السادس: إن أعظم العلوم علم الأصول(4)، وقد جاء في خطبه (عليه السلام) من أسرار التوحيد والعدل والنبوة والقضاء والقدر وأحوال المعاد ما لم يأت في كلام سائر الصحابة.
السابع: إن جميع فرق العلماء تنتهي في علومهم مع اختلاف أنواعها إليه، فوجب أن يكون أعلمهم، بيان الأول:
أما علم الأصول فالمتكلمون إما معتزلة وهم ينسبون إليه، وإما أشعرية وهم ينسبون إلى أبي الحسن الأشعري(5) وهو تلميذ أبي علي الجبائي المعتزلي(6) وهو ينسب إلى أمير المؤمنين (عليه السلام).
وأما الشيعة فانتسابهم إليه ظاهر.
وأما الخوارج وهم مع بعدهم عنه منتسبون إلى أكابرهم وكانوا تلامذة علي (عليه السلام).
____________
(1) إلى هنا في تلخيص الشافي 3: 22 ومصادره في الهامش.
(2) الغدير 2: 44، و 7: 108.
(3) يبار: فعل مستقبل مجزوم من المباراة أي المسابقة.
(4) الأصول هنا أصول العقائد، كما يأتي.
(5) أبو الحسن علي بن إسماعيل البصري البغدادي، من أحفاد أبي موسى الأشعري، توفي في 334 هـ ببغداد.
(6) أبو علي محمد بن عبد الوهاب المعتزلي البصري البغدادي المتوفى في بغداد، وعن ابن نديم أنه أوصى أن ينقل إلى قريته الجباء بناحية البصرة فيدفن بها - هدية الأحباب: 134.
وأما علم الفقه: فكان (عليه السلام) فيه في أعلى درجة، ولهذا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " أقضاكم علي "(1) وقال علي (عليه السلام): " لو كسرت لي الوسادة "(2) كما ذكرناه.
وأما الفصاحة: فمعلوم أن أحدا من الصحابة الذين بعده والذين معه أيضا لم يدركوا درجته ولا القليل منها.
وأما علم النحو: فمعلوم أنه إنما نشأ منه وهو الذي أرشد أبا الأسود الدؤلي إليه(3).
وأما علم التصفية: فمعلوم أن نسبة جميع الصوفية تنتهي إليه.
وأما علم الشجاعة وممارسة الأسلحة فمعلوم أن نسبة هذا العلم تنتهي إليه أيضا.
فثبت بما ذكرناه أنه (عليه السلام) كان أستاذ العالمين بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، وجميع الخصال الحميدة والمقامات الشريفة حاصلة له، وإذا ثبت أنه (عليه السلام) كان أعلم الخلق بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجب أن يكون أفضلهم بعده لقوله تعالى: * (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) *(4) وقوله تعالى: * (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) *(5).
____________
(1) أشير إلى مصادره قبل قليل.
(2) أشير إلى مصادره قبل قليل.
(3) الفصول المختارة 1: 59، طبعة النجف الأشرف.
(4) الزمر: 9.
(5) المجادلة: 11.
أما الأول: فقراءة كتب السير والأخبار توضح ما قلناه(1).
وأما أن كل من كان جهاده أكثر كان أفضل، فلقوله تعالى: * (فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى، وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما) *(2).
الثامن عشر: إيمان علي (عليه السلام) كان قبل إيمان أبي بكر، وإذا كان كذلك كان صلوات الله عليه أفضل من أبي بكر.
أما الأول فلوجوه:
أحدها: روي أن عليا (عليه السلام) قال على المنبر: " أنا الصديق الأكبر والفاروق الأعظم آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر وأسلمت قبل أن يسلم "(3). ثم إن تلك الدعوى كانت بمحضر جمهور الصحابة والتابعين ولم ينكر أحد منهم عليه، ولو لم يكن ذلك مشهورا بينهم لما أمكنهم السكوت عنه.
الثاني: سلمان الفارسي (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " أولكم ورودا
____________
(1) أنظر فصل جهاده (عليه السلام) في الإرشاد: 38 - 88، طبعة النجف الأشرف، ومناقب آل أبي طالب 2: 65 - 70، طبعة قم.
(2) النساء: 95.
