الصفحة 137
فقال عمر: بأبي أنت وأمّي يا رسول الله، أعليك أغار؟!

وفي رواية أبي أمامة التي رواها أحمد في مسنده(1) والطبراني في الكبير(2)والهيثمي في مجمع الزوائد(3) ـ والنصّ عن أحمد ـ قال: قال رسول الله: دخلت الجنَّة فسمعت فيها خشفة بين يدي، فقلت: ما هذا؟ قال: بلال.

قال: فمضيت فإذا أكثر أهل الجنَّة فقراء المهاجرين(4) وذراري المسلمين ولم أرَ أحداً أقلّ من الأغنياء والنساء... ثمّ خرجنا من أحد أبواب الجنَّة الثمانية، فلمّا كنت عند الباب أتيت بكُفّة فوُضعت فيها ووُضِعت أمّتي في كفّة، فرجحتُ بها، ثمّ أتي بأبي بكر فوضع في كفّة وجيء بجميع أمّتي في كفّه فوضعوا فرجح أبو بكر، وجيء بعمر فوضع في كفّة وجيء بجميع أمّتي فوضعوا فرجح عمر، وعرضت أمّتي رجلاً رجلاً(5) فجعلوا يمرّون فاستبطأت عبدالرحمن بن عوف، ثمّ جاء بعد الأياس...

وأمّا رواية عبدالله بن بريدة عن أبيه والتي أخرجها الطبراني في الكبير(6)وابن أبي شيبة في المصنّف(7) وابن حبّان في الصحيح(8) وأحمد في المسند(9)والترمذي في السنن(10) وابن خزيمة في الصحيح(11) والحاكم في المستدرك(12)

____________

1- مسند أحمد 5: 259.

2- المعجم الكبير 8: 281 ح 7923 باختصار، مسند الروياني 2: 277.

3- مجمع الزوائد 9: 59، 10: 262.

4- لا يفوتك عدم ذكر الأنصار في هذا الحديث.

5- لاحظ عدم ذكر عثمان وعليّ في هذا الحديث فقد يكون للخوارج يد في وضعه.

6- المعجم الكبير 1: 337 ـ 338 ح 1012.

7- المصنّف لابن أبي شيبة 6: 399 ح 32325.

8- صحيح ابن حبّان 15 ـ 561، 562.

9- مسند أحمد 5: 354 و360.

10- سنن الترمذي 5: 620 ح 3689.

11- صحيح ابن خزيمة 2: 214 ح 1209.

12- المستدرك على الصحيحين 1: 313 و3: 285.


الصفحة 138
ـ والنصّ للترمذي ـ فهي، قال: أصبح رسول الله فدعا بلالاً، فقال: يا بلال، بم سبقتني إلى الجنَّة؟ ما دخلت الجنَّة قطّ إلاّ سمعت خشخشتك أمامي.

وأمّا ما رواه أنس بن مالك ـ والذي جاء في مسند عبد بن حميد(1) ـ فهو: قال أنس: قال رسول الله: دخلتُ الجنّة فسمعت خشفة فقلت: ما هذه؟ فقالوا: هذا بلال، ثمّ دخلت الجنّة فسمعت خشفة، فقلت: ما هذه؟ قالوا: هذه الغميضاء بنت ملحان وهي أمّ سليم أمّ أنس بن مالك.

وأمّا ما رواه أبو هريرة ـ والذي أخرجه البخاري(2) ومسلم(3) وابن حبّان(4) في صحاحهم، وابن عساكر في تاريخ دمشـق(5) ـ فهو: أن النبيّ قال لبلال عند صلاة الفجر: يا بلال، حدّثني بأرجى عمل عملتَه في الإسلام فإني سمعت دفّ نعلَيك بين يدَيّ في الجنَّة، قال: ما عملت عملاً أرجى عندي أنيّ لم أتطهّر طهوراً في ساعة ليل أو نهار إلاّ صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلّي.

وأمّا رواية سهل بن سعد ففيها: قال: قال رسول الله: دخلت الجنَّة فإذا منظر آت فنظرت فإذا هو بلال(6)..

كلّ هذه النصوص ظاهرة في أنّه (صلى الله عليه وآله) رأى ذلك في معراجه إلى السماء، وهناك نصّان آخران يوضحان ذلك ; فقد روى الطبراني في الكبير بإسناده عن وحشي بن حرب، عن أبيه، عن جدّه: أنّ رسول الله لمّا أسري به في الجنَّة سمع

____________

1- منتخب مسند عبد بن حميد 399 ح 1346.

2- صحيح البخاري 2: 499 كتاب التهجّد بالليل، باب فضل الطهور بالليل والنهار، ح 1074 والنصّ عنه، وج 5: 93 كتاب فضائل أصحاب النبيّ باب مناقب بلال بن أبي رباح.

3- صحيح مسلم 4: 1910 باب من فضائل بلال ح 2458.

4- صحيح ابن حبّان 15: 565.

5- تاريخ دمشق 10: 453 ـ 454.

6- مسند أحمد 2: 333.


الصفحة 139
خشخشة، فقال: يا جبرئيل، ما هذه الخشخة؟ قال: هذا بلال.

قال أبو بكر: ليت أمّ بلال ولدتني وأبو بلال وأنا مثل بلال(1) رواه الطبراني ورجاله ثقات.

وفي مسند أحمد(2) ومجمع الزوائد(3) والأحاديث المختارة(4) وتفسير ابن كثير(5) عن ابن عبّاس، والنصّ لأحمد: بسنده عن ابن عبّاس، قال: ليلة أسري بنبيّ الله (صلى الله عليه وآله) ودخل الجنَّة فسمع من جانبها وَجساً، قال: يا جبرئيل، ما هذا؟ قال: هذا بلال المؤذّن.

فهذه النصوص تشير إلى وجود مثال بلال في الجنّة وإن جدّ بعض الأعلام إلى تضعيفها(6) وحملها على كونها كانت في المنام لا اليقظة، لكنّهم بهذا التعليل أو ذاك لا يمكنهم التقليل من حجيّتها عند القائلين بها، وذلك لحجيّة رؤيا الأنبياء عند جميع المسلمين، وقد يكون ما رآه الرسول معنى آخر لتجسّم الأعمال والذي يذهب إلى القول به جماعة من المسلمين.

وبعد هذا فلا مانع من أن نذكر بعض الروايات الدالّة على وجود اسم عليّ في العرش والكرسي، والتي لا نستبعد أن تكون حكومة الأمويين وضعت الأحاديث الآنفة في مقابلها، محاولةً منهم لطمس فضائل عليّ والتقليل من أهمّيتها، وذلك طبق المنهج الذي رسموه وخططوه في ذلك كما تقدم بيانه، إذ أن حديث رجحان كفّة أبي

____________

1- المعجم الكبير 22: 137، مجمع الزوائد 9: 299.

2- مسند أحمد 1: 257.

3- مجمع الزوائد 9: 300.

4- الأحاديث المختارة 9: 552.

5- تفسير ابن كثير 3: 14.

6- فيض القدير 3: 517، فتح الباري 3: 26 ـ 27، نيل الاوطار 3: 81، تحفة الاحوذي 10: 120.


الصفحة 140
بكر وعمر على كفّة الناس أجمعين هو تحريف للحديث الثابت عن رسول الله: ضربة عليّ يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين(1)، وإليك الان بعض تلك الروايات المشيرة إلى وجود اسم الإمام عليّ على ساق العرش:

روى الصدوق في "من لا يحضره الفقيه" عن عليّ (عليه السلام)، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال في وصية له: يا عليّ، إنّي رأيت اسمك مقروناً باسمي في ثلاثة مواطن، فأنست بالنظر إليه، إني لمّا بلغت بيت المقدس في معراجي إلى السماء وجدت على صخرتها "لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله، أيّدته بوزيره ونصرته بوزيره".

فقلت لجبرئيل: مَن وزيري؟

قال: عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).

فلما انتهيت إلى سدرة المنتهى وجدتُ مكتوباً عليها: "إنّي أنا الله لا إله إلاّ أنا وحدي، محمّد صفوتي من خلقي، أيّدته بوزيره ونصرته بوزيره"، فقلت لجبرئيل: مَن وزيري؟ فقال: عليّ بن أبي طالب.

فلمّا جاوزتُ سِدرةَ المنتهى انتهيت إلى عرش ربّ العالمين جلّ جلاله، فوجدت مكتوباً على قوائمه: "إنّي أنا الله لا إله إلاّ أنا وحدي، محمّد حبيبي، أيّدته بوزيره ونصرته بوزيره"(2).

وفي كتاب كمال الدين وتمام النعمة للصدوق بإسناده إلى وهب بن منبّه، رفعه عن ابن عبّاس، قال: قال رسول الله لعليّ: لمّا عرج بي ربيّ جلّ جلاله أتاني النداء: يا محمّد.

____________

1- شرح المقاصد للتفتازاني 5: 298.

2- من لا يحضره الفقيه 4: 373 ـ 374، وفي تاريخ دمشق 47: 344 بسنده عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: قال النبي(صلى الله عليه وآله): لما عُرج بي رأيت على ساق العرش مكتوباً: لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله أيّدته بعليّ ونصرته بعليّ.


الصفحة 141
قلت: لبيّك ربَّ العظمة لبيّك، فأوحى الله إليَّ: يا محمّد، فيمَ اختصم الملأ الأعلى؟

فقلت: إلهي، لا علم لي.

فقال: يا محمّد، هلاّ اتَّخذت من الآدميّين وزيراً وأخاً ووصيّاً من بعدك؟

قلت: إلهي، ومَن أتّخذ؟ تخيَّرْ أنت يا إلهي. فأوحى الله إليّ: يا محمّد، قد اخترتُ لك من الآدميّين عليّ بن أبي طالب.

فقلت: إلهي، ابن عمّي؟

فأوحى الله إليّ: يا محمّد، إنّ عليّاً وارثك ووارث العلم من بعدك، وصاحب لوائك لواء الحمد يوم القيامة، وصاحب حوضك يسقي مَن ورد عليه من مؤمني أمّتك.

ثمّ أوحى الله إليّ: يا محمّد، إنّي قد أقسمت على نفسي قسماً حقاً، لا يشرب من ذلك الحوض مُبغض لك ولأهل بيتك وذريّتك الطيّبين الطاهرين، حقّاً أقول يا محمّد: لأُدخِلنّ جميع أمّتك الجنَّة إلاّ مَن أبى من خلقي، فقلت: إلهي، هل واحد يأبى من دخول الجنَّة؟

فأوحى الله إلي: بلى.

فقلت: وكيف يأبى؟

فأوحى الله إلي: يا محمّد، اخترتُك من خلقي، واخترتُ لك وصيّاً من بعدك، وجعلته منك بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدك، وألقيت محبّته في قلبك، فجعلته أباً لولدك، فحقّه بعدك على أمّتك كحقّك عليهم في حياتك، فمن جحد حقّه فقد جحد حقّك، ومن أبى أن يواليه فقد أبى أن يواليك، ومن أبى أن يواليك فقد أبى أن يدخل الجنّة، فخَرَرتُ لله ساجداً شكراً لما أنعم عليّ... والخبر

الصفحة 142
طويل اكتفينا منه بهذا المقدار(1).

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم بإسناده عن أبي بردة الأسلمي، قال: سمعت رسول الله يقول لعليّ: يا عليّ، إنّ الله أشهَدَك معي في سبع مَواطن: أمّا أوّل ذلك فليلة أُسري بي إلى السماء، قال لي جبرئيل: أين أخوك؟

فقلت: خلّفته ورائي.

قال: ادعُ الله فليأتك به، فدعوتُ الله وإذا مِثالُك معي وإذا الملائكة وقوف صفوف، فقلت: يا جبرئيل، من هؤلاء؟ قال: هم الذين يباهيهم الله بك يوم القيامة، فدنوت فنطقت بما كان وما يكون إلى يوم القيامة.

والثاني حين أُسري بي من المرّة الثانية، فقال لي جبرئيل: أين أخوك؟ فقلت: خلّفته ورائي، فقال: ادعُ الله فليأتك به، فدعوتُ الله فإذا مثالك معي، فكُشِط لي عن سبع سماوات حتّى رأيت سُكّانها وعُمّارها وموضع كلّ ملك منها... إلى أن قال:

وأمّا السادس: لمّا أُسري بي إلى السماء جمع الله لي النبيّين فصلّيت بهم ومثالك خلفي(2).

وفي عيون أخبار الرضا، بسنده عن أمير المؤمنين، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لمّا أسري بي إلى السماء أوحى إليّ ربّي جلّ جلاله فقال: يا محمّد، إنّي اطّلعتُ إلى الأرض اطّلاعةً فاخترتك منها فجعلتك نبيّاً، وشَقَقتُ لك من اسمي اسماً، فأنا المحمود وأنت محمّد.

ثمّ اطّلعت الثانية فاخترت منها عليّاً وجعلته وصيّك وخليفتك وزوج ابنتك وأبا ذريّتك، وشَقَقْتُ له أسماً من أسمائي ; فأنا العليّ الأعلى وهو عليّ.

____________

1- كمال الدين وتمام النعمة 250 ـ 251 وانظر: تفسير نور الثقلين 4: 470.

2- تفسير عليّ بن إبراهيم 2: 335 ـ 336 في تفسير سورة النجم وعنه في تفسير نور الثقلين 5: 158 سورة النجم ح 55.


الصفحة 143
وجعلت فاطمة والحسن والحسين من نوركما، ثمّ عرضت ولايتهم على الملائكة، فمَن قَبِلها كان عندي من المقرّبين(1)...

وفي كمال الدين وتمام النعمة، بإسناده إلى عبدالسلام بن صالح الهروي، عن عليّ بن موسى الرضا، عن آبائه، عن عليّ: عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) في حديث طويل، قال فيه:... فنظرت ـ وأنا بين يَدَي ربّي ـ إلى ساق العرش، فرأيتُ اثني عشر نوراً، في كلّ نور سطر أخضر مكتوب عليه اسم كلّ وصيّ من أوصيائي، أولهم عليّ بن أبي طالب وآخرهم مهديّ أمّتي.

فقلت: يا ربّ، أهولاء أوصيائي مِن بَعدي؟ فنُوديتُ: يا محمّد، هؤلاء أوليائي وأحبّائي وأصفيائي وحجّتي بعدك على بريّتي، وهم أوصياؤك وخلفاؤك وخير خلقي بعدك. وعزّتي وجلالي لأظهرنّ بهم دِيني، ولأُعلينّ بهم كلمتي، ولأطهرنّ الأرض بآخرهم من أعدائي، ولأملّكنّه مشارق الأرض ومغاربها، ولأسخرنّ له الرياح، ولأذللنّ له الرقاب الصِّعاب، ولأرقينّه في الأسباب، ولأنصرنّه بجندي، ولأمدنّه بملائكتي حتّى يُعلن دعوتي ويجمع الخلق على توحيدي، ثمّ لأديمنّ ملكه، ولأداولنّ الأيام بين أوليائي إلى يوم القيامة(2).

وفي أصول الكافي، بإسناده عن الإمام عليّ (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال:... فإنه لمّا أسري بي إلى السماء الدنيا فنسبني جبرئيل لأهل السماء استودع الله حبّي وحبّ أهل بيتي وشيعتهم في قلوب الملائكة، فهو عندهم وديعة إلى يوم القيامة(3)...

وقد مر عليك خبر سدير الصيرفي وعمر بن أُذينة في الإسراء والمعراج، وقول

____________

1- عيون أخبار الرضا 2: 61.

2- كمال الدين وتمام النعمة 256.

3- الكافي 2: 46 كتاب الإيمان والكفر، باب نسبة الإسلام ح 3.


الصفحة 144
الإمام الصادق للاخير: يا عمر، ما ترى هذه الناصبة في أذانهم وركوعهم وسجودهم؟! نحن جئنا بهذه النصوص كي نؤكد على صحّة ما قاله الإمام الصادق عن النواصب ودورهم في تحريف الأمور وخصوصاً المسائل التي فيها اسم الإمام عليّ بن أبي طالب وأهل بيت الرسول، وان تحريفاتهم لا تقتصر على مفردة أو مفردتين في التاريخ والشريعة، بل شملت جميع مراحل التشريع من الاسراء حتّى ما لا نهاية، وإنّك لو مررت بالتاريخ والحديث ودرستهما دراسة واقعية بعيداً عن التعصب لوافقتنا فيما قلناه وستقف على عشرات الروايات الدالّة على مكانة الإمام عليّ والتي سنتعرض لها في الشهادة الثالثة لاحقاً بإذن الله تعالى.

نحن لا نريد التفصيل في مثل هذه الموارد، بل نذكّر القارئ الكريم بما مرّ عليه من كلام شيخ ابن أبي الحديد من أنّ الأمويّين سـعوا إلى تحريف الفضائل الثابتة في عليّ وجعلها في عثمان وأبي بكر وعمر، ونحن لو تابعنا السير التاريخي لوقفنا على التحريف اللفظي والمعنوي لبني أميّة، فكما أنهم جعلو اللعنة سمة وشرفاً للملعونين!! فقد أوّلوا كلام الرسول في معاوية (لا أشبع الله بطنك) بأنّه دعا له بأنّه سيأتي يوم القيامة خميص البطن لا شيء عليه(1).

وخير مثال على التحريف المعنوي هو ما أشاعه معاوية في واقعة صفّين عند

____________

1- والاغرب من هذا ما قاله ابن كثير في البداية والنهاية 8: 123، وقد انتفع معاوية بهذه الدعوة في دنياه واخراه.

أمّا في الدنيا فإنّه لما صار إلى الشام اميراً كان يأكل في اليوم سبع مرات يجاء بقصعة فيها لحم كثير وبصل فيأكل منها، ويأكل في اليوم سبع اكلات بلحم، ومن الحلوى والفاكهة شيئاً كثيراً ويقول والله ما اشبع وانما اعيا، وهذه نعمة ومعدة يرغب فيها كل الملوك.

وأمّا في الآخرة... فإن رسول الله قال: اللهم انما أنا بشر فإيما عبد سببته أو جلدته أو دعوت عليه وليس لذلك أهلا فاجعل ذلك كفارة وقربة تقربه بها عندك يوم القيامة... وهذا الحديث فضيلة لمعاوية.


الصفحة 145
مقتل عمّار بن ياسر ـ لمّا تناقل الجندُ كلامَ رسول الله "تقتلك الفئة الباغية" ـ بأن الإمام عليّ بن أبي طالب هو القاتل له حيث أخرجه وزجّ به في المعركة، ولما سمع الإمام عليّ بن أبي طالب بهذه المقالة قال ما مفاده: وعلى هذا الكلام يكون رسول الله هو الذي قتل حمزة لأنّه أخرجه لحرب المشركين!(1)

وأقبح منه ما روي أنّه قال لأهل الشام: إنّما نحن الفئة الباغية التي تبغي دم عثمان(2)!

فللأمويين تحريفات لفظية وتحريفات معنوية كثيرة، وإنّ هذه الدراسة تريد أن توضح أمثال هذه الأمور في الشريعة والتاريخ وانعكاساً على الأذان هنا.

فلا يجوز حمل بعض التحقيقات حول الأمويين وعقيدتهم في الاسراء والمعراج و... على الإسهاب والخروج عن البحث، بل ما كتبناه هو المقصود، ولولاه لما فهمنا ملابسات التشريع الذي نحن بصدد بيانه.

بلى، إنّهم لم يكونوا يحبّون آل الرسول، بل لم يحبّوا كلّ من أحبّه الرسول، بل كانوا يتعاملون مع آل الرسول بالشدة والبغض، فقد ذكر المناوي في فيض القدير، وكذا القرطبي في تفسيره واقعة دارت بين مروان بن الحكم وأسامة بن زيد.

وأسامة كان ممن يحبهم رسول الله ـ حسب نص القرطبي وغيره ـ وكان الخليفة عمر بن الخطاب أعطاه خمسة آلاف درهم ولابنه عبدالله ألفي درهم، فسأل عبدالله عن سر ذلك فأجابه عمر أنّه فعل ذلك لمحبة رسول الله له.


قال القرطبي: وقد قابل مروان هذا الواجب (أي محبّة مُحِبِّ رسول الله) بنقيضه، وذلك أنّه مرّ بأسامة وهو يصلّي بباب بنت رسول الله.


____________

1- أنظر: توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار للصنعاني ج2: 257 ط دار احياء التراث.

2- الإمامة والسياسة 1: 146.


الصفحة 146

فقال مروان: إنّما أردت أن تُري الناس مكانك، فقد رأينا مكانك! فَعَل الله بك وفعل، وقال قولاً قبيحاً.

وقال له أسامة: آذيتني وإنّك فاحش متفحّش، وقد سمعتُ رسول الله يقول: إنّ الله يُبغض الفاحش المتفحش.

فانظر ما بين الفعلين وقِس ما بين الرجلين، فلقد آذى بنو أميّة رسول الله في أحبابه وناقضوه في مَحابّه(1).


وعليه فالذي يجب القول به هنا، هو أنّ خبر الإسراء ثابت بالكتاب، والمعراج ثابت بالسنة ـ وإن لم يفرّق البعض بينهما فأطلق الإسراء على كليهما تساهلاً ـ وهذا ما جعل المجال مفتوحاً للإجمال والتفصيل والتلاعب والتشكيك في خبر المعراج أكثر من أخبار الإسراء.

فهل يرجع إجمالهم في نقل أخبار المعراج إلى عدم وقوفهم على نقول أهل بيت الوحي والنبوة؟ أم يرجع إلى أنّهم أجملوا ذلك عن قصد وعمد؟ لعلّك عرفت جواب هذا السؤال ممّا مرّ، فأغنى ذلك عن الإطالة.

وبهذا يكون ما كتبناه هو أشارة إلى دواعي الأمويين ومن لفّ لفهم في تحريف خبر الأذان، وكيف ربطوا خبر الإسراء والمعراج بالشجرة الملعونة، مدّعين أنّها شجرة الزقوم، بل كيف ربطوها بمسائل أخرى وقضايا مصيرية في الشريعة والتاريخ، كلّ ذلك للتشكيك في مقام الرسول (صلى الله عليه وآله) والقول بأنّ منامه المعراجي هذا يشابه الأذان ويحتاج إلى شاهد لتثبيت صحته.

____________

1- تفسير القرطبي 14: 240، وعنه في فيض القدير 1: 618.


الصفحة 147

مطلبان


لنا هنا مطلبان يتضحان بعد طرحنا هذين السؤالين:

الأوّل: هل أنّ الأذان عبارة عن الإعلام للصلاة فقط، أم هو بيان لأصول العقيدة وأركان الإسلام؟

الثاني: هل أنّ أمر الأذان توقيفيّ؟ وإذا كان توقيفيّاً، فهل هناك فرق بين توقيفية الواجبات وتوقيفية المستحبّات أم لا؟

وقبل الجواب عن السؤال الأوّل لابدّ من الإشارة إلى حقيقة هامّة في العبادات وغيرها، وهي: أنَّ الأُمور العباديّة في الشرع لها ظاهر ومغزى، فقد يمكن للإنسان أن يقف على ظاهر شيء ويؤدّيه دون أن يعرف كنهه ومغزاه والغاية القصوى منه، فالمطالع مثلاً في ما جاء عن أهل بيت النبوة يقف على أسرار في الصلاة والصيام والزكاة والحجّ وغيرها، ويتعرّف على أُمور كان لا يعرفها من ذي قبل، ولم يتنبه لها في نظرته الأُولى، من ذلك ما ذكره الصدوق في علل الشرائع، حيث قال فيه:

إنّ نفراً من اليهود جاءوا إلى رسول الله فسألوه عن مسائل وكان فيما سألوه: أخبرنا يا محمّد لأيّ علَّة تُوَضَّأُ هذه الجوارح الأربع وهي أنظف المواضع في الجسد؟

فقال النبيُّ (صلى الله عليه وآله): "لمّا أن وسوس الشيطان إلى آدم دنا من الشجرة ونظر إليها ذهب ماء وجهه، ثمّ قام ومشى إليها وهي أوّل قدم مشت إلى الخطيئة، ثمّ تناول بيده منها ممّا عليها فأكل فطار الحلي والحلل عن جسده، فوضع آدم يده على [أُمِّ] رأسه وبكى، فلمّا تاب الله عليه فرض عليه وعلى ذرّيّته غسل هذه الجوارح الأربع، وأمره بغسل الوجه لما نظر إلى الشجرة، وأمره بغسل اليدين إلى المرفقين لما تناول منها، وأمره بمسح الرأس لما وضع يده على أُمِّ رأسه، وأمره بمسح

الصفحة 148
القدمين لما مشى بهما إلى الخطيئة"(1).

ومعنى هذا النصّ أنّ العبد يجب عليه تطهير أعضائه حينما يريد التوجّه إلى الله، وبما أنّ الوجه واليدين فيهما الحواسّ الخمس الظاهرة التي بها يُعصى الإله كان عليه أن يغسلهما قبل الدخول إلى حضرة الإله.

أمّا الرأس والقدمان فهما عنصران آليّان يتقوّى بهما المكلّف على المعصية أو الطاعة وهما ليسا من الحواسّ الخمس، ففي الرأس القوّة المفكِّرة والخياليّة التي تبعث الفرد إلى ارتكاب المعاصي أو فعل الواجب، وبالرِّجل يسعى إليهما ـ الطاعة أو المعصيّة ـ فأمر سبحانه المسح عليهما كي ينجو من الوساوس الشيطانيّة والأغلال النفسيّة ويدخل حضيرة القدس طاهراً نقيّاً من الأدناس، ولأجل هذه الحقيقة فقد أكّدنا في كتابنا "وضوء النبيّ" على: أنَّ طهارة الوضوء هي طهارة حكميّة وليست بحقيقيّة، لأنَّ المؤمن لا يُنَجِّسُـه شيء، وبالوضوء يُعرف مَن يطيع الله ومن يعصـيه(2).

وبعد هذه المقدِّمة لابدّ من الإجابة عن السؤال الأوّل.

1 ـ الأذان إعلام للصلاة أم بيان لأصول العقيدة؟

القاضي عياض: "اعلم أنّ الأذان كلام جامع لعقيدة الإيمان، مشتملة على نوعيه من العقليّات والسمعيّات، فأوّله إثبات الذات وما يستحقّه من الكمال [أي الصفات الوجودية]، والتنزيه عن أضدادها [أي الصفات العدمية]، وذلك بقوله "الله أكبر"، وهذه اللفظة مع اختصار لفظها دالَّة على ما ذكرناه.

ثمّ صرّح بإثبات الوحدانيّة ونفي ضدّها من الشركة المستحيلة في حقّه

____________

1- علل الشرائع 1: 280 الباب 191.

2- انظر: وضوء النبيّ، المدخل 428.


الصفحة 149
سبحانه وتعالى، وهذه عمدة الإيمان والتوحيد، المقدّمة على كلّ وظائف الدين.

ثمّ صرح بإثبات النبوّة والشهادة بالرسالة لنبيّنا، وهي قاعدة عظيمة بعد الشهادة بالوحدانيّة وموضعها بعد التوحيد، لأنّها من باب الأفعال الجائزة الوقوع، وتلك المقدّمات من باب الواجبات، وبعد هذه القواعد كملت العقائد العقليّات فيما يجب ويستحيل ويجوز في حقّه سبحانه وتعالى.

ثمّ دعا إلى ما دعاهم إليه من العبادات، فدعا إلى الصلاة وجعلها عقب إثبات النبوّة، لأنَّ معرفة وجوبها من جهة النبيّ (صلى الله عليه وآله) لا من جهة العقل.

ثمّ دعا إلى الفلاح، وهو الفوز والبقاء في النعيم المقيم، وفيه إشعار بأُمور الآخرة من البعث والجزاء، وهي آخر تراجم عقائد الإسلام.

ثمّ كرّر ذلك بإقامة الصلاة للإعلام بالشروع فيها، وهو متضمّن لتأكيد الإيمان وتكرار ذكره عند الشروع في العبادة بالقلب واللسان وليدخل المصلّي فيها على بيّنة من أمره وبصيرة من إيمانه ويستشعر عظيم ما دخل فيه وعظمة حقّ مَن يعبده وجزيل ثوابه..."(1).

وقد نقل محمّد بن علان ـ شارح الأذكار النوويّة ـ كلام القاضي عياض بشيء من التصرّف، كقوله:


ثمّ كرّر التكبير آخره إشارة إلى الاعتناء السابق، لأنَّ هذا المقام هو الأصل المبنيّ عليه جميع ما تقرّر من العقائد والقواعد، وختم ذلك بكلمة التوحيد إشارة إلى التوحيد المحض...(2).


____________

1- نقله عنه النووي في المجموع 3: 75. وانظر كلام السيّد البكري في حاشية اغاثة الطالبيين 1: 229 والبخاري في شرح الكرماني 5: 4 وشرح النووي على مسلم.

2- وهو أن (لا إله إلاّ هو)، معنى آخر لقوله (إنّا لله وإنّا إليه راجعون) أو قوله: (وإلى ربّك المنتهى).


الصفحة 150

وكان آخره اسم "الله" ليطابق البداءة، إشارة إلى أنَّه الأوّل والآخِر في كلّ شيء، قال القاضي: "ثمّ كرّر ذلك عند إقامة الصلاة للإعلام بالشروع فيها، وفي ذلك تأكيد الإيمان وتكرار ذكره عند الشروع في العبادة بالقلب واللسان، ليدخل المصلّي فيها على بيّنة من أمره وبصيرة من إيمانه ويستشعر عظيم ما دخل فيه وعظيم حقّ مَن عبده وجزيل ثوابه على عباده(1).


وقد علّق ابن علان على كلام القاضي عياض بقوله: (قلتُ: قال ابن حجر في شرح المشكاة: وللاعتناء بشأن هذا المقام الأكبر كرّر الدالّ عليه أربعاً إشعاراً بعظيم رفعته، وكأنّ حكمة خصوص الأربع أنَّ القصد بهذا التكرير تطهير شهود النفس بشهود ذلك عن شهواتها الناشئة عن طبائعها الأربعة الناشئة عن أخلاطها الأربعة.

وفي شرح العباب له: (وكأنَّ حكمة الأربع أنَّ الطبائع أربعة لكلٍّ منها كمال ونقص يخصّه بإزاء كلّ منها كلمة من تلك ليزيد في كمالها ويطهّر نقصها، وكذا يقال بذلك في كلّ محلّ ورد فيه التربيع)(2).

وقال القرطبيّ وغيره: (الأذان على قلّة ألفاظه مشتمل على مسائل العقيدة، لأنّه بدأ بالأكبريّة وهي تتضمّن وجود الله وكماله، ثمّ ثنّى بالتوحيد ونفي الشرك، ثمّ بإثبات الرسالة لمحمّد (صلى الله عليه وآله).

ثمّ إلى الطاعة المخصوصة عقب الشهادة بالرسالة، لأنّها لا تُعرف إلاَّ من جهة

____________

1- انظر: الفتوحات الربّانيّة على الأذكار النوويّة 2: 84.

2- الفتوحات الربانية 2: 83.


الصفحة 151
الرسول.

ثمّ دعا إلى الفلاح وهو البقاء الدائم، وفيه الإشارة إلى المعاد.

ثمّ أعاد ما أعاد توكيداً، ويحصل من الأذان الإعلام بدخول الوقت والدعاء إلى الجماعة وإظهار شعار الإسلام(1).

قال ابن خزيمة: فإذا كان المرء يطمع بالشهادة بالتوحيد لله في الأذان وهو يرجو أن يخلّصه الله من النار بالشهادة لله بالتوحيد في أذانه، فينبغي لكلِّ مؤمن أن يتسارع إلى هذه الفضيلة طمعاً في أن يخلّصه الله من النار، خلا في منزله أو في بادية أو قرية أو مدينة طلباً لهذه الفضيلة(2).

وقال القسطلانيّ ـ بعد نقله خبر أبي هريرة عن النبيِّ وقوله: "إذا نُودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتّى لا يُسمَع التأذين" ـ: (لعظيم أمره لما اشتمل عليه من قواعد الدين وإظهار شرائع الإسلام، أوحى: لا يشهد للمؤذِّن بما سمعه إذا استشهد يوم القيامة، لأنّه داخل في الجنّ والإنس المذكور في حديث: لا يسمع مدى صوت المؤذِّن جنّ ولا إنس ولا شيء إلاَّ شهد له يوم القيامة)(3).

وأخرج عبدالرزّاق عن معمر، عن الزهريّ: أنَّ أبا بكر الصدّيق قال: الأذان شعار الإيمان(4).

ونقل الصدوق بسنده إلى الإمام الحسين بن عليّ (عليهما السلام)، قال: كنّا جلوساً في المسجد، إذ صعد المؤذِّن المنارة، فقال: الله أكبر، الله أكبر، فبكى أمير المؤمنين

____________

1- فتح الباري 2: 61 كتاب أبواب الأذان، وعنه في بذل المجهود 4: 3 ـ 4. وعون المعبود 2: 127.

2- صحيح ابن خزيمة 1: 208.

3- إرشاد الساري 2: 5.

4- مصنّف عبدالرزّاق 1: 483/1858.


الصفحة 152
عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وبكينا لبكائه، فلمّا فرغ المؤذّن، قال: "أتدرون ما يقول المؤذِّن؟".

قلنا: الله ورسوله ووصيّه أعلم.

فقال: "لو تعلمون ما يقول لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، فلِقوله: الله أكبر، معان كثيرة.

منها: أنَّ قول المؤذِّن: "الله أكبر"، يقع على قِدَمِهِ، وأزليّته، وأبديّته، وعلمه، وقوّته، وقدرته، وحلمه، وكرمه، وجوده، وعطائه، وكبريائه.

فإذا قال المؤذِّن: اللهُ أكبر، فإنّه يقول: الله الذي له الخلق والأمر، وبمشيّته كان الخَلق، ومنه كلّ شيء للخلق، وإليه يرجع الخلق، وهو الأوّل قبل كلّ شيء لم يَزَل، والآخِر بعد كلّ شيء لا يزال، والظاهر فوق كلّ شيء لا يُدرَك، والباطن دون كلّ شيء لا يُحَدّ، فهو الباقي، وكلّ شيء دونه فان.

والمعنى الثاني: "الله أكبر"، أي: العليم الخبير، عليم بما كان وما يكون قبل أن يكون.

والثالث: "اللهُ أكبر"، أي: القادر على كلّ شيء، يقدر على ما يشاء، القويّ لقدرته، المقتدر على خلقه، القويّ لذاته، وقدرته قائمة على الأشياء كلّها، إذا قضى أمراً فإنّما يقول له: كن فيكون.

والرابع: "اللهُ أكبر" على معنى حلمه، وكرمه، يحلم كأنّه لا يعلم، ويصفح كأنّه لا يرى، ويستر كأنّه لا يُعصى، لا يَعجَل بالعقوبة كرماً وصفحاً وحلماً.

والوجه الآخر في معنى الله أكبر: أي الجواد، جزيل العطاء، كريم الفِعال.

والوجه الآخر: الله أكبر فيه نفي صفته وكيفيّته، كأنّه يقول: الله أجَلُّ من أن يُدرِك الواصفون قدرَ صفته، الذي هو موصوف به، وإنّما يصفه الواصفون على قدرهم لا على قدر عظمته وجلاله، تعالى الله عن أن يُدرِك الواصفون صفته علوّاً كبيراً.