البحث الثاني
في أن الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيته في ما هو إمام فيه
وبرهانه من وجوه:
الأول: أن الإمام يجب أن يكون معصوما، وكل من كان كذلك وجب أن يكون أفضل من غير المعصوم.
أما المقدمة الأولى فقد مر بيانها، وأما الثانية فمعلومة بالضرورة.
الثاني: لو لم يجب كون الإمام أفضل من رعيته لكان إما أن يكون مساويا أو أنقص، والتالي بقسميه باطل فالمقدم مثله [ و ] إنما قلنا: أنه يستحيل أن يكون مساويا لأنه لو كان في رعية الإمام من هو مساو له فيما هو إمام فيه لما كان متعينا في الحاجة إليه، فلم يجب أن يوجد، وقد تعين في الحاجة إليه من بين سائر الأمة فوجب أن يكون موجودا، فوجب أن لا يكون فيهم مساو له فيما هو إمام فيه.
بيان الملازمة: أنه إذا ثبت أن هناك مساويا لكان قائما مقامه فيما هو إمام فيه، فلم تتعين الحاجة إليه، فلم يجب وجوده.
بيان بطلان التالي ما بينا أن الحاجة إليه معينة وأنه واجب أن يكون موجودا.
وأما أنه يستحيل أن يكون أنقص، فظاهر بطريق الأولى.
الرابع: لو جاز تقديم غير الأفضل لجاز إما تقديم المساوي أو الأنقص، والأول باطل لأن تقديم المساوي إن كان لا لأمر كان ذلك ترجيحا للممكن من غير مرجح وهو محال، وإن كان لأمر فهو إما أن يرجع إلى ذات الإمام فيكون في نفسه أرجح من غيره وقد فرضناه مساويا هذا خلف، أو إلى غيره مع أن نسبة غيره إليه وإلى من يساويه في الحكم بالتقديم على سواء فاختصاصه بالحكم دون الآخر يستدعي مخصصا آخر، والكلام فيه كالكلام في الأول، فيلزم إما التسلسل أو الترجيح من غير مرجح، والثاني، أيضا محال لأنك علمت في حد الإمامة أنها: رئاسة عامة لجميع الخلق في أمور الدين والدنيا، وذلك يقتضي أن يكون جميع المكلفين في محل الحاجة في طرقي الدين والدنيا إلى من تحققت هذه الرئاسة في حقه، فوجب حينئذ أن يكون الإمام أفضل من سائر الخلق فيما هو إمام فيه.
واعلم أنه قد دخل في هذه المسألة بحسب مقتضى البراهين المذكورة وجوب أن يكون الإمام أعلم الخلق وأشجعهم وأحلمهم وأكرمهم وأتقاهم وبالجملة سائر الكمالات، للمعنى المفهوم من الإمامة، وبالله التوفيق.
البحث الثالث
في أن الإمام يجب أن يكون عالما بكل الدين
مرادنا بذلك أنه عالم بالأحكام الكلية من الدين بالفعل وأما الأحكام الجزئية المتعلقة بالوقائع الجزئية فله ملكة أخذ تلك الأجزاء من القوانين الكلية من موادها متى شاء وأراد، ومعنى ذلك أنه يكون متمكنا من استنباط كل حكم في كل صورة صورة متى شاء.
وأطلق بعض أصحابنا القول بأنه يجب أن يكون عالما بكل الدين ولم يفصلوا، فإن كان مرادهم ما ذكرناه من التفصيل فهو حق، وإن كان المراد أنه يجب أن يكون عالما بجميع قواعد الشريعة وضوابطها وقوانينها، ثم بجزئيات الأحكام المتعلقة بالحوادث الجزئية التي يمكن وقوعها على سبيل التفصيل، فليس الأمر كذلك، وبرهان فساده: أن الجزئيات التي يمكن وقوعها كالمسائل الجزئية الواقعة في كل باب من أبواب الفقه والتي يمكن وقوعها غير متناهية، وما لا نهاية له يستحيل تعلق علم الانسان به على سبيل التفصيل دفعة، والمقدمتان نظريتان، وما كان محالا استحال أن يكون شرطا في صحة الإمامة، وبالله التوفيق.