(3) أنظر مصادر لقب الصديق والفاروق لعلي (عليه السلام) في تتمة المراجعات: سبيل النجاة: 235 و 236، والصديق فقط في هامش تلخيص الشافي 3: 344، ونص الخبر في الغدير 3:
221 و 223، وشرح النهج للمعتزلي 13: 228.
الثالث: روى أنس بن مالك قال: بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم الاثنين وأسلم علي (عليه السلام) يوم الثلاثاء(2).
الرابع: عبد الله بن الحصين قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: " أنا أول من صلى وأول من آمن بالله، ولم يسبقني غير رسول الله (صلى الله عليه وآله) "(3).
الخامس: إن كون إيمان علي (عليه السلام) قبل إيمان أبي بكر أقرب إلى العقل، وذلك أن عليا (عليه السلام) كان ابن عم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفي داره مختصا به، وأما أبو بكر فإنه كان من الأجانب، وفي غاية البعد أن يعرض الانسان هذه المهمات العظيمة على الأجانب قبل عرضها للأقارب المختصين به غاية الاختصاص سيما والله تعالى يقول: * (وأنذر عشيرتك الأقربين) *(4).
لا يقال: إسلام أبي بكر كان سابقا، لقوله صلى الله عليه [ وآله ]: " ما عرض الإيمان على أحد إلا وله كبوة، غير أبي بكر فإنه لم يتلعثم "(5). فلو تأخر إسلام أبي بكر(6) فإن كان من قبل تأخر عرض الرسول (صلى الله عليه وآله) الإسلام عليه كان ذلك تقصيرا من الرسول (صلى الله عليه وآله) وهو غير جائز، وإن كان من قبل أبي بكر فهو باطل
____________
(1) أنظر مصادره في الغدير 3: 220، ثم البحث في ذلك حتى 243، والصحيح في السيرة 1:
241 - 245، والفصول المختارة: 212.
(2) أنظر الغدير 3: 224 و 225، وشرح النهج 13: 229.
(3) أنظر كلماته (عليه السلام) المختلفة في هذا المعنى في الغدير 3: 221 - 224.
(4) الشعراء: 214.
(5) تلعثم الرجل: إذا مكث وتأنى. ونقل الخبر المعتزلي عن نقض العثمانية للإسكافي في شرح النهج 13: 249.
(6) في النسختين: لكان إن كان. وأثبتنا الصحيح.
سلمناه، لكن نقول: إن عليا (عليه السلام) حين أسلم كان صبيا، لدليل الشعر المنقول عنه قوله:
سبقتكم إلى الإسلام طرا | غلاما ما بلغت أوان حلمي(1) |
وأبو بكر حين أسلم كان شيخا عاقلا، والناس قد اختلفوا في صحة إسلام الصبي، وكيف كان، ولا شك أن إسلام البالغ العاقل الصادر عن التمييز أفضل من إسلام الصبي الذي لا يكون كذلك.
سلمنا أن عليا (عليه السلام) كان بالغا حين أسلم إلا أنه كان في ذلك الوقت غير مشهور بين الناس ولا محترما ولا مقبول القول، بل كان كالصبي الذي يكون في البيت، فما كان يحصل بسبب إسلامه قوة في الدين. فأما أبو بكر فإنه كان شيخا موقرا محترما، فحصل بسبب شوكته قوة، فكان إسلامه أفضل من إسلام علي (عليه السلام).
لأنا نقول: أما الخبر الذي ذكرتموه فلا نسلم صحة طريقه، سلمناه، لكنه خبر واحد فلا يفيد العلم، سلمناه، لكنه لا ينافي تأخير إسلام أبي بكر لجواز تأخيره من قبل الرسول (صلى الله عليه وآله) العرض عليه، لأنه علم أنه لا يقبل الإسلام في تلك المدة ثم علم أنه قد فزع إلى الحق فعرض عليه فلم يتلعثم، وهذا لا يدل على
____________
(1) في النسختين: غلام، وأثبتنا الصحيح. ورواه المفيد (صغيرا) كما عنه في الفصول المختارة 2: 211 وفي 226 هكذا:
سبقتكم إلى الإسلام طرا | على ما كان من فهمي وعلمي |
وبحثه من 204 - 228، وفي الغدير 2: 25 - 33.
قوله: إن عليا (عليه السلام) حين أسلم لم يكن بالغا.
