وفي كنز العمّال "مسند رافع بن خديج": لمّا أُسرِي برسول الله إلى السماء أوحي إليه بالأذان، فنزل به فعلّمه جبرئيل (الطبراني في الاوسط عن ابن عمر)(2).
ولذلك حاول القسطلانيّ الشافعي في (إرشاد الساري) التخلّص من إشكال التشريع بالرؤيا، فأدّعى أنّ المشرِّع للأذان هو النصّ الذي أَقَرَّ المنامَ لا نفس المنام، فقال: قوله تبارك وتعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواًوَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ} معانيَ عبادة الله وشرائعه، واستدلّ على مشروعيّة الأذان بالنصّ لا بالمنام وحده(3) لكنك تعلم أنّ الإشكال باق بحاله، إذ لا معنى للمنام في هذه الحالة.
وقال السرخسيّ ـ مِن أعلام الحنفيّة ـ في (المبسوط):... وروي أنَّ سبعة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين رأوا تلك الرؤيا في ليلة واحدة، وكان أبو حفص محمّد بن عليّ ينكر هذا ويقول: تعمدون إلى ما هو من معالم الدين فتقولون: ثَبَت بالرؤيا! كلاَّ ولكنّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله) حين أُسري به إلى المسجد الأقصى وجُمِع له النبيّون، أذَّنَ مَلَكٌ وأقام، فصلَّى بهم رسول الله. وقيل: نزل به جبرئيل عليه الصلاة والسلام، حتَّى قال كثير بن مرة: أذَّن جبرئيل في السماء فسمعه عمر(4).
____________
1- سعد السعود 100، وفي متن بحار الأنوار 81: 107: فوضع سبّابته اليمنى في أذنه اليمنى.. حيّ على خير العمل مَثْنى مَثْنى... الخ.
2- كنز العمّال 8: 329 كتاب الصلاة فصل من الأذان ح 23138. وانظر مجمع الزوائد 1: 329.
3- إرشاد الساري 2: 2 كتاب الأذان. عمدة القارئ 5: 7 و102.
4- المبسوط للسرخسيّ 1: 128 كتاب الصلاة باب بدء الأذان.
وقفة مع أحاديث الرؤيا
اتّضح بجلاء ـ من خلال ما مرّ بنا من أحاديث وأقوال وغيرها ـ أنّ القول بتشريع الأذان في الإسراء والمعراج، ممّا لم ينفرد به الإماميّة الاثنا عشريّة، وإنّما قالت به الشيعة الزيدية والإسماعيلية أيضاً، إضافةً إلى أعلام من أهل السنّة، وهذا يعني أنّ تشريع الأذان ـ بوصفه فعلاً تعبّدياً ـ كان سماوياً وعُلْوياً وليس مناماً وأرضياً، وهذا القول ينسجم تماماً مع التشريعات السماوية الإلهية، ومع الاعتقاد بالنبوّة والوحي، التي هي واسطة في التشريع بين الله تعالى وبين خلقه.
أمّا القول بأنّه كان عبر منام رآه رجل وأخبر به النبيَّ (صلى الله عليه وآله) فإنّه من منفردات بعض أهل السنّة، والذي أمسى قولاً مشهوراً لديهم فيما بعد.
وإزاء اشتهار هذا القول عندهم، تبرز طائفة من التساؤلات الملَحّة التي تصدر من الرؤية الإسلاميّة لحقائق الاشياء وعمق التشريع الإلهي.
ومن هذه التساؤلات: هل يسوغ لهذا القول ـ الذي يُسنِد تشريع الأذان إلى رؤيا أحد الناس ـ أن يتلاءم وأصول الشريعة القائمة على تلقّي النبيّ (صلى الله عليه وآله) من الله سبحانه؟
وهل يسوغ ـ في منطق الإسلام والوحي ـ أن تؤخذ الشريعة من الأحلام والمنامات والأقاصيص، أو حتّى من المشاورة كما جاء في بعض أحاديث الأذان؟
إنّ التلّقي عن الله وحصر الأخذ عنه جلّ وعلا تنفي كلّ ما عدا الوحي الإلهي في التشريع، وتؤكّد أنّ هذا الوحي هو وحده المنبع الذي ليس للنبيّ أن يبدّله أو يغيّر فيه من تلقاء نفسه، كما عرّفنا الله سبحانه ذلك بقوله: {قُلْ مَايَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْم عَظِيم} (1).