البحث الرابع
في السبب الذي يتعين به الإمام
أجمعت الأمة على أن الانسان لا يصير إماما بمجرد أهليته للإمامة وأجمعت أيضا على أن المقتضي لتعيين الإمام ليس إلا أحد الأمور الثلاثة:
الأول: إما أن ينص عليه النبي أو الإمام.
الثاني: أن تختاره الأمة وتجتمع عليه.
الثالث: أن يدعو أهل الإمامة إلى نفسه بشرط أن يكون مباينا للظالمين آمرا بالمعروف عاملا به، ناهيا عن المنكر مجتنبا له، وهذا الإجماع إجماع عرضي ليس مقصودا بالقصد الأول من جميع الأمة، بل معناه أن أحدا من الأمة لم يذكر سببا رابعا لتعين الإمام.
اعلم أن الاتفاق من كل الأمة حاصل على كون السبب الأول - وهو النص من النبي أو الإمام - سببا إلى تعيين الإمام، واختلفوا في الطريقين(1) الباقيين، واتفقت الإمامية على إبطال أن يكون أحدها سببا. وذهب الأشعرية(2) وجمهور
____________
(1) في الأصلين: الطرفين.
(2) نسبة إلى أبي الحسن الأشعري المتوفى 320 هـ.
لنا في المسألة من الاستدلال أنواع ثلاثة:
أحدها: أن نبين فساد الاختيار والدعوة عقلا فيتعين أن السبب هو النص فقط.
الثاني: أن نبين أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يفوض أمر الإمامة إلى الاختيار والدعوة عقلا، فيتعين أن السبب [ النص ](5) وإن جاز ذلك عقلا.
الثالث: أن نبين أن النص وجد من الرسول (صلى الله عليه وآله)، فيكون الاختيار باطلا.
أما النوع الأول فمن وجوه:
الأول: أنا بينا أن الإمام يجب أن يكون معصوما، وذلك مما لا يصح معرفته بالاختيار والدعوة عقلا، فتعين أن السبب هو النص فقط.
الثاني: أنا بينا أن الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيته في كل ما هو إمام فيه، وذلك مما لا يمكن معرفته بالاختيار والدعوة.
____________
(1) أتباع واصل بن عطاء الذي اعتزل مجلس درس الحسن البصري. بهجة الآمال 1: 84.
(2) بدأوا بالخروج على علي (عليه السلام) وافترقوا إلى أكثر من عشرين فرقة، بهجة الآمال 1:
105 - 110.
(3) الزيدية: القائلون بإمامة زيد بن علي بن الحسين (عليهم السلام)، والصالحية فرقة منهم. بهجة الآمال 1: 95.
(4) الأهوازي البصري البغدادي المعتزلي المتوفى في بغداد 306 هـ.
(5) كذا الأصلان، ولا يستقيم الكلام بدون [ النص ].
بيان الأول: أن الاختيار ليس لكل أحد بل لأهل الحل والعقد من الأمة الذين هم أقل الأمة عددا، وهؤلاء بالاتفاق غير معصومين، فبتقدير أن يختلفوا في إمامين مثلا فتعين كل فرقة إماما باختيارهم تتعادل الفرقتان، فأما أن يعمل باختيارهما، وهو باطل بالاتفاق، وإما أن يعمل بأحدهما، وهو تحكم محض، لأنه ترجيح فيه على الآخر. وإما أن ينتفي الاختياران فيكون ذلك إخلاء للزمان من الإمام.
وأما بيان الثاني فبالاتفاق، ولمثل هذا الدليل يبطل القول بالدعوة.
لا يقال على الأول: أنه لا امتناع في أن ينص الله تعالى على قوم بأعيانهم ثم يفوض اختيار العقل.