قلنا: لا نسلم أنه أسلم قبل البلوغ، وبيانه: أن سن علي (عليه السلام) كان بين خمس وستين سنة وبين ست وستين سنة، والنبي (صلى الله عليه وآله) قد بلغ بعد الوحي ثلاثة وعشرين سنة، وعلي (عليه السلام) قد بقي بعد النبي (صلى الله عليه وآله) قريبا من ثلاثين سنة، فإذا أسقطنا ثلاثا وخمسين من ست وستين بقي ثلاثة عشر سنة(1) وبلوغ الانسان في مثل هذا(2) السن ممكن، فعلمنا أنه كان ممكن البلوغ في ذلك الوقت، وإذا ثبت الإمكان وجب الحكم بوقوعه لقوله (صلى الله عليه وآله) لفاطمة (عليها السلام): " زوجتك أقدمهم سلما، وأكثرهم علما "(3) ولو كان صبيا حين أسلم لما صح هذا الكلام.
سلمنا أنه ما كان بالغا حين أسلم لكن لا امتناع في وجود إسلام(4) صبي كامل العقل قبل البلوغ، وكذلك حكم أبو حنيفة بصحة إسلام الصبي، وحينئذ يكون إسلام صبي قبل البلوغ دليلا على فضله لوجهين:
أحدهما: أن الغالب على طباع الصبيان الميل إلى الأبوين، ثم إن عليا (عليه السلام) خالف أبويه وأسلم فدل ذلك على فضله.
الثاني: أن الغالب على الصبيان الميل إلى اللعب فيكون نظره وفكره في دلائل التوحيد. وإعراضه عن اللعب من أدل الأمور على فضله، وكان في زمان
____________
(1) هنا (ثلاث عشرة سنة) مكررة في النسختين.
(2) من نسخة " عا ".
(3) أنظر تلخيص الشافي 3: 233 و 234 متنا وهامشا. ونزل الأبرار: 64.
(4) من نسخة " عا ".
قوله: حصل بإسلام أبي بكر قوة وشوكة في الدين لم تحصل بإسلام علي (عليه السلام).
قلنا: هذا أولا إنما يتم لو صح أن أبا بكر قبل إسلامه كان موقرا محترما بين الخلق، وأنه دعا الناس إلى الإسلام وهما ممنوعان.
ثم لا نسلم أنه حصل بسبب إسلامه شوكة في الدين.
فيثبت بما قررناه أن إسلام علي (عليه السلام) كان مقدما على إسلام أبي بكر، وبثبوت ذلك ثبت أن عليا (عليه السلام) أفضل، لقوله تعالى: * (والسابقون السابقون أولئك المقربون) *(1) لأن المسارعة إلى الخيرات توجب الأفضلية، لقوله تعالى في حق الأنبياء (عليهم السلام): * (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات) *(2).
التاسع عشر: أن عليا (عليه السلام) كان أفضل بني هاشم بعد الرسول (صلى الله عليه وآله)، وهو متفق عليه وبنو هاشم أفضل من عداهم لقوله (صلى الله عليه وآله): " إن الله اصطفى من ولد إبراهيم قريشا، واصطفى من قريش هاشما "(3). والأفضل من الأفضل أفضل.
العشرون: أن عليا (عليه السلام) لم يكفر بالله طرفة عين، وأبو بكر في زمان الجاهلية كان كافرا، ولذلك خص علي(4) (عليه السلام) عند الخصم بقوله عند ذكره " كرم الله وجهه ". وإذا ثبت هذا فنقول: إن عليا (عليه السلام) كان أكثر تقوى من
____________
(1) الواقعة: 10 و 11.
(2) الأنبياء: 90.
(3) أنظر تأريخ بغداد 13: 64، وأمالي المفيد: 216، طبعة الغفاري، كلاهما عن واثلة بن الأصقع.
(4) في النسختين: عليا. وأثبتنا الصحيح.
الحادي والعشرون: روى أحمد البيهقي في " فضائل الصحابة " أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: " من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في تقواه، وإلى إبراهيم في خلته، وإلى موسى في هيبته، وإلى عيسى في عبادته، فلينظر إلى علي ابن أبي طالب "(2) فثبت بهذا الحديث أن عليا (عليه السلام) كان مساويا لهؤلاء الأنبياء في هذه الخصال التي هي جماع(3) المكارم، ولا نزاع في أن هؤلاء كانوا أفضل من أبي بكر وسائر الصحابة، والمساوي للأفضل لا بد وأن يكون أفضل.
