الصفحة 17

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه الذي جعل الكائنات مظهراً لأسمائه، والحمد جامعاً لكتابه، والبسملة مفتاحاً لحمده، والنقطة منطلقاً لبسملته.

البسملة: مصدر انتزاعي من قوله تعالى: {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}، كالحوقلة من: {لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلاّ بِاللّهِ العَلِيِّ العَظِيمِ}.

وممّا تعارف عليه الناس أنّهم في بداية أعمالهم ربما يقرأونها باسم عزيز من أعزّائهم أو كبير من كبرائهم، ليكون ذلك العمل مباركاً متشرّفاً باسمهم، كما يفعلون ذلك في التسمية، فربما يسمّى الولد باسم الوالد أو يكنّى به ـ كما يستحبّ ذلك ـ ليحيى ذكر الوالد ولا ينسى، وقد جرى كلام اللّه في البسملة هذا المجرى فابتدأ كلامه المقدّس باسمه جلّ وعلا، ليكون ما فيه اسمه متعلّقاً به، ويتأدّب عباده بأدبه، فيبدأون باسمه في أفعالهم وأعمالهم، حتّى لا تكون مبتورة ومقطوعة من البركة والخير المستمرّ الثابت، ولا تكون هالكة باطلة; لأنّها باسم اللّه الذي لا يهلك ولا يزول، فهو السرمدي الأبدي. وكلّ ما ليس لوجهه الكريم فهو هالك وباطل ويكون هباءً منثوراً، وإنّما يبقى اللّه وما فيه اسم اللّه.

وفي الخبر المشهور عند الفريقين، عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، قال: «كلّ أمر

الصفحة 18
ذي بال لم يبدأ فيه باسم اللّه فهو أبتر»، والأبتر هو المنقطع الآخر الذي لا بقاء فيه فهو هالك وزائل لا محالة.

واللّه: اسم الجلالة علم للذات الواجب الوجود لذاته المستجمع لجميع الصفات الكمالية والجلالية.

وعن أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «اللّه: معناه المعبود الذي يأله فيه الخلق ويؤله إليه، واللّه هو المستور عن درك الأبصار، المحجوب عن الأوهام والخطرات».

وقال الإمام الباقر (عليه السلام): «معناه: المعبود الذي أله الخلق عن درك ماهيّته والإحاطة بكيفيّته».

وقال الإمام الكاظم (عليه السلام): «معناه: استولى على ما دقّ وجلّ».

وقال الإمام العسكري (عليه السلام): «هو الذي يتألّه إليه عند الحوائج والشدائد كلّ مخلوق عند انقطاع الرجاء من كلّ من دونه»(1).

ويقول العلاّمة الطباطبائي في تفسيره القيّم (الميزان): «وأمّا لفظ الجلالة، فاللّه أصله الإله حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال، وإله من أله الرجل يأله بمعنى عبد، أو من أله الرجل أو وله الرجل أي تحيّر، فهو فِعال ـ بكسر الفاء ـ بمعنى المفعول، ككتاب بمعنى المكتوب، سمّي إلهاً لأنّه معبود أو لأنّه ممّا تحيّرت في ذاته العقول، والظاهر أنّه عَلَم بالغلبة، وقد كان مستعملا دائراً في الألسن قبل نزول القرآن يعرفه العرب الجاهلي، كما يشعر به قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّهُ}(2)،

____________

1- الروايات من ميزان الحكمة 1: 132.

2- سورة الزخرف، الآية 87.


الصفحة 19
وقوله تعالى: {فَقالُوا هذا لِلّهِ وَهذا لِشُرَكائِنا}(1)، وممّا يدلّ على كونه عَلَماً أنّه يوصف بجميع الأسماء الحسنى وسائر أفعاله المأخوذة من تلك الأسماء من غير عكس، فيقال: اللّه الرحمن الرحيم، ويقال: رحم اللّه وعلم اللّه ورزق اللّه، ولا يقع لفظ الجلالة صفة لشيء منها، ولا يؤخذ منه ما يوصف به شيء منها.