وعلى الثاني: أنا لا نسلم أن الإمام يجب أن يكون أفضل، وإن سلمناه لكن أفضل حقيقة. أو في الظاهر الأول ممنوع، والثاني مسلم، وكونه أفضل الخلق في الظاهر لا يتوقف على التنصيص بل يكفي فيه الاختيار كما في تولية الأمراء والقضاة، وإنما قلنا أنه يكفي أفضليته في الظاهر لما أنا قد اكتفينا بالظنون في الشهود وعدالة إمام الصلاة وأمر السيد عبده والزوج زوجته، فيجوز أن يكون هنا كذلك.
سلمناه لكن يجوز أن ينص الله تعالى على قوم كثيرين يكون كل واحد منهم أفضل أهل زمانه في الباطن، ثم إنه يفوض الاختيار في إمامتهم إلينا.
لأنا نجيب عن الأول: أنا بينا أن العصمة تستلزم الأفضلية، والأفضلية تستلزم التعيين، وحينئذ لا حاجة إلى تفويض الاختيار إلى الأمة، ويظهر اعتباره بتقدير اختيارهم غير الأفضل، وقد سبق بيان ذلك.
قوله: " يجوز مع نص الله تعالى على أفضلية قوم أن يفوض إلينا اختيارهم ".
قلنا: لا نسلم، فإنا بينا أن الأفضلية تستلزم التعيين فيكون الاختيار هدرا، وبالله التوفيق.
النوع الثاني: في الاستدلال، بيانه من وجوه:
الأول: أن الضرورة قاضية بعد الخوص في أمر الدين أن السياسة هي التي يقوم عليها الدين ولا يتم بدونها، ثم إنه قد علم من حال الرسول (صلى الله عليه وآله) أنه كان يسوس أمته كما يسوس الوالد أولاده الصغار، ومصداق ذلك قوله (صلى الله عليه وآله): " إنما أنا لكم كالوالد الشفيق " أو قال: " أنا لكم كالوالد لولده فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها "(1)، ثم إذا كان الوالد تجب عليه الوصية بأولاده الصغار عند موته فلأن يجب عليه أن يوصي بأمته إلى أحد يقوم فيهم مقامه وينفذ فيهم أمر الدين ويحفظه يكون أولى.
الثاني: أنه (عليه السلام) قد شاع وتظاهر عنه مبالغته في بيان أحكام الشرع من
____________
(1) الحديث 2580 من الجامع الصغير للسيوطي عن مسند أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجة.
الثالث: أن الله تعالى ما قبض نبيه إليه حتى أنزل عليه * (اليوم أكملت لكم دينكم) *(2). ولا يكون مكملا للدين إلا وقد بين كل ما يتعلق به، والإمامة إن لم تكن أعظم أركان الدين فلا شك أنها من الأمور المهمة في الدين، فإذن من الواجب أن يكون تعالى قد بين أمر الإمامة إما في كتابه أو على لسان نبيه (صلى الله عليه وآله)، وذلك يقتضي وجود النص.
لا يقال على الأول: أنا لا نسلم: أنه يلزمه في أمته كل ما يلزم الوالد في حق أولاده الصغار. لأنه ما كان يلزمه دفع الضرر عنهم ولا الانفاق عليهم وإن وجب ذلك على الوالد.
وعلى الثاني: أن الصحابة لما أجمعوا على صحة الاختيار وجب أن يكونوا عالمين بما دلهم على صحة الاختيار لانعقاد الإجماع لا على الدلالة.
ثم الذي يدل على جواز الاختيار وجهان:
أحدهما: قوله (عليه السلام): " إن وليتم أبا بكر وجدتموه قويا في دين الله ضعيفا في بدنه، وإن وليتم عمر وجدتموه قويا في دين الله قويا في بدنه، وإن وليتم عليا وجدتموه هاديا مهديا "(3) وذلك إشارة إلى صحة الاختيار.