الثاني والعشرون: أن الفضائل إما نفسانية، أو بدنية، أو خارجية عنهما.
أما النفسانية فإما علمية أو عملية.
أما العلمية فقد بينا أنه (عليه السلام) كان أعلم الصحابة ويؤيد ذلك وجوه(4):
الأول: قول النبي (صلى الله عليه وآله): " أنا مدينة العلم وعلي بابها "(5) ولا شك أن العلوم إنما تخرج من تلك المدينة إلى الخلق من قبل ذلك الباب، وقد فصلنا انتهاء مبادئ العلوم إليه في حقه (عليه السلام) تصديقا لهذا الخبر.
الثاني: قوله (عليه السلام): " علمني رسول الله (صلى الله عليه وآله) ألف باب من العلم فانفتح لي
____________
(1) الحجرات: 13.
(2) أنظر إحقاق الحق 4: 389 - 405.
(3) الجماع بالضم: المجمع، أو الجامع، وبالكسر: النكاح.
(4) في النسختين: وجهان، وما أثبتناه هو الصواب.
(5) أنظر كتاب فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي. لابن الصديق الحسني المغربي، طبعة طهران. وراجع تلخيص الشافي 2: 281، والفصول المائة 2: 509 - 520.
الثالث: قول النبي (صلى الله عليه وآله) لفاطمة (عليها السلام): " زوجتك أكثرهم علما، وأعظمهم حلما "(2). وقول ابن عباس (رضي الله عنه) قسم العلوم عشرة أجزاء تسعة في علي (عليه السلام) وواحد في الخلق، ولقد شاركهم في العاشر(3).
وأما العملية فأقسام: منها: العفة والزهد، وقد كان رؤوس الزهاد من الصحابة كأبي ذر وسلمان تلامذة لعلي (عليه السلام).
ومنها: الشجاعة، ولم يكن أحد(4) من الصحابة كشجاعته في اعتدائها(5) وثمرتها ولذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " لضربة من ضربات علي خير من عبادة الثقلين "(6). ومن أوضح براهين ذلك قلعه لباب خيبر حيث يقول: " والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية، ولكن قلعته بقوة إلهية "(7).
ومنها: السخاء، والمعلوم أنه لم يكن أحد من الصحابة أسخى منه، ويشهد بذلك لسبب نزول قوله تعالى: * (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) *(8) في حقه، وهو مشهور. وكذلك تصدقه بخاتمه حال ركوعه.
____________
(1) أنظر ينابيع المودة: 72، وكتاب فتح الملك العلي: 19.
(2) أنظر الذرية الطاهرة للدولابي: 93 متنا وحاشية.
(3) لم أجده مسندا.
(4) جاءت هذه الكلمة في " عا ": أحدا، وفي " ضا ": أحد. وأثبتنا الصحيح.
(5) كذا في النسختين، ولعل الصحيح: اعتدالها، أو احتدامها.
(6) أنظر إحقاق الحق 6: 4 - 8 و 16: 402 - 405، ونزل الأبرار: 76.
(7) البحار 102: 138 مع اختلاف يسير.
(8) الدهر: 8، وانظر التبيان 10: 211، ومجمع البيان 10: 611، وتفسير شبر: 542، والميزان 20: 132 - 139.
ومنها: البعد عن الدنيا، وظاهر أنه مع إقبالها إليه لم يلتفت إليها رأسا، وكان يقول: " يا دنيا إليك عني غري غيري، قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها "(1) وله في هذا المعنى شعر:
دنيا تخادعني كأني | لست أعرف حالها |
مدت إلي يمينها | فرددتها وشمالها |
ورأيتها محتاجة | فوهبت جملتها لها |
والأمر في ذلك ظاهر.
ومنها: إقباله على الله بالكلية، ووصوله إليه، واشتغال سره به الذي هو الغاية القصوى من وجود الانسان، وقد كان (عليه السلام) في ذلك سباق غايات وصاحب آيات، ويشهد بذلك أنه (عليه السلام) لما وقع فيه في بعض الحروب سهم وقصد الحجام ينزعه فجعل يتملل فقال الحسن (عليه السلام) دعوه حتى يشتغل بالصلاة، فلما اشتغل بها نزعه منه في حال السجود ولم يحس به(2)، وذلك لاتصال نفسه القدسية بمبدأها التام، وعدم ملاحظته شيئا آخر في ذلك الوقت.