ولمّا كان وجوده سبحانه وهو إله كلّ شيء، يهدي إلى اتّصافه بجميع الصفات الكمالية، كانت الجميع مدلولا عليها به بالالتزام، وصحّ ما قيل: أنّ لفظ الجلالة اسم للذات الواجب الوجود المستجمع لجميع صفات الكمال، وإلاّ فهو عَلَم بالغلبة لم تعمل فيه عناية غير ما يدلّ عليه مادّة إله.

وأمّا الوصفان الرحمن الرحيم: فهما من الرحمة وهي وصف انفعالي وتأثّر خاصّ يلمّ بالقلب عند المشاهدة من يفقد أو يحتاج إلى ما يتمّ به أمره، فيبعث الإنسان إلى تتميم نقصه ورفع حاجته، إلاّ أنّ هذا المعنى يرجع بحسب التحليل إلى الاعطاء والإفاضة لرفع الحاجة، وبهذا المعنى يتّصف سبحانه بالرحمة. والرحمن فعلان صيغة مبالغة تدلّ على الكثرة، والرحيم فعيل صفة مشبّهة تدلّ على الثبات والبقاء، ولذلك ناسب الرحمن أن يدلّ على الرحمة الكثيرة المفاضة على المؤمن والكافر، وهو الرحمة العامة، وعلى هذا المعنى يستعمل كثيراً في القرآن، قال تعالى: {الرَّحْمنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى}(2)، وقال: {قُلْ مَنْ كانَ في الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدَّاً}(3)، إلى غير ذلك، ولذلك أيضاً ناسب الرحيم أن يدلّ على

____________

1- سورة الأنعام، الآية 136.

2- سورة طه، الآية 5.

3- سورة مريم، الآية 75.


الصفحة 20
النعمة الدائمة والرحمة الثابتة الباقية التي تفاض على المؤمن كما قال تعالى:

{وَكانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيماً}(1)، وقال تعالى: {إنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}(2) إلى غير ذلك، ولذلك قيل: إنّ الرحمن عام للمؤمن والكافر ـ في الدنيا ـ، والرحيم(3) خاص بالمؤمن ـ في الدنيا والآخرة ـ»(4).

وقال في معنى الإسم: وأمّا الإسم: فهو اللفظ الدالّ على المسمّى مشتقّ من السمة بمعنى العلامة، أو من السموّ بمعنى الرفعة ـ والعلوّ(5) ـ، وكيف كان

____________

1- سورة الأحزاب، الآية 43.

2- سورة التوبة، الآية 117.

3- في النهاية: في أسماء اللّه تعالى (الرحمن الرحيم): وهما اسمان مشتقّان من الرحمة، مثل ندمان ونديم، وهما من أبنية المبالغة، ورحمان أبلغ من الرحيم، والرحمن خاص للّه لا يسمّى به غيره ولا يوصف، والرحيم يوصف به غير اللّه تعالى، فيقال: رجل رحيم، ولا يقال: رحمن.

وقيل: الرحمة على قسمين: امتنانية ووجوبية، فالامتنانية هي الرحمة المفيضة للنعم السابقة على العمل، وهي التي وسعت كلّ شيء، وأمّا الوجوبية فهي الموعودة للمتّقين والمحسنين في قوله تعالى: (فَسَأْكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونِ)، (إنَّ رَحْمَةَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ الُمحْسِنِينَ)، وهي داخلة في الامتنانية أيضاً; لأنّ الوعد بها على العمل محض المنّة، وتقديم الرحمن على الرحيم من تقديم العامّ على الخاصّ.

4- الميزان 1: 16.

5- الإسم مشتقّ من السموّ بمعنى العلوّ والرفعة عند البصريين، ومن الوسم بمعنى العلامة والدلالة عند الكوفيين، ولكلّ منهما وجه، وقيل: الأنسب بالساحة الاُلوهية هو الأوّل.

وأمّا حذف الألف لفظاً عند دخول الباء فلكونها همزة وصل، وهي لا تثبت في الدرج، وحذفت خطأ لكثرة الاستعمال واُبدلت منها لطول البسملة، وقيل: إنّما تسقط الألف خطّـاً لا لفظاً من البسملة بشرطين:

الأوّل: إذا اُضيف إلى لفظ (اللّه) ولهذا ثبتت في (باسم ربّك).

والثاني: أن تكون قبلهما الباء، ولمثلهما حذفت في (بسم اللّه).


الصفحة 21
فالذي يعرفه منه اللغة هو اللفظ الدالّ، ويستلزم ذلك أن يكون غير المسمّى، وأمّا الاسم بمعنى الذات مأخوذاً بوصف من أوصافه، فهو من الأعيان لا من الألفاظ، وهو مسمّى الاسم بالمعنى الأوّل، كما أنّ لفظ العالم (من أسماء اللّه تعالى) اسم يدلّ على مسمّاه وهو الذات مأخوذة بوصف العلم، وهو بعينه اسم بالنسبة إلى الذات الذي لا خبر عنه إلاّ بوصف من أوصافه ونعت من نعوته، والسبب في ذلك أنّهم وجدوا لفظ الاسم موضوعاً للدالّ على المسمّى من الألفاظ، ثمّ وجدوا أنّ الأوصاف المأخوذة على وجه تحكي عن الذات وتدلّ عليه حالها حال اللفظ المسمّى بالاسم في أنّها تدلّ على ذوات خارجية، فسمّوا هذه الأوصاف الدالّة على الذوات أيضاً أسماء، فأنتج ذلك أنّ الاسم كما يكون أمراً لفظياً كذلك يكون أمراً عينياً، ثمّ وجدوا أنّ الدالّ على الذات القريب منه هم الاسم بالمعنى الثاني المأخوذ بالتحليل، وأنّ الاسم بالمعنى الأوّل إنّما يدلّ على الذات بواسطته، ولذلك سمّوا الذي بالمعنى الثاني إسماً، والذي بالمعنى الأوّل اسم الاسم، هذا ولكن هذا كلّه أمر أدّى إليه التحليل النظري ولا ينبغي أن يحمل على اللغة، فالاسم بحسب اللغة ما ذكرناه.

وقد شاع النزاع بين المتكلّمين في الصدر الأوّل من الإسلام في أنّ الإسم عين المسمّى أو غيره، وطالت المشاجرات فيه، ولكنّ هذا النوع من المسائل قد اتّضحت اليوم اتّضاحاً يبلغ حدّ الضرورة، ولا يجوز الاشتغال بها بذكر ما قيل

الصفحة 22
أو ما يقال فيها، والعناية بإبطال ما هو الباطل وإحقاق ما هو الحقّ فيها، فالصفح عن ذلك أولى.

وجاء في جامع الجوامع(1): أصل الاسم سموٌ، لأنّ جمعه أسماء، وتصغيره سميّ. (اللّه) أصله (إله) فحذفت الهمزة وعوّض عنها حرف التعريف، ولذلك قيل في النداء: (يا ألله) بقطع الهمزة، كما يقال: (يا إله)، ومعناه أنّه الذي يحقّ له العبادة، وإنّما حقّت له العبادة لقدرته على اُصول النعم، فهذا الاسم مختصّ بالمعبود الحقّ، لا يطلق على غيره، وهو اسم غير صفة; لأنّك تصفه فتقول (إله واحد)، ولا تصف به، فلا تقول: (شيء إله). و (الرحمن) فعلان من رحم، كغضبان. و (الرحيم) فعيل منه كعليم، وفي الرحمن من المبالغة ما ليس في الرحيم، ولذلك قيل: الرحمن بجميع الخلق، والرحيم بالمؤمنين خاصة، ورووا عن الصادق (عليه السلام) أنّه قال: الرحمن اسم خاصّ بصفة عامة والرحيم اسم عامّ بصفة خاصة. وتعلّقت الباء في (بسم اللّه) بمحذوف تقديره: بسم اللّه أقرأ; ليختصّ اللّه بالابتداء به، كما يقال للمُعرس (باليمن والبركة) بمعنى أعرست، وإنّما قدّر المحذوف متأخّراً; لأنّهم يبتدئون بالأهمّ عندهم، ويدلّ على ذلك قوله: {بِسْمِ اللّهِ مُجْريها وَمُرسيها}.

وجاء في مجد البيان في تفسير القرآن(2): وأمّا (اللّه)، ففي الرواية السابقة بطرقها (واللّه إله كلّ شيء). وفي التوحيد عن الإمام العسكري (عليه السلام)، عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنّ رجلا قام إليه فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن

____________

1- جامع الجوامع 1: 15.

2- مجد البيان في تفسير القرآن: 228، بحث حول لفظة الجلالة.


الصفحة 23
{بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}، ما معناه؟ فقال: إنّ قولك (اللّه) أعظم اسم من أسماء اللّه عزّ وجلّ، وهو الاسم الذي لا ينبغي أن يسمّى به غير اللّه، ولم يتسمّ به مخلوق. فقال الرجل: فما تفسير قوله (اللّه)؟ قال (عليه السلام): هو الذي يتألّه إليه عند الحوائج والشدائد كلّ مخلوق عند انقطاع الأسباب من كلّ مَن سواه. ثمّ قال: وذلك أنّ كلّ مترئّس في هذه الدنيا ومتعظّم فيها، وإن عظم غنائه وطغيانه، وكثرت حوائج مَن دونه إليه، فإنّهم سيحتاجون حوائج لا يقدر عليها، فينقطع إلى اللّه عند ضرورته وفاقته، حتّى إذا كفي همّه عاد إلى شركه، أما تسمع اللّه عزّ وجلّ يقول: {قُلْ أرَأيْتُمْ إنْ أتاكُمْ عَذابُ اللّهِ أوْ أتَتْكُمُ السَّاعَةُ أغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بَلْ إيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إلَيْهِ إنْ شاءَ وَتَنْسُونَ ما تُشْرِكُونَ}.

وفيه أيضاً في حديث، أنّه قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «اللّه، معناه: المعبود الذي يأله فيه الخلق، ويؤله إليه، واللّه هو المستور عن درك الأبصار، المحجوب عن الأوهام والخطرات».

ثمّ قال: قال الباقر (عليه السلام): «اللّه، معناه: المعبود الذي أله الخلق عن درك ماهيّته والإحاطة بكيفيته، ويقول العرب: أله الرجل; إذا تحيّر في الشيء فلم يحط به علماً، ووله: إذا فزع إلى شيء ممّا يحذره ويخافه، والإله هو المستور عن حواسّ الخلق».

وفي مجمع البحرين: أنّ في الحديث: «اللّه، معنى يدلّ بهذه الأسماء، وكلّها غيره».

وفي التوحيد، بإسناده، عن الصادق (عليه السلام): «اللّه مشتقّ عن أله، وإله يقتضي مألوهاً».

وفي خطبة الرضا (عليه السلام): «له معنى الربوبية إذ لا مربوب، وحقيقة الإلهية

الصفحة 24
إذ لا مألوه».

ثمّ يقول في اشتقاق كلمة الجلالة وعلميتها وأنّ أصلها ما هو؟: إعلم أنّه لا خلاف في أنّ الألف واللام في لفظ الجلالة حرف تعريف في الأصل لا من أصل الكلمة، كما مرّ على ما صرّح به بعضهم، وذهب الأكثر إلى أنّ أصله (الإلاه). وجوّز سببويه أن يكون أصله لاهاً من لاه يليه: تستّر واحتجب، وقيل: بمعنى ارتفع، ويبعده كثرة دوران إله في الكلام، واستعمال إله في المعبود، وإطلاقه على اللّه، فهو حينئذ كلفظ الناس حيث أنّ أصله (الاُناس) فحذف منه الهمزة وعوّض منه الألف واللام، كما عن أبي علي النحوي، أو من دون تعويض كما ذكره غيره.

والإله مشتقّ من أله ـ بالفتح ـ إلاهة، أي: عبد عبادةً، على ما ذكره الجوهري ووافقه جماعة.

وعن المصباح: أله يأله ـ من باب تعب ـ إلهة، بمعنى عبد عبادة، وتألّه تعبّد، والإلاه المعبود، وهو اللّه سبحانه ثمّ استعاره المشركون لما عبد من دونه.

وأجود منه ما ذكره الجوهري من تعليل تسمية الأصنام بالآلهة، باعتقادهم أنّ العبادة تحقّ لها، وأسمائهم تتبع اعتقاداتهم، لا ما عليه الشيء في نفسه.

قيل: اتّفق القائلون بالاشتقاق على اشتقاقه ممّا ذكر، وأنّه اسم جنس كالرجل والفرس يقع على كلّ معبود بحقّ أو باطل، ثمّ غلب على المعبود بحقّ، كما أنّ النجم اسم لكلّ كوكب ثمّ غلب على الثريا. وكذا السنة على عام القحط، والبيت على الكعبة، والكتاب على كتاب سيبويه. وأمّا اللّه بحذف الهمزة فمختصّ بالمعبود وبالحقّ، لم يطلق على غيره، انتهى.

وقيل: (من أله ـ بالكسر ـ، أي: تحيّر). وذكر الجوهري أنّ أصله الوله،

الصفحة 25
وردّ بمخالفته لكثير من كلام أهل اللغة، والمناسبة ظاهر، إذ تحيّرت الأوهام وغمضت مداخل الفكر وعجزت العقول عن إدراكه.

وقيل: (من ألهت إلى فلان، أي: سكنت إليه). فالنفوس لا تسكن إلاّ إليه، والعقول لا تقف إلاّ لديه، {ألا بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ}(1).

وقيل: (من الوله، وهو ذهاب العقل، سواء فيه الواصلون إلى ساحل بحر العرفان، والواقفون في ظلمات الجهالة وتيه الخذلان).

وقيل: (من أله الفصيل، إذا اُولع باُمّه; لأنّ العبادة تتضرّع إليه في البليّات).

وعن الخليل ومتابعيه وأكثر الاُصوليين والفقهاء من العامة، أنّ: اسم الجلالة ليس بمشتقّ، واسم علم له سبحانه، واحتجّ لذلك بأنّه: لو كان مشتقّاً لكان معناه كلّياً لا يمنع نفس تصوّره عن وقوع الشركة فيه، فلا يكون (إلاّ اللّه) موجباً للتوحيد المحض، وبأنّ: الترتيب العقلي ذكر الذات ثمّ نعته بالصفات، وإنّا نقول: اللّه الرحمن الرحيم العالم القادر، ولا نقول العكس، فدلّ على أنّه اسم علم، وبأنّه لو كان صفة وسائر أسمائه صفات لم يكن للباري تعالى اسم، ولم يبق العرب شيئاً من الأشياء إلاّ سمّته، فكيف لم تسمّ خالق الأشياء ومبدعها، فهذا محال.

أقول: يظهر لي في المقام أنّ الإله الذي هو الأصل في (اللّه) على ما عرفت وصرّح به في الرواية المتقدّمة، ويظهر من سائر الروايات أيضاً هو: فعال بمعنى مفعول، كالكتاب بمعنى المكتوب، من أله بمعنى عبد، كما صرّح به جماعة، وأصل العبودية الخضوع والذلّ، كما صرّح به الجوهري، وربما فسّر بغاية التذلّل، ولعلّه لانصراف اللفظ إلى الفرد الكامل، فيكون الإله هو: المعبود الذي لأجله

____________

1- سورة الرعد، الآية 28.