ما روي: أن المسلمين ولوا يوم مؤتة خالد بن الوليد ولم ينكر ذلك عليهم
____________
(1) كذا في النسختين، ولعله من باب الجري في الجدل.
(2) المائدة: 3.
(4) شرح النهج للمعتزلي 6: 51 و 52 عن الجوهري. وذيله في 11: 11 و 17: 171.
لأنا نجيب عن الأول: بأنا ما ادعينا أنه يلزمه في أمته كل ما يلزم الوالد مع أولاده، بل بينا أنه إذا كان قد وجب على الوالد أن يوصي بأولاده الصغار مع أن أمرهم جزئي من جزئيات أحوال الخلق فوصية الرسول (صلى الله عليه وآله) بأمته الذين هم كل الناس في الحقيقة يكون بطريق الأولى.
وعن الثاني: لا نسلم أن الإجماع حجة، سلمناه، ولكن لا نسلم على أن الإجماع انعقد على ذلك، فإن كثيرا من الصحابة لم يكن حاضرا، وكثير منهم لم يكن راضيا، وبالجملة فعليكم حصر الصحابة ليتم لكم الإجماع.
وأما الخبر الوارد في ذكر الشيخين فلا نسلم صحته، ثم إن سلمناه لكن لا دلالة فيه على صلاحيتهما للاختيار، فإن ذكر قوتهما في الدين لا يوجب صحة اختيارهما، فإن غيرهما من أكابر الصحابة كانوا أقوى منهما في الدين، فلو كانت القوة في هذين الأمرين موجبة للاختيار لما كانا أولى بالتعيين، بل نقول: إن هذا الخبر كأن فيه تنبيها عظيما للصحابة على وجوب نصب علي (عليه السلام) وتعينه دونهما، لأن مقصوده الأول إلى الإقامة(1) إنما هو هداية الخلق الطريق المستقيم ممن هو مهتد في نفسه، فإنه لا يصلح لمثل هذا الأمر إلا من كان كاملا في نفسه قادرا على تكميل غيره من الناقصين. فلذلك نبه الصحابة على وجوب اتباعه صلى الله عليهما بقوله: " هاديا مهديا " وإنما احتاج ها هنا إلى هذه الرموز لما يعلم أن أكثر الصحابة كانوا بطباعهم الحيوانية يرغبون عن علي (عليه السلام)، وتنفر قلوبهم منه، وهذا أمر ظاهر لو كانت لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها.
____________
(1) كذا في النسختين، ولعل الصواب: لأن المقصود الأول من الإمامة إنما هو....
وبهذا ظهر الجواب عن الاعتراض الثالث، وبالله التوفيق.
وأما النوع الثالث:
من الاستدلال فسنبينه إن شاء الله تعالى في تعيين الإمام.
احتج الخصم في إبطال النص بأن قال: لو نص الرسول (صلى الله عليه وآله) على الإمام بعده نصا جليا لكان ذلك بمشهد أهل التواتر أو لا يكون والتالي بقسميه باطل، فالمقدم كذلك، أما الملازمة فظاهرة، أما بطلان القسم الثاني من التالي، فلأنه يبطل أصل الحجة، وأما القسم الأول فلأنه لو كان كذلك لوجب اشتهاره بين الأمة كسائر المتواترات.
وإنما قلنا ذلك لأن تنصيص الرسول (صلى الله عليه وآله) على إمامة شخص معين (أمر عظيم، وكل أمر عظيم)(1) يقع بمشهد أهل التواتر فلأنه لا بد وأن ينتشر في أكثر الخلق، وكل خبر هذا شأنه فلأنه لا بد وأن يحصل العلم لسامعيه فهذا ادعاء بحت...(2) يصح بصحتها المطلوب.
____________
(1) عن هامش الأصل نسخة، أو هي مقتضى السياق ويأتي الإرجاع عليه.
(2) كلمة غير مقروءة في النسختين.
وإنما قلنا أن الأمر العظيم الواقع بمشهد الناس لا بد وأن ينتشر لأنا نعلم بالضرورة أن أهل الجمعة إذا انصرفوا عن المسجد وقد تنكس الخطيب عن المنبر مثلا فإنما يمتنع أن لا يخبروا الناس بذلك وأن تتوفر دواعيهم على نقله.
وإنما قلنا: أن الخبر الذي هذا شأنه يفيد العلم، لأن ذلك ضروري.
وإذا ثبتت هذه المقدمات لزم من وجود النص انتشاره وظهوره فيما بين الخلق كسائر المتواترات، فلما لم يكن كذلك علمنا كذبه.
والجواب: أنا سنبين إن شاء الله تعالى صحة النص الجلي على إمامة علي (عليه السلام) وأنه بلغ مبلغ التواتر، وحينئذ ينتفي الاختيار، وبالله التوفيق.
الباب الثاني
في تعيين الإمام
المقدمة
1 - في أن الإمام بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب (عليه السلام)
2 - في تعيين باقي الأئمة (عليهم السلام)
أما المقدمة، ففي تفصيل المذاهب في هذه المسألة، فنقول:
ذهب جمهور المعتزلة والأشعرية والخوارج والمرجئة(1): إلى أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم ينص على إمام بعده.
وقال قوم: إنه نص على إمام بعينه. ثم اختلفوا في ذلك المنصوص عليه، فقالت الشيعة: إنه نص على علي (عليه السلام). وقال قوم من الشذاذ: إنه نص على أبي بكر. وقال آخرون: إنه خص العباس بأقوال وأفعال تستلزم إنه الأحق بالإمامة دون غيره. والذين ذهبوا إلى القول بالنص على أبي بكر فمنهم من قال:
إنه نص خفي وهو تقديمه له في الصلاة وهذا القول محكي عن الحسن البصري.
ومنهم من قال: إنه نص جلي وهو قول جماعة من أصحاب الحديث. فهذا تفصيل المذاهب.
____________
(1) سبقت الإشارة إلى هذه الفرق إلا المرجئة، وهم القائلون بإرجاء القرار بشأن الفاسقين إلى يوم القيامة، وراجع بهجة الآمال 1: 110 - 113.
البحث الأول
في بيان أن الإمام بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب (عليه السلام)
وبيان ذلك بثلاثة أنواع من الأدلة:
النوع الأول: في النصوص الجلية، وهي ثلاثة:
الأول: النص المتواتر على إمامته، وهو قول النبي (صلى الله عليه وآله) مخاطبا لأصحابه:
" سلموا عليه بإمرة المؤمنين "(1).
الثاني: قوله وهو مشير إليه آخذ بيده: " هذا خليفتي فيكم من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا "(2).
الثالث: قوله (عليه السلام) يوم الدار وقد جمع بني عبد المطلب: " أيكم يبايعني ويؤازرني يكن أخي ووصيي وخليفتي من بعدي "(3) فبايعه علي (عليه السلام) فوجب أن يكون أخاه ووزيره ووصيه وخليفته من بعده.
لا يقال: لا نسلم وجود هذه الأخبار، بل هي موضوعة وفي المشهور أن
____________
(1) الغدير 1: 270.
(2) الغدير 1: 207، ومصادر حديث الدار في سبيل النجاة: 113 - 115.
(3) الغدير 1: 207، ومصادر حديث الدار في سبيل النجاة: 113 - 115.
الأول: أنه لما مرض الرسول (صلى الله عليه وآله) قال العباس لعلي (عليه السلام): " ادخل بنا عليه نسأله عن هذا الأمر فإن كان لنا بينه وإن كان لغيرنا وصى الناس بنا "(2) ومعلوم أن عليا (عليه السلام) لو كان منصوصا عليه لكان العباس أعرف الناس بذلك فكان لا يقول مثل هذا الكلام.
الثاني: لما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال العباس لعلي (عليه السلام) " امدد يدك أبايعك فيقول الناس: هذا عم رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد بايع ابن عمه فلا يختلف عليك اثنان "(3).
ومعلوم أن العباس إنما قال ذلك لأنه وثق بطاعة الناس لمن يبايعه هو لكونه عما لرسول الله (صلى الله عليه وآله) إعظاما منهم لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، والذين يكونون كذلك لا بد وأن يكونوا مطيعين لمن نص عليه الرسول (صلى الله عليه وآله)، لأن من رضيه الرسول (صلى الله عليه وآله) للإمامة فقبول المسلمين له أكثر ممن رضيه غير الرسول (صلى الله عليه وآله) فالعباس كيف يمكنه الجزم بأنه لا يختلف اثنان على من بايعه عم رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع مشاهدته أن الصحابة كلهم تركوا نص الرسول (صلى الله عليه وآله)؟! فإن هذا الكلام إما جهالة مفرطة أو وقاحة.
____________
(1) أحمد بن يحيى المروزي البغدادي المتكلم المعتزلي، كان في أول أمره حسن السيرة جميل المذهب كثير الحياء، وقيل أنه تاب ومات 1245 أو 250 ببغداد. هدية الأحباب: 68، طبعة الحيدري.
(2) سيرة ابن هشام 4: 304، ورواه المعتزلي عن كتاب السقيفة للجوهري في 2: 48 و 51، طبعة أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف و 12: 262 وفي الطبري خبر يشير إليه 4: 230.
(3) الإمامة والسياسة 1: 4، وشرح المعتزلي 1: 160.
كنت صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) معه في المواطن كلها، شدتها ورخائها، قدمك رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الصلاة فخص بالإمامة لأجل الدين(3) ومعلوم أن أمثال هذه الكلمات عمن يعلم النص، ويعلم من غيره علمه بكونه كاذبا فيما يقوله، وقاحة.
الرابع: أن أبا بكر قال: قد وددت أني سألت الرسول عن هذا الأمر في من هو فكنا لا ننازعه أهله(4) وقال عمر: إن استخلف فقد استخلف من هو خير مني - يعني أبا بكر - وإن ترك فقد ترك من هو خير مني(5) يعني النبي (صلى الله عليه وآله)، وإنهما بزعم الشيعة كانا عالمين بكونهما غير صادقين وأن السامعين يعلمون كذبهما،
____________
(1) كذا في النسختين، ولعل الأولى: لسابقتهم.
(2) شرح النهج للمعتزلي 2: 25، طبعة دار التعارف، عن الواقدي.
(3) الطبري 3: 220 - 222، عن الكلبي عن أبي مخنف وأقرب منه لفظا في الإمامة والسياسة 1: 9، طبعة 69 م، و 1: 16، طبعة بيروت. وفي تأريخ الخلفاء للسيوطي: 80 - 82، بيروت 408 هـ.
(4) الطبري 3: 430، بإسناده عن عبد الرحمن بن عوف. و 12: 263، والإمامة والسياسة 1: 18، طبعة مصر، و 1: 24، طبعة بيروت، وشرح النهج 17: 164.
(5) الطبري 4: 228، عن أبي مخنف وغيره. والإمامة والسياسة 1: 23، طبعة مصر، و: 28، طبعة بيروت، وكنز العمال 5: 734، وشرح النهج 1: 185.
الخامس: لو ثبت النص لامتنع علي (عليه السلام) في الشورى، لأن دخوله فيها أرضى منه بالنص على أي واحد منهم كان.
لا يقال: أنه دخل فيه للتقية.
لا نقول: التقية إنما يحتاج إليها فيما يقربه إلى الإمامة لا فيما يبعده منها.
السادس: ولما قال علي (عليه السلام) لطلحة " إن أردت بايعتك " فقال طلحة: أنت أحق بهذا الأمر مني وقد يجتمع لك(1) من هؤلاء ما لم يجتمع لي.
