أبوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أبو طالب وعبداللّه ابنا عبدالمطّلب

أوّلاً ـ والد خاتم الانبياء عبداللّه:

اُمّه واُمّ أبي طالب فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران المخزومي(1) .

وكان عبداللّه أصغر أولاد أبيه، وقد مضى خبر قصد عبدالمطّلب أن يقتدي بجدّه إبراهيم (ع) ويذبحه قربانا إلى اللّه، وخبر فدائه بنحر مائة من الابل، ويظهر من أخبار السيرة أنَّ رقيّة بنت نوفل كانت قد سمعت من أخيها ورقة بن نوفل خبر مبعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعرضت نفسها على عبداللّه قبل ان يدخل بآمنة أُمّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم يستجب لها، وبعد زواجه بآمنة لم تعرض له رقيّة، فقال لها: ما لك لا تعرضين عليّ اليوم ما كنت عرضت عليّ بالامس؟ قالت: فارقك النور الذي كان معك بالامس. وفي رواية مثل الخبر الانف مع امرأة اُخرى، وأنَّها قالت بعد ذلك: (مرّ بها وبين عينيه غرّة مثل غرّة الفرس)(2) .

نكتفي بذكر هذا المقدار من أخبار عبداللّه والد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونبدأ بذكر عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكافله أبي طالب بحوله تعالى:

ثانيا ـ كافل النبي وناصر الاسلام أبو طالب:

اسمه:

في مروج الذهب:

تنوزع في اسم أبي طالب، فمنهم من رأى أنّ اسمه عبدمناف (على ما وصفنا)، ومنهم من رأى أنَّ كنيته اسمه، وأنَّ عليّ بن أبي طالب (رض) كتب في كتاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليهود خيبر بإملاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «وكتب عليّ بن أبي طالب» (بإسقاط‍ الالف)(3) وقد ذكر عبدالمطّلب في شعر له وصية أبي طالب بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال:

أوصيت مَنْ كنيته بطالب بابن الذي قد غاب ليس آئب
سيرته:

وفي تاريخ اليعقوبي ما موجزه:

وأوصى عبدالمطّلب إلى ابنه الزبير بالحكومة وأمر الكعبة، وإلى أبي طالب برسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) وسقاية زمزم، وتوفي عبدالمطّلب ولرسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ثماني سنين(4) .

وفي السيرة الحلبية:

السقاية كانت حياضا من أدم توضع بفناء الكعبة، وينقل إليها الماء العذب من الابار على الابل في المزاود والقِرَب قبل حفر زمزم، وربما قذف فيها التمر والزبيب في غالب الاحوال لسقي الحاج أيام الموسم حتى يتفرقوا، وهذه السقاية قام بها وبالرفادة بعد عبدمناف ولده هاشم وبعده ولده عبدالمطّلب، ثم بعده قام بها ولده أبو طالب، ثم اتفق أنَّ أبا طالب أملق ـ أي افتقر في بعض السنين‌ـ فاستدان من أخيه العباس عشرة آلاف درهم إلى الموسم الاخر، فصرفها أبو طالب في الحجيج عامه ذلك فيما يتعلق بالسقاية، فلما كان العام المقبل لم يكن مع أبي طالب شي‌ء، فقال لاخيه العباس: أسلفني أربعة عشر ألفا أيضا إلى العام المقبل لاُعطيك جميع مالك، فقال له العباس: بشرط إن لم تعطني تترك السقاية لاكفلها، فقال: نعم، فلما جاء العام الاخر لم يكن مع أبي طالب ما يعطيه لاخيه العباس، فترك له السقاية فصارت للعباس ثم لولده عبداللّه بن عباس، واستمرّ ذلك في بني العباس إلى زمن السفاح، ثم ترك بنو العباس ذلك(5) .

وفي تاريخ اليعقوبي:

قال عليّ بن أبي طالب: أبي ساد فقيرا وما ساد فقيرٌ قبله(6) .

عقيدته:

في مروج الذهب:

وقد كان ـ أبو طالب ـ أكثر العرب ممن بقي ودثَرَ يقرّ بالصانع، ويستدل على الخالق(7) .

وسوف ندرس ذلك في البحوث الاتية بحوله تعالى.

كان ذلكم بعض أخبار سيرة أبي طالب الخاصّة به. وندرس في أخبار سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على عهد أبي طالب الاتية من سيرة أبي طالب ما عاناه في سبيل الحفاظ على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) والدفاع عنه وعن عقائد الاسلام بحوله تعالى.

نتائج البحث

كان إسماعيل نبيّا ورسولاً ووصيا على شريعة إبراهيم الحنيفة في الجزيرة العربية، وبعد ذلك وفي عصر فترة إرسال المبشرين والمنذرين بعد عيسى بن مريم(ع) كان بعض الانبياء والاوصياء يحملون شريعة عيسى (ع) إلى قومهم، مثل: حنظلة وخالد والرهبان الذين تلمذ عليهم سلمان الفارسي، وفي اُمّ القرى مكة خاصّة وجدنا في آباء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كابرا بعد كابر من يعمل بسنّة إبراهيم في القيام بتعمير البيت، والاهتمام بإقامة شعائر الحجّ والرفادة والسقاية لضيفان اللّه حتى نهاية موسم الحج، ولم يكن عملهم في ضيافة الحج لكسب الفخر لانفسهم أو لقومهم، بل كانوا يبتغون من وراء ذلك كسب رضا اللّه؛ ولذلك يشترطون في الانفاق ألاّ يكون من مالِ الحرام، بينما يخبر اللّه تعالى عن المشركين ويقول سبحانه في سورة النساء:

(والّذين يُنفقون أموالهُم رئاء النّاس ولا يُؤمنون باللّه ولا باليوم الاخر...) (الاية: 38)

ويخوّفون الناس من يوم الجزاء وعقاب الاعمال؛ بينما نجد اللّه سبحانه وتعالى يخبر عن المشركين في العصر الجاهلي أنّهم كانوا يقولون:

أ ـ في سورة الجاثية:

(وَقالُوا ما هِيَ إلاّ حَياتُنا الدُّنيا نَموتُ وَنَحيا وَما يُهلِكُنا إلاّ الدَّهْرُ...) (الاية:24).

ب ـ في سورة الانعام:

(وَقـالـوا إن هِـيَ إلاّ حَياتُنا الدُّنيـا نَمـوتُ وَنَحيـا وَمـا نَـحـنُ بِمَبعُوثيـنَ)(الاية:29).

ج ـ في سورة هود:

(... وَلَئِنْ قُلتَ إنّكمُ مَبعُوثون مِنْ بَعد المَوتِ لَيَقُولَنَّ الّذينَ كَفَروا إنْ هذا إلاّسِحرٌ مُبينٌ) (الاية: 7) ونظائرها في سورة الاسراء 49 و98 وسورة المؤمنون37 و82 والصافات 16 والواقعة 47.

د ـ في سورة ياسين:

(وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِي خَلقَهُ قال مَنْ يُحيي العِظامَ وَهِيَ رَميمٌ * قُلْ يُحييها الَّذي أَنْشأها أوّل مَرَّةٍ وهو بكلِّ خلقٍ عليمٌ)(الايتان: 78 ـ 79)

وهكذا كان الجاهليون كما وصفهم اللّه تعالى وقال:

(وكانوا يصرّون على الحنثِ العظيمِ * وكانوا يقولون أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون * أوَ آباؤنا الاوّلونَ)(الواقعة: 46 ـ 48)

والحنث: الذنب والاثم.

وكان في ما قام به آباء النبي كابِرا بعد كابِر مخالفة لسنن مجتمعهم في السلوك، مثل: تحريمهم الخمر والزنى في قرون متوالية في مجتمع انتشر فيهم شرب الخمر والزّنى بأنواعه، وكان في مكة والطائف بيوت للمومسات يرفعن عليها أعلاما إشعارا بعملهنّ، وفي نهيهم عن وأد البنات في عصر (وَإذا بُشِّر أحدُهُم بالاُ نثى ظلَّ وجهُهُ مُسْوَدّا وهُو كظيمٌ * يتوارى من القومِ من سُوء ما بُشِّر به أيُمسكُهُ على هُونٍ أم يدُسُّهُ في التُّرابِ...)(النحل: 58 ـ 59)

إلى غير ذلك من الاعمال التي تركوها ومنعوا عنها، مخالفين في ذلك سنَن قومهم مما حفلت بذمّها سور القرآن المكيّة، وكذلك في ما قاموا بها من مكارم أخلاق خصّوا بها مثل دعوتهم إلى الانفاق على إطعام ضيفان اللّه من الكسب الحلال في مجتمع قائم على أخذ الربا والكسب بالقمار وسلب أموال من يستطيعون سلب أمواله بأية وسيلة أمكنتهم. وفي جانب العقائد لم يسجلّ التاريخ على أحد من آباء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه سجد لصنم قطّ أو قرّب قربانا لصنم أو استنصر صنما أو استمطره أو لبّى لصنم في الحجّ أو حلف بصنم قطّ، في عصور كان المجتمع المكّي ومن حولهم تقوم عقائدهم عليها ويدور كلامهم حولها.

وكذلك دعوتهم للخوف من الجزاء يوم القيامة في مجتمع يستهزئون ويستخفّون عقول من يدينون بالحياة الاخرة، ولا يمكن أن يقال ان كل ذلك وقع مصادفة في كل تلكم القرون في أولاد إسماعيل(ع) بعده إلى عصر عبدالمطلب، أي قرابة أكثر من خمسمائة سنة، وأن سلسلة آباء النبي جميعهم في كل تلكم القرون اتّصفوا مصادفة بما ذكرنا، مع طهارة المولد في عصور انتشر فيها الزنى في مكة والطائف انتشارا هائلاً، بحيث أَنّي لم أجد في كتب الانساب والسير اُسرة ممن ذكروا من مشاهيرهم سلمت أنسابهم وطهرت من الخبائث. ليس من المعقول القول بأن كل ذلك وقع مصادفة في أكثر من خمسمائة سنة، أضف إلى ذلك قيام آباء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ببشارة قومهم ببعثة خاتم الانبياء في مكة، وأنّه سُمّي في الكتب السماوية بمحمّد وأحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وطلبهم من قومهم أن يصدِّقوه وينصروه عندما يُبعث في بلدهم؛ وعملهم هذا مصداق لقوله تعالى في سورة آل عمران:

(وإذْ أخذ اللّهُ مِيثاقَ النَّبيّين لما آتيتُكُم من كتابٍ وحكمةٍ ثمَّ جاءكُمْ رسولٌ مُصدِّقٌ لما معكم لتُؤمنُنَّ به ولتنصُرُنَّهُ قال أأقررتُم وأخذتُم على ذلكُم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكُم من الشاهدين) (الاية: 81). والرسول هو محمد بن عبداللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) وكل ما ذكرناه ممّا صدر في جانب العقائد من آباء النبي صدر من عبدالمطلب أكثر، مثل قوله في ما أنشد عندما ولد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم):

أنت الذي سُمّيت في الفرقان في كـتب ثـابتة المبـاني
أحمد مكتوب على اللّسان
وقوله في ما أنشد عندما أضلته مرضعته حليمة:

أنت الذي سمّيته محمّدا ويصرّح في أبياته التي أنشدها بعد هلاك جيش إبرهة الحبشي أنّهم حجج اللّه حيث يقول:

نحن آل اللّه في ما قد مضى لم يزل ذاك على عهد إبرهم
لم تـزل للّه فـيـنا حجّـة يـدفع اللّه بها عنّـا النقم
ولم يكن من باب المصادفة أن يأتي الاسلام بما سنّه عبدالمطّلب، وإنما كان على ملّة ابراهيم(ع) الحنيفة وما سنّه عبد المطلب كان اتّباعاً لشريعة ابراهيم(ع) ولذلك جاء في الاسلام ما سنّه عبد المطلب فقد قال سبحانه:

أ ـ في سورة النحل:

(ثم أوحينا إليك ان اتبع ملة إبراهيم حنيفا...)(8) (الاية: 123)

ب ـ في سورة آل عمران:

(قل صدق اللّه فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا...)(الاية: 95)

ج ـ في سورة النساء:

(ومن أحسن دينا ممّن أسلم وجهه للّه وهو محسنٌ واتبع ملة إبراهيم حنيفا...) (الاية: 125) وسورة الانعام (الاية: 161)

وبناء على ذلك فانّ آباء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا على شريعة إبراهيم الحنيفة، وصدق اللّه العظيم حيث قال سبحانه:

(وتَقَلُّبك في السّاجِدِين)(الشعراء: 219)

فقد قال ابن عباس في تفسير الاية: ما زال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يتقلب في أصلاب الانبياء حتى ولدته امه.

وقال الامام الباقر (ع) في تفسيرها: يرى تقلبه في أصلاب النبيين من نبي إلى نبيّ، حتى أخرجه من صلب أبيه من نكاح غير سفاح من لدن آدم (ع).

وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) من الخطبة 92 من نهج البلاغة في وصف الانبياء:

(فاستودعهم في أفضلِ مستودعٍ، وأقرهم في خير مستقر، تناسختهم كرائم الاصلاب إلى مطهرات الارحام، كلما مضى منهم سلفٌ قام منهم بدين اللّه خلفٌ، حتى أفضت كرامة اللّه سبحانه إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأخرجه من أفضل المعادن منبتا، وأعزِّ الاروماتِ مغرسا، مِنَ الشجرة التي صدع منها أنبياءه، وانتخب منها أُمناءه، عترته خير العتر، وأسرته خير الاُسر، وشجرته خير الشجر، نبتت في حرم، وبسقت في كرم).

يُستدلّ بقوله (ع): (كلّـما مضى منهم سلف قام منهم بدين اللّه خلف حتى أفضت كرامة اللّه سبحانه) على تتابع القائمين بالدعوة إلى دين اللّه وتسلسلهم من لدن آدم(ع) إلى نبي اللّه الخاتم وانّه لم يخل منهم زمان.

كما قال (ع) في كلمة اخرى له:

(لا تخلو الارض من قائم للّه بحجة: إما ظاهرا مشهورا، أو خائفا مغمورا(9) لئلا تبطل حجج اللّه وبيناته. وكم ذا(10) ؟ وأين (أُولئك) ؟ أُولئك ـ واللّه ـ الاقلون عددا، والاعظمون عند اللّه قدرا، يحفظ اللّه بهم حججه وبيناته، حتى يودعوها نظراءهم ويزرعوها في قلوب أشباههم)(11) .

وإنّ ربوبيّة اللّه للبشر تقتضي أن يجعل لهم في كل عصر اماما يأخذون منه معالم دين اللّه، بحيث إذا جاهدوا في طلبه كما يجاهدون في طلب الرزق اهتدوا إلى ما شرّع لهم، مصداقا لقوله تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) كما فعل ذلك سلمان الفارسي المحمدي حين هاجر في طلب الهداية من جيّ اصفهان إلى أديرة الرهبان في الجزيرة والموصل والشام. ونحن في هذا البحث بصدد أن نري أمثلة من سيرة آباء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذين كانوا يحملون الى الناس شريعة ابراهيم(ع) الحنيفة، بينما اعتقد الناس خطأ ان اللّه تبارك وتعالى ترك أهل ذلك العصر ـ الذي يسمى بعصر الفترة ـ هملا، ولم يجعل لهم اماما يأخذون منه معالم دينهم‌ـ معاذ اللّه ـ.

وما المانع من أن يكون عبدالمطلب من الانبياء الذين لم يذكر اسمهم في القرآن، فقد جاء في حديث الرسول الى أبي ذر ان عدد الانبياء مائة وأربعة وعشرون ألف نبي، والمرسلين ثلاثمائة وخمسة عشر، وجاء في القرآن الكريم اسم خمسة وعشرين نبيا ورسولاً(12) .

أمّا كون آباء النبي من الموحّدين فانه يستفاد ذلك بالاضافة إلى ما تقدم من الاحاديث الاتية:

قال ابن عباس: سألت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقلت: بأبي أنت واُمي أين كنت وآدم في الجنة؟ فتبسم حتى بدت نواجذه ثم قال: إني كنت في صلبه وهبط إلى الارض وأنا في صلبه، وركبت السفينة في صلب أبي نوح، وقذفت في النار في صلب أبي ابراهيم، لم يلتق أبواي قط على سفاح، لم يزل اللّه ينقلني من الاصلاب الطيبة إلى الارحام الطاهرة مصفىً مهذبا، لا تتشعب شعبتان إلاّ كنت في خيرهما، قد أخذ اللّه بالنبوة ميثاقي، وبالاسلام هداني، وبين في التوراة والانجيل ذكري، وبين كل شي‌ء من صفتي في شرق الارض وغربها، وعلمني كتابه، ورقي بي في سمائه، وشق لي من أسمائه فذو العرش محمود وأنا محمد، ووعدني أن يحبوني بالحوض، وأعطاني الكوثر، وأنا أول شافع وأول مشفع، ثم أخرجني في خير قرون امتي، وامتي الحمادون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر(13) .

وقال ابن عباس في تفسير قوله تعالى:

(وإذ قال إبراهيم لابيه وقومه إنني براء ممّا تعبدون * إلاّ الذي فطرني فانه سيهدين * وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون)(الزخرف: 26 ـ 28) يعني لا إله إلاّ اللّه لا يزال في ذريته من يقولها(14) .

وقال: في عقبه أي في خلفه(15) . وفي رواية: عقبه ولده(16) . وفي تفسير القرطبي ما موجزه: أي وجعل اللّه هذه الكلمة والمقالة باقية في عقبه وهم ولده وولد ولده، أي أنهم توارثوا البراءة عن عبادة غير اللّه، وأوصى بعضهم بعضا في ذلك. والعقب من يأتي بعده.

وفي صحيح الترمذي ومسند أحمد بسنده إلى الصحابي واثلة:

إنّ اللّه اصطفى كنانة من ولد إسماعيل. واصطفى قريشا من كنانة. واصطفى من قريش بني هاشم. واصطفاني من بني هاشم(17) .

وفي سنن الترمذي بسنده ان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ان اللّه عزّ وجلّ اصطفى من ولد إبراهيم اسماعيل، واصطفى من بني اسماعيل كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم.

وقال: هذا حديث حسن صحيح(18) .

والمقصود من قريش نفر من آباء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

كان ذلكم بعض أخبار آباء النبي في عصر الفترة.

وقال المسعودي:

(تنازع الناس في عبدالمطلب، فمنهم من رأى أنه كان مؤمنا موحدا، وأنه لم يشرك باللّه عزّوجلّ ولا أحد من آباء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنه نقل في الاصلاب الطاهرة، وانه أخبر أنه ولد من نكاح لا من سفاح. ومنهم من رأى أن عبدالمطلب كان مشركا، وغيره من آباء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ من صح إيمانه، وهذا موضع فيه تنازع بين الامامية والمعتزلة والخوارج والمرجئة وغيرهم من الفرق في النص والاختيار، وليس كتابنا هذا موسوما للحِجاج، فنذكر حِجاج كل فريق منهم.

وقد أتينا على قول كل فريق منهم وما أيد به قوله في كتابنا «المقالات في اُصول الديانات» وفي كتاب «الاستبصار» ووصف أقاويل الناس في الامامة وفي كتاب «الصفوة» أيضا)(19) .

وسوف نذكر أدلتهم بعد دراستنا لسيرة أبي طالب (ع) مع الرسول في ما يأتي باذنه تعالى:

نتائج بحوث الكتاب

أولاً: تسلسل تعيين الوصي من لدن آدم الى النبي الخاتم (صلوات اللّه عليهم أجمعين)

آدم أوصى إلى ابنه شيث هبة اللّه:

لمّا ولد شيث انتقل النور إليه، فلما ترعرع وكمل أوعز إليه آدم وصيته، وأعلمه أنّه حجة اللّه بعده وخليفته في الارض، والمؤدّي حقّ اللّه إلى أوصيائه، وأنّه الثاني في انتقال نور الرسول الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) إليه.

ولمّا أراد اللّه أن يتوفّى آدم، أمره أن يسند وصيّته إلى ابنه شيث ويعلّمه جميع العلوم التي عُلِّمَ بها ففعل.

ولمّا حضرت آدم الوفاة، جاء شيث وولد ولده، فصلّى عليهم ودعا لهم بالبركة، وجعل وصيته إلى شيث، وأمره أن يحفظ جسده ويجعله إذا مات في مغارة الكنز، وأن يوصي بعضهم بعضاً عند وفاتهم؛ إذا كان هبوطهم من جبلهم أن يأخذوا جسده فيجعلوه وسط الارض.

ولمّا وُلد أنوش بن شيث لاحَ النور عليه، فلمّا بلغ الوصاة أوعز إليه شيث في شأن الوديعة وعرّفه شأنها وأنّها شرفهم وكرمهم، وأوعز إليه أن ينبّه ولده على حقيقة هذا الشرف وكبر محلّه، وأن ينبّهوا أولادهم عليه، ويجعل ذلك فيهم وصيّة منتقلة ما دام النسل.

شيث أوصى إلى ابنه أنوش:

فلمّا حضرت وفاة شيث أتاه بنوه وبنو بنيه وهم يومئذٍ أنوش، وقينان، ومهلائيل، ويرد، وأخنوخ، ونساؤهم وأبناؤهم، فصلّى عليهم ودعا لهم بالبركة، وتقدّم إليهم أن لا يختلطوا بأولاد قابيل الملعون، وأوصى إلى أنوش ابنه وأمره أن يحتفظ‍ بجسد آدم، وأن يتّقي اللّه ويأمر قومه بتقوى اللّه وحسن العبادة، ثمّ توفّي.

وُلد أنوش في زمن آدم، فلمّا احتضر شيث أوصى إلى ابنه أنوش وأخبره بالنور الذي انتقل اليه منه - أي نور خاتم الرسل (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي يولَد من نسله - وأمره أن يُنبّه ولده على هذا الشرف كابراً عن كابر وسلفاً بعد سلف، فقام ولده أنوش بعده بالامر أحسن قيام، ودبر الرعايا وعمل بالشرائع على ما كان عليه أبوه.

أنوش أوصى إلى ولده قينان:

وقام أنوش بن شيث بعد أبيه بحفظ وصيّة أبيه وجدّه، وأحسن عبادة الله، وأمر قومه بحُسن العبادة.

ولمّا حضرت أنوش الوفاة اجتمع إليه بنوه وبنو بنيه قينان، ومهلائيل وأوصى قينان بجسد آدم، وأمرهم أن يُصلّوا عنده ويُقدّسوا اللّه كثيراً وتوفّي. وأوصى إلى ابنه قينان، وانتقل النور إلى قينان وأخبره بالسرّ الذي أودعه فيه، فسار قينان سيرة أبيه.

وقام قينان بن أنوش في قومه بطاعة اللّه وحسن عبادته، واتّباع وصية آدم وشيث.

قينان أوصى إلى ولده مهلائيل:

فلمّا دنا موته اجتمع إليه بنوه وبنو بنيه مهلائيل، ويرد، ومتوشلح، ولمك، ونساؤهم، وأبناؤهم، فصلّى عليهم، ودعا لهم بالبركة.

وجعل وصيّته إلى مهلائيل، وأمره أن يحتفظ بجسد آدم، وأعلمه بالنور الذي انتقل إليه، فسار بالناس سيرة أبيه.

مهلائيل أوصى إلى ولده يوارد:

وُلد له يارد وأوصى أبوه إليه وأخبره بالسرّ المكنون وانتقال النور إليه، وعلّمه الصحف، وعلّمه قسمة الارض وما يحدث في العالم، ودفع إليه كتاب سرّ الملكوت الذي علّمه مهلائيل الملك لادم (ع) وكانوا يتوارثونه مختوماً.

يوارد أوصى إلى ابنه أخنوخ وهو إدريس:

في مرآة الزمان:

فلمّا دنا موت يرد، اجتمع إليه بنوه وبنو بنيه أخنوخ، ومتوشلح، ولمك، ونوح فصلّى عليهم ودعا لهم بالبركة وعهد إلى أخنوخ وعلّمه العلوم التي عنده ودفع إليه مصحف السرّ.

وأمر أخنوخ إبنه ألاّ يزال يصلّي في مغارة الكنز - التي فيها جسد آدم(ع)- ثمّ توفي.

وأُنزل على إدريس ثلاثون صحيفة، وكان قد نزل قبل ذلك على آدم إحدى وعشرون صحيفة، وأُنزل على شيث تسع وعشرون صحيفة فيها تهليل وتسبيح.

وأوّل نبي بُعث بعد آدم إدريس، وهو أخنوخ بن يرد... فولد أخنوخ متوشلح ونفراً معه وإليه الوصيّة. فولد متوشلح لمك ونفراً معه وإليه الوصيّة، فولد لمك نوحاً.

إدريس أوصى إلى ابنه متوشلح:

وأوصى إدريس إلى ابنه متوشلح، لانّ اللّه أوحى إليه أن اجعل الوصيّة في ابنك متوشلح فإنّي سأُخرج من ظهره نبياًّ يُرتضى فعله.

وأوصى إدريس إلى ابنه متوشلح، ولمّا عهد إليه عرّفه بالنور الذي انتقل إليه منه - أي نور النبىٍّّ الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) -.

متوشلح أوصى إلى ابنه لمك:

في أخبار الزمان:

لمّا حضرت متوشلح الوفاة أوصى إلى ابنه لمك، ومعنى لمك: الجامع، وهو أبو نوح، وعهد إليه ودفع إليه الصحف والكتب المختومة التي كانت لادريس، وانتقلت الوصيّة إليه.

لمك أوصى إلى ابنه نوح:

لمّا دنا موت لمك دعا نوحاً، وساماً، وحاماً، ويافثاً، ونساءهم ولم يبق من أولاد شيث غيرهم وكانوا ثمانية أنفس، وهبط الباقي إلى أولاد قابيل واختلطوا معهم، فصلّى عليهم متوشلح ودعا لهم بالبركة وقال: أسأل اللّه الذي خلق آدم أن يعطيكم بركة أبينا آدم، ويجعل في ولدكم المُلك، وأنا متوفّى، ولن يفلت من أهل الرجز غيرك يا نوح، فإذا أنا متّ فاحملني واجعلني في مغارة الكنز - التي كان فيها جسد آدم (ع) - فإذا أراد اللّه أن تركب السفينة، فاحمل جسد أبينا آدم، فاهبط‍ به معك حتّى تخرجوا من السفينة، فاذا ذهب الطوفان وخرجتم من السفينة إلى الارض، فصَلِّ أنت عند جسد آدم، ثمّ أوصِ ساماً أكبر بنيك، فليذهب بجسد آدم حتّى يجعله في وسط الارض وليجعل معه رجلاً من أولاده يقوم عليه، - إلى قوله - فإنّ اللّه مرسل معه ملكاً من الملائكة يدلّه على وسط الارض ويؤنسه.

أوحى اللّه عزّ وجلّ إلى نوح في أيّام جده إدريس النبيّ وقبل أن يرفع اللّه إدريس أمره أن ينذر قومه وينهاهم عن المعاصي التي كانوا يركبونها، ويحذرهم العذاب فأقام على عبادة اللّه تعالى والدعاء لقومه.

نوح أوصى إلى ولده سام:

وعاش نوح، بعد خروجه من السفينة، ثلاثمائة وستين سنة، ولمّا حضرت وفاة نوح اجتمع إليه بنوه الثلاثة: سام وحام ويافث وبنوهم، فأوصاهم وأمرهم بعبادة اللّه تعالى، وأمر ساما أن يدخل السفينة إذا مات، ولا يشعر به أحد، فيستخرج جسد آدم في وسط الارض، في المكان المقدّس، وقال له: يا سام؛ إنّك إذا خرجت أنت وملكيزدق بعث اللّه معكما ملكاً من الملائكة يدلّكما على الطريق ويُريكما وسط الارض، فلا تعلمنّ أحداً ما تصنع، فإنّ هذا الامر وصيّة آدم التي أوصى بها بنيه، وأوصى بها بعضهم بعضاً، حتّى انتهى ذلك إليك، فإذا بلغتما المكان الذي يُريكما المَلَك، فضع فيه جسد آدم، ثمّ مُر ملكيزدق أن لا يفارقه، ولا يكون له عمل إلاّ عبادة اللّه سبحانه.

إنّ اللّه جعل لسام بن نوح الرئاسة والكتب المُنَزَّلة من الانبياء، ووصيّة نوح في ولده خاصّة دون إخوته.

سام أوصى إلى ابنه ارفخشد:

قام سام بن نوح، بعد أبيه، بعبادة اللّه تعالى وطاعته، وفتح السفينة، فأخذ جسد آدم، فهبط به سرّاً من أخويه وأهله ومعه ابنه، فعرض لهما المَلَك فلم يزل معهما حتّى صار بهما إلى الموضع الذي أُمروا أن يضعوا جسد آدم فيه فوضعوا الجسد فيه.

سام أوصى إلى ولده ارفخشد:

لمّا حضرت سام الوفاة، أوصى إلى ابنه ارفخشد وكان القيّم بعد سام في الارض.

ارفخشد أوصى إلى ابنه شالح:

ولمّا حضرت ارفخشد الوفاة جمع إليه وُلده وأهله وأوصاهم بعبادة اللّه تعالى ومجانبة المعاصي، وقال لشالح ابنه: اقبل وصيّتي، وقم في أهلك بعدي عاملاً بطاعة اللّه تعالى، ومات.

شالح أوصى إلى ابنه عابر:

ولمّا حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه عابر بن شالح، وأمره أن يتجنّب فعل بني قابيل اللّعين، ومات.

ودرسنا في ما سبق كيف أوصى خليل الرّحمن إبراهيم نجلَيه إسماعيل وإسحاق بحفظ شريعته الحنيفة.

وكان ذلكم بعض ما درسناه من أخبار تسلسل الوصاية في هذا المجلّد وفي مجلّده الاوّل درسنا كيف أمر اللّه كليمه بن عمران أن يُعيّن اليسع بن نون وصيّاً على شريعته واُمته من بعده.

وكيف أوصى داود ابنه، سليمان عليهما السلام بذلك، وكيف أوصى عيسى(ع) إلى حواريه شمعون سمعان بذلك وهكذا جرى تسلسل الوصاية من لدن آدم إلى عيسى ابن مريم عليهم السلام، ولم يكن خاتم الانبياء بدعاً من الرسل فقد عيّن من بعده بأمرٍ من اللّه اثني عشر وصيّاً من أهل بيته وعترته أوّلهم ابن عنّه أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب وآخرهم المهدي بن الحسن العسكري عليهم السلام، وأورد أخبار ذلك بالتفصيل في خمسة كتب لاعلامنا البررة بإسم إثبات الوصيّة ذكرها شيخنا مؤلّف الذريعة في موسوعته الذريعة، وأورَدتُ بعض رواياتها وشيئاً من أخبارها في أكثر من 250 صفحة من الجزء الاوّل من معالم المدرستين تحت عنوان النصوص الواردة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في تعيين ولىٍّّ الامر من بعده جاء فيها ما موجزه كالاتي:

أ - حين بدأ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) دعوته إلى الاسلام بعد ما نزلت آية وأنذر عشيرتك الاقربين ودعا بني عبد المطّلب كان من خبرهم ما موجزه: أخَذَ الرسول برقبة ابن عمّه علي وقال:

إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا (20) .

ب - روى الصحابيان سلمان وأبو سعيد الخدري أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:

إنّ وصيّي وموضع سرّي وخير مَن أترك بعدي وينجز عدتي ويقضي ديني علي ابن أبي طالب(21) .

عن أنس بن مالك ما موجزه أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال له:

أوّل من يدخل عليك من هذا الباب إمام المتّقين وسيّد المسلمين ويعسوب الدين وخاتم الوصيّين... فجاء علي... الحديث (22) .

د - عن الصحابىٍّّ بريدة قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):

لكلّ نبىٍّّ وصىٍّّ ووارث وإنّ عليّاً وصيّي ووارثي (23) .

هـ - في صحيح البخاري، ومسلم، وغيرهما(24) واللفظ للاوّل: أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لانبي بعدي».

و - وفي سنن الترمذي ومسند أحمد واللّفظ للاوّل:

«إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الاخر: كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الارض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرّقا حتّى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفونني فيهما» (25) .

«لا يزال هذا الدين قائماً حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر».

وفي رواية:

«لا يزال أمر الناس ماضياً إلى اثني عشر».

وفي رواية بعدها:

«ثمّ يكون المرج والهرج».

وفي رواية:

«فإذا هلكوا ماجت الارض بأهلها».

وفي رواية قال عن عددهم أنّهم اثنا عشر عدّة نقباء بني إسرائيل.

ولا تَصدُق هذه الروايات على غير الائمّة الاثني عشر من أهل بيت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) الّذين طال عمر آخرهم وبعدهم يكون فناء الدنيا. وبما أنّ علماء مدرسة الخلافة لم يرتضوا أئمّة أهل البيت، فقد حاروا في تفسير هذه الروايات الصحيحة ولم يستطيعوا تأويلها بما يرضون به أنفسهم.

وفي ما يأتي أسماء اُولئك الاثني عشر كما نصّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في أحاديث أُخرى له.

أوصياء النبيّ الاثنا عشر من بعده:

الاول: عليّ بن أبي طالب، أمير المؤمنين، الوصيّ.

الثاني: الحسن بن عليّ، السبط الاكبر.

الثالث: الحسين بن عليّ، السبط الاصغر، الشهيد.

الرابع: عليّ بن الحسين، السجاد.

الخامس: محمد بن عليّ، الباقر.

السادس: جعفر بن محمد، الصادق.

السابع: موسى بن جعفر، الكاظم.

الثامن: عليّ بن موسى، الرضا.

التاسع: محمد بن عليّ، الجواد.

العاشر: عليّ بن محمد، الهادي.

الحادي عشر: الحسن بن عليّ، العسكري.

الثاني عشر: محمد بن الحسن، المهدىٍّّ، الحجّة، المنتظر.

وهكذا تسلسل تعيين الوصيّ من لدن آدم إلى النبيّ صلوات اللّه عليهم أجمعين وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين.

ثانياً: وجدنا في حجج اللّه على خلقه أن انوش غرس النخل وزرع الحبّ وعمّر الارض، وامر ابنه قينان باقامة الصلاة وايتاء الزكاة والحج وجهاد ولد قابيل ففعل، وان يرد استخرج المعادن وبنى المدن وامر ببناء المساجد وقتل السباع الضارية وذبح البقر والغنم.

وان إدريس كان أول من خاط بالابرة وأول من سبى بني قابيل واسترقّ منهم، ونظر في علم النجوم ووضع اسماء البروج والكواكب السيّارة.

وان متوشلح عمّر البلاد وكان أول من ركب الجمل، ومن ذلك علمنا ان المبلغين عن اللّه هم ـ أيضا ـ روّاد الحضارة البشرية، ولم تقتصر هدايتهم للناس في تعليمهم العبادات كما يرى ذلك من عقائد النصارى اليوم.

ثالثا: وجدنا في عصر الفترة من الرسل أن آباء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هم استجابة لدعاء ابراهيم واسماعيل عليهما السّلام عندما دعوا ربهما وقالا: (ربّنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريّتنا امة مسلمة لك)(البقرة: 128) فقد كان منهم خزيمة بن مدركة الذي كان يقول:

قد آن خروج نبي من مكة يدعى أحمد يدعو الى اللّه.. فاتبعوه ولا تكذبوا ما جاء به فهو الحقّ.

وكان كعب بن لؤي يقول:

لم يخلق السماء والارض عبثا والدار أمامكم ـ يعني دار الاخرة ـ، ويوصي بمكارم الاخلاق ويقول:

ويبعث من الحرم خاتم الانبياء بذلك جاء موسى وعيسى.

وينشد (على غفلة يأتي النبي محمد...) ثم يقول: يا ليتني شاهد نجوى دعوته.

وانّه لمّا جاء عمرو بن لحيّ بصنم هبل الى مكة وانتشرت عبادة الاصنام فيها، كان قصيّ ينهى عن عبادة غير اللّه من الاصنام، ويقيم شعائر الحج وهي عماد حنيفية ابراهيم، ويقوم باطعام الحجيج واروائهم مستعينا بأهل مكة في ذلك.

وقام بذلك بعده ابنه عبدمناف واوصى قريشا بتقوى اللّه وصلة الرحم.