وأما الفضائل البدنية: فقد كان (عليه السلام) من أقوى الخلق وأشدهم بأسا، وكان يقط الهام قط الأقلام.
وأما الفضائل الخارجية: فمنها النسب، ومعلوم أن أشرف ما ينتسب إليه
____________
(1) نهج البلاغة، الكتاب: 45، القطع: 21، وقصار الحكم: 77 ومصادر الكتاب في المعجم المفهرس: 1396، طبعة قم. ومصادر الحكمة: 1402. وعن زهده (عليه السلام) في إحقاق الحق 4:
425 و 8: 272 و 274 و 598 - 600 و 15: 638 - 644.
(2) لم أعثر له على مصدر معتبر موثوق به.
ومن أوضح دلالات فضلهم أن من أفضل المشايخ السالكين إلى الله تعالى بعدهم أبو يزيد البسطامي وكان سقاء في دار الصادق (عليه السلام)(5).
وأيضا فمعروف الكرخي أسلم على يد علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، وكان بواب داره، وبقي على حاله إلى آخر عمره ولم يكن لأحد مثل هذه الفضائل.
وأما تقرير المقدمة الثانية، وهو أنه كل من كان أفضل وجب أن يكون هو الإمام، فبيانها أن من جعل إماما لغيره فقد جعل متبوعا لذلك الغير، وجعل الأكمل تبعا للأنقص قبيح في بداهة العقول، مثال ذلك أنه لو أخذ بعض الفقهاء
____________
(1) أنظر الإمام الحسن (عليه السلام) من تأريخ دمشق لابن عساكر: 128 - 142، والإمام الحسين (عليه السلام) كذلك: 41، ونزل الأبرار: 93.
(2) هو الحسن بن الحسن بن الحسن السبط.
(3) أمه وأخيه المثلث: فاطمة بنت الحسين (عليهم السلام).
(4) هو محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن.
(5) هو طيفور بن عيسى بن آدم، زاهد صوفي معروف، توفي في 261 هـ فيستبعد جدا أن يكون سقاء في بيت الإمام الصادق (عليه السلام) المتوفى في 148 هـ إلا أن يكون من المعمرين فوق المائة والأربعين ولم يكن ولم نجد للدعوى مصدرا معتبرا.
فثبت أن عليا (عليه السلام) لما كان أفضل الخلق بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجب أن يكون هو الإمام وهو المطلوب.
البرهان الثاني: أن الأمة أجمعت على أن الإمام بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إما علي أو أبو بكر أو العباس، ثم إن أبا بكر وعباسا لم يكونا صالحين للإمامة، فتعين أن يكون الإمام علي (عليه السلام). وإنما قلنا إنهما لم يكونا صالحين للإمامة، لأنه لا واحد منهما بمعصوم، وكل من يصلح للإمامة يجب أن يكون معصوما، فينتج أنه لا واحد منهما يصلح للإمامة.
أما المقدمة الأولى فبالاتفاق، وأما الثانية فقد مر بيانها، فتعين حينئذ أن يكون الإمام بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو علي (عليه السلام).
البرهان الثالث: أنه لا واحد من الصحابة عدا علي (عليه السلام) بمنصوص على إمامته، وكل من كان إماما يجب أن يكون منصوصا على إمامته، ينتج: ولا واحد من الصحابة عدا عليا (عليه السلام) بإمام.
أما المقدمة الثانية: فقد مر بيانها، وأما الأولى فلأن المتأهل للإمامة في نظر الأمة إما العباس وإما أبو بكر وإما علي (عليه السلام)، وثبت أن العباس وأبا بكر لم يكن
____________
(1) في النسختين: التلمذ، ونحن أثبتنا الصحيح، واللفظة من التلموذ بالعبرية، فالتلمذة تعني درايته بالتلموذ، تفسير التوراة.
البرهان الرابع: أنه نقل عن أبي بكر وعمر مطاعن تقدح في صحة إمامتهما، ومتى كان كذلك تعين أن يكون علي (عليه السلام) هو الإمام، وأما المطاعن فمذكورة في الكتب المطولة، وأما أنهما متى كانا كذلك تعين أن يكون الإمام عليا (عليه السلام) فلضرورة أنه لا قائل بالفرق، وبالله التوفيق.
____________
(1) في النسختين: أبا بكر.
البحث الثاني
في تعيين باقي الأئمة (عليهