إنّ عبارة " حيّ على خير العمل " الدالة على الإمامة هي جزء من الأذان ; لما تظافرت به روايات الإمامية الاثني عشرية، والزيدية، والإسماعيلية، ولوجودها حتّى في مصادر أهل السنّة، وقد أذّن بها كبار الصحابة، وحكي عن الإمام الشافعي والإمام مالك القول بجزئيتها، وسنزيد المسألة وضوحاً وجلاءً في الباب الثالث (أشهد أنّ عليّاً ولي الله بين الشرعية والابتداع) من هذه الدراسة، ضمن بحثنا عن شرعية الشهادة الثالثة أو بدعيتها.
ما وراء حذف الحيعلة الثالثة
نصَّ التفتازاني والقوشجي وغيرهما على دافع الخليفة عمر بن الخطّاب إلى حذف هذا الفصل من الأذان، واتّفق الزيديّة والإسماعيليّة والإماميّة على ثبوت هذا الحذف عنه، في حين جرى التعتيم على هذه النقطة في أغلب كتب أهل السنّة، على الرغم من تأكيد كثير من النصوص التار يخيّة والحديثية المتناثرة في المصادر على حذف عمر لحيّ على خير العمل للدافع الذي أعلنه.
إنّ ما ذكر من تعليل لحذف الحيعلة الثالثة قد يكون وجيهاً عند عمر بن الخطّاب ; لانسجامه مع نفسيته ومنهجه في فهم النصوص، وللظروف التي كان يعيشها من غزوات وحروب وتوسيع لرقعة الدولة، وهو ممّا يستوجب بالطبع
لكنّ هذا السبب في منع عمر بن الخطاب ترد عليه عدة أمور:
أوّلها: إنّ الغزوات والحروب كانت أعظم وأكثر على عهد رسول الله، وكانت ظروف انبثاق الدولة الإسلاميّة الفتيّة وبداية انطلاقها لنشر دين الله أدعى إلى حذف هذه الحيعلة من قِبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ لو صحّ هذا التعليل ـ من الظروف التالية التي عاشها الخليفة بعد استقرار أمور الدولة بشكلها الذي كانت عليه. فلماذا لم يحذف رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) هذا الفصل وحذفها عمر(1)؟!
إنّ هذا لَيثير تساؤلاً حول صحّة هذا التعليل الذي فسّر به عمر حذفه هذا، أو يومئ إلى وجود سبب آخر غير معلن في هذا السياق.
ثانيها: لو قبلنا التعليل السابق تنزّلاً لصحَّت مشروعية الحذف لفترة معينة، لا أنّه يكون تشر يعاً لكلّ الأزمان، ذلك أن سريان المنع إلى يومنا هذا ربّما يشير إلى أمر آخر.
ثالثها: إنّ هذا التعليل من قبل الخليفة لا يتّفق مع ما جاء عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) من قوله: " اعلموا أنّ خير أعمالكم الصلاة " وهو لا يتّفق أيضاً مع قوله (صلى الله عليه وآله) عن الصلاة: " إنّها عمود الدين إن قُبلت قُبل ما سواها وإن رُدَّت رُدّ ما سواها "، فلو
____________
1- وهذا التعليل والرد، ورد نظيرهما في إتمام عثمان للصلاة بمنى، بحجّة خوفه أن يظن الناس أنّ صلاة القصر هي المفروضة، فأجابه الصحابة بأن النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان يقصر الصلاة وينبّه المسلمين على أنّ ذلك مخصوص بمنى. فلوصح تعليل عمر، لكان يمكنه أن يقر الحيعلة الثالثة في الأذان وينبّه المسلمين على ضرورة الجهاد، كما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يفعل ذلك. وهذا التشابه في أدوار الخليفتين الثاني والثالث يوقفك على مسار تيار الحكّام المجتهدين.
رابعاً: من المعلوم أنّ المسلمين صاروا بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهجين: أحدهما: نهج الخلفاء، والآخر نهج أهل البيت. وكان هؤلاء على تخالف في كثير من القضايا السياسية والفقهية، فلمّا منع عمر الحيعلة الثالثة نَسَبَ نهجُ الخلفاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) المنعَ تأييداً للخليفة عمر بن الخطاب، حتّى إذا جاء الخلفاء اللاحقون منعوا هذا الفصل من الأذان واستقبحوه من الناس، ولأجله ترى انحسار الروايات الدالة على الحيعلة في كتب الجمهور، لكنّ الطالبيِّين أصرّوا على الإتيان بها على الرغم من هذا المنع.
وبذلك تحزّب أبناء السنّة والجماعة لمذهب عمر بن الخطاب وحكمّوا رأيه في مقابل موقف الإمام عليّ وأولاده الذين خالفوا هذا المنع وأصرّوا على الحيعلة الثالثة رغم كلّ الظروف والمشاكل، كما ستقف عليها لاحقاً.
خامساً: إنّ المطّلع على مجريات الأحداث في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثمّ مَن بعده يقف على حقيقة جلية، هي أنّ قر يشاً لم تكن ترضى باجتماع النبوة والخلافة في بني هاشم، وكانت تطمع في الخلافة من بعده (صلى الله عليه وآله)، فكانوا يشترطون على رسول الله أن يبايعوه بشرط أن يجعل لهم نصيباً في الخلافة من بعده، لكنّه (صلى الله عليه وآله) كان يقول: " إن الأمر لله يجعله حيث يشاء "(1) وليس الأمر بيدي.
وجاء عن ابن عباس: إن عمر بن الخطاب قال له في أوائل عهده بالخلافة: يا
____________
1- انظر: حديث عامر بن صعصعة في سيرة ابن هشام 2: 289، وحديث قبيلة كندة في سيرة ابن كثير 2: 159، وهما يدلاّن على ما نقوله.
قلت: نعم.
قال: أيزعم أن رسول الله نصَّ عليه؟
قلت: نعم. وأزيدك: سألتُ أبي عمّا يدّعيه، فقال: صَدَق.
قال عمر: لقد كان من رسول الله في أمره ذَرْوٌ من قول لا يثبت حجّة ولا يقطع عذراً، وكان يَرْبَعُ في أمره وقتاً ما، ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه فمنعتُ من ذلك إشفاقاً وحيطةً على الإسلام... فعلم رسول الله أنّي علمت ما في نفسه فأمسك(1).
وقال العيني في عمدة القاري: واختلف العلماء في الكتاب الذي هم بكتابته فقال الخطابي: يحتمل وجهين، احدهما انه اراد أن ينص على الإمامة بعده فترتفع تلك الفتن العظيمة كحرب الجمل وصفين(2).
ولو جمعنا ما جاء عن ابن عباس، مع ما قاله عمر لرسول الله (صلى الله عليه وآله) عند مرضه ـ حينما قال (صلى الله عليه وآله): ائتوني بدواة وقلم أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي أبداً، فقال عمر: إنّ الرجل لَيَهجُر(3) ـ مع ما قاله رسول الله لعمر لمّا أتاه بجوامع من التوراة: والذي نفسُ محمّد بيده لو بدا لكم موسى فاتّبعتموه وتركتموني لَضللتُم(4)، مع
____________
1- شرح ابن أبي الحديد 12: 21 وقال: ذكر هذا الخبر أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب تاريخ بغداد في كتابه مسنداً.
2- عمدة القارئ 2: 171.
3- وفي نص البخاري " إنّ الرجل قد غلب عليه الوجع "، وكلاهما إساءة للرسول المصطفى.
4- سنن الدارمي 1: 115 باب ما يتقي من تفسير حديث النبي (صلى الله عليه وآله)، مسند أحمد 4: 266، المصنف لعبد الرزاق 6: 113 باب مسألة أهل الكتاب، أسد الغابة 3: 127.
ومما يَحسُن بنا أن نتفطّن له هو أن هذا الموقف من رسول الله إنّما يُنبئ عن وجود ترابط عميق بين بر فاطمة وولدها ومسألة الصلاة، وبمعنى آخر بين الولاية والعبادة، إذ أنّ وقوف الرسول المصطفى على باب فاطمة لمدة ستة أشهر لا يمكن تصوّره لغواً بأيّ حال من الأحوال ; لأنّه (صلى الله عليه وآله) كان يقف داعياً المطهَّرين من عترته إلى الصلاة، مُعلِماً بوجود لون من التواشج بين الصلاة والعترة. ورسولُ الله حلقةُ الوصل والربط بين ركيزة التوحيد " الصلاة،الصلاة " وبين الولاية {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ...}. ونلحظ في هذا النص: قول الله " القران "، وفعل الرسول " الوقوف "، ونتيجة لزوم الاعتقاد بمنزلة العترة والقربى وأن مودتهما وطاعتهما
____________
1- صحيح البخاري 5 ـ 6: 253، كتاب المغازي باب غزوة خيبر ح 704، صحيح مسلم 3: 1379، كتاب الجهاد باب قول النبي لا نورث إنما تركناه صدقة، تاريخ المدينة لابن شبة 1: 197.
2- مسند أحمد 3: 259، 285، سنن الترمذي 5: 351 ح 3205، كتاب تفسير القرآن باب ومن سورة الاحزاب، المستدرك للحاكم 3: 158، مصنف ابن أبي شيبة 6: 391 ح 32262، كتاب الفضائل باب في فضل فاطمة (عليها السلام).
سادساً: إن الخلفاء المتأخّر ين أيضاً أدركوا سرّ الحيعلة الثالثة فحرصوا أشدّ الحرص على حذفها، ولم يرضوا بها ممن خطب لهم ولَبِسَ خِلَعَهم وانضوى تحت لوائهمَ، بل أصرّوا على ضرورة حذفها ; لأنّها رمز يشير إلى بطلان حكوماتهم. وسيأتيك ذلك في الفصل الرابع لدى الكلام عن تاريخ الحيعلة في مكّة وحلب سنة 463 هـ. وحسبك منها ما كان من القائم بأمر الله العباسي، حين أخبره نقيب النقباء أبو الفوارس طرّاد بأنّ محمود بن صالح خطب له بحلب ولبس الخلع القائمية، حيث قال له: أيّ شيء تساوي خطبتهم وهم يؤذنون بـ " حيّ على خير العمل "!!
كلّ هذه النصوص توكّد أنّ المراد الأساسي من " خير العمل " هو بر فاطمة وولدها، والولاية والإمامة التي بها قوام الصلاة والصوم والزكاة والحجّ وسواها... لا شيء آخر، فصار الخليفة ـ حسب كلام الإمام المعصوم، والاستقراء التاريخي ـ لا يرضى أن يقع (دعاء إليها وتحر يض عليها)، لأن ذلك يعني التشكيك بشرعيّة خلافته وخلافة مَن قبله، وهو المعنيّ من كلامه (عليه السلام) (ما نودي بشيء كالولاية).
وجاء في الغَيبة للنعماني عن عبدالله بن سنان أنّه (عليه السلام) قال في معرض كلامه عن علامات ظهور القائم من آل محمّد عجل الله تعالى فرجه الشر يف: وأنّه سيكون في السماء نداء " ألا إنّ الحقّ في عليّ وشيعته ".
قال (عليه السلام) فـ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} على الحق وهو النداء الأوّل(1)، ويرتاب يومئذ الذين في قلوبهم مرض، والمرضُ واللهِ عداوتُنا(2).
____________
1- دون النداء الثاني الذي ينادي به إبليس لعنه الله.
2- الغيبة للنعماني 173 ـ 174 باب ما جاء في العلامات التي تكون قبل قيام القائم.
روى الكليني بسنده إلى الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى {إليه يصعد الكلم الطيّب والعمل الصالح يرفعه} قال: ولايتنا أهل البيت ـ وأهوى بيده إلى صدره ـ فمن لم يتولّنا لم يرفع الله له عملاً(1).
وعن الرضا (عليه السلام) في قوله تعالى {إليه يصعد الكلم الطيّب والعمل الصالح يرفعه} قال: الكلم الطيب هو قول المؤمن: " لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله، عليّ ولي الله وخليفة محمّد رسول الله حقاً حقا وخلفاؤه خلفاء الله "، والعمل الصالح يرفعه، فهو دليله، وعمله اعتقاده الذي في قلبه بأنّ هذا الكلام صحيحٌ كما قلته بلساني(2).
وعن فاطمة الزهراء بنت محمّد، قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لمّا عرج بي إلى السماء صرت إلى سدرة المنتهى {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْأَدْنَى} فأبصرته بقلبي ولم أره بعيني، فسمعت أذاناً مثنى مثنى، واقامة وتراً وتراً، فسمعت منادياً ينادي: يا ملائكتي وسكان سماواتي وارضي وحملة عرشي اشهدوا اني لا إله إلاّ انا وحدي لا شريك لي، قالوا: شهدنا وأقررنا، قال: اشهدوا يا ملائكتي وسكان سماواتي وارضي وحملة عرشي بأن محمّداً عبدى ورسولي، قالوا: شهدنا واقررنا، قال: اشهدوا يا ملائكتي وسكان سماواتي وارضي وحملة عرشي بأن عليّاً وليي وولي
____________
1- الكافي 1: 340.
2- تفسير الإمام العسكري 328 ح 184 وعنه في تأويل الآيات: 469 والنص عنه.
وبهذا يفضي بنا البحث إلى أنّ التعليل الحقيقي لمنع عمر بن الخطاب للحيعلة الثالثة هو اطلاعه على المقصود من عبارة " حيّ على خير العمل " في الأذان، ودلالتها على ولاية أهل البيت، لصرف الانتباه عنها، وذلك بكتمانها وحذفها، فمَنَعها تحت غطاء الحفاظ على كيان الدولة الإسلامية وتوسيع رقعتها بالجهاد، لكن الطالبيين قد أدركوا هذا الأمر وأصرّوا على الإتيان بها رغم كلّ الظروف الحالكة، وهذا ما ستقرأه بعد قليل إن شاء الله تعالى.
ولذلك كان الإمام عليّ (عليه السلام) في أيّام خلافته يلمح ويشير إلى أنّ حذف " حيّ على خير العمل " كان جوراً عليه وعلى الإسلام، فكان إذا سمع مؤذّنه يقول " حيّ على خير العمل، حيّ على خير العمل " قال: مرحباً بالقائلين عدلاً(2)، معرّضاً بمن رفعها، لأنّ عليّاً هو خير العمل وهو العدل الذي يدور مع القرآن حيثما دار ويدور معه القرآن أيضاً.
والذين ظنوا أنّ الصلاة تقتصر على شكلها الظاهري دون المحتوى الذي هو الطاعة(3) سعوا إلى ترسيخ فكرة أن هل البيت ومودتهم ليست خير العمل، فكان لحذفها من الأذان مغزى عرفه أهل البيت فأنكروا حذفها، كما عرفه مخالفوهم فأصروا على حذفها.
____________
1- تفسير فرات الكوفي: 342 في آخر تفسير سورة الأحزاب.
2- الفقيه 1: 288/ ح 890.
3- أي طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة وليّه، والأخيران منتزعان من الأولى، وقد مرّ عليك قوله (صلى الله عليه وآله): من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع علياً فقد أطاعني ومن عصى علياً فقد عصاني، وقوله (صلى الله عليه وآله): فاطمة بضعة مني... فمن آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله جلّ وعلا.
وقد سئل الشريف المرتضى: "هل يجب في الأذان بعد قول «حيّ على خير العمل» "محمّد وعلي خير البشر"؟ فأجاب قائلا: "إن قال: محمّد وعلي خير البشر ـ على أنّ |
____________
1- تفسير القمّي 2: 155 عن الباقر، ونحوه عن الصادق (عليه السلام) في التوحيد وبصائر الدرجات.
ولا يخفى عليك أن للتوحيد مراتب، فهناك توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الطاعة، فانّه سبحانه وتعالى مع كونه {لم يكن له كفواً أحد} ـ و {هو الله الواحد القهار}، و {خالق كل شيء}، وهو الذي {يتوفى الأنفس حين موتها}، ـ فإنّ هذا المعنى غيرُ معارَض بمثل قوله تعالى: {حتى إذا جاء أحدكم الموتُ توفّته رُسُلنا}.
وإن قوله تعالى {وإذا مَرِضتُ فهو يشفين} لا يعارض ما جاء من الشفاء بالقرآن في قوله تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شِفاء} وبالعسل {فيه شفاء للناس}.
وكذا قوله: {قل لا يَعْلمُ من في السماوات والأرض الغيبَ إلاّ الله} فإنه لا يعارض قوله {وما كان الله ليُطلعكم على الغيب ولكنّ الله يجتبي من رُسُلِه مَن يَشاء} وإلى غيرها من عشرات الآيات.
فلا تخالُفَ إذاً بين نسبة الافعال إلى الله جل جلاله ونسبتها في الوقت نفسه إلى غيره، فلا يخالف قوله: {أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} مع قوله: {وارزقوهم فيها واكْسُوهُم} وكلاهما من كلام الباري. ومن هنا تأتي مسألة التوحيد، فتوحيد الطاعة هو يعني لزوم إطاعة من أمر الله بطاعته، ومن لا يطيع الرسول وأولي الأمر المفروض طاعتهم فانه لم يطع الله لقوله تعالى: {وما ارسلنا من رسول إلاّ ليطاع بإذن الله} وهذا لا يخالف قوله: {وما أُمروا إلاّ ليعبدوا الله مخلصين له الدين} فطاعة من أمر الله بطاعته هي طاعة لله، ومن لم يطع الله ورسوله ومَن أَمر الله بطاعته لم يوحّد الله تعالى حق توحيده.
وعليه فطاعة أحدهما جاء على وجه الاستقلال، والآخر على أنّه مظهر أمره سبحانه، وليس هذا بشرك أو مغالاة كما يدّعون، بل هو عين الإيمان وكمال الدين.
ذلك من قوله خارج من لفظ الأذان ـ جاز"(1).
|
وهذا يعني أنّ هذا التفسير لحي على خير العمل كان سائداً في لسان المتشرعة منذ زمن أهل البيت وحتّى يومنا هذا.
وقد أفتى القاضي ابن البرّاج باستحباب ذكر هذا التفسير، فقال: ويستحب لمن أذّن أو أقام أن يقول في نفسه عند «حيّ على خير العمل»: "آل محمّد خير البرية"، مرتين(2).
|
وكون عليّ (عليه السلام) هو المراد من «حيّ على خير العمل»، والنبيّ من "حيّ على الفلاح"، وطاعة الرب وعبادته من "حيّ على الصلاة"، فيه من وجوه البلاغة ما لا يخفى، إذ فيه من انواع البديع ما يسمّى بالتلميح، وهو أن يشار في الكلام إلى آية من القرآن أو حديث مشهور أو شعر مشهور أو مثل سائر أو قصة أو معنى معروف، من غير ذكر شيء من ذلك صريحاً. وأحسنه وأبلغه ما حصل به زيادة في المعنى المقصود.
قال الطيبي في التبيان: ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْض وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} قال جارالله الزمخشري: قوله: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} فيه دلالة على تفضيل محمّد (صلى الله عليه وآله) وهو خاتم الأنبياء، وأنّ أمته خير الأمم، لأنّ ذلك مكتوب في الزبور، قال تعالى {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}، |
____________
1- رسائل المرتضى 1: 279، مسأله 17، وجواهر الفقه لابن البراج: 257 مسألة 15.
2- المهذب لابن البراج 1: 90 باب الأذان والإقامة وأحكامهما.
قال: وهو محمّد (صلى الله عليه وآله) وأمته(1).
|
فهنا ألمح الله سبحانه وتعالى لعباده بأن الصلاة له لا لغيره، وأنّ الفلاح الذي قامت به الصلاة هو اتباع رسول الله محمّد (صلى الله عليه وآله)، لا الاجتهاد مقابل النص، وان خير العمل هو الإيمان بالإمامة والولاية لعلي (عليه السلام) التي هي امتداد للنبوة والتوحيد، وبها قوام العبادات التي عمودها الصلاة.
وهناك عشرات إن لم تكن مئات الأدلّة على أنّ خير العمل ولاية عليّ، وان ضربته يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين، وأنّ الاعمال لا تُقبل إلاّ بولايته، ومعان أخرى متّصلة بهذا الموضوع. وقولنا في الأذان «حيّ على خير العمل» فيه تلميح لكل تلك المعاني التي صدع بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حق عليّ بن أبي طالب سلام الله عليه.
والواقع أن كون أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب هو خير البشر بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنّما هو معنىً قرآني نطقت به آية من سورة "البيّنة" المباركة، وصرّح به النبيّ (صلى الله عليه وآله) في تفسير الآية، وتداولته المصادر السنيّة، وكان هذا المعنى ممّا آمن به كبار من الصحابة المعروفين، حتّى صار في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله) جزءً من الثقافة الإيمانيّة القرآنية السائدة.
فقد روى الطبري بإسناده عن محمّد بن عليّ الباقر لما نزل قوله تعالى {أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيِّةِ} قال النبيّ: أنت يا عليّ وشيعتك(2).
____________
1- انوار الربيع 4: 266. ومن هذا الباب تلميح أبي العلاء المعري للشريف المرتضى بقصيدة المتنبي: لك يا منازل في القلوب منازل. انظر: أنوار الربيع 4: 292 ـ 293. هذا وقد أخذ الطيبي والزمخشري هذا عن تفسير النسفي 2: 290 سورة الاسراء.
2- تفسير الطبري 30: 264، ورواه السيوطي في الدر المنثور 6: 379، والحسكاني في شواهد التنزيل 2: 459 ـ 473 ح 1125 ـ 1148 بأسانيد وطرق كثيرة.
وغيرها من عشرات الطرق والأسانيد عن الصحابة والتابعين.
وبعد كلّ هذا تعلم أنّ قول "محمّد وآل محمّد خير البرية" أو "محمّد وعليّ خير البشر" عند الحيعلة الثالثة أو بعدها إنّما هو توضيح لمعناها الذي حاول الحكام كتمه، وأن هذا التوضيح والتفسير ما هو إلاّ استلهام من نصوص القرآن والسنّة، وسيرٌ على الخطوات الصحيحة التي رسمها رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأمته.
وستعلم بما لا مزيد عليه ـ في الباب الثالث من هذه الدراسة "اشهد أن عليّاً ولي الله بين الشرعية والابتداع" ـ أن إتيان الأئمّة: وأتباعهم بهذه العبارات ما هو إلاّ تفسير لمعنى الحيعلة الثالثة، وهو من قبيل الإتيان بتفسـير بعض الآيات تفسـيراً مرتبطاً بنصّ الآية ونسقها، وهذا النوع من التفسير ممّا تحفل به كتب الفريقين بلا أدنى ريـب(2)، وهو التفسير المقبول الذي اصطلح على تسميته البعض بـ "التفسير السِّياقي".
____________
1- الفردوس 3: 62 ح 4175، وانظر ترجمة الإمام عليّ لابن عساكر 2: 457 ح 989 بأسناده عن عائشة.
2- انظر: قراءه عائشة، وحفصة، وأم سلمة للآية {حافظوا على الصلوات والصلاةِ الوُسْطى} هكذا (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين).
وحديث عائشة موجود في صحيح مسلم، كتاب المساجد، باب الدليل لمن قال: الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، وسنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب وقت صلاة العصر، وسنن الترمذي، كتاب التفسير، تفسير سورة البقرة، وسنن النسائي، كتاب الصلاة، باب المحافظة على صلاة العصر، وموطأ مالك، كتاب الصلاة، باب صلاة الوسطى، وتفسير الآية في الدر المنثور 1: 302 و303، وفي فتح الباري 9: 265، ومسند أحمد 6: 73 و878 منه.
أما حديث حفصة فانظر فيه: موطأ مالك كتاب الصلاة، باب الصلاة الوسطى، ومصنف عبدالرزاق، كتاب الطهارة، باب صلاة الوسطى ح 2202، وتفسير الطبري 2: 343، والدر المنثور 1: 302، والمصاحف لابن أبي داود: 85 ـ 86.
أما حديث أُم سلمة، فانظر فيه: الدر المنثور 1: 303، والمصاحف لابن أبي داود: 87.
وقد قرأ ابن عباس وابن مسعود وأبيّ بن كعب وعلي بن أبي طالب قوله تعالى {فما استمتعتم به منهنّ فاتوهنّ أجورهنّ إلى أجل مسمى}.
وانظر: قراءة ابن عباس في المعجم الكبير 10: 320، والسنن الكبرى 7: 205، والمستدرك للحاكم 2: 305، والجامع لاحكام القرآن للقرطبي 5: 130، والكشاف 1: 519.
وفي قراءة ابن مسعود. انظر نيل الأوطار 6: 274، وشرح النووي على صحيح مسلم 6: 118.
وفي قراءة أبي بن كعب. انظر جامع البيان للطبري 5: 19، والدر المنثور 2: 139. وهي قراءة علي كذلك.
الفصل الرابع
حيّ على خير العمل
تاريخها العقائدي والسياسي
هذا الكلام قد يكون له مساغ لو ضربنا بمعطيات التاريخ عرض الجدار ; إذ الموقف تجاه المتغيّرات في التاريخ والحديث، وما فعلته ريشة الحكام بالنصوص والموازين، وخنقهم لكلّ ما هو أصيل مما لا يعجبهم، وخصوصاً بعد أن اتّضح لنا دور الأمويين في التحر يف والتعتيم، كلّ ذلك يدلّك على سرّ انحسار مثل نصوص الحيعلة الثالثة في مدرسة الخلفاء.
بل إن تصر يح الإمام الباقر والإمام زيد وغيرهما بأن عمر بن الخطاب كان وراء رفع «حيّ على خير العمل» إنّما ينم عن الظروف القاسية العصيبة التي جعلت المعاجم الحديثية السنية تكاد تخلو من أمثال هذه الأحاديث رغم ثبوتها على عهد رسول الله ; فرأينا أنّه لا محيص من الرجوع إلى التاريخ، للوقوف على
إنّ ثبوت «حيّ على خير العمل» لم يقتصر على العلويين ـ حسنيين كانوا أم حسينيين ـ بل تعدّاهم إلى بعض أهل السنة والجماعة، وقد مرّ عليك ما كان بأيديهم من بقايا هذا الأذان الأصيل.
ومن المعلوم أنّ المسلمين انقسموا بعد وفاة رسول الله إلى نهجين:
الأوّل: نهج الصحابة.
والثاني: نهج أهل البيت.
وعُرف النهجان بالتخالف فيما بينهما في كثير من المسائل، بحيث تجاوز حدَّ النزاع حول الإمامة والخلافة ليشمل كافّة مجالات الشريعة وأحكامها.
وبمعنى آخر: إنّ الخلاف الحاصل بين النهجين قد تجاوز الصعيد السياسيّ ليشمل أصعدة أخرى فكريّة وعقائدية واجتماعية. وفي حال اعتبار مصدر تشريع الأحكام في الفقه من الأُمور المهمّة والحسّاسة جدّاً، فلا عجب أن ترى بين قادة النهجين أحكاماً فقهيّة متضادّة، قد تصل إلى حدّ التناقض في المسألة الواحدة، فتجد ما يقوله عمر بن الخطاب يخالف ما يقوله عليّ بن أبي طالب تماماً، فعلى الرغم من التزام وتعبّد عليّ (عليه السلام) بمنهج رسول الله في جواز المتعة مثلاً، ترى اجتهاد عمر شاخصاً أمامك في قبال شريعة رسول الله، محرّما للمتعتين، قائلاً: "أنا أُحرمهما وأُعاقب عليهما".
لقد أخذ أهلُ السنّة الكثيرَ من فقههم من مجتهدي الصحابة الاوائل،
وإيماناً منا بضرورة دراسة ملابسات مثل هذه الأمور في الشريعة ورفع الستار عنها، خصصنا هذا الفصل كي نؤكّد على أن الصراع حول جزئية «حيّ على خير العمل» بين الطالبيين والنهج الحاكم له جذوره وأصوله العقائدية والتاريخية، ولم يكن صراعاً سياسياً بحتاً، وهذا إن دّل على شيء فإنما يدّل على عمق الخلاف بين الفريقين.
إذ أنّ استمرار الصراع العقائدي السياسي لمدة طويلة من الزمن ينبئ عن وجود أصل شرعي مُختلَف فيه عندهم.
ولمّا كان النهج الحاكم ـ على مرّ العصور ـ يدعو إلى «الصلاة خير من النوم» تبعاً للخليفة الثاني والأمويين من بعده، ولمّا كان الطالبيون لا يؤمنون بشرعية هذا الجزء، فمن المؤكد أن يكون عدم إتيان الحفّاظ والمحدّثين بما يدل على شرعيّة «حيّ على خير العمل» في الصحاح والسنن قد كان خاضعاً لأمور سياسية.
إنّ الطالبيّين قد وقفوا أمام مثل هذه الهجمات بكلِّ قوّة، وبذلوا كلّ ما يمكنهم في التعبير عن عدم الرضوخ أمام تغيير السنّة، وقد كلّفهم ذلك الكثير الكثير، وتحمّلوا المصاعب العظام من أجل الحفاظ على سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومنها الإتيان بـ «حيّ على خير العمل» في أذانهم. وقد جرت بين الطرفين مناوشات كلامية
ومن يتصفّح التاريخ يجد بين طيّاته صوراً حيّة لمدى قوّة تمسّك الطالبيّين بهذا الجزء من الأذان، حتّى وصلت الحال في بعض الفترات إلى أن يكون هو الشعار المحرِّك للثوار والثورة في مراحل مختلفة من التاريخ.
لقد تمسّك الطالبيّيون بـ «حيّ على خير العمل» وقدّموا قرابين نفيسة من أجل إبقائها سنّة حتّى صارت شعاراً للشيعة في كلّ الأصقاع، وصبغة عقائديّة يُميَّزون بها عن غيرهم، وقد استمدّوا العزم من مواقف أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) الذي قال حين سمع أذان ابن النبّاح بـ «حيّ على خير العمل»: "مرحباً بالذي قال عدلاً، وبالصلاة مرحباً وسهلاً"(1).
وقد تجلّت مواقف الشيعة بوضوح في موقف الحسين بن عليّ ـ صاحب فخّ ـ وغيره من الطالبيين(2) الذين أصرّوا على إعلانها جهاراً في الأذان.
____________
1- من لا يحضره الفقيه 1: 288 ح 890، وانظر: كتاب الأذان بحيّ على خير العمل: 48، 50 للحافظ العلوي.
2- وإليك مجمل الحركات الشيعيّة في العصر العباسي الأول " 132 ـ 232 ":
1. حركة محمّد النفس الزكيّة في المدينة سنة 145 هـ، في عهد المنصور العباسي.
2. حركة إبراهيم ـ أخي النفس الزكية ـ في البصرة سنة 145 هـ.
3. حركة الحسين بن علي (صاحب فخّ) في المدينة سنة 169 هـ، في عهد الخليفة الهادي.
4. حركة يحيى بن عبدالله ـ أخي النفس الزكيّة ـ في بلاد الديلم سنة 175 هـ، في عهد هارون الرشيد.
5. حركة إدريس بن عبدالله ـ أخي النفس الزكيّة ـ في بلاد المغرب سنة 172 هـ، في عهد الرشيد.
6. حركة محمّد بن إبراهيم وأبي السَّرايا في الكوفة سنة 199 هـ، في عهد المأمون.
7. حركة محمّد بن جعفر الصادق في مكة سنة 200 هـ، في عهد المأمون.
8. حركة أبي عبدالله (أخي أبي السرايا) في الكوفة سنة 202 هـ، في عهد المأمون.
9. حركة إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمّد عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب في اليمن سنة 200 هـ، في عهد المأمون.
10. حركة عبدالرحمن بن أحمد بن عبدالله بن محمّد بن عمر بن عليّ بن أبي طالب في اليمن سنة 207 هـ، في عهد المأمون.
11. حركة محمّد بن القاسم بن عمر بن عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب في خراسان سنة 219 هـ، في عهد المعتصم.
إنّ متابعة السير التاريخيّ للأذان وما آل إليه في «حيّ على خير العمل» يكشف لنا عن أُمور عديدة متمادية الأطراف ترجع جذورها إلى عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله). ويمكن تلمّس ذلك بوضوح من خلال دراسة التاريخ والسيرة والحديث، وهذه المسألة من الأهميّة بمكان، بحيث إنّك كلّما بحثت في مسألة من مسائلها تفتّحت لك أبواب مسائل أُخرى ذات ارتباط عميق بها، ولا يمكنك تركها أو التهاون بها، فالمسألة أكبر من كون «حيّ على خير العمل» شعار الشيعة و«الصلاة خير من النوم» شعار السنّة.
صحيح أنَّ الحركات التغييريّة التي قادها الشيعة عبر فترات التاريخ المختلفة تُبيِّنُ أنَّهم قد أظهروا مسألة «حيّ على خير العمل» في الأذان كعنصر تحدٍّ وتعاملوا معها كشعار لهم ـ كما حصل في الدولة الفاطميّة في مصر، والدولة الزيدية في طبرستان، والبويهية في بغداد، والحمدانية في حلب ـ إلاّ أنَّ ذلك لا يتجاوز ظاهر المسألة.
ذلك أنّ مصادر الحديث والتاريخ والسيرة تُظِهر لنا بأنّ «حيّ على خير العمل» لها جذور وأصالة شرعيّة، فهي أوسع من أن تتضيق في زاوية كونها شعار