وقام ابنه هاشم كذلك باطعام الحجيج واروائهم، وكان يقول لمن يعينه من أهل مكة: اسألكم بحرمة هذا البيت ان لا يخرج رجل منكم من ماله الاّ طيّبا لم يؤخذ ظلما ولم يقطع فيه رحم ولم يؤخذ غصبا، وسن لقريش رحلة الشتاء والصيف للتجارة الى الشام وايران واليمن والحبشة، وبزّ ابنه عبد المطلب آباءه في صفاته وقالوا عنه: انّه كان مقرّا بالتوحيد مثبتا الوعيد ـ ليوم القيامة ـ واجرى اللّه على يده حفر بئر زمزم، واقتدى بجده ابراهيم واراد ان يضحي بابنه عبداللّه، والد النبي للّه، وانشد قائلاً:

عاهدت ربي وانا موف عهده اخاف ربي ان تركت وعده
ومنعه قومه من ذلك واقترحوا عليه ان يفديه بالابل، فاقترع على مائة من الابل وعلى عبداللّه فخرجت على الابل فنحرها، ولمّا تقدّم ابرهة بجيشه الى مكة ليهدم الكعبة المكرمة قال له عبدالمطلب: لهذا البيت ربّ يمنعك، وناجى اللّه وقال:

يا ربّ ان المءر يمنع رحله فامنع رحالك، وفرّت قريش هاربة من مكة وبقي عبدالمطلب واهله فيها، ولمّا اهلك اللّه جيش ابرهة انشد يقول:

طارت قريش اذ رأت خميسا فظلتُ فردا لا ارى انيسا
وقال:

نحن آل اللّه في ما قد مضى لم يزل ذاك على عهد ابرهم
نحن دمّـرنـا ثمـودا عنوة ثـم عـادا قبلها ذات الارم
نـعـبد الـلّه وفـينا سنّة صـلـة القربى وايفاء الذمم
لـم تـزل لـلّه فـينا حُجَّة يـدفـع الـلّه بها عنّا النقم
يقول شيبة الحمد في ابياته هذه:

فرّت قريش كالطير عندما رأت الجيش، وبقيت وحدي في الحرم لا ارى انيسا، وهذا يدلّ على ايمانه وثقته باللّه انّه لن يدع ابرهة يدخل الحرم ويهدم بيته.

وانّهم منذ جده ابراهيم هم آل اللّه، ولا يصدق هذا القول على غير حجج اللّه على خلقه، وان حجج اللّه هم الّذين دمروا قبيلة ثمود ثم عادا ذات الارم، ولمّا لم يكن كل من هود وصالح من سلسلة اجداد عبدالمطلب ولم يكن قومهما من قريش عرفنا ان عبدالمطلب قصد بقوله: (نحن دمرّنا ثمودا ثم عادا) ان حجج اللّه الذين كان عبدالمطلب احدهم دمروا ثمود وعادا ودمّر هو إبرهة بدعائه ربّه يؤكّد ذلك بقوله: لم يزل للّه فينا حجة يدفع اللّه به عنا النقم، وانّه هو حجّة اللّه في عصره كما كان ابراهيم وهود وصالح حجج اللّه في عصورهم.

ولما ولد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال عبدالمطلب في شعره انّ حفيده سمّي في الكتب باحمد، كما أخبر اللّه عن عيسى بن مريم (ع) انه قال: (ومبشّرا بنبي يأتي من بعدي اسمه أحمد).

وعندما اخبرته مرضعة النبي حليمة السعدية انها فقدته في جبال مكة خاطب ربّه وقال: اللهم ردّ اليّ محمدا وانت سمّيته محمّدا.

كل ذلك يدل على ان عبدالمطلب ممن عنده علم بالكتب السماوية قبله، ولا يكون ذلك في بلد جاهلي مثل مكة ومن قوم جاهلين مثل قريش الا ان تكون لديه تلك الكتب، وان يكون من سلسلة اوصياء أبويه، اسماعيل، وابراهيم عليهما السّلام.

وكان عبد المطلب يأمر بصلة الارحام واطعام الطعام، وترك الظلم والبغي ويقول: انّه لن يخرج من هذه الدنيا ظلوم حتى يُنتقم منه ويقول: واللّه انّ وراء هذه الدار دار جزاء الاعمال.

وسنّ عبد المطلب الوفاء بالنذر، وقطع يد السارق، ومنع من نكاح المحارم، ونهى عن قتل المؤودة، وحرّم الخمر والزنى والاّ يطوف بالبيت عريان(26) . وجاء كل ذلك في شريعة خاتم الانبياء، واستجاب اللّه دعاءه في طلب المطر لاهل مكة، وكان يتعبّد بغار حراء في شهر رمضان، واوصى قريشا عامّة برسول اللّه واوصى به (أبا طالب) خاصَّة.

العبرة في تفسير الايات:

فضّل اللّه بني إسرائيل على العالمين في عصرهم، فضّلهم على العالمين حين أنجاهم من فرعون وقومه الذين كانوا يسومونهم سوء العذاب، يذبّحون أبناءهم ويستحيون بناتهم، وفرق لهم البحر وضرب لهم فيه طريقا يبسا، وجاوزهم البحر وتبعهم فرعون وجنوده وساروا في نفس الطريق اليبس الذي سار فيه بنو إسرائيل، فتلاقت مياه البحر عليهم وأغرق اللّه فرعون وجنوده بمرأى من بني إسرائيل، وطفا جسد فرعون على الماء وبقي سالما حتى اليوم في متاحف مصر ليكون آية للعالمين.

سار بعد ذلك بنو إسرائيل حتى أتوا على قوم يعبدون الاصنام، فقالوا لموسى: إجعل لنا إلها كما لهم آلهة فقال لهم موسى(ع) متبّر وباطل ما فيه هؤلاء، أوَغير اللّه جلّ اسمه أبغي لكم إلها وهو فضّلكم على العالمين؟

ثمّ قال عزّ اسمه لبني إسرائيل: اسكنوا الارض ـ تملّكوها ـ بعد أن كانوا مستعبدين لفرعون لا يملكون أنفسهم فضلاً عن أن يملكوا الارض وما عليها، وظلّل اللّه عليهم الغَمام وأطعمهم السلوى ـ السماني ـ من أفضل أنواع اللحوم، والمنّ ـ السكّر الطبيعي ـ، في مثل هذه الحالة قالوا لموسى (ع): يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربّك يخرج لنا من الارض مما تنبت من بقلها وفومها وعدسها و... فقال لهم موسى (ع): اهبطوا بلدا من البلاد فإنّ لكم ما سألتم؛ وـ أيضا ـ فضّلهم اللّه على العالمين حين قسّمهم موسى (ع) اثنتي عشرة قبيلة، وضرب بعصاه الحجر بأمر من اللّه جلّ جلاله فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا لكل قبيلة عين يرتوون منها.

وواعد اللّه جلّ اسمه موسى (ع) ثلاثين ليلة ليذهب إلى طور سيناء ويؤتيه اللّه التوراة شريعة لبني إسرائيل فأتمّ اللّه ميعاده وجعله أربعين ليلة، فأضلّ السامري(27) بني إسرائيل بعد ذهاب موسى للمناجاة إلى طور سيناء، وصنع لهم عجلاً ممّا كان معهم من حليّ الذهب ورمى في فمه ممّا كان معه من تراب الارض التي رأى عليها جبرائيل (ع) فأصبح له خوار على أثر دخول الرياح في فمه. فقالوا: هذا إلهكم وإله موسى (ع) فقال لهم هارون (ع): انّما فتنتم به وإنّ ربكم الرحمن، قالوا: لن نترك عبادته حتى يرجع إلينا موسى (ع)، فاخبر اللّه عزّ اسمه موسى (ع) بفعلهم، فرجع إليهم غضبان أسفا وعاتب أخاه هارون (ع) على ذلك فقال: يابن أُمّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني، وبعد أن أدرك بنو إسرائيل خطأهم جعل اللّه توبتهم أن يستسلم مَنْ عَبَدَ العجل منهم لمن لم يعبده ليقتلوهم، فلمّا باشروا ذلك تاب اللّه عليهم، ولكنهم بعد ذلك طلبوا من موسى (ع) أن يأخذهم إلى ميقات ربّه ليشاهدوا مناجاته مع اللّه فاختار موسى منهم سبعين رجلاً، فلمّا حضروا الميقات قالوا: أرنا اللّه جهارا فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون، وأعادهم إلى الحياة ثانية بطلب موسى (ع)، وهكذا آمنوا بالتوراة التي جعلها اللّه ـ جلّ اسمه ـ هدىً لهم، وليحكم بها النبيون منهم، وقال لهم موسى (ع) بعد أن ذكّرهم بما أنعم اللّه جل ذكره عليهم وفضلهم بها على غيرهم من العالمين: يا قوم ادخلوا الارض المقدسة ـ‍ بلاد الشام ـ الّتي كتب اللّه لكم، قالوا: يا موسى ان فيها قوما جبّارين وانا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فان يخرجوا منها فَسوفَ ندخلها، وقال رجلان من أحبارهم: ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فانكم الغالبون وعلى اللّه توكلوا إن كنتم مؤمنين ! قالوا يا موسى لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، فقال اللّه جلّ اسمه: إنّها محرّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الارض ـ صحاري سيناء ـ فلا تأس على القوم الظالمين.

كان ذلكم بعض ما جرى من بني إسرائيل على عهد موسى (ع)، ومما جرى لبني إسرائيل بعد موسى (ع) أنّ بعضهم كانوا ساكنين ساحل البحر وكانت تأتيهم حيتان البحر يوم السبت شرّعا، وقد نهاهم اللّه عن الصيد يوم السبت ترويضا لنفوسهم الطاغية، فخالفوا ما نُهُوا عنه وصادوا السمك يوم السبت فمسخهم اللّه قردة وأهلكهم.

وجعل في أوصياء موسى داود عليهما السّلام وآتاه الزبور، وكان إذا رفع صوته بقراءة وتسبيح اللّه تُردِّد الجبال صوته وتُسبِّح الطير معه، وألان الحديد بيده يصنع منه الدروع، وجعل من بعده ابنه سليمان(ع) الذي سخَّر له الريح تجري بأمره حيثُ يشاء، والجنّ تغوصُ في البحار وتستخرج لهُ اللؤلؤ وتعمل له تماثيل ومحاريب وجفانٍ كالجواب وقدورٍ راسيات كبيرة، وعلمهُ منطق الحشرات والحيوانات فعلم كلام النمل، وأخبرهُ الهدهد بملك بلقيس، وأحضر عرشها من اليمن الى الشام بطرفة عينٍ من عندهُ علمٌ من الكتاب، وكانت الملائكة تُعذب من خالف امره من الجن بسوطٍ من عذاب، وبقيت الجن بعد موته تعمل له حتى اكلت الارضةُ عصاهُ وسقط على الارض.

كلّ تلكم حالاتٌ استثنائيةٌ في بني اسرائيل وانبيائهم. ومن حالاتهم الاستثنائية على عهد موسى(ع) انهم اختلفوا في من قتل قتيلاً، فأمرهم اللّه ان يذبحوا بقرة ويضربوا القتيل ببعض البقرة المذبوحة، فأحيى اللّه القتيل بذلك.

ومن أخبارهم خبر عُزير وأرميا إذ مر على قرية خربة حيطانها ساقطة على سقوفها واهلها موتى تأكل السباع جيفهم، فقال مستغربا كيف يحيي اللّه هذه الموتى؟ فاماته اللّه مائة عام ثم احياه، اماته صباحا واحياه مساء، فقال له ملك: كم لبثت نائما؟ فالتفت الى الشمس قبل مغيبها فقال: يوما أو بعض يوم، فقال له: بل لبثت مائة عام فانظر الى طعامك وكان تينا وعنبا وشرابك وكان عصيرا لم يتغير بمرّ السنين، وانظر الى حمارك كان قد تفرقت عظامه وتفتّتت فاعادها اللّه وجمع بعضها إلى البعض الاخر ثم كساها لحما ثم احياه اللّه، فتبين له كيف يحيي اللّه الموتى، فلما رأى كل ذلك قال اعلم ان اللّه على كل شي‌ء قدير.

ومن اخبارهم الاستثنائية بعد موسى خبر النبيَّين: زكريا ويحيى اذ نادى زكريا ربّه وقال: ربّ اني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا وامرأتي عاقر وخفت ورثتي من بعدي، فهب لي من لدنك وليّا يرثني ويرث آل يعقوب، فبشّره اللّه بيحيى لم يسمّ بيحيى قبله احد، آتاه اللّه الكتاب والحكم صبيا.

واهمّ اخبارهم الاستثنائية خبر ولادة رسول اللّه عيسى من امّه مريم بلا اب ومكالمته قومه في المهد، واخبارهم ان اللّه آتاه الكتاب والحكمة، وخلقه من الطين طيرا باذن اللّه، وشفاؤه الاكمه والابرص واحياؤه الموتى، والقاء شبهه على من وشى به ليصلب مكانه، ورفعه اللّه مكانا عليا وبقي حيّا الى يوم يعيده اللّه الى الارض مع المهدي(ع) في آخر الدهر.

* * *
وهكذا وجدنا لانبياء بني اسرائيل حالات استثنائية لم نجدها في من سبقهم من الانبياء، مثل ما اوتي سليمان (ع) من عمل الجنّ له، ومثل ولادة عيسى(ع) بلا أب وخلقه من الطين طيرا باذن اللّه، ولم نجد في الامم مثل بني اسرائيل قساة القلوب متشاكسو الاخلاق رأوا الايات التسع من نبيهم وعبر بهم البحر من اثني عشر طريقا يبسا واغرق فرعون وجنوده، وبعد ان فرّج اللّه عنهم بمعجزة لم يكن لها مثيل في طول تاريخ البشر ورأوا عبّاد صنم قالوا: يا موسى اجعل لنا إلها صنما مثل صنمهم، وعبدوا العجل عند ذهاب نبيهم ليأتيهم من اللّه بشريعة يعملون بها.

تلكم الصفات الذميمة إلى غيرها من أنواع الشذوذ في الفكر والخلق خصّوا بها دون الامم التي جاءت قبلهم وبعدهم. وكذلك الامر في من كان يعاديهم مثل فرعون وملئه ثم الاقوام التي كانوا يسكنون يومئذ في اراضي الشام وامروا بمحاربتهم، ونتيجة لكل تلك الحالات والظروف الاستثنائية احتاجوا من بين الامم الى أحكام استثنائية من تحويل القبلة لهم من الكعبة الى بيت المقدس، وتحريم ما حرّم اسرائيل ـ يعقوب ـ على نفسه عليهم. ولمّا زالت بعض ظروفهم الاستثنائية على عهد المسيح عيسى بن مريم (ع) بهلاك الامم التي كانت تحاربهم في اوطانهم، احلَّ اللّه لهم بعض ما حرّم عليهم قبل ذلك، ولما انتهت كل ظروفهم الاستثنائية على عهد خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم) عندئذ انتهى أمد الاحكام الاستثنائية، كما قال سبحانه: (الّذين يتبعون الرسول النبي الامّي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم...) (الاعراف:157)

وبذلك نسخت شريعة موسى وعيسى عليهما السّلام وامروا ان يعودوا الى العمل بحنيفية ابراهيم (ع) التي جاء بها خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن كل ذلك علمنا ان شرائع الاسلام منذ آدم (ع) الى النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) واحدة ومتناسبة مع فطرة الانسان. ولما كان لا تبديل لخلق اللّه فلا تبديل لشرع اللّه، وانما كانت الشريعة تنزل على الانبياء على مر الزمن بمقدار حاجة الانسان المعاصر لذلك النبي، ولذلك نزل من الشريعة لادم(ع) بمقدار ما تحتاجه اُسرة واحدة. وعلى عهد إدريس(ع) على قدر ما يحتاجه سكان القرى، واتسعت على عهد نوح على قدر حاجة أهل المدن، وشرع لنا بمقدار ما شرع لقوم نوح، وقال سبحانه: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا) ولم تختلف حنيفية إبراهيم عن شريعة نوح لقوله تعالى: (وإن من شيعته لابراهيم) أي أن ابراهيم من شيعة نوح، ولم تختلف شريعة خاتم الانبياء(صلى الله عليه وآله وسلم) عن حنيفية إبراهيم(ع) وقال تعالى لنبينا: (واتبع ملة إبراهيم حنيفا)، وقال لنا: (واتبعوا ملّة إبراهيم حنيفا)، وإن شأن البشر في ما شرع لهم شأن النحل الذي أودع اللّه تعالى في غريزته أن يعيش وفق ما قدر اللّه له من نظام يتناسب وفطرته، ولم تتغير فطرته منذ أن خلقه اللّه حتى اليوم.

