علم كُلُّ أُناسٍ مشربَهُم وظلَّلنا عليهمُ الغمامَ وأنزلنا عليهمُ المنَّ والسَّلوى كُلُوا من طيِّباتِ ما رزقناكُم وما ظلمُونا ولكن كانوا أنفُسهم يظلمونَ * وإذ قيل لهُم اسكُنوا هذه القريةَ وكُلوا منها حيثُ شئتُم وقُولوا حطَّةٌ وادخُلوا البابَ سُجَّدا نغفرْ لكُم خطيئاتِكُم سنزيدُ المُحسنينَ * فبدَّل الّذين ظلموا منهُم قولاً غير الّذي قيل لهُم فأرسلنا عليهم رجزا من السَّماء بما كانوا يظلمون * واسألهُم عن القرية الّتي كانت حاضرةَ البحرِ إذ يعدُون في السَّبتِ إذ تأتيهم حيتانُهُم يومَ سبتهم شُرَّعا ويوم لا يسبتُون لا تأتيهم كذلك نبلُوهُم بما كانوا يفسُقُونَ *... * فلمّا عتوا عن ما نُهُوا عنهُ قُلنا لهُم كونوا قردةً خاسئينَ)(الايات: 138 ـ 140 و 160 ـ 164 و 166)
ب ـ في سورة طه:
(يا بني إسرائيلَ قد أنجيناكُم من عدُوِّكُم وواعدناكُم جانبَ الطُّورِ الايمنَ ونزَّلنا عليكُمُ المنَّ والسّلوى * كُلوا من طيِّباتِ ما رزقناكُم ولا تطغوا فيه فيحلَّ عليكُم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى * وإنّي لغفّارٌ لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثُمَّ اهتدى * وما أعجلك عن قومِك يا موسى * قال هُم أُولاء على أثري وعجلتُ إليك ربِّ لترضى * قال فإنّا قد فتنّا قومَك من بعدِك وأضلَّهُمُ السّامريُّ * فرجع موسى إلى قومِه غضبانَ أسفا قال يا قومِ ألم يعدكُم ربّكُم وعدا حسنا أفطال عليكُمُ العهدُ أم أردتُم أن يحلَّ عليكُم غضبٌ من ربِّكُم فأخلفتُم موعدي * قالوا ما أخلفنا موعدَك بملكِنا ولكنّا حُمِّلنا أوزارا من زينةِ القومِ فقذفناها فكذلك ألقى السّامريُّ * فأخرج لهم عجلاً جسدا لهُ خُوارٌ فقالوا هذا إلهُكُم وإلهُ مُوسى فنسيَ * أفلا يرون ألاّ يرجعُ إليهم قولاً ولا يملكُ لهُم ضرّا ولا نفعا * ولقد قال لهُم هارونُ من قبلُ يا قومِ إنّما فُتنتُم به وإنّ ربَّكُمُ الرَّحمنُ فاتَّبعُوني وأطيعوا أمري * قالوا لن نبرح عليه عاكفينَ حتّى يرجعَ إلينا مُوسى * قال يا هارُونُ ما منعك إذ رأيتهُم ضلّوا * ألاّ تتَّبعنِ أفعصيت أمري * قال يابن أُمَّ لا تأخُذ بلحيتي ولا برأسي إنّي خشيتُ أن تقُول فرَّقت بين بني إسرائيلَ ولم ترقُب قولي * قال فما خطبُك يا سامريُّ * قال بصُرتُ بما لم يبصُروا به فقبضتُ قبضةً من أثرِ الرَّسُولِ فنبذتُها وكذلك سوَّلت لي نفسي * قال فاذهب فإنَّ لك في الحياةِ أن تقول لا مساس وإنَّ لك موعدا لن تُخلَفهُ وانظُر إلى إلهِك الَّذي ظلت عليه عاكفا لنُحرِّقنَّهُ ثُمَّ لننسفنَّهُ في اليمِّ نسفا * إنّما إلهكُمُ اللّهُ الّذي لا إله إلاّ هو وسع كُلَّ شيء علما)(الايات: 80 ـ 98)
ج ـ في سورة البقرة:
(وإذ واعدنا مُوسى أربعينَ ليلةً ثمَّ اتَّخذتُمُ العجلَ من بعدِه وأنتُم ظالمون*...* وإذ قال موسى لقومه يا قوم إِنّكم ظلمتُم أنفُسَكُم باتِّخاذكُمُ العجل فتُوبوا إلى بارئكُم فاقْتُلوا أنفُسكُم ذلكُم خيرٌ لكم عند بارئِكم فتاب عليكُم إنّهُ هُو التّوّابُ الرَّحيمُ * وإذ قُلتُم يا موسى لن نُؤمنَ لك حتّى نرى اللّهَ جهرةً فأخذتكُمُ الصّاعقةُ وأنتُم تنظُرونَ * ثُمَّ بعثناكُم من بعد موتِكُم لعلَّكم تشكرونَ * وظلَّلنا عليكُمُ الغمامَ وأنزلنا عليكُمُ المنَّ والسَّلوى كُلُوا من طيِّباتِ ما رزقناكُم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفُسهم يظلمونَ)(الايات: 51 و 54 ـ 57)
د ـ في سورة الاعراف ـ أيضا ـ:
(واختار موسى قومَهُ سبعينَ رجُلاً لميقاتِنا فلمّا أخذتهُمُ الرَّجفةُ قال ربِّ لو شئت أهلكتهُم من قبلُ وإيّاي أتُهلكُنا بما فعل السُّفهاء منّا إن هي إلاّفتنتُك...)(الاية: 155)
هـ ـ في سورة البقرة ـ أيضا ـ:
(وإذ قُلتُم يا موسى لن نصبرَ على طعامٍ واحدٍ فادعُ لنا ربَّك يخرجْ لنا ممّا تُنبتُ الارضُ من بقلِها وقثّائِها وفُومِها وعدسِها وبصلِها قال أتستبدلُونَ الّذي هُو أدنى بالّذي هُو خيرٌ اهبطوا مصرا فإنَّ لكُم ما سألتُم وضُربت عليهمُ الذِّلَّةُ والمسكنةُ وباؤُوا بغضبٍ من اللّهِ ذلك بأنَّهُم كانوا يكفُرون بآياتِ اللّهِ ويقتُلُونَ النَّبيِّين بغير الحقِّ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدُونَ)(الاية: 61)
و ـ في سورة المائدة:
(وإذ قال موسى لقومِه يا قومِ اذكُروا نعمةَ اللّهِ عليكُم إذ جعل فيكُم أنبياء وجعلكُم مُلُوكا وآتاكُم ما لم يُؤتِ أحدا من العالمينَ * يا قومِ ادخُلوا الارضَ المُقدَّسةَ الّتي كتب اللّهُ لكُم ولا ترتدّوا على أدبارِكُم فتنقلبوا خاسرينَ * قالوا يا مُوسى إنَّ فيها قوما جبّارينَ وإنّا لن ندخُلَها حتّى يخرُجوا منها فإن يخرُجوا منها فإنّا داخلونَ * قال رجُلانِ من الّذين يخافون أنعم اللّهُ عليهما ادخُلوا عليهمُ البابَ فإذا دخلتُموه فإنّكُم غالبونَ وعلى اللّهِ فتوكَّلوا إن كُنتُم مؤمنينَ * قالوا يا موسى إنّا لن ندخُلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربُّك فقاتلا إنّا هاهُنا قاعدونَ * قال ربِّ إنّي لا أملكُ إلاّ نفسي وأخي فافرُق بيننا وبين القومِ الفاسقينَ * قال فإنّها مُحرَّمةٌ عليهم أربعينَ سنةً يتيهون في الارضِ فلا تأسَ على القومِ الفاسقينَ) (الايات: 20 ـ 26)
ز - في سورة القصص:
(إنَّ قارونَ كانَ مِنَ قَوْمِ مُوسىَ فَبَغى عَلَيْهِم وَآتَيْناهُ مِنَ الكُنوزِ مَا إنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوء بِالعُصْبَةِ أُولى القُوَّةِ إذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَح إنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الفَرِحينَ * وَابتَغِ فيما آتاكَ اللّهُ الدّارَ الاخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصيبَكَ مِنَ الدُّنيا وَأَحْسِن كَما أَحْسَنَ اللّهُ إلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الفَسادَ في الارضِ إنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ المُفسدين * قال إنَّما أُوتيتُهُ عَلى عِلمٍ عندي أوَلَمْ يَعْلَمْ أنّ اللّهَ قَدْ أهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرونِ مَن هُوَ أشَدُّ مِنهُ قُوَّةً وَأكْثَرُ جَمعاً وَلا يُسْأَلُ عَن ذُنوبِهِمُ المُجرِمونَ * فَخرجَ على قَومِهِ في زينَتِهِ قالَ الَّذينَ يُريدونَ الحَياةَ الدُّنيا يا لَيْتَ لَنا مِثلَ ما أُوتي قارونُ إنّهُ لَذُو حَظٍّ عَظيمٍ * وَقالَ الّذينَ أُوتوا العِلمَ وَيْلَكُم ثَوابُ اللّهِ خَيرٌ لِمَن آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقّاها إلاّالصّابِرونَ * فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الارْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرونَهُ مِن دونِ اللّهِ وَما كانَ مِنَ المُنتَصرينَ)(الايات:76 - 81)
شرح الكلمات:
1 ـ جيبك:
جيب القميص: ما ينفتح على النحر.
2 ـ ملئه:
الملا: اشراف القوم ووجوههم وربما اطلق على الجماعة بجملتهم ولا يختصّ بالاشراف.
3 ـ أرجه:
أرجَأ الامر: أخره وأجَّله، وارجه وأخاه: أخّر أمرهما.
4 ـ حاشرين:
حشرهم: جمعهم، وحاشرين: جامعين يجمعون السحرة.
5 ـ تلقف:
لقف الطعام: بلعه، وتلقف: تَبْلع ما صنعه السحرة.
6 ـ يأفكون:
اَفِك يافَكُ: كَذِبَ وافترى، ويأفِكون: يقلبونه عن وجهه.
7 ـ صاغرين: اذلاّ ء.
8 ـ من خِلاف:
قطع الايدي والارجل من خلاف: قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى أو بالعكس.
9 ـ أفرغ:
أفرغ اللّه الصبر على القلوب: اَنزَله عليها.
10 ـ السِّنين:
جمع السَّنة: الجدب والشِدّة، يقال: اصابتهم السّنة.
11 ـ يطّيروا، وطائرهم معهم:
تطير: تشاءم، والطائر هنا: شؤمهم وخيرهم وشرهم. ومعهم اي كل ذلك من انفسهم وليس من غيرهم.
12 ـ الطوفان:
المطر الذي طاف بهم.
13 ـ الجراد:
أي اكل الجراد كل ما كان عندهم من النبت والشجر.
14 ـ القُمَّل:
قالوا في معناه: دويبة من جنس القردان. صغار الذباب والقَمْل.
15 ـ الرجز: العذاب.
16 ـ ينكثون: ينقضون عهدهم.
17 ـ الطود: الجبل العظيم الصاعد في السماء.
18 ـ ازلفنا: ادنيناهم وقرّبناهم من موسى وقومه ليروهم ويتبعوهم حتى يغرقوا.
19 ـ متبّر:
تبّره: اهلكه، ومُتبَّر: مُهلَكٌ.
20 ـ اسباطا:
الاسباط: القبائل كل قبيلة من نسل رجل.
21 ـ انبجست: انفجرت.
22 ـ المَن والسلوى:
المن: فسّر بأنه ندى يشبه العسل الجامد ينزل من السماء على شجر أو حجر ينعقد كالاقراص.
والسلوى: طائر صغير من رتبة الدجاجيات يدعى بالسمان يستوطن البحر ويهاجر.
23 ـ حطّة: حط اللّه وزره: وضعه عنه، وقولوا حطّة: اي قولوا ربّنا حُطّ عنا وزرنا وذنوبنا حطّا.
24 ـ يعدون: يظلمون.
25 ـ بقلها وقثائها وفومها: بقلها: اطائب الخضر التي تؤكل كما هي، القثاء: نوع من البطيخ شبيه الخيار، وفومها:
الحنطة أو الخبز أو الثوم.
26 ـ لا تأسَ على القوم: لا تحزن عليهم.
27 ـ عتوا: استكبروا وجاوزوا الحدّ.
28 ـ شُرّعا: ظاهرة على الماء.
29 ـ خاسئين: اذلاّء مطرودين.
30 ـ خوار: خار الثور والعجل خوارا: صاح.
31 ـ لا مساس: مسّه وماسّه مساسا اجرى يده عليه من غير حائل، ولا مساس هنا المعنى لا تمسّني.
32 ـ يعكفون وعاكفين:
عكف في المكان: اقام فيه ولزمه، وفي المسجد: اقام فيه بنيّة العبادة.
33 ـ نبذتها: طرحتها.
34 ـ سوّلت لك نفسك: اغرتك وزينت لك العمل.
35 ـ ننسفنه: نسفت الريح التراب فرّقته وذرته، والمعنى هنا نذريه في البحر.
36 ـ فتنتك: اختبارك.
37 ـ المسكنة: الفقر والضعف.
38 ـ لن نبرح: لن نزول عن عبادة العجل.
39 ـ لم ترقب: لم تحفظ.
40 ـ خطبك: حالك وشأنك.
كان فرعون يذبح الذكور من مواليد بني اسرائيل لما بلغه انّه يولد فيهم ولد يكون هلاكه وهلاك قومه على يده، وشاءت حكمة الربوبيّة ان يربي فرعون بنفسه ذاك الوليد، وكان ما شاء اللّه ونشأ الوليد في بيت فرعون حتى بلغ اشدَّه(3) ، وخرج من قصر فرعون ذات يوم ودخل المدينة على غفلة منهم فرأى قبطيا وسبطيا(4) يقتتلان، فاستغاثه السبطي على القبطي فوكز القبطي وقضى عليه فأتمر قوم فرعون على قتله فخرج من مصر خائفا يترقب، وسار حتى بلغ مدين فاستأجره نبىٍّّ اللّه شعيب لرعي ماشيته ثماني سنوات أو عشرا ويزوجه احدى ابنتيه، واعطاه عصا ورثها من الانبياء لرعي الماشية(5) فلمّا قضى موسى الاجل سار بأهله حتى بلغ وادي سيناء، فتراءت له نارٌ في ليلة باردة فسار اليها ليأتي منها بقبس أو يجد على النار من يرشده الى الطريق، فلما أتاها نودي: يا موسى اني انا اللّه ربّ العالمين(6) وألقِ عصاك فلمّا رآها تهتز كانّها جان ولّى مدبرا ولم يُعقّب فناداه اللّه: يا موسى لا تخف سنعيدها سيرتها الاولى فمدّ يده اليها فعادت كما كانت عصا من خشب، وقال اللّه له: وادخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء، اذهب بهما في تسع آيات الى فرعون وقومه قال: رب ارسل معي أخي هارون هو افصح مني لسانا، قال سنشُدُّ عضدك باخيك اذهبا الى فرعون انه طغى وقولا له قولا لينّا لعلّه يذّكّر أو يخشى فأْتياه فقولا إنّا رسولا ربّك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذّبهم. وبلّغ كليم اللّه رسالة اللّه إلى فرعون وملئه وأراهم اللّه على يد موسى آياته التسع، فكذب فرعون وابى وقال: اجئتنا لتخرجنا من ارضنا بسحرك يا موسى؟ فلنأتينك بسحر مثله، فجمع السحرة في يوم عيد لهم، فقالوا: يا موسى إمّا ان تلقي وإما ان نكون اوّل من ألقى قال: بل القوا فلمّا القوا سحروا اعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم.
وماجت الساحة في اعين الناس بالحيّات الزاحفة، فقال اللّه سبحانه لموسى: ان الق عصاك فاذا هي تلقف ما يأفكون، فلم يبق في ساحة العرض الواسعة اثر مما ألقوا، عند ذاك مدّ موسى(ع) يده إلى الثعبان العظيم الذي ابتلع كلّ تلك الحبال والعصيّ فعاد في يده عصا كما كانت. وادرك السحرة ان ابتلاع عصا موسى كل تلكم الحبال والعصيّ وافناءها ابد الدهر ليس من باب السحر بل هو من آيات اللّه الكبرى، فالقي السحرة سجّدا قالوا: آمنا بربّ العالمين ربّ موسى وهارون، قال فرعون: آمنتم به قبل ان آذن لكم لاقطعن ايديكم وارجلكم من خلاف ولاُصلّبنّكم قالوا: لا ضير انا الى ربنا منقلبون، وتوالت على فرعون انواع العذاب من الطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم، وكلّما وقع عليهم رجز قالوا: يا موسى ادع لنا ربّك لئن كشف عنّا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني اسرائيل، وكشف اللّه عنهم الرجز بعد الرجز بدعاء موسى واذا هم ينكثون العهد، فاوحى اللّه الى موسى ان اسر بعبادي فسار بهم ليلاً الى البحر الاحمر، فاتبعهم فرعون وجنوده وادركوهم صباحا، فقال بنو اسرائيل: إنّا لمدركون، فأمر اللّه موسى فضرب بعصاه البحر فانفلق عن اثني عشر طريقا يبسا، فاتبعهم فرعون وجنوده حتى اذا خرج آخر اسرائيلي من البحر ودخل آخر قبطي فيه اطبقت المياه عليهم اجمعين، فقال فرعون: آمنت أن لا إله الاّ الذي آمنت به بنو اسرائيل وانا من المسلمين، فقال له: آلان وقد عصيت من قبل فاليوم ننجّيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية. وصدق اللّه العظيم فان جسده المحنّط لا يزال في متاحف مصر معروضا للمشاهدين وكنت ممّن شاهده واعتبر به.
وبعد ان جاوز اللّه ببني اسرائيل البحر واغرق عدوهم وساروا في صحراء سيناء مرّوا على قوم يعبدون اصناما لهم، فقالوا: يا موسى اجعل لنا الها كما لهم آلهة، قال: انكم قوم تجهلون ان هؤلاء باطل عملهم، اغير اللّه اطلب لكم الها وهو فضّلكم على العالمين ـ في عصرهم ـ؟ بارسال الانبياء منهم وفيهم، واتم عليهم أنواع النعم ظلل عليهم الغمام يحميهم حر الشمس واطعمهم المنّ والسلوى، ولكنّهم عصوا امر اللّه عندما امرهم ان يدخلوا الباب سُجّدا شكرا للّه ويقولوا: حطّ ذنوبنا حطّا، فدخلوا الباب من ادبارهم وقالوا: حنطة حمراء و ـ ايضا ـ عصى امر اللّه منهم سكان القرية جيران البحر الذين نهاهم اللّه عن صيد السمك يوم السبت حين تأتيهم الاسماك ظاهرة على الماء، فعصوا امره واصطادوها يوم السبت فمسخهم اللّه قردة خاسئين، وبعد ان ملك بنو اسرائيل امرهم في سيناء واصبحوا مجتمعا انسانيا واحتاجوا شريعة لمجتمعهم واعد اللّه نبيه موسى جانب جبل الطور الايمن ان يؤتيه التوراة بعد ثلاثين ليلة، وذهب لمناجاة ربّه وخلف في قومه اخاه هارون وأكمل رب العالمين موعده مع موسى بعشر ليالٍ فتمّ ميقات ربّ العالمين أربعين ليلة، ففتنهم السامري واضلّهم وجمع منهم حُليّ الذهب التي كانوا قد استعاروها من قوم فرعون وأذابها وصنع لهم منها مجسّمة كالعجل والقى في فيه من تراب موطئ حافر فرس جبرائيل، وكان قد تمثّل بصورة انسان راكب على فرس عندما هبط على موسى.
وبسبب ذلك كان يخرج من فم مجسمة العجل صوت يشبه خوار العجل وكان ذلك كل ما امتازت به تلكم المجسّمة، كذلك سوّلت للسامري نفسه وأغرته بذلك، فقال له موسى (ع): اذهب طريدا في البراري ان مسّك أحد تأخذك واياه الحمى.
فتقول لامساس لا تمسّوني ولك بعد ذلك موعد يوم القيامة بعذاب اللّه، وانظر الى إلهك الذي عكفت على عبادته لنحرّقنه بالنار ثم نذريه في البحر، إن إلهكم اللّه جل وعلا.
وبعد فناء العجل المعبود وهرب السامري الى البراري ادرك عُبّاد العجل من بني اسرائيل خطأهم، واستسلموا لامر اللّه ليقتلهم المؤمنون الذين لم يعبدوا العجل منهم، وكان ذلك توبتهم من حوبتهم، وبعد مباشرتهم بذلك تقبّل اللّه توبتهم بشفاعة نبيهم موسى (ع)، وايضا لم يقبل بنو اسرائيل من موسى انه كليم اللّه وانّه جاءهم منه بالتوراة، وطلبوا منه ان يشهدوا ذلك ويروه بأنفسهم، فاختار منهم سبعين رجلاً وذهب بهم لجبل الطور، ولما سمعوا كلام اللّه قالوا: ارنا اللّه جهرة فأخذتهم الزلزلة وهلكوا، فخشي موسى ان لا يصدقه بنو اسرائيل ان أخبرهم بذلك، فتضرّع الى اللّه واستجاب اللّه دعاءه وأحياهم.
وأيضا قال لهم موسى (ع): يا قوم ادخلوا الارض المقدّسة التي كتبها اللّه لكم، قالوا: يا موسى ان فيها قوما جبّارين ولن ندخلها ابدا حتى يخرجوا منها فاذهب انت وربّك وقاتلا انا هاهنا قاعدون، وقال لهم كالب ويوشع: ادخلوا عليهم الباب فانكم غالبون، وقال موسى: ربّ اني لا املك الاّ نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين، فقال اللّه سبحانه: فانّها محرّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الارض فلا تأس على القوم الفاسقين. فتاهوا فيها اربعين سنة يسيرون في برد الليل إلى الصباح فاذا هم في مكانهم الذي ارتحلوا منه، وتوفي في التيه هارون ثم موسى عليهما السّلام وسار بهم وصيّ موسى يوشع وحارب الجبارين الذين كانوا في بلاد الشام ودخلها مع بني اسرائيل. ووالى اللّه ارسال الانبياء من اوصياء شريعة موسى الى بني اسرائيل، وانتهى العهد الى نبيّ اللّه داود وسليمان كما نقرأ خبرهما في ما ياتي بإذنه تعالى.
المشهد الرابع: داود وسليمان(ع)
أ ـ في سورة «صلى الله عليه وآله وسلم»:
(واذكر عبدنا داود ذا الايد انه أواب * إنّا سخّرنا الجبال معه يسبّحن بالعشي والاشراق * والطير محشورةً كل له أوّابٌ * وشددنا ملكه وآتيناه الحكمةَ وفصلَ الخطابِ *..... * يا داود انا جعلناك خليفةً في الارضِ فاحكم بين الناس بالحق....)(الايات: 17 ـ 20 و 26)
ب ـ في سورة سبأ:
(ولقد آتينا داود منَّا فضلاً يا جبالُ أوّبي معهُ والطَّيرَ وألنَّا لهُ الحديدَ * أن اعمل سابغاتٍ وقدّر في السَّردِ....)(الايتان: 10 و 11)
ج ـ في سورة الانبياء:
(وسخَّرنا مع داوُدَ الجبالَ يُسبّحن والطَّيرَ وكُنَّا فاعلينَ * وعلَّمناهُ صنعةَ لبُوسٍ لَكُم لتُحصنكُم من بأسكُم فهل أنتُم شاكرُونَ)(الايتان: 79 و 80)
د ـ في سورة «صلى الله عليه وآله وسلم»:
(ووهبنا لسليمانَ داودَ نعم العبدُ انه أوّابٌ * قال ربِّ اغفر لي وهب لي مُلكا لا ينبغي لاحدٍ من بعدي إنَّك أنت الوهَّابُ * فسخَّرنا لهُ الرّيحَ تجري بأمرِه رُخاء حيثُ أصاب * والشَّياطين كُلَّ بنَّاء وغوَّاصٍ * وآخرينَ مُقرَّنين في الاصفادِ)
(الايات: 34 ـ 38)
هـ ـ في سورة النمل:
(ولقد آتينا داوُد وسُليمان علما وقالا الحمدُ للّه الَّذي فضَّلنا على كثيرٍ من عبادِه المؤمنينَ * وورث سُليمانُ داوُدَ وقال يا أيُّها النَّاسُ عُلّمنا منطق الطَّيرِ وأُوتينا من كُلّ شيء إنَّ هذا لهُو الفضلُ المُبينُ * وحُشر لسُليمان جُنُودُهُ من الجنِّ والانسِ والطَّيرِ فهُم يُوزعُونَ * حتَّى إذا أتوا على وادِ النَّملِ قالت نملةٌ يا أيُّها النَّملُ ادخُلُوا مساكنكُم لا يحطمنَّكُم سُليمانُ وجُنُودُهُ وهُم لا يشعُرُونَ * فتبسّم ضاحكا من قولها وقال ربِّ أوزعني أن أشكُر نعمتك التي أنعمت عليَّ وعلى والديَّ وأن أعمل صالحا ترضاهُ وأدخلني برحمتِك في عبادِك الصَّالحينَ * وتفقَّد الطَّير فقال ما لي لا أرى الهُدهُدَ أم كان من الغائبينَ * لاُعذّبنَّهُ عذابا شديدا أو لاذبحنَّهُ أوليأتينّي بسُلطانٍ مُبينٍ * فمكث غير بعيدٍ فقال أحطتُ بما لم تُحط به وجئتُك من سبأٍ بنبأٍ يقينٍ * إنّي وجدتُ امرأةً تملكُهُم وأُوتيت من كُلّ شيء ولها عرشٌ عظيمٌ* وجدتُها وقومَها يسجُدُون للشَّمسِ من دُون اللّهِ وزيَّن لهُمُ الشَّيطانُ أعمالهَم فصدَّهُم عن السَّبيلِ فهُم لا يهتدُونَ *... * قال سننظُرُ أصدقت أم كُنت من الكاذبينَ * اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثُمَّ تولَّ عنهُم فانظُر ماذا يرجعُونَ * قالت يا أيُّها الملاُ إنّي أُلقي إليَّ كتابٌ كريمٌ * إنَّهُ من سُليمانَ وإنَّهُ بسمِ اللّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ * أَّلا تعلُوا عليَّ وأتُوني مُسلمينَ * قالت يا أيُّها الملاُ أفتُوني في أمري ما كُنتُ قاطعةً أمرا حتَّى تشهدُونِ * قالُوا نحنُ أُولُو قُوَّةٍ وأُولُو بأسٍ شديدٍ والامرُ إليك فانظُري ماذا تأمُرينَ * قالت إنَّ الملوك إذا دخلُوا قريةً أفسدُوها وجعلُوا أعزَّةَ أهلها أذلَّةً وكذلك يفعلُونَ * وإنّي مُرسلةٌ إليهم بهديّةٍ فناظرةٌ بم يرجعُ المُرسلُونَ * فلمَّا جاء سُليمانَ قال أتُمدُّوننِ بمالٍ فما آتانيَ اللّهُ خيرٌ ممّا آتاكُم بل أنتُم بهديَّتكُم تفرحُونَ * ارجع إليهم فلنأتينَّهُم بجنُودٍ لا قبل لهُم بها ولنُخرجنَّهُم منها أذلَّةً وهُم صاغُرونَ * قال يا أيُّها الملاُ أيُّكُم يأتيني بعرشِها قبل أن يأتُوني مُسلمينَ * قال عفريتٌ من الجنِّ أنا آتيك به قبل أن تقُوم من مقامِك وإنّي عليه لقويُّ أمينٌ * قال الَّذي عندهُ علمٌ من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتدَّ إليك طرفُك فلمَّا رآهُ مُستقرّا عندهُ قال هذا من فضلِ ربّي ليبلُوني أَأشكُرُ أم أكفُرُ ومن شكر فإنَّما يشكُرُ لنفسِه ومن كفر فإنَّ ربّي غنيُّ كريمٌ * قال نكّرُوا لها عرشَها ننظُر أتهتدي أم تكُونُ من الّذين لا يهتدُونَ * فلمَّا جاءت قيل أهكذا عرشُكِ قالت كأنَّهُ هُو وأُوتينا العلمَ من قبلها وكُنَّا مُسلمينَ * وصدَّها ما كانت تَعبُدُ من دُونِ اللّهِ إنَّها كانت من قومٍ كافرينَ * قيل لها ادخُلي الصَّرحَ فلمَّا رأتهُ حسبتهُ لُجَّةً وكشفت عن ساقيها قال إنَّهُ صرحٌ مُمرَّدٌ من قواريرَ قالت ربِّ إنّي ظلمتُ نفسي وأسلمتُ مع سُليمانَ للّهِ ربِّ العالمينَ)(الايات: 15 ـ 24 و 27 ـ 44).