وقال: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌّ مُبِينٌ} (2).
وقال أيضاً: {قُل إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَايُوحَى إِلَيَّ مِن رَبِّي هذَا بَصَائِرُ مِن رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْم يُؤْمِنُونَ} (3).
وقال: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} (4).
وقال في ملائكته: {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (5).
إنّ هذه الآيات الشريفة صريحة في أنّه ليس لرسول الله ولا لملائكته أن يسبقوه بالقول أو أن يُشرِّعوا من قِبَل أنفسهم، إذ ليس لهم إلاّ الاستماع إلى الوحي
____________
1- يونس: 15.
2- الأحقاف: 9.
3- الأعراف: 203.
4- النجم: 3 ـ 5.
5- الأنبياء: 26 ـ 27.
أمّا التشاور فهو أبعدُ ما يكون عن أن يتولّد منه حكم شرعيّ، ذلك أنّ لله الدين الخالص وليس لغيره فيه من شيّ، كما قال جلّ جلاله: {يَقُولُونَ هَل لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيء قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ} (2). من هنا يكون قول الحقّ تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} دالاًّ على المشاورة في الموضوعات الخارجية وشئون الحياة اليومية، والمواقف العملية من بعض الحوادث، كالموقف في الحرب ومواجهة مكائد الأعداء وإمكانيّات سبل السلام، وما إليها.
وهذه المشاورة ذات ثمرات صالحة، منها: أنّها تُشعِر المشاوَرين بالمشاركة في صنع الموقف المسؤول، ومنها أنّها تَهَبُهم طاقة للاندفاع في سبيل تنفيذ مقرّرات هذه المشاورة وتحمّل نتائجها. ومع ذلك كلّه تظلّ لرسول الله (صلى الله عليه وآله) الكلمة الأخيرة في مقرّرات المشاورة، فهو الذي يحدّد ما ينبغي وما لا ينبغي، ويكون عزمه في المسألة هو الساري الجارى {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ}.
إنّ الشورى ليس لها دخل في الأحكام، ومتى تدخّلت في الحكم فإنّها تكون قد شاركت الوحيَ في التشريع، وهَوَّنت من شأن النبوّة والنبيّ، وفتحت باباً للتقوّل على الله.. ذلك التقوّل الذي هدّد اللهُ تعالى باجتراح ولو بعض منه.
ولقد حذّر اللهُ رسولَه ـ وهو أحبّ خلقه إليه ـ أيما تحذير، وهدّده أيّما تهديد.. إذا ما غيّر حرفاً واحداً، وذلك لمّا جاءه أهل قرية الناصرة بأحمال الذهب والفضّة
____________
1- البقرة: 144.
2- آل عمران: 154.
ثانياً: إنّ الأذان يرتبط ارتباطاً وثيقاً بفريضة الصلاة التي هي "خيرُ موضوع"، كما يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهي عمود الدين وأساسه الجوهري.. إلى حدّ أن جعل الإمام الهادي الزيدي الأذان من أصول الدين! كما مرّ بنا سابقاً.
والأذان مقدّمة للصلاة، وكلاهما عبادة خالصة لله عزّوجلّ صادرة عن حقيقة وجودية توحيدية عميقة. من هنا يكون من الغفلة الاعتقاد بأنّ الله عزّوجلّ قد أمر خاتم أنبيائه الكرام بإقامة الصلاة على وجهها الذي شرّعه الله تعالى، ثمّ ترك شأن تعليم أذان الصلاة وإقامتها لأُناس عاديّين يقولون إنّهم رأوها في المنام! أو إنّهم قد أضافوا إليها من عندهم ما يكملها، دون أن يُعلّمها رسولَه الذي هو مبلّغ الوحي وحامل راية الهدى لأجيال البشرية كافّة.
ثالثاً: تشير بعض النصوص السنيّة التي أوردتها كتب الصحاح والسنن في موضوع الأذان إلى أنّ رسول الله كان في حيرة من أمر الأذان، ولم يكن يعلم الحكم
____________
1- الكهف: 77.