الصفحة 26
يقع الخضوع والتذلّل الكامل، انتهى كلامه رفع اللّه مقامه.

ثمّ يذكر المصنّف القدير مطالب قيّمة وثقيلة ملؤها العلم والمعرفة في هذا الباب، لولا الخوف من الإطالة لتعرّضت إليها، إلاّ أنّ المقصود الاختصار، وغير هذا فاُوصي القرّاء الكرام بمطالعة هذا التفسير القيّم، ومن اللّه التوفيق.

ثمّ يقول تحت عنوان: (في حقيقة العبودية، وأنّ كلمة الجلالة مستجمع لجميع الصفات الكمالية): ثمّ إنّ التذلّل والخضوع لمعبوده لذاته وصفاته، فيكون المعبود مستحقّاً للخضوع له بذاته وصفاته، والعبد مستحقاً للاتصاف به لذاته، وهذا حقيقة العبادة، فإذا عرف ذاته بخواصّ الامكان ونقصانه، وعرف الحقّ باستجماعه لجميع الصفات الكمالية، انبعث له حال الخضوع قلباً، والطاعة له جوارحاً، وبهذه الملاحظة فاللّه هو الذات المستجمعة لجميع الصفات الكمالية، إذ لو فقد منها شيئاً لم يكن معبوداً بقول مطلق. ومن جملتها أن يكون مرتفعاً عن الخلق وعن مبلغ مداركهم، بحيث يحتجب عنها بغير حجاب، ومستوراً عن درك الأبصار، ومحجوباً عن الأوهام والخطرات، فيأله الخلق عن إدراك حقيقته، فيناسب جملة من مبادي الاشتقاق السابقة، ويوافق جملة من الروايات المتقدمة، ـ ثمّ يذكر المصنّف وجه ذلك ومطالب اُخرى: ثمّ يقول قدّس سرّه الشريف ـ: ومن هنا يتبين وجه التعميم في الحاجة والمحتاج في الرواية الاُولى، وتفصيله بإثبات انحصاره فيه سبحانه، وأنّ مَن سواه لا يقدر على الكلّ وإن قدر على بعض، بل هو محتاج أيضاً، والمعبود في كلّ جهة لا بدّ وأن يكون غنياً من كلّ جهة; إذ عبادة المحتاج للمحتاج سفاهة، وهذا بحسب ظاهر النظر، وإلاّ فالمحتاج إليه عند العارف ليس إلاّ الحقّ سبحانه، وهو من دونهم وليّ الإعطاء والمنع، وجميع ما سواه يلتجأ به، إمّا دائماً كالعارف، وإمّا عند الحاجة كالمؤمنين،

الصفحة 27
وإمّا عند الاضطرار كالكفّار، كما يشهد له الآية والرواية، وما رواه في التوحيد بعد ما قدّمناه في صدر ترجمة البسملة قال: (وهو ما قال رجل للصادق (عليه السلام): يا بن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، دلّني على اللّه ما هو؟ فقد أكثر عليّ المجادلون وحيّروني. فقال له: يا عبد اللّه، هل ركبت سفينة قطّ؟ قال: نعم. قال: فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟ قال: نعم. قال: فهل تعلّق قلبك هنالك أنّ شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك؟ قال: نعم. قال الصادق (عليه السلام): فذلك الشيء هو اللّه القادر على الانجاء حيث لا منجي، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث).

والظاهر أنّ السبب في ذلك رجوع الكافر حال اضطراره إلى نظرته المحجوبة، وظهور تلك المعرفة وفعليته.

ولا يخفى عليك أنّ الالتجاء والاستغاثة والسؤال والفزع كلّها من شؤون العبودية والخضوع والتذلّل، بل هي تذلّلات وخضوعات حالية، كما أنّ الاطاعة بالجوارح عبودية، بل أغلب النفوس لا تخضع ولا تتذلّل إلاّ عند الحاجة {إنَّ الإنْسانَ لَيَطْغى أنْ رَآهُ اسْتَغْنى}.

فالعبودية أصلها الخضوع والتذلّل، ولها أغصان وفروع وآثار يصحّ إطلاق العبودية على كلّ منها أيضاً. ألا ترى أنّ السجدة عبادة جوارحية، ولها معنىً قلبيّ هو السجدة القلبية؟

وبما فصّلنا يتّضح أنّ اللّه هو أعظم اسم من أسماء اللّه سبحانه، الحاكية عن صفات الذات وصفات الأفعال في مقام الظهور، باعتبار دلالته على المعبودية المطلقة المشتملة على جميع شؤونها من صفات الذات وصفات الأفعال، والعبودية مساوقة لعالم الإمكان، وكلّ حادث عبد {إنْ كُلُّ مَنْ في السَّماواتِ وَالأرْضِ

الصفحة 28
إلاّ أتى الرَّحْمنَ عَبْداً}، والعبودية وجهة العبد إلى سيّده، والعابد إلى معبوده، والرابطة والوسيلة، واللّه سبحانه معبود بذاته وصفاته وأفعاله وآثاره، ولو أغمض النظر عن واحد منها لم يكن معبوداً مطلقاً، فلو خرج عن مدلول كلمة الجلالة اسم من أسمائه الظاهرة لم يكن باعتباره معبوداً، فخرج مظاهر ذلك الاسم عن دائرة العبودية من حيث كونها مظاهر له، والمعبود المطلق مَن كان كاملا في ذاته وصفاته، باستجماعه جميع الصفات الجمالية والكمالية، الذاتية والفعلية، مرجواً عند كلّ ما يرجى، مخوفاً عند كلّ ما يخاف، مستحقاً للمحبوبية بجميع الوجوه والحيثيات، وللحياء منه بجميع الشؤون الموجبة لاستحقاق الحياء منه، متوحّداً في جميع ذلك، لا يشاركه في شيء منها غيره. فمدلول هذه الكلمة (اللّه) شاملة لمدلول كلّ اسم من الأسماء الظاهرة، فهو أعظم منها وأعمّ.

ومن هنا يتبيّن أنّه المقدّم عليها معنىً، فهو المستحقّ للتقديم لفظاً يوصف بها، ولا يجري وصفاً لشيء منها.

ثمّ يقول (قدس سره): وممّا ذكرنا ظهر فساد الاستدلال على أنّه اسم للذات، فيذكر وجه ذلك. وممّا فصّلنا ظهر اندراج سائر الاحتمالات في المشتقّ منه تحت ما ذكرنا، على وجه يظهر للمتأمّل فيما ذكر، فلا نطيل ببيانها، ووجه الجمع بين الأخبار الواردة في ذلك، وانطباقها على القواعد اللفظية، فلا تغفل.

ثمّ له بحث قيّم حول تفسير كلمة الجلالة باعتبار حروفها، مبتداً بقوله: وأمّا شرح الكلمة باعتبار حروفه، ففي التوحيد، بإسناده، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام)، بعد السؤال عن تفسير (اللّه) في ضمن تفسير البسملة، قال: الألف آلاء اللّه على خلقه من النعيم بولايتنا، واللام إلزام اللّه خلقه ولايتنا، قلت: فالهاء؟ قال: هوانٌ لمن خالف محمّداً وآل محمد صلوات اللّه عليهم، الحديث. ولعلّه أسقط منه

الصفحة 29
الألف واللام لخروجهما عن جوهر الكلام، أو أخذ اللام المشدّدة واحدة وأسقط الألف المتأخّرة عنه... ثمّ له بحث حول كلمتي الرحمن الرحيم مفصّلا، وأنّ مرتبة الرحمة متأخّرة عن مرتبة الاُلوهية، وأنّ الرحمن اسم خاصّ لصفة عامة، والرحيم اسم عام لصفة خاصة، وغير ذلك من المباحث النافعة والمفيدة، فراجع.