وكذلك لم يتغير نظام حياته الذي يتبعه بالغريزة التي اعطاها اللّه ربّه، ولم يتغير النظام الذي شرّعه اللّه رب العالمين بمقتضى ربوبيته لجميع العالمين، ولم يكن الانسان بدعا في ما خلق اللّه من خلق.

بهذا تنتهي بحوث هذا المجلد التي كانت شرحا وتفسيرا لما اوجز بحثه في المجلد الاول منه، واحيانا بزيادة بيان أو بتعبير آخر، اقتداء باُسلوب القرآن العظيم في طرح عقائد الاسلام بايجاز احيانا وبتفصيل حينا آخر، وبتغيير التعبير في مورد عن مورد آخر. وبعد انجاز هذه البحوث ندرس باذنه تعالى في مجلده الثالث الاتي من سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة ما يمكننا من القرآن الكريم ومصادر الدراسات الاسلامية، وآخر دعوانا ان الحمد للّه ربّ العالمين.

* * *

____________

(1) سيرة ابن هشام (1 / 120).

(2) سيرة ابن هشام (1 / 169 ـ 170)، والغرَّة: بياض في جبهة الفرس.

(3) من قواعد الاملاء حذف همزة (ابن) إذا جاء بين اسم الابن واسم أبيه مثل: الحسن بن عليّ (ع) وحذف الهمزة من (ابن) في: (عليّ بن أبي طالب) يدل على أنّ أبا طالب اسمه وليس بكنيته.

(4) تاريخ اليعقوبي (2 / 13).

(5) السيرة الحلبية (1 / 14)، والسيرة النبوية (1 / 16)، وأنساب الاشراف للبلاذري (1 / 57).

(6) تاريخ اليعقوبي ط. بيروت (2 / 14).

(7) مروج الذهب (2 / 109).

(8) دلائل النبوة للبيهقي، وتفسير الاية في تفسير السيوطي 5 / 99.

(9) غمره الظلم حتى غطاه فهو لا يظهر.

(10) استفهام عن عدد القائمين للّه بحجته واستقلال له، وقوله: «وأين أولئك؟» استفهام عن أمكنتهم وتنبيه على خفائها.

(11) الحديث 147 من باب أحاديث نهج البلاغة.

(12) البحار 11 / 32، ومسند أحمد 5 / 265 ـ 266.

(13) تفسير السيوطي 5 / 99.

(14) ابن كثير 4 / 126.

(15) القرطبي 16 / 77.

(16) تفسير السيوطي 6 / 16.

(17) صحيح مسلم، كتاب الفضائل، رقم الحديث 1، ومسند أحمد 4 / 107.

(18) مسند أحمد 4 / 107، صحيح الترمذي 13 / 94 أبواب المناقب، الحديث الاول من الباب الاول.

(19) مروج الذهب 2 / 108 و109، وان كلامه هذا يدل على ان كتاب اثبات الوصيّة ليس له، وإلاّلذكره مع ما ذكر من مؤلفاته هنا. أضف إلى ذلك ان المسعودي يجرّد في كلامه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن آله في التصلية كسائر اتباع مدرسة الخلفاء، والتصلية في كتاب اثبات الوصية مقرونة بالال إلاّ في ما إذا ثبت أنّه ألف إثبات الوصيّة بعد الكتب المذكورة.

وقد يكون اثبات الوصية لعلي بن الحسين المسعودي من مشايخ النعماني الذي روى عنه النعماني في كتاب الغيبة ص 188 و241 و312، وسبق أن نقلنا عنه في بحث الوصية من معالم المدرستين ج 1 بعض الاخبار التي اشترك في نقلها صاحب الكتاب مع المصادر المعتمدة والمشهورة.

(20) تاريخ الطبري ط.اروبا 3 / 1171، تاريخ ابن الاثير 2/222، ترجمة الامام علي من تاريخ ابن عساكر، وشرح ابن أبي الحديد 3/263.

(21) رواية سلمان في المعجم الكبير 6/221، ومجمع الزوائد 9/113.

ورواية أبي سعيد فضائل علي بن أبي طالب من كتب الفضائل بكنز العمال 2 / 119، والطبراني 6/271.

وأبو سعيد بن مالك الخزرجي (ت 54 هـ) ترجمته بتراجم الصحابة في الاستيعاب وأسد الغابة والاصابة ونسمّيها في ما يأتي بالكتب الثلاثة.

(22) ترجمة الامام علي (ع) بتاريخ ابن عساكر، وحلية الاولياء د1/63، وموسوعة أطراف الحديث عن أمجاد السادة المتّقين للزبيدي، وأنس بن مالك أبو ثمامة الخزرجي إختلفوا في سنة وفاته من.9 إلى 93 هـ.

(23) ترجمة الامام بتاريخ ابن عساكر، والرياض النضرة 2 / 234، وبريدة أبو عبد اللّه بن الحديدب ابن عبد الله الاسلمي قدِم من المدينة بعد أُحُد فشهد مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مشاهده، راجع ترجمته في الكتب‌الثلاثة.

(24) صحيح البخاري 2/200 باب مناقب علي بن أبي طالب، وصحيح مسلم 7/120 باب من فضائل علي بن أبي طالب، والترمذي 13/171 باب مناقب علي، والطيالسي 1/28 و29 وح 205 و209 و213، وابن ماجة باب فضل علي بن أبي طالب ح 115، ومسند أحمد 1/170 و173 - 175 و177 و179 و182 و184 و185 و330، و3/32 و338، و6/369 و438، ومستدرك الحاكم 2/337، وطبقات ابن سعد 3/1/14 و15، ومجمع الزوائد 9/109 - 111، ومصادر أخرى كثيرة.

(25) الترمذي 13/201، وأسد الغابة 2/12 في ترجمة الامام الحسن، والدرّ المنثور في تفسير آية المودّة من سورة الشورى، ومستدرك الصحيحين وتلخيصه 3/109، وخصائص النسائي ص 30، وفي مسند أحمد 3/17: «إنّي أوشك أن أُدعى فأُجيب»، وفي ص 14 و26 و59 منه أكثر تفصيلاً، وطبقات ابن سعد2/ق2/2، وكنز العمال 1/47 و48 وفي 97 موجزاً.

(26) كان بعض أهل الجاهلية لا يطوف بملابسه لانه عصى ربّه فيها، فإما أن يستعير من أهل مكة ما يطوف به أو يطوف عريانا.

(27) السامري: تعريب الشمروني، كما أنّ عيسى تعريب ليشوع بالعبرية، وشمروني نسبة إلى شمرون الابن الرابع ليساكار من أسباط بني إسرائيل. راجع: مادّة شمرون من قاموس الكتاب المقدّس.