و ـ في سورة سبأ:
(ولسُليمانَ الرّيحَ غُدُوُّها شهرٌ ورواحُها شهرٌ وأسلنا لهُ عينَ القطرِ ومن الجنِّ من يعملُ بين يديه بإذنِ ربِّه ومن يزغ منهُم عن أمرِنا نُذقهُ من عذابِ السَّعيرِ * يعملُون لهُ ما يشاء من مَحاريبَ وتماثيلَ وجفانٍ كالجوابِ وقُدُورٍ رَاسياتٍ اعملُوا آلَ داوُدَ شُكرا وقليلٌ من عباديَ الشَّكُورُ * فلمَّا قضينا عليه الموتَ ما دلَّهُم على موتِه إَّلا دابّةُ الارض تأكُلُ منسأتهُ فلمَّا خرَّ تبيّنت الجنُّ أن لَو كانُوا يعلمُون الغيب ما لبثُوا في العذابِ المهينِ)(الايات: 12 ـ 14)
شرح الكلمات:
أ ـ ذا الايد: آد يئيدُ أيدا: اشتد وقوي، وذا الايد صاحب القوة.
ب ـ أوّاب: آب إلى اللّه: رجع عن ذنبه وتاب، فهو آئبٌ وأوّاب. والمعنى هنا: رجع الى مرضاة اللّه.
ج ـ أوّبي: أي رجّعي معه في التسبيح.
د ـ سابغات: سبغ الشيء سبوغا: تم وطال واتسع، وسابغات أي دروعا تامّات الصنع.
هـ ـ قدّر في السرد: السرد: نسج الدروع، ومعنى قدّر في السرد: انسج الدروع متناسبةً مساميرها وثقوبها فلا تتقلقل ولا تنفصم.
و ـ رُخاء: ليّنة.
ز ـ مقرّنين في الاصفاد: مقرّنين: مشدودين بعضهم ببعض، والاصفاد جمع الصفد، ما يشدّ به. والمعنى: مشدودين بعضهم ببعضٍ في ما شدّوا به.
ح ـ محشورةً: حشرهم: جمعهم وساقهم.
ط ـ يوزعون: وزع الجيش: رتّب فرقه وسوّاهم وصفّهم للحرب.
ي ـ عفريت: أقوى الجانّ واخبثه.
ك ـ صرحٌ ممّردٌ من قوارير: الصرح: البيت المزيّن والبناء العالي، ويعبّر عنه المعاصرون ب «العمارات». وممرّدٌ: مملّسٌ.
وقوارير: الزجاج. والمعنى: بناء مزينٌ عالٍ ارضه من زجاجٍ املس.
ل ـ لُجّة: اللّجّة وجمعها اللُّجج: الماء الكثير تصطخب امواجه.
م ـ اسلنا له عين القطر: سال المائع: جرى، والقطر: النحاس المذاب. والمعنى: اجرينا له عين النحاس المذاب.
ن ـ يزغ عن امرنا: زاغ عن الطريق: عدل، والمعنى: ومن يخالف من الجنّ امر سليمان نبيّ اللّه نعذّبه.
س ـ السّعير: النار ولهبها.
ع ـ جفان كالجوابي: جفان، جمع جفنة: وعاء كبيرٌ للطعام، والجوابي: حوض كبير. والمعنى: اوعية للطعام كالبئر في سعته.
ف ـ قدور راسيات: قدر راسيةٌ: قدر كبيرةٌ لا يطاق تحويلها من مكانها لكبرها. والراسي: الجبل الثابت الراسخ. ومع كل ذلك الملك والسلطة.
ص ـ دابّة الارض: حشرة الارضة التي تأكل الخشب.
ق ـ المنسأة: العصا.
تفسير الايات:
واذكر يا رسول اللّه عبد اللّه داود القوىٍّّ الاوّاب إلى مرضاة اللّه إذ سخّر اللّه له الجبال تسبّح بتسبيحه صباحا ومساء والطيور مجتمعه عليه تسبّح معه، وقوّى ملكه بالهيبة والجنود وآتاه النبوّة والاصابة في الامور والقول البيّن الذي فيه فيصل الامور، وليّن في يده الحديد ليعمل منه دروعا متقنة النسيج، وهو أول من صنع الدروع للحروب.
