عبد المطلب بن هاشم

أ - في سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري ما موجزه:

سمّته أمّه شيبة لشيبة كانت في رأسه، ولمّا ذهب عمّه المطّلب إلى المدينة وأخذه من اُمّه فدخل به مكّة وقد أردفه خلفه ولمّا رأتهما كذلك قريش ظنّت أنّه عبده وقالت عبد المطّلب (1) ، وغلب عليه هذا الاسم. ويبدو أنّه كذلك كان أيضاً تسميته بعض آباء النبيّ مثل هاشم الذي غلب عليه هذا الاسم بعد أن هشم الثريد لقومه بمكة في سنة الجدب ونسي اسمه عمرو العلى(2) ، وكان اسم عبد مناف المغيرة وسمّته قريش بعبد مناف(3) ، وسمّت قصيّاً مجمّعاً لانّه جمع قريشا في مكّة(4) .

ب ـ في طبقات ابن سعد:

كان عبد المطّلب أحسن قريش وجها، وأمدّها جسما، وأحلمها حلما، وأجودها كفّا، وأبعد النّاس من كل موبقة تُفسد الرجال، وكان يَتَألّهُ ويعظم الظلم والفجور، ولم يره مَلِك قطّ إلاّ أكرمه وشفّعه، وكان سيّد قريش حتىّ هلك(5) .

ج ـ في مروج الذهب:

ممن كان مقرا بالتوحيد، مُثبتا للوعيد، تاركا للتقليد، عبد المطلب بن هاشم... وكان أوّل من سقى الماء بمكة عذبا(6) .

حفر بئر زمزم:

في تاريخ الطبري وسيرة ابن هشام ـ واللفظ له ـ عن ابن اسحاق، روى ذلك عن الامام عليّ (ع) قال:

قال عبدُ المطلب: إني لنائم في الحجر إذ أتاني آتٍ فقال: احفر طيبة(7) . قال: قلت: وما طيبة؟ قال: ثم ذهب عنّي، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر بَرّة(8) . قال: قلت: وما برّة؟ قال: ثم ذهب عنّي، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر المضنونة(9) . قال: فقلت: وما المضنونة؟ قال: ثم ذهب عنّي، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر زمزم. قال: قلت: وما زمزم؟ قال: لا تنزف(10) أبدا ولا تُذَمّ(11) ، تسقي الحجيج الاعظم، وهي بين الفرث والدم(12) ، عند نقرة الغراب الاعصم، عند قرية النمل.

قال ابن إسحاق:

فلمّا بيّن له شأنها، ودلّه على موضعها، وعرف أنه قد صدق، غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب، ليس له يومئذ ولدٌ غيره، فحفر فيها، فلمّا بدا لعبد المطلب الطيّ كبّر، فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه فقالوا: يا عبد المطلب، إنها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقا فأشركنا معك فيها، قال: ما أنا بفاعل، إن هذا الامر قد خُصصتُ به دونكم، وأُعطِيتُه من بينكم، فقالوا له: فأنصفنا فإنّا غير تاركيك حتىّ نخاصمك فيها، قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أُحاكمكم إليه، قالوا: كاهنة بني سعد هُذيم(13) ، قال: نعم، قال: وكانت بأشراف(14) الشام، فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني أبيه من بني عبدمناف، وركب من كل قبيلة من قريش نفر، قال: والارض إذ ذاك مفاوز قال: فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز والشام فني ماء عبد المطلب وأصحابه، فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة، فاستسقوا من معهم من قبائل قريش، فأبوا عليهم، وقالوا: إنا بمفازة ونحن نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم، فلمّا رأى عبدالمطلب ما صنع القوم وما يتخوف على نفسه وأصحابه قال: ماذا ترون؟ قالوا: ما رأينا إلاّ تبع لرأيك، فمرنا بما شئت، قال: فإني أرى أن يحفر كل ّ رجل منكم حفرته لنفسه بما بكم الان من القوة، فكلّما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته ثم واروه، حتى يكون آخرُكم رجلاً واحدا، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعا، قالوا: نعم ما أمرت به، فقام كل واحد منهم فحفر حفرته، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشا، ثم إن عبدالمطلب قال لاصحابه: واللّه إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضرب في الارض ولا نبتغي لانفسنا لعجز، فعسى اللّه أن يرزقنا ماء ببعض البلاد، ارتحلوا، فارتحلوا، حتى إذا فرغوا ومن معهم من قبائل قريش ينظرون إليهم ما هم فاعلون، تقدّم عبدُالمطلب إلى راحلته فركبها، فلمّا انبعثت به انفجرت من تحت خفّها عينٌ من ماء عذب، فكبّر عبدُالمطلب وكبّر أصحابه، ثم نزل فشرب وشرب أصحابه واستقوا حتى ملاوا أسقيتهم، ثم دعا القبائل من قريش فقال: هلُمّ إلى الماء، فقد سقانا اللّه، فاشربوا واستقوا، فجاؤوا فشربوا واستقوا، ثم قالوا: قد واللّه قضى لك علينا يا عبدالمطلب، واللّه لا نخاصمكم في زمزم أبدا، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشدا. فرجع ورجعوا معه، ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخلّوا بينه وبينها.

قال ابن إسحاق:

فهذا الذي بلغني من حديث عليّ بن أبي طالب (رض) في زمزم(15) .