السابع: لما احتج علي (عليه السلام) على معاوية ببيعة الناس له لأنه لو كان منصوصا عليه لما كانت إمامته بالبيعة حتى يحتج بها، وقد كتب إلى معاوية: " أما بعد فإن بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام، فإنه بايعني الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه(2).
الثامن: ولما قال: أترككم كما ترككم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فإن يعلم الله فيه خيرا يجمعكم على خير كما جمعكم على خير بأبي بكر(3).
التاسع: ولما قال: لولا أخاف عليها تيسا من تيوس بني أمية يحكم بغير ما أنزل الله لما دخلت فيها(4).
____________
(1) البحار 32: 32، مع اختلاف في التعبير.
(2) بمعناه في نهج البلاغة، الكتاب 6، وبنصه.
(3) صدره في مجمع الزوائد 9: 137، وكنز العمال 5: 167.
(4) لم نجده في مظانه.
الحادي عشر: ولما أنكر أكثر أهل البيت هذا النص، فإن من المعلوم فرط حبهم لعلي (عليه السلام)، ومن كان كذلك استحال أن ينكر أعظم فضيلة لمحبوبه، ومعلوم أن زيد بن علي رضي الله عنهما - مع كمال فضله ودينه - وجميع أتباعه أنكروا ذلك(2).
الثاني عشر: روي أن السيد الحميري قال: ما لأمير المؤمنين فضيلة إلا ولي فيها قصيدة(3) وهذا النص الجلي لو صح لكان أعظم فضيلة له، وما كان كذلك استحال من مادحه إلا ذكره في أكثر قصائده وأشعاره، ولكن ليس لهذا النص في أشعار السيد الحميري ذكر، فدل على كونه موضوعا مخلقا.
فثبت بمجموع هذه الأدلة أن النص على إمامة علي (عليه السلام) لم يوجد.
والجواب عن الأول والثاني أن نقول: إن هذه الأخبار بلغت مبلغ التواتر ولا يمكن إنكارها، أقصى ما في الباب أن يقال لو كان كذلك لتواتر إلى المخالف والموافق ولما اختصت به الشيعة دون غيرهم.
لأنا نقول: إنه كما يشترط صحة النقل في نفس الأمر اشترط أيضا انتفاء المانع عن الأذهان القابلة له.
____________
(1) نهج البلاغة، الخطبة: 91، شرح النهج للمعتزلي 1: 169.
(2) النص في الخطبة 92: دعوني والتمسوا غيري... ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم.
(3) بمعناه في الأغاني 7: 257، وأخبار السيد الحميري للمرزباني بتحقيق الأميني، طبعة النجف الأشرف عام 1386 ه، وعنهما في الغدير 2: 241 و 242.
وعن الثالث وهو الأول من المعارضات أن نقول: إن العباس لم يقل لعلي (عليه السلام) ذلك لجهله بالنص والاستحقاق، وإنما مقصوده أن يسأله عن استقامة هذا الأمر فيهم بعده وتسليم الأمة لهم، وهل المعلوم لله الواقع بعد النبي (صلى الله عليه وآله) تمكينهم منه وعدم الحيلولة بينهم وبينه، فيطمئن لذلك قلبه ويسكن، أو لا يستقيم ذلك لهم، بل يكون مع استحقاقهم له كائنا لغيرهم.
ويدل على أن المراد ذلك تمام الخبر وهو جواب النبي (صلى الله عليه وآله) للعباس: " علي سبيلكم معشر الشيعة أنتم المظلومون المقهورون "(3) وهذه التتمة مما جاءت به الرواية، ولولا أن السؤال من العباس كان على الوجه الذي ذكرناه لم يكن لجواب
____________
(1) بمعناه في الذخيرة: 465، وفي الذريعة 2: 492.
(2) كذا في النسختين، ويبدو أن الصحيح: إذ.
(3) كذا في النسختين، وفي الفصول المختارة 2: 203 جاء النص هكذا: " على رسلكم معشر بني هاشم أنتم المظلومون وأنتم المقهورون " وهو الصحيح.