ووهب اللّه له ابنه سليمان وكان اوّابا لمرضاة اللّه وإنّ سليمان قال: ربّ اغفر لي وامنحني ملكا لا يكون مثله لاحدٍ من بعدي فسخّر اللّه الريح تطيعه وتجري بامره حيث شاء، وجعل له جنودا من الجنّ والانس والطير وعلّمه منطق غير الانسان، وسخّر له الجنّة تبني له ما أراد وتغوص في البحر وتستخرج له اللؤلؤ وبعضهم مقيّدون في الاغلال، وانّه مرّ بجيشه على وادي النمل فسمع نملة تنذر النمل وتقول: يا ايّها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنّكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون بذلك؛ فشكر سليمان ما انعم اللّه عليه وعلى والديه، وتفقّد الطير ولم يرَ الهدهد بين الطير فوق رأسه فقال لاُعذّبنّه أو لاذبحنّه او يأتيني بعذر بيِّن لغيبته فلم يمكث زمانا طويلاً اذ جاءه الهدهد يخبره عن سبأ وهم أهل اليمن، وقال:
وجدت امرأة تملكهم ولها سرير ملك عظيم وهي وقومها يسجدون للشمس ولا يسجدون للّه، قال سليمان: سننظر في قولك اصدقت ام انت من الكاذبين، اذهب بكتابي هذا فألقه اليهم وابتعد عنهم وانظر ماذا يقولون، وكان فيه: بسم اللّه الرحمن الرحيم ألاّ تعلوا عليّ واتوني مسلمين.
يدلّنا هذا الكتاب على أنّ الاسلام كان اسما للشرائع السابقة، وان البسملة كانت مستعملة في شرائعهم، ولمّا تلقّت الملكة بلقيس الكتاب استشارت قومها في ما تجيب به سليمان فقالوا: نحن اصحاب شجاعة وشوكة وجنود والامر اليك بعد ذلك، قالت: إنّ الملوك إذا دخلوا بلدة أفسدوها وجعلوا أعزّة اهلها اذلّة وسأُرسل إلى سليمان بهديّة وأنظر ماذا يكون الجواب، وقال سليمان للرسل الذين حملوا إليه الهدايا ما آتاني اللّه خير مما آتاكم وردّها إليهم وقال: فلنأتينّهم بجنود لا طاقة لهم بها ولنخرجنّهم من بلدهم اذلاّء. ثم خاطب من حضره من جنوده وقال: من يأتيني بعرشها؟ قال عفريت مارد قويّ من الجنّ: أنا آتيك بعرشها قبل ان تقوم من مجلسك، وكان مدّة جلوسه نصف يوم، وقال الذي عنده علم من الكتاب ـ الكتب المنزلة ـ قيل كان ذلك الشخص وزيره آصف بن برخيا: انا آتيك به قبل ان تحّرك اجفانك فلما أحضرها أمامه شكر اللّه على ما انعم عليه وقال: غيّروا هيئة عرشها لنختبر عقلها، ثم سألوها وقالوا لها: أهذا عرشك؟ قالت: كأنّه هو. ثم قيل لها: ادخلي القصر وكانت ارضه من زجاج ابيض تحته ماء فظنّته ماء وكشفت عن ساقها في مشيها فأخبروها بانه من زجاج املس تحته ماء، واسلمت بلقيس بعد مُشاهدتها ما يعجز البشر عن الاتيان بمثله.
وكذلك اجرى اللّه لسليمان (ع) عين النحاس المذاب وكانتِ الجنّة تعمل له ما يشاء من ابنية رفيعة وتماثيل من جذوع الشجر وامثاله، واوعية للطعام كبيرة عميقة كالبئر وقدور كبيرة لا يطاق تحويلها لكبرها. وصعد ذات يوم سطح قصره واتّكأ على عصاه مشرفا على عمل العاملين له من الجنّ الدائبة في ما سخّرها لعمله فأماته اللّه كذلك وبقي ايّاما بهيئة الواقف المشاهد للاعمال، والجنّة دائبة في عمل ما سخّرها له ولا تعلم بموت سليمان حتى اكلت الارضة عصاه التي كانت من خشب، فسقط جسده من السطح الى الارض. وبذلك علم أنّ الجنّة لو كانوا يعلمون الغيب لما لبثوا بعد موته في العذاب المهين الشاقّ !
____________
(1) وراجع: سورة طـه: (الايات: 38 ـ 47).
(2) وراجع: سورة الانبياء (الايات: 100 ـ 104)، وسورة الشعراء: (الايات: 10 ـ 55)، وسورة طه: (الايات: 9 ـ 24).
(3) بلغ اشده: اكتمل وبلغ قوته.
(4) السبطي من اسباط بني اسرائيل، والقبطي من أهل مصر.
(5) جاء ذلك في الروايات.
(6) جمعنا بين سياق الايات في سورة القصص والنمل والاعراف وطه والشعراء.