وكان من أمره في حفر بئر زمزم أنّه لما أُمِرَ بذلك في المنام حفرها مع ابنه البكر والوحيد يومذاك الحارث، فنذر إن تمّ له عشرة من الاولاد أن يتقرّب إلى اللّه بذبح أحدهم، فلما تمّ له العدد بعبداللّه والد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قدّمهم إلى فناء الكعبة وأقرع، فصارت القرعة على عبداللّه وكان أحبّ ولده إليه فقدّمه ليذبحه، فمنعته قريش من ذلك وقالت: إن فعلت ذلك صارت سُنّة في قومك، ولم يزل الرجل يأتي بولده إلى هاهنا ليذبحه، فقال: إنّي عاهدت ربّي، وإني موفٍ له بما عاهدته، فقال له بعضهم: افدِه ! فقام وهو يقول:

عاهدت ربّي وأنا موفٍ عهدَهُ أخافُ ربّي إنْ تركت وعدَهُ
واللّه لا يحمدُ شي‌ء حمده(16)
ثمّ أحضر مائة من الابل، فضرب بالقِداح عليها، وعلى عبداللّه، فخرجت على الابل، فكبّر الناس، وقالوا: قد رضي ربّك ! فقال عبد المطلب:

لا همّ ربّ البَلَدِ الُمحَرَّم الطّيّبِ المبارَك المعظَّمِ
أنت الذي أعنتني في زمزم(17)
قال اليعقوبي:

فضرب بالقِداح ثلاثا فخرجت على الابل فنحرها فصارت الدية في الابل على ما سنّ عبد المطّلب.

وقال:

ولمّا قدم إبرهة ملك الحبشة صاحب الفيل مكّة ليهدم الكعبة تهاربت قريش في رؤوس الجبال، فقال عبد المطلب: لو اجتمعنا فدفعنا هذا الجيش عن بيت اللّه، فقالت قريش: لا بدّ لنا به ! فأقام عبد المطّلب في الحرم، وقال: لا أبرح من حرم اللّه، ولا أعوذ بغير اللّه، فأخذ أصحاب إبرهة إبلاً لعبد المطّلب، وصار عبد المطّلب إلى إبرهة، فلمّا استأذن عليه قيل له: قد أتاك سيّد العرب، وعظيم قريش، وشريف الناس، فلمّا دخل عليه أعظمه إبرهة، وجلّ في قلبه لما رأى من جماله، وكماله، ونبله، فقال لترجمانه: قل له: سل ما بدا لك ! فقال: إبلاً لي أخذها أصحابك، فقال: لقد رأيتك، فأجللتك، وأعظمتك، وقد تراني حيث نهدم مكرمتك وشرفك، فلم تسألني الانصراف، وتكلّمني في إبلك؟ فقال عبد المطّلب: أنا ربّ هذه الابل، ولهذا البيت الذي زعمت أنّك تريد هدمه ربّ يمنعك منه. فردّ الابل، وداخله ذعر لكلام عبدالمطّلب، فلمّا انصرف جمع ولده ومن معه، ثمّ جاء إلى باب الكعبة، فتعلّق به وقال:

لهمّ ! إنْ تعفُ فإنّهم عيالـك.....(18) .

يـا ربّ انّ العبد يمنع رحْلَهُ فامنع رحالك

لا يغلبـنَّ صليبهـم ومحالهم أبـدا محـالك

فأرسل اللّه عليهم الطير الابابيل(19) .

وفي البحار ما موجزه:

إنّ عبد المطّلب أرسل ابنه عبداللّه ليأتيه بخبر الجيش ثم صار إلى البيت فطاف سبعا ثم صار إلى الصفا والمروة فطاف بهما سبعا، وصعد عبداللّه جبل أبي قبيس ورأى ما فعل الطير بالجيش فجاء وبشّر أباه بذلك، فخرج عبد المطّلب وهو يقول: يا أهل مكة اخرجوا إلى العسكر وخذوا غنائمكم.

فأتوا العسكر وهم أمثال الخشب النخرة، وليس من الطير إلاّ ما معه ثلاثة أحجار في منقاره ويديه يقتل بكلّ حصاة منها واحدا من القوم، فلمّا أتوا على جميعهم انصرف الطير فلم يُرَ قبل ذلك ولا بعده، فلمّا هلك القوم بأجمعهم جاء عبدالمطّلب إلى البيت فتعلّق بأستاره وقال:

يا حابس الفيل بذي المغمس حبسته كأنّه مكوّس
في مجلس تزهق فيه الانفس
فانصرف وهو يقول في فرار قريش وجزعهم من الحبشة:

طارت قريش إذ رأت خميسا فظلت فردا لا أرى أنيسا
ولا أحـسّ مـنهـم حسيسا إلاّ أخـا لي ماجدا نفيسا
مسوّدا في أهله رئيسا(20)
وفي مروج الذهب:

فلمّا صدهم اللّه عزّ وجلّ ـ أي ابرهة وجيشه ـ عن الحرم أنشأ عبد المطّلب يقول:

إنّ للبيت لَرَبا مانعا مَن يُرِدْهُ بِأَثامٍ يصطلم
رامه تُبّع فيمن جندت حمير والحي من آل قدم (21)
فانثنى عنه وفي أوداجه جارح أمسك منه بالكظم
قلت والاشرم تردى خيله إن ذا الاشرم غرّ بالحرم
نحن آل اللّه فيما قد مضى لم يزل ذاك على عهد ابْرَهَمْ
نحن دَمَّرنا ثمودا عَنوة ثم عادا قبلها ذات الارم
(نعبد اللّه وفينا سُنّة صلَةُ القربى وايفاء الذمم)
لم تزل للّه فينا حجّة يدفع اللّه بها عنا النقم (22)
شرح الابيات:

أ ـ الاثام: الاثم وجزاء الاثم.

ب ـ يَصْطَلِم: اصْطَلَمَهم وصَلَمَهُم الدهر أو الموت أو العدوّ: استأصلهم وأبادهم.

ج ـ تُبّع: كان يقال لملوك اليمن التبابعة مثل القياصرة لملوك الروم، والاكاسرة لملوك الفرس. وكان تُبّع الحميري الذي قصد البيت أحدهم.

د ـ جارح: ما يصيد من الطير والسباع والكلاب.

هـ ـ الكظم: مخرج النفس من الحلق؛ يقال: أخذ بكظمه.