2- الحاقّة: 44 ـ 47.
3- النجم: 3.
وفي هذا الرأي من التوهين والتقليل من شأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما لا خفاء فيه، وهو ممّا يرفضه منطق القرآن الكريم، ويرفضه المنطق الإيماني على وجه العموم، ذلك أنّ هذا التوهين يعارض دعوةَ القرآن المسلمين إلى توقير رسول الله وتعظيمه، ويضادّ نهي الذين آمنوا أن يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبيّ (صلى الله عليه وآله)، تعريفاً بتميّزه وعلوّ مقامه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} (1) اهتماماً بمكانته (صلى الله عليه وآله) وشأنه.
وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الآية نزلت لمّا تنازع أبو بكر وعمر في تعيين مَن يكون موفد الرسول المصطفى إلى بني تميم.
فقال أبو بكر: القعقاع بن معبد، وقال عمر: الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر لعمر: ما أردتَ إلاَّ خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك، فتمارَيا حتّى ارتفعت أصواتهما، فنزلت في ذلك هذه الآيات الحكيمة(2).
فإذا كان الله سبحانه لا يرتضي التنازع ورفع الصوت بمحضر النبيِّ في أيّة قضيّة من القضايا احتراماً له وتوقيراً لمقامه، فكيف يصحّ أن يُنسَب إليه التحيّر في شأن أمر تعبّدي كالأذان حتّى اختار ـ أو كاد أن يختار ـ ناقوس النصارى يُنقس به إعلاماً للصلاة؟!
____________
1- الحجرات: 1 ـ 2.
2- انظر: صحيح البخاريّ 6: 290 كتاب المغازي، باب وفد بني تميم ح 812، باب وفد بني تميم.
وقد أجاب الحاكم معلّلاً تركَ الشيخين أحاديث عبدالله بن زيد التي قصّها على رسول الله بقوله: (... وإنّما ترك الشيخان حديث عبدالله بن زيد في الأذان والرؤيا التي قصّها على رسول الله بهذا الإسناد(1)، لتقدّم موت عبدالله بن زيد، فقد قيل: إنَّه استُشهد بأُحد، وقيل: بعد ذلك بيسير، والله أعلم)(2).
ويشير إهمال الشيخين لهذا الحديث إلى أنّه لا أصل لحديث عبدالله بن زيد عن رسول الله، ويؤيّد ذلك ما أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء في ترجمة عمر بن عبدالعزيز عن عبيدالله بن عمر، قال: (دَخَلتْ ابنة عبدالله بن زيد على عمر بن
____________
1- ليس فيما روي عن عبدالله بن زيد في الأذان ما رجاله على شرط الشيخين إلاّ ما رواه بشير بن محمد بن عبدالله بن زيد عن جدّه عبدالله بن زيد، ولكن لم يخرجه الشيخان في صحيحيهما لأنّه منقطع ; فالحفيد بشير لم يدرك جدّه عبدالله بن زيد.
2- المستدرك للحاكم 4: 348 كتاب الفرائض، باب ردّ الصدقة ميراثاً. قال ابن حجر في تلخيص الحبير 3: 162.
(وقال الحاكم والبيهقي: الروايات عن عبدالله بن زيد في هذا الباب كلّها منقطعة ; لأنّ عبدالله بن زيد استشهد يوم أحد. ثمّ أسند عن الدراوردي عن عبيدالله بن عمر قال: دخلت ابنة عبدالله بن زيد على عمر بن عبدالعزيز فقالت: يا أمير المؤمنين، أنا ابنة عبدالله بن زيد، شهد أبي بدراً وقتل يوم أحد، وفي صحّة هذا نظر ; فإن عبيدالله بن عمر لم يدرك هذه القصّة... وروى الواقدي عن محمد بن عبدالله بن زيد قال: تُوفّي أبي بالمدينة سنة اثنين وثلاثين، وقال ابن سعد: شهد أحداً والخندق والمشاهد كلها، ولو صحّ ما تقدم للزم أن تكون بنت عبدالله بن زيد صحابية). عن تلخيص الحبير 3: 162 ـ 163.
أقول: الظاهر أنّ كلام الحاكم هو الصحيح، فإنّ الراوي هو عبيدالله بن عمر العمري كما في الإصابة 2: 312 ترجمة عبدالله بن زيد بن ثعلبة، وهو عبيدالله بن عمر بن حفص ابن عاصم بن عمر بن الخطّاب، المتوفّى سنة 144 أو 145 أو 147 هـ، والمسند إليه صحيح بلحاظ الراوي والمروي عنه. انظر: تهذيب الكمال 19: 124 ـ 130.
تلك المكارِمُ لا قعبان من لَبن | شِيبا بماء فعادا بَعدُ أبوالا |
سَليني ما شئتِ، فسألت فأعطاها ما سألت(1).
ولو ثبت بشكل قطعي أنَّ عبدالله رأى الأذان لَذَكرتْ ابنته هذه المكرمة له وعدّتها ضمن منقبتيه الأُوليين: حضوره بدراً وقتله بأُحد، بل أن فضيلة رؤيا الأذان لو كانت واقعةً فعلاً لَما ضاهاها شيء ; إذ إنّ الوحي قد وافقه في هذه المسألة دون عموم بني البشر، وهي أهمّ من حضوره بدراً وقتله بأُحد، وذلك لمشاركة آخَرين له في هاتين الفضيلتين.
إنَّ عدم ذكر ابنة عبدالله بن زيد لهذه المنقبة ـ وهي في معرض استعطاف عمر بن عبدالعزيز ـ ليشير إلى عدم ثبوت هذه المكرمة له في العهد الأوّل.
خامساً: من الثابت عند أهل العلم أنّ رؤيا الأنبياء وحدهم حجّة، لا رؤيا غيرهم. نعم، إنّهم صحّحوا هذه الرؤيا والمنامات الأخرى بتطابق الوحي معها.
قال العسقلانيّ: (وقد استشكل إثبات حكم الأذان برؤيا عبدالله بن زيد، لأنَّ رؤيا غير الأنبياء لا يُبنى عليها حكم شرعيّ، وأُجيب باحتمال مقارنة الوحي لذلك...)(2).
لكنّ هذا الجواب غير علميّ ولا دقيق ; لأنَّ مجرّد احتمال مقارنة الوحي لا يفيد، إذ لو كان ذلك صحيحاً لذكرته الروايات المعتمدة في الباب ولم تنحصر باجتهادات
____________
1- حلية الأولياء 5: 322 ترجمة عمر بن عبدالعزيز، وعنه في الإصابة 2: 312 ترجمة عبدالله بن زيد بن عبدربّه بن ثعلبة.
2- فتح الباري 2: 65 باب الأذان مثنى.
ثمّ لماذا لم ينزل الوحي على رسول الله حينما كان متحيّراً في أوّل أمره (أي حينما قَدِم المدينة) حتّى أخبره عبدالله بن زيد بمنامه، ثمّ تطابق الوحي مع الرؤيا بعد ذلك؟!
إنَّ تعارض النصوص وتخالفها مع الثوابت الأُخرى تُخطِّئ هذه الرؤية ; لأنَّ القول بتشريع الأذان في المَسرى لا يتطابق مع حيرة النبيّ وسعيه لمشاورة الصحابة في المدينة، وخصوصاً حينما نشم رائحة الغلوّ من بعض النصوص وادِّعاء نزول ما يشابه الوحي على عبدالله بن زيد، أو على عمر، أو بلال، لقول عبدالله في بعض النصوص: "كأنّي وأنا بين نائم ويقظان"، وفي آخر: "لولا أن يقول الناس لقلتُ بأنّي كنتُ يقظان غير نائم"!!
أو ما جاء في نصوص أُخرى: "إنَّ جبرئيل أذَّن في سـماء الدنيا، فسمعه عمر وبلال، فسـبق عمـر بلالاً فأخـبر النـبيّ ثمّ جاء..."، أفَـلا تـرى أنّ هـذه النصـوص تـرفـع من شـأن عبدالله بن زيد ومن شـأن عمرَ إلى مرتـبة النـبوّة، وتغـلو فيهـما؟!
بل العجب العجاب أن نرى إلقاء العبء الأكبر في الأذان على عبد الله بن زيد بن عبدربّه الخزرجي الأنصاري، هذا الصحابي غير الواضح المعالم في التاريخ والفقه، والذي لم يُعرَف ولم يشتهر إلاّ عبر هذه المفردة، إذ عرف بـ "الذي أُرِيَ الأذان". ومثل ذلك ما قيل في سَمِيّه عبدالله بن زيد بن عاصم المازني الأنصاري "صاحب حديث الوضوء" الذي ألقوا على عهدته قسماً من الوضوء الثلاثي الغَسلي وادّعوا أن الأخبار الصحيحة جاءت عنه وهو منها بريء!
فلماذا هذان الصحابيان الأنصاريان الغامضا المعالم؟! اللذان لا يعرفان إلاّ في
وبعد هذا، لابدّ من الإشارة إلى إشكال آخر أثاره السُّهيليّ(1) والعسقلانيّ وغيرهما حاولوا الاجابة عنه.
قال ابن حجر في إرشاد الساري: (فإن قلتَ: ما الحكمة في تخصيص الأذان برؤيا رجل ولم يكن بوحي؟
أُجيب: لما فيه من التنويه بالنبيّ والرفع لذِكره ; لأنَّه إذا كان على لسان غيره كان أرفَعَ لذكره وأفخَرَ لشأنه، على أنَّه روى أبو داود في المَراسيل أنَّ عمر لمّا رأى الأذان جاء ليخبر النبيّ فوجد الوحي قد ورد بذلك، فما راعه إلاّ أذان بلال، فقال له (عليه السلام): سبقك بها الوحي. ورواة هذا الحديث خمسة، وفيه التحديث والإخبار)(2).
وهذا التعليل عليل، لأنَّه لو صحّ للزم لحاظ هذا الوجه في كلّ شيء ورد فيه ذِكر الشهادتين، لأنَّ نقل ذلك على لسان غيره أرفع لذكره وأفخر لشأنه وأدفع لتهم أعدائه، في حين نعلم بأنَّ الباري جَلَّ شأنه هو الذي رفع ذِكره بقوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (3)، وبعد هذا فلا يحتاج إلى أن يرفع ذكره بعد الباري جلّ شأنه أحدٌ.
هذه أهمّ الأقوال التي قيلت في تشريع الأذان عند مدرسة أهل السنّة والجماعة، وقد يمكن إرجاع بعضها إلى بعض، وتقليص حجم اختلافاتها، غير أنّ إعادة جميع النصوص إلى قول واحد محالٌ من القول، لأنّ القول بتشريعها والتأذين بها في الإسراء والمعراج لا يتّفق مع هَمِّ وغمّ رسول الله في المدينة وجلوسه مع
____________
1- في الروض الانف 2: 356.
2- إرشاد الساري 2: 4.
3- الانشراح: 4.
وهكذا الحال بالنسبة إلى ما جاء عن عمر وأنّه كان أوّل من سمع أذان جبرئيل في السماء ثمّ بلال، أو ما حكي عنه من أنّه أضاف الشهادة بالنبوة في الأذان بعد أن كانت فيه الشـهادة بالتوحيد فقط، فإنّه لا يتّفق مع تشـريع الأذان في المسرى.
وكذا القول بأنّ أبا بكر كان أوّل مَن أخبر رسولَ الله بالأذان ـ كما في خبر جامع المسانيد ـ فهو يخالف المشهور بين المحدّثين من أنّ عبدالله بن زيد الأنصاريّ كان أوّل مَن أخبر رسول الله بمنامه.
وكذا الحال بالنسبة إلى ما اشتهر عن عبدالله بن زيد وأنّه أخبر رسول الله في الصّباح ـ بعد أن نام بالليل ـ لقوله: (فلمّا أصبحتُ أتيت رسول الله) أو: (فلما غدا...) وهو يخالف ما قاله الحافظ الدمياطي في سيرته من أنّ عبدالله بن زيد أتى رسول الله ليلاً وأخبره(1).
وقد حاول الحلبيّ الجمع بين القولين ذاهباً إلى عدم المنافاة بينهما ; لأنّ جملة: (فلمّا أصبحتُ) أو: (فلمّا غدا) إشارة إلى مقاربة الوقت للصباح.