و ـ الاشرم، شرمه: شقّه من جانبه، وشرم أنفه أو اذنه: شقه من جانبه، ولعل المراد بالاشرم مشقوق الاُذن أو الانف.

ويظهر من قول عبد المطّلب أنَّ ابرهة كان كذلك.

ز ـ تردى، أرداه: أهلكه واسقطه.

ح ـ غُرَّ: غَرَّهُ غَرّا وغُرورا: خدعه وأطمعه بالباطل فهو مغرور وغرير.

ط ـ إبرهم: مخفف من إبراهيم لضرورة الشعر.

ي ـ عنوة، أخَذَ الشي‌ء عنوة أي قسرا.

ك ـ إيفاء الذمم، الذمم مفرده الذمّة: العهد؛ أي فينا ذريّة ابراهيم، وصلة الرحم والوفاء بالوعد، أو فينا آل اللّه، وهم الانبياء مثل: هود وصالح وإبراهيم(ع). ومن الجائز أنّه أراد من فينا كلا القبيلين لانّ في ذرية إبراهيم آل اللّه وحججه، مثل ما كان ذلك في من سبق من أنبياء اللّه قبل إبراهيم مثل هود وصالح.

في هذه الابيات يكرر عبدالمطّلب قولاً كان يلهج به من أنّ للبيت ربا يمنع من يريده بإثم ويصطلمه، ويُذكّر في هذه الابيات خبر تُبّع الحميري، وكيف أخفق في ما رامه في شأن البيت. ثمّ يعود إلى ذكر خبر ابرهة ويقول:

قلت حين هلكت خيل ابرهة ـ المشقوق الاذن أو الانف ـ عندما أراد أن يهجم على البيت: إنّ هذا الاشرم قد غُرَّ بالحرم.

وبعد قوله هذا يخبر أنهم أي هو وسلسلة آبائه من ذرية إسماعيل هم آل اللّه منذ عهد إبراهيم مثلهم في كونهم آل اللّه مثل هود وصالح، وإنّ آل اللّه هودا وصالحا هما اللّذان دمّرا قوم عادٍ ذات الارم وبعد عادٍ قوم ثمود، وقد ذكر اللّه تعالى خبر ابرهة كما جاء في كتابه الكريم وقال:

(ألم تر كيف فعل ربُّك بأصحابِ الفيلِ * ألم يجعلْ كَيدَهُم في تضليلٍ * وأرسل عليهم طيرا أبابيلَ * ترميهم بحجارةٍ من سجِّيل * فجعلُهم كعصفٍ مأكولٍ).

وأخبر سبحانه عن قوم ثمود ومقابلتهم لصالح من آل اللّه حسب تعبير عبد المطّلب في سورة هود:

(وإلى ثمُودَ أخاهُم صالحا قال يا قومِ اعبُدوا اللّهَ ما لكُم من إلهٍ غيرهُ...* قالوا يا صالحُ قد كُنت فينا مرجُوّا قبل هذا أتنهانا أن نعبُد ما يعبُدُ آباؤنا وإنَّنا لفي شكٍّ مما تدعُونا إليه مُريبٍ * قال يا قومِ أرأيتُم إن كُنتُ على بيِّنةٍ من ربّي وآتاني منهُ رحمةً... * فلمّا جاء أمرُنا نجَّينا صالحا والّذين آمنوا معه... * وأخذ الّذين ظلموا الصَّيحةُ فأصبحوا في ديارهم جاثمين *.... ألا بُعدا لثمود)(الايات:61ـ63 و66 ـ 68)

وكذلك جاء خبرهم في 27 موردا من القرآن الكريم(23) .

ثم أخبر عبدالمطّلب في قوله: وعادا قبلها ذات الارم، إنّ عادا الّذين دمّرهم اللّه كانوا قبل قوم ثمود، وطابق قوله هذا ما جاء في سورة الاعراف (الايات 65 ـ 74) وسورة هود (الايات: 50 ـ 68) وسور اُخرى كذلك(24) .

وطابق إخباره بأنّ عادا كانت ذات الارم كقوله تعالى في سورة الفجر:

(ألم تر كيف فعلَ ربّك بعادٍ * إرمَ ذاتِ العمادِ * الّتي لم يُخلق مثلُها في البلادِ* وثَموُدَ الّذين جابوُا الصَّخرَ بالوادِ)(الايات: 6 ـ 9)

وهكذا يطابق شعر عبدالمطّلب ما جاء في الذكر الحكيم من أخبار الانبياء والاُمم البائدة.

وفي قوله في ما يصف به آباءه ويجمعهم في الوصف مع أنبياء اللّه في الاتّصاف بالاخلاق الحميدة مثل: صلة الرحم والوفاء بالوعد، فقد وجدنا صدق قوله في ما مرّ بنا من سيرة آبائه.

وفي قوله: إنّهم آل اللّه منذ عهد إبراهيم وإنّهم يعبدون اللّه وإنّه لم يزل فيهم أي في الّذين يصفهم بأنّهم آل اللّه حجّة اللّه الذي يدفع اللّه به النقم.

أما كونهم يعبدون اللّه فانّ مفهومه أنّهم لا يعبدون غيره، وقد وجدنا صدق قوله في أنّا لم نجد في آباء النبي إلى إسماعيل من سجد لصنم قط، أو قرّب قربانا لصنم قطّ، أو لبّى لصنم في الحج أو حلف بصنم أو أثنى على صنم في بيت شعر أو قول، ورأينا أنّهم في كل هذه الموارد يسجدون للّه، ويقربون القرابين للّه، كما فعل عبدالمطّلب في فداء ابنه عبداللّه، ويحلفون باللّه وحده ويثنون عليه وحده؛ إذا قد صدق عبدالمطّلب في قوله: إنّهم يعبدون اللّه.

أمّا انّه لم يزل للّه فيهم حجّة: فإمّا أن يكون اللّه ربّ العالمين قد ترك مجاوري بيته في مكة والتي يسميها اُمّ القُرى، ترك من يسكن في اُم القرى وما حولها، وترك الوافدين من انحاء الجزيرة العربية لحج بيته الحرام، تركهم جميعا أكثر من خمسمائة سنة هملاً ولم يجعل في ما بينهم من يجدون عنده شريعة الاسلام، حاشا للّه ربّ العالمين من ذلك كما شرحنا ذلك في بحوث الربوبية في ما سبق من هذا الكتاب؛ وإمّا أن يكون اللّه ربّ العالمين لم يترك الاجيال المتعاقبة في أكثر من خمسمائة سنة في اُمّ القُرى وما حولها هملاً بل جعل بينهم من إذا اراد أحدهم أن يتعلّم منه أحكام دينه استطاع، مصداقا لقوله تعالى: (والّذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سُبُلنَا) إذا كان اللّه قد جعل في اُولئكم البشر من يُتمّ بهم الحجّة على اُولئكم الاجيال، فمن يكون ذلك الهادي إلى دين اللّه غير عبدالمطّلب وسلسلة آبائه إلى عهد إبراهيم(ع)؟ إي وربّي ربّ العالمين، جعل فيهم من ذرّيّة إبراهيم حججا للّه أتمّ بهم الحجّة على عباده اُولئكم ودفع اللّه بهم النقم عنهم، وصدق عبدالمطّلب في قوله:

نحن آل اللّه في ما قد مضى لم يزل ذاك على عهد ابرهم
لـم تـزل للّه فـينا حـجّة يـدفع اللّه بـها عـنّا النقم
وفي اُسلوب عبدالمطّلب في ما أنشده من شعر، وخاصّة في هذه الابيات التي أنشدها في مقام المباهاة على خصمه الهالك إبرهة وجيشه ما تميّز به من فضائل ومكارم، عمّا كان دأب شعر العرب في الغابر والحاضر فلم يفتخر بأبيه هاشم وما قام به من إطعام عامّة أهل مكّة في سنة القحط بما حمّل جماله من الطعام من الشام بدل تحميله إيّاها المال الذي يتاجر به، ونحر تلك الجمال؛ وذلك ما لم يفعله أيُّ عربي قبله لا حاتم الطائي ولا من بعده ومن قبله، ولا قرأنا ذلك في أخبار الاُمم، ثم قيامه بمعالجة أمر الاعتفاد كي لا يستسلم بيت بأسره للموت جوعا، ثم قيامه بتعليم قريش التجارة إلى أنحاء البلاد المعمورة يومذاك، لم يُباه عبد المطّلب بذكر شي‌ء من ذاك وكلّ ذلك ممّا انحصر فعله بأبيه هاشم من بين جميع البشر، وعدم التباهي بمثل هذه الاُمور من خدمة الخلق من صفات أنبياء اللّه وحججه في خلقه؛ فانّهم لا يمنّون على الناس بما يجودون به وما يخدمونهم في أمر معاشهم، وإنّما يخبرونهم بما خصّهم اللّه به وجعلهم سبيل هداية للناس، وهذا ما فعله عبدالمطّلب عندما قال: (نحن آل اللّه في ما قد مضى)... الابيات.

عبدالمطّلب في ميلاد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم):

في أنساب الاشراف عن خبر ولادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما موجزه:

ولمّا حملت آمنة بالنبي رأت في منامها آتيا أتاها، فقال: يا آمنة، إنك قد حملت بسيّد هذه الاُمة؛ فإذا وقع في الارض فقولي: «أُعيذُك بالواحد من شرّ كل حاسد»؛ وسمِّيه أحمد. ويقال إنه قال: سمّيه محمّدا.

فلما وضعته، أرسلت إلى عبدالمطّلب أنّه قد وُلِدَ لك غلام. فنهض مسرورا، ومعه بنوه، حتى أتاه فنظر إليه وحدّثته بما رأت، وبسهولة حمله وولادته، فأخذه عبدالمطّلب في خرقة فأدخله الكعبة وقال:

الـحمدُ للّه الذي أعطاني هـذا الغلام الطيّب الاردانِ
اُعيذه بالبيت ذي الاركانِ من كل ذي بَغْيٍ وذي شنآنِ
وحاسدٍ مضطرب العنان
وفي تاريخ ابن عساكر وابن كثير:

أضاف إليها أبياتا جاء في آخرها:

أنت الذي سُمِّيت في الفرقان في كتب ثابتة المبان
أحمد مكتوب على اللسان(25)
في هذه الابيات يخبر عبدالمطّلب أنّ حفيده سُمّي في الكتب أحمد.

وفي طبقات ابن سعد ما موجزه:

إنّ حليمة مرضعة النبي تخوّفت على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقدمت به إلى اُمه لتردّه وهو ابن خمس سنين فأضلّته في النّاس فالتمسته فلم تجده، فأتت عبدالمطّلب فأخبرته، فالتمسه عبد المطّلب فلم يجده، فقام عند الكعبة فقال:

لاهـُمّ أدّ راكـبي مـُحمّدا أدّهْ إلىٍّّ واصطنع عندي يدا
أنت الذي جعلته لي عَضُدا لا يـبعد الدهـرُ به فيبعدا
أنت الذي سَمَّيْتَهُ مُحمّدا(26)
وهنا ـ أيضا ـ يصرّح عبدالمطّلب بأنّ اللّه هو الذي سَمّى حفيده محمّدا(صلى الله عليه وآله وسلم).

وفي مروج الذهب:

وكان عبدالمطّلب يوصي ولده بصلة الارحام، وإطعام الطعام، ويُرغّبهم ويُرهّبهم، فعل من يراعي في المتعقّب معادا وبعثا ونشورا، وجعل السقاية والرفادة إلى ابنه عبدمناف ـ وهو أبو طالب ـ وأوصاه بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (27) .

وفي السيرة الحلبية والنبوية:

وكان ممن حرّم الخمر على نفسه في الجاهلية، وكان مجاب الدعوة، وكان يقال له الفياض لجوده، ومطعم طير السماء، لانه كان يرفع من مائدته للطير والوحوش في رؤوس الجبال، قال: وكان من حلماء قريش وحكمائها.

ونقل عن سبط ابن الجوزي ما موجزه:

وكان عبدالمطّلب يأمر أولاده بترك الظلم والبغي، ويحثّهم على مكارم الاخلاق، وينهاهم عن دنيئات الاُمور، وكان يقول:

لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى يُنْتَقَم منه وتصيبه عقوبة، إلى أن هلك رجل ظلوم من أهل الشام لم تُصبه عقوبة فقيل لعبد المطّلب في ذلك ففكّر وقال: واللّه إنّ وراء هذه الدار دارا يُجزى فيها المحسن بإحسانه ويعاقب المسي‌ء بإساءته، أي فالظلوم شأنه في الدنيا ذلك حتى إذا خرج من الدنيا ولم تصبه العقوبة فهي مُعدّة له في الاخرة، وتُؤثَر عنه سنن جاء القرآن بأكثرها وجاءت السنّة بها؛ منها الوفاء بالنذر، والمنع من نكاح المحارم، وقطع يد السارق، والنهي عن قتل المؤودة، وتحريم الخمر والزنى، وأن لا يطوف بالبيت عريان(28) .

وفي السيرة النبوية:

وأمّا عبدالمطّلب بن هاشم، فكان من حلماء قريش وحكمائها، وكان مجاب الدعوة محرّما الخمر على نفسه، وهو أول من تحنث بحراء، والمتحنث: المتعبد الليالي ذوات العدد، كان إذا دخل شهر رمضان صعده وأطعم المساكين، وكان صعوده للتخلي عن الناس يتفكر في جلال اللّه وعظمته(29) .

وفي تاريخ اليعقوبي وأنساب الاشراف للبلاذري ـ واللفظ للاول ـ بإيجاز:

توالت على قريش سنون مجدبة، حتى ذهب الزرع وقحل الضرع ففزعوا إلى عبدالمطّلب فقالوا:

قد سقانا اللّه بك مرة بعد اُخرى فادعُ اللّه أن يسقينا، فخرج عبدالمطّلب ومعه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يومئذ مشدود الازار، وقال عبدالمطّلب: اللّهم سادّ الخلَّة، وكاشف الكُربة، أنت عالِم غير مُعلَّم، مسؤول غير مُبخَّل، وهؤلاء عبداؤك وإماؤك بعذرات حرمك يشكون إليك سنيهم التي أقحلت الضرع وأذهبت الزرع، فاسمعنَّ اللّهم وأمطرنَّ غيثا مريعا مغدقا. فما راموا حتى انفجرت السماء بمائها وكظّ الوادي بثجّه، وفي ذلك يقول بعض قريش:

بشيبة الحمد أسقى اللّهُ بلدتنا وقد فقدنا الكرى واجلوّذ المطرُ
منّا من اللّهِ بالميمونِ طائره وخير من بشّرت يوما به مُضرُ
مُبارك الامرِ يُستسقى الغمامُ به ما في الانام له عدلٌ ولا خطرُ(30)
وجاء في البحار:

كان يوضع لعبد المطلب جدّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فراش في ظلّ الكعبة، وكان لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالاً له، وكان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يأتي حتى يجلس عليه، فيذهب أعمامه ليؤخروه فيقول جدّه عبدالمطّلب: دعوا ابني، فيمسح على ظهره ويقول: إنّ لا بني هذا لشأنا(31) .

وجاء في اليعقوبي ـ أيضا ـ:

وأوصى عبد المطّلب إلى ابنه الزبير بالحكومة وأمر الكعبة، وإلى أبي طالب برسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) وسقاية زمزم، وقال له: قد خلّفت في أيديكم الشرف العظيم الذي تطأون به رقاب العرب. وقال لابي طالب:

أُوصيك يا عبدمنافٍ بعدي بمـُفردٍ بـعد أبـيه فـردِ
فارقه وهو ضجيعُ المهد فـكنتَ كالاُمّ له في الوجد
تُدنيه من أحشائها والكبد فأنت من أرجى بنيّ عندي
لدفع ضيمٍ أو لشدّ عقد(32)
وروى في البحار بعده عن الواقدي ما موجزه:

اُوصيك أرجى أهلنا بالرفدي يابن الذي غيبته في اللحدِ
بالكره منّي ثمّ لا بالعمدي وخيرة اللّه يشا في العبدِ
ثم قال عبدالمطّلب: يا أبا طالب إنّني اُلقي إليك بعد وصيتي، قال أبو طالب: ما هي؟ قال: يا بني اُوصيك بعدي بقرّة عيني محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنت تعلم محلّه منّي، ومقامه لديّ، فأكرمه بأجلّ الكرامة، ويكون عندك ليله ونهاره وما دمت في الدنيا، اللّه ثم اللّه في حبيبه، ثمّ قال لاولاده: أكرموا محمّدا (صلى الله عليه وآله وسلم)، فسترون منه أمرا عظيما، وسترون آخر أمره ما أنا أصفه لكم عند بلوغه، فقالوا بأجمعهم: السمع والطاعة يا أبانا نفديه بأنفسنا وأموالنا، ـ ولم يكن في أعمام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أرفق من أبي طالب قديما وحديثا في أمر محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ، ثم قال: إنَّ نفسي ومالي دونه فداء، اُنازع معاديه وأنصر مواليه.

قال الواقديّ: ثمّ إنّ عبدالمطّلب غمض عينيه وفتحهما ونظر قريشا وقال: يا قوم أليس حقّي عليكم واجبا؟ فقالوا بأجمعهم: نعم حقّك على الكبير والصغير واجب، فنعم القائد ونعم السائق فينا كنت، فقال عبدالمطّلب: اُوصيكم بولدي محمّد بن عبداللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فأحلّوه محلّ الكرامة فيكم وبرّوه ولا تجفوه، ولا تستقبلوه بما يكره، فقالوا بأجمعهم: قد سمعنا منك وأطعناك فيه(33) .

وفي طبقات ابن سعد: لما حضرت عبدالمطّلب الوفاة أوصى أبا طالب بحفظ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) وحياطته(34) .

وتوفّي عبدالمطّلب ولرسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) ثماني سنين، ولعبد المطّلب مائة وعشرون سنة.

زاد اللّه جلّ وعلا عبدالمطّلب بسطة في الجسم وسعة في الحلم والكرم؛ أقرّ بالتوحيد وأثبت الوعيد، وتألّه في الجاهليّة، وامتنع عن عبادة الاصنام وعن كلّ موبقة تفسد الرجال، وعظّم الظلم والفجور، وهو أول من تحنّث في غار حراء يتخلّى للعبادة والتفكّر في جلال اللّه، يصعده في شهر رمضان يطعم فيه المساكين، وهو أوّل من سقى الماء عذبا بمكة، أُمر في المنام بحفر بئر زمزم فامتثل، وحفره مع بكره الحارث، ونذر إن رزقه اللّه عشرة أولاد أن يذبح أحدهم في سبيل اللّه اقتداء بأبيه إبراهيم (ع) في قيامه بذبح ابنه إسماعيل (ع)، فلمّا تموا عشرة قدّمهم إلى الكعبة، فوقعت القرعة على عبداللّه والد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فمنعته قريش من ذبحه على أن يقرع بينه وبين عشرة عشرة من الابل، حتّى خرجت القرعة على مائة من الابل فنحرها في سبيل اللّه. ولمّا قدم إبرهة مع جيش الفيل لتهديم بيت اللّه دعا عبدالمطّلب قريشا للقيام بدفع الجيش الغازي فأبوا وتهاربوا إلى رؤوس الجبال، ولم يغادر عبدالمطّلب البيت وأنشد يخاطب اللّه:

يا ربّ إن العبد يمنع رحله فامنع رحالك...

فلمّا أهلك اللّه إبرهة وجيشه قال عبدالمطّلب في ما أنشد:

إنّ للبيت ربّا مانعا من يُرده بأثام يصطلم
نحن آل اللّه في ما قد مضى لم يزل ذاك على عهد ابرهم
لم تزل للّه فينا حجّة يدفع اللّه بها عنّا النقم
وفي هذه السنة ولد حفيده خاتم الانبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخذه وأدخله الكعبة وقال في ما أنشده:

أنت الذي سُمِّيتَ في الفرقان في كتب ثابتة المثاني
أحمد مكتوب على اللّسان
وكان عبدالمطّلب مجاب الدعوة؛ إذا انحبس المطر عن قريش طلبوا منه فيدعو اللّه وينزل عليهم الغيث، وفي آخر مرّة أخرج معه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو فتى صغير فما راموا حتى انفجرت السماء بالمطر.

وسنَّ عبدالمطّلب سننا أقرّها الاسلام مثل:

أ ـ الوفاء بالنذر؛ في سورة الانسان / 7، وسورة الحج / 29.

ب ـ المنع من نكاح المحارم؛ في سورة النساء / 23.

ج ـ قطع يد السارق؛ في سورة المائدة / 38.

د ـ النهي عن قتل المؤودة؛ في سورة التكوير / 8، والانعام / 151، والاسراء /31.

هـ ـ تحريم الخمر؛ في سورة المائدة / 90 و91.

و ـ تحريم الزنى؛ في سورة الفرقان / 68، والممتحنة / 12، والاسراء/32.

ز ـ ألاّ يطوف بالبيت عريان؛ أمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينادي بذلك ابن عمّه عليّ(ع) عندما بعثه في السنة التاسعة للهجرة لقراءة الايات الاُولى من سورة براءة على الحجّاج.

ح ـ صلة الارحام؛ في سورة النساء / 1.

ط ـ إطعام الطعام؛ في سورة المائدة / 89، والبلد / 14، والحاقة / 34.

ي ـ ترك الظلم؛ في سورة إبراهيم / 22. وآيات كثيرة اُخرى.

وتحنث في حراء يعبد اللّه، وفعله بعده حفيده خاتم الانبياء، وكان يدعو إلى الاعتقاد بيوم الجزاء في الاخرة.

وفي البحار بسنده عن الامام جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جده، عن عليّ بن أبي طالب (ع)، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال في وصيته له: يا عليّ إنّ عبدالمطّلب سنّ في الجاهلية خمس سنن أجراها اللّه له في الاسلام: حرّم نساء الاباء على الابناء، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: (ولا تَنْكِحوا ما نكح آباؤُكُم من النساء)، ووجد كنزا فأخرج منه الخمس وتصدّق به، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: (واعْلَموا أَنَّ ما غَنِمْتُم من شي‌ء فأنَّ للّهِ خُمُسَهُ) الاية، ولما حفر زمزم سمّـاها سقاية الحاجّ، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: (أجعلتُم سقاية الحاجِّ وعمارة المسجد الحرام كمن آمن باللّهِ واليومِ الاخر) الاية، وسنّ في القتل مائة من الابل فأجرى اللّه عزّ وجلّ ذلك في الاسلام، ولم يكن للطّواف عدد عند قريش فسنّ فيهم عبدالمطّلب سبعة أشواط، فأجرى اللّه ذلك في الاسلام، يا عليّ إنّ عبدالمطّلب كان لا يستقسم بالازلام، ولا يعبد الاصنام، ولا يأكل ما ذُبِحَ على النصب، ويقول: أنا على دين أبي إبراهيم(ع)(35) .

وفي انبعاث الماء من تحت خُفّ راحلته كرامة أكرمه اللّه بها كما أكرم جده إسماعيل من قبل بجري ماء زمزم له، ومثل هذه الكرامة أكرمها لحفيده النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما تفجر الماء من حول سهمه في غزوة تبوك(36) .

لا ينافي ما جاء في هذا الحديث: إنّ عبدالمطلب سنّ في الجاهلية خمس سنن أجراها اللّه في الاسلام مع ما سبق ذكرنا له، فإنّ إثبات الشي‌ء لا ينفي ما عداه.

خلاصة البحث

أوصى إبراهيم (ع) إلى إسماعيل بإقامة دعامة شريعته الحنيفة «تعمير بيت اللّه الحرام وإقامة مناسك الحجّ» فأقام بذلك طوال حياته حتى توفي بمكة المكرمة ودفن مع اُمّه هاجر وبعض بنيه في حجر إسماعيل(37) ، أمّا إسحاق فقد خصّ اللّه لاولاد ابنه يعقوب (اسرائيل) أحكاما جاءت في شريعة موسى وعيسى عليهما السّلام، وبعد عيسى بن مريم بدأ عصر الفترة من الرسل، حيث لم يبعث اللّه تعالى إلى الناس رسلاً مبشرين ومنذرين، غير أنّه قام بأمر هداية بعض الناس ودعوتهم للعمل بشريعة عيسى أنبياء مثل خالد بن سنان، وحنظلة ممّن كانوا أوصياء على شريعة عيسى، وفي اُمّ القرى وما حولها قام من نسل إسماعيل كابر بعد كابر بإقامة دعامة شريعة إبراهيم الحنيفة وسننه كالاتي أخبارهم:

أ ـ إلياس بن مضر:

أنكر إلياس بن مضر على بني إسماعيل ما غيّروا من سنن آبائهم وردّهم إليها حتى رجعت تامّة إلى أوّلها، وهو أول من أهدى البُدْنَ إلى البيت وأوّل من وضع الركن بعد إبراهيم (ع).

ب ـ خزيمة بن مدركة بن إلياس:

كان خزيمة يقول: قد آن خروج نبيّ من مكّة يُدعى أحمدَ، يدعو إلى اللّه وإلى البرّ والاحسان ومكارم الاخلاق، فاتّبعوه ولا تكذبوا ما جاء به فهو الحقّ.

ج ـ كعب بن لؤي:

كان كعب من ذرية خزيمة يخطب في أيّام الحج ويقول: إنّ السماء والارض والنجوم لم تخلق عبثا، والدار أمامكم ـ أي يوم القيامة أمامكم ـ، ويدعو إلى مكارم الاخلاق وإعظام الحرم، ويخبرهم أنّه يُبعث من الحرم خاتم الانبياء وأنّ بذلك جاء موسى وعيسى عليهما السّلام وينشد:

على غفلة يأتي النبي محمّد فيخبر أخبارا صدوقا خبيرها
ويقول: ياليتني شاهد نجوى دعوته.

د ـ قصي:

ولما نشر رئيس خزاعة عبادة الاصنام في الحرم حاربه من هذا النسل قصيّ حتى أخرجهم من مكّة، ونهى عن عبادة الاصنام، وأحيى سنّة إبراهيم في إطعام الضيوف، وخطب قريشا قبل الموسم وقال: يا معشر قريش ! إنكم جيران اللّه وأهل بيته، وأهل الحرم، وإنّ الحاجّ ضيفان اللّه وزوار بيته، وهم أحقّ الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيّام الحج حتى يصدروا عنكم، ولو اتّسع مالي لجميع ذلك لقمت فيه دونكم، فليخرج كل امرئ من ماله خرجا، ففعلوا؛ فجمع من ذلك شيئا كثيرا، فلما جاء أوائل الحاجّ نحر على كلّ طريق من طرق مكّة جزورا، ونحر بمكة وجعل حظيرة وجعل فيها الطعام من الخبز واللحم، وسقى الماء المحلّى بالزبيب وسقى اللبن، وهو أول من أوقد النار بمزدلفة ليراها الناس ليلة النفر من عرفة، وجعل للبيت مفتاحا وحجبة، وجعل بيت ابنه عبد الدار دار الندوة لا تقطع قريشٌ أمرا إلاّ فيها، وأوصى بنيـه عند مـوتـه أن يجتنبوا الخمرة.

هـ ـ عبدمناف:

وقام من بعده ابنه عبدمناف واسمه المغيرة، وأوصى قريشا بتقوى اللّه جلّ وعلا وصلة الرحم.

و ـ هاشم:

وقام بعده ابنه هاشم، واتبع سنّة قصي في دعوة قريش للقيام بضيافة الحاج، وكان يقول في خطبته: (فاكرموا ضيفه ـ‍ ضيف اللّه ـ وزوار بيته، فوربّ هذه البنية لو كان لي مال يحتمل ذلك لكفيتكموه، وأنا مخرج من طيب مالي وحلاله ما لم يقطع فيه رحم، ولم يؤخذ بظلم، ولم يدخل فيه حرام، فمن شاء منكم أن يفعل ذلك فعل، وأسألكم بحرمة هذا البيت أن لا يُخرِج رجل منكم لكرامة زوّار بيت اللّه وتقويتهم إلاّ طيّبا، لم يؤخذ ظلما، ولم يقطع فيه رحم ولم يؤخذ غصبا)، فكانوا يجتهدون في ذلك ويضعونه في دار الندوة.

إذا فإنّ هاشما شابه فعله فعل الانبياء في العمل في سبيل كسب رضا اللّه تعالى شأنه. وليس في سبيل كسب الحمد والثناء من الناس لنفسه وقومه، كما كان يفعله العربي الجاهلي يومذاك. وكذلك كان فعله في القيام بتنظيم قوافل تجارية لقريش التي كانت تسكن بين جبال جرداء لا ماء فيها ولا زرع يعيش عليه الضرع، ولا سبيل لهم للعيش، كان في فعله ذلك كسائر الانبياء رائد قومه في أمر معاشهم ومعادهم.

ز ـ عبدالمطلب بن هاشم:

أقرّ بالتوحيد، وأثبت الجزاء في الدنيا والاخرة، وتألّه في الجاهلية، وحفر بئر زمزم، ونذر أن ينحر أحد بنيه في سبيل اللّه اقتداء بجدّه إبراهيم كما رأى ذلك، وكان مجاب الدعوة يدعو للمطر فيجيب اللّه دعاءه، وأخبر أن اللّه سمّى الرسول في الكتب السماوية بأحمد، وأنه لم يزل في سلسلة آبائه للّه حجة منذ عهد إبراهيم يدفع به النقم، وسن عبدالمطلب سننا أقرّها الاسلام. وفي تاريخ اليعقوبي عن رسول اللّه انه قال ما موجزه: إنّ اللّه يبعث جدّي عبدالمطّلب امّة واحدة في هيئة الانبياء(38) .

وقد وجدنا في سيرته أخذ العهد من ولده وقومه أن ينصروا رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) حين يُبعث كما كان يفعل ذلك سائر الانبياء مع أقوامهم.

* * *

____________

(1) راجع ترجمة عبد المطّلب في سيرة ابن هشام 1/145، وتاريخ الطبري 2/335 - 336 ط.بيروت دار الفكر، وجاء في الشعر تسميته بشيبة الحمد - كما يأتي في ص 237.

(2)، (3) و (4) راجع تراجمهم في ما مرّ.

(5) طبقات ابن سعد ط. اوربا (1 / 50 ـ 51).

(6) مروج الذهب (2 / 103 ـ 104).

(7) طاب طيبة: زكا وطهر وجاد وحسن ولذّ.

(8) البرّة بمعنى البرّ.

(9) قيل لها مضنونة: لانّها ضنّ بها على غير المؤمنين، فلا يتضلع منها منافق. والمضنونة: الشي‌ء النفيس.

(10) لا تنزف: لا يفرغ ماؤها ولا يلحق قعرها.

(11) لا تذم: أي لا توجد قليلة الماء؛ تقول: أذمت البئر: إذا وجدتها قليلة الماء.

(12) بين الفرث والدم محلّ ذبح القربان للالهة وبالقرب منه كانت قرية للنمل، فلمّا أصبح عبد المطلب وذهب إلى بيت اللّه جاء غراب أعصم فنقر الارض في ذلك الموضع فعرف عبد المطلب مكان بئر زمزم.

(13) كذا في الطبري، وفي سائر الاُصول: سعد بن هذيم وهو تحريف لان هذيما لم يكن أباه، وإنما كفله بعد أبيه فاُضيف إليه.

(14) أشراف الشام: ما ارتفع من أرضه.

(15) سيرة ابن هشام (1 / 154 ـ 156) مطبعة حجازي بالقاهرة 1356 ه‍‍.

(16) تاريخ اليعقوبي (1 / 251).

(17) مروج الذهب (2 / 104).

(18) أوجزت هنا لفظ اليعقوبي في تاريخه (1 / 250 ـ 254)، وجاء الخبر بالفاظ اخرى في كل من سيرة ابن هشام (1 / 54 ـ 168)، وطبقات ابن سعد ط. أوربا (1 / 28 ـ 56).

(19) مروج الذهب (2 / 105)، وسيرة ابن هشام (1 / 51).

(20) البحار (15 / 132)، نقلاً عن مجالس الشيخ المفيد وأمالي ابن الشيخ الطوسي (ص49و50)، وذي المغمس: موضع قرب مكة في طريق الطائف؛ معجم البلدان، وكوّسه: كبّه على رأسه أو قلبه وجعل أعلاه أسفله، وتكوّس الرجل: تنكّس، والخميس: الجيش.

(21) وفي نسخة من آل قرم.

(22) مروج الذهب (2 / 106).

(23) راجع: مادّة ثمود من المعجم المفهرس لالفاظ القرآن الكريم.

(24) راجع: مادّة عاد من المعجم المفهرس لالفاظ القرآن الكريم.

(25) أنساب الاشراف (1 / 80 ـ 81)، ويختلف لفظه مع لفظ طبقات ابن سعد (1 / 103)، وتاريخ ابن عساكر (1 / 69)، وابن كثير (2 / 264 ـ 265)، وراجع: الدلائل للبيهقي (1/51).

(26) طبقات ابن سعد ط. أوربا (1 / 70 ـ 71). ويختلف لفظ الخبر عن هذا في أنساب الاشراف (1 / 82)، وراجع: سبل الهدى (1 / 390).

(27) مروج الذهب (2 / 108 ـ 109).

(28) السيرة الحلبية (1 / 4)، والنبوية (1 / 21).

(29) السيرة النبوية (1 / 20)، وقريب منه في أنساب الاشراف (1 / 84).

(30) إلى هنا جاء الخبر في أنساب الاشراف (1 / 82 ـ 85) متفرقا، وأوردنا لفظ اليعقوبي في تاريخه (2 / 12 ـ 13).

(31) البحار (15 / 144 و146 و150).

(32) تاريخ اليعقوبي (2 / 13).

(33) البحار (15 / 152 ـ 153).

(34) طبقات ابن سعد (1 / 118).

(35) البحار (15 / 127)، نقلاً عن الخصال (1 / 150).

(36) البحار (21 / 235)، عن الخرائج ص 189 في باب غزوة تبوك.

(37) راجع معالم المدرستين، ط. الرابعة (1 / 60 ـ 64).

(38) تاريخ اليعقوبي (2 / 12 ـ 14)، وفي البحار (15 / 157)، نقلاً عن الكافي (1/446و447)، عن الامام الصادق: يحشر عبدالمطّلب امّة واحدة، عليه سيماء الانبياء وهيئة الملوك.