وهذا تأويل بعيد يخالف الظاهر، لأن المتبادر من كلمة (فلما اصبحت) أو (غدوت) صريح في الصبح، فكان على الحلبي أن يخطّئ نقل الحافظ الدمياطي وهو خير له من أن يقول بهذا القول.
وكذا الحال بالنسبة إلى عمر بن الخطّاب، ففي بعض النصوص نراه يخرج حينما
____________
1- انظر: السيرة الحلبية 2: 299.
قال القسطلاني في إرشاد الساري ـ بعد أن أتى بخبر ابن عمر السابق الذكر ـ: (كان المسلمون حين قدموا المدينة) ; قال الحافظ ابن حجر بأنَّ سياق حديث عبدالله بن زيد يخالف ذلك، فإنَّ فيه أنَّه لمّا قصَّ رؤياه على النبيِّ، قال: فسمع عمر الصوت فخرج فأتى النبيَّ فقال: رأيتُ مِثل الذي رأى. فدلَّ على أنَّ عمر لم يكن حاضراً لمّا قصَّ عبدالله.
قال: والظاهر أنّ إشارة عمر بإرسال رجل ينادي بالصلاة كانت عقب المشاورة فيما يفعلونه، وأنَّ رؤيا عبدالله كانت بعد ذلك ; وتعقّبه العينيّ بما رواه أبو داود عن أبي بشر، عن أبي عمير، عن أنس، عن عمومة له من الأنصار، أنّ عبدالله بن زيد: قال (إذ أتاني آت فأراني الأذان، وكان عمر قد رآه قبل ذلك فكتمه، فقال له النبيُّ: ما منعك أن تخبرنا...) إلى آخره، ليس فيه أنَّ عمر سمع الصوت فخرج ; فقال: فهو يُقَوي كلام القرطـبيّ ويردّ كلام بعضهـم ـ أي ابن حجـر ـ انتهى.
وأجاب ابن حجر في انتقاض الاعتراض بأنَّه إذا سكت في رواية أبي عمير عن قوله: فسمع عمر الصوت فخرج، وأثبتها ابن عمر، إنّما يكون إثبات ذلك دالاً على أنَّه لم يكن حاضراً، فكيف يعترض بمثل هذا؟!(1).
ومجمل الكلام أنّهم بهذه الوجوه سعوا للجمع بين بعض النصوص، ولكن أنَّى
____________
1- إرشاد الساري 2: 3.
وخلاصة القول: أنَّ الأذان كغيره من الشرائع قد جرى فيه اتِّجاهان:
أحدهما: يقول بتشريعه في الإسراء والمعراج وأنَّه من الوحي الذي لا يجوز فيه الزيادة والنقصان.
وثانيهما: يعتقد بأنَّ تشريعه جاء على أثر منام رآه عبدالله بن زيد بن عبد ربّه، أو أنّه شُرِّع بمشورة من الصحابة.
وقد اختلف الاتّجاهان في المفاهيم والأُصول ; لأنَّ القائل بتشريعه في الإسراء والمعراج يربطه بقضايا إلهيّة قدسيّة، حيث إنَّ حقيقة الإسراء هي حقيقة عالية ترتبط بالغيب، وإنَّ أهل بيت الرسالة وبعض الصحابة المتعبّدين كانوا هم المطّلعين بما دار في الإسراء والمعراج، بعكس بعض قر يش التي كانت تنكر حقيقة المسرى وتسخّف مغزاه، فلم تكن تقبل بأن الرسول الأعظم تجاوز الحجب حتّى وصل إلى دار العظمة، حاملاً معه مفاهيم ربانية وأفكاراً عالية لا يمكن الوصول إليها إلاَّ بالاستعانة بالقدرة الإلهيّة، ولا يمكن معرفة دقائقها إلاّ عن أهل بيت الرسالة والوحي، الذين وضحوا لنا المبهم من هذه الأمور.
أمّا القائل بتشريعه عن طريق رؤيا رآها عبدُالله بن زيد، أو سبعةٌ آخرون من الصحابة، فيعطي لفكرته مسحة عدم التوقيف، ليكون له مساغ في أن يزيد في هذه الشعيرة المقدسة، أو ينقص منها.
قال السرخسي في المبسوط: "... بدليل ما روي عن إبراهيم أنَّ: أوّل مَن أفرد الإقامة معاوية. وقال مجاهد: كانت الإقامة مثنى كالأذان حتّى استخفّه بعض
وقال ابن عبدالبرّ ـ في فتح المالك بتبو يب التمهيد على موطّأ مالك ـ وهو يريد أن يصحّح اختلاف أحاديث الأذان بقوله: (روى عن النبيّ في قصَّة عبدالله بن زيد هذه في بدء الأذان جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة ومعان متقاربة، وكلّها تتّفق على أنَّ عبدالله بن زيد أُري النداء في النوم، وأنَّ رسول الله أمر به عند ذلك، وكان ذلك أوّل أمر الأذان...)(2).
فهذا النصّ وما سبقه يتضح منهما أن غالب أهل السنّة والجماعة يقولون بعدم توقيفـيّة الأذان بالنحو الذي تقوله الشـيعة، إذ العامة يسـتدلون على شـرعيّـة الأذان بمـنام عبدالله بن زيـد حتّى أنّ بعض أمـراء الجـور أفرد الإقامـة لحاجـة لـه.
والعجب في هذا الباب ما قاله ابن عبد البرّ في موضع آخر من الكتاب المذكور: "في حديث هذا الباب لمالك وغيره من سائر ما أوردنا فيه من الآثار أوضح الدلائل على فضل الرؤيا وأنّها من الوحي والنبوّة، وحسبك بذلك فضلاً لها وشرفاً، ولو لم تكن وحياً من الله ما جعلها شريعة ومنهاجاً لدينه"(3).
قال أبو عمر(4): "اختلفت الآثار في صفة الأذان وإن كانت متّفقة في أصل أمره، كان من رؤيا عبدالله بن زيد، وقد رآه عمر بن الخطّاب أيضاً(5)!!! "
____________
1- المبسوط 1: 129 كتاب الصلاة باب بدء الأذان، وانظر: المصنف لعبد الرزّاق 1: 463/1793.
2- فتح المالك 2: 3.
3- فتح المالك 2: 7.
4- هو ابن عبد البرّ.
5- التمهيد لابن عبدالبر 24: 27.
كانت هذه صورة مصغّرة عن اختلاف الآراء في مدرسة الخلفاء حول بدء تشريع الأذان، وكيف اتفقت مدرسة أهل البيت ومعها الصحابة المتعبدون على أنّه كان في الإسراء بتعليم من الله العليّ العظيم.
تحقيق في ما وراء نظريّة الرؤيا
بعد أن توصلنا إلى وجود اختلاف بين المسلمين في كيفيّة تشريع هذه الشعيرة الإسلامية، وعلمنا أنّ أهل بيت النبوّة لا يقبلون فكرة الرؤيا، حاولنا تحديد زمن النزاع بين المسلمين، والدوافع الكامنة وراء طرح مثل هذه الآراء في الشريعة.
ممّا لا شك فيه أنّ قدرات المسـلمين وأفهامهم وإدراكاتهم لحقيقة الإيمان والإسلام لم تكن بمرتبة واحدة.
فالبعضُ منهـم كان يفهم مغـزى الرسالة ومكانة الرسول وما يريده الله من أوامره ونواهيه بدّقة عالية فكان يتعبد بما قاله رسول الله ولا يرى لنفسه الخيرة من أمره.
والبعض الآخر كان يرى لنفسه حقّ التشريع وإبداء الرأي مسمّياً فعله بالاجتهاد.
وهناك اتّجاه ثالث أغرق في النزع، فراح يتعامل مع الرسول كأنّه رجل حارب فانتصر!
ورابع وخامس و...
وقد وضحنا في دراستنا لأسباب "منع تدوين الحديث" ونتائجه هذه الاتجاهات وقلنا أنّها جميعاً تنخرط وتنتظم في نهجين هما:
1 ـ المتعبدون = التعبد المحض.
2 ـ المجتهدون = الاجتهاد بالرأي.
ونحن لا نريد أن نعود إلى ما كتبناه سابقاً، بل نريد الإشارة إلى بعض الشيء
وقد رأينا تقديم شيء من خبر الإسراء والتحريفات الواقعة فيه ; لارتباطه ببيان رؤيتنا بصدد الرؤيا في الأذان، وهو بيان لدواعي اختلاف المسلمين في بدء الأذان، فنقول:
إنّ خبر الإسراء والمعراج ثابت لا كلام فيه، وقد وردت سورة باسم الإسراء في الذكر الحكيم.
وقد اختلف المسلمون في يوم الإسراء ومكانه وكيفيّة عروجه (صلى الله عليه وآله) إلى السماء، وما جرى في الإسراء والمعراج، وهل أُسري به مرّة أو مرّتين(1) أو أكثر من ذلك(2)، وهل كان عروجه بروحه وجسده أم بروحه فقط؟ على أنّ هناك من فَصَّل بين إسرائه ومعراجه، فقال بأن إسراءَهُ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كان بروحه وجسمه، وأنّ عروجه إلى السماء كان بروحه فقط؟
فالذين لا يدركون عمق الرسالة ومكانة الرسول شكّكوا في حقيقة الإسراء والمعراج وقالوا بأشياء لا تتفق مع رسالة الغيب والوحي، وقد ارتدّ بعض من أَسلَمَ حينما سمع بخبر الإسراء، وهناك من ثبت على الدين وصَدَّق بما قال الرسول وبما حكاه من مشاهدات ومغيّبات، كبعض الصحابة المتعبدين المخلصين الذين شهد لهم
____________
1- انظر: على سبيل المثال تفسير ابن كثير 3: 22 حيث قال: وقد صرّح بعض من المتأخّرين بأنّه(عليه السلام) أُسري به مرّة من مكّة إلى بيت المقدس فقط، ومرّة من مكّة إلى السماء فقط، ومرّة إلى بيت المقدس ومنه إلى السماء.
2- الخصال: 600. وانظر: علل الشرائع: 149.
نعم، قد اختلفت النصوص في مكان الإسراء، فالبعض منها صرحت بأنّه (صلى الله عليه وآله) أسري به من شعب أبي طالب(1)، والأُخرى من بيت خديجة(2)، وثالثة من بيت فاختة "أمّ هاني" بنت أبي طالب(3) أخت الإمام عليّ، ورابعة من بيت عائشة(4).
ففي تفسير الطبري بإسناده عن أبي صالح بن ياذم، عن أُمّ هاني بنت أبي طالب في مسرى النبيّ، أنّها كانت تقول: ما أُسري برسول الله إلاّ وهو في بيتي نائم عندي تلك الليلة، فصلّى العشاء الآخرة ثمّ نام ونمنا، فلما كان قُبيل الفجر أهبَّنا رسول الله، فلمّا صلّى الصبح وصلّينا معه قال: يا أُمّ هاني، لقد صلّيتُ معكم العشاء الآخرة كما رأيتِ بهذا الوادي، ثمّ جئتُ بيت المقدس فصلّيت فيه، ثمّ صلّيت صلاة الغداة معكم الآن كما تَرَين(5).
وفي بعض الآثار أنّ أمّ هاني قالت: فقدتُه (صلى الله عليه وآله) ـ وكان نائماً عندي ـ فامتنع منّي النوم مخافةَ أن يكون عرض له بعض قريش. ويقال: أنّه تفرّقت بنو عبد المطلّب يلتمسونه، ووصل العبّاس إلى ذي طُوى وهو ينادي: يا محمّد، يا محمّد، فأجابه (صلى الله عليه وآله).
____________
1- فتح الباري 7: 160 كتاب أحاديث الأنبياء، باب المعراج، الدرّ المنثور 4: 149 سورة الإسراء عن ابن أبي حاتم عن قتادة.
2- المجموع النووي 9: 248 باب ما يجوز بيعه وما لا يجوز، فرع في مذاهب العلماء في بيع دور مكّة، شرح الأزهار 1: 199.
3- المغني 10: 616 كتاب الجزية، الشرح الكبير 10: 621 كتاب الجزية، فتح الباري 7: 160، تحفة الأحوذي 9: 193.
4- الدرّ المنثور 4: 157، 154 سورة الإسراء الآية 1، الشفا بتعريف حقوق المصطفى 1: 194.
5- تفسير الطبري 15: 3 سورة بني إسرائيل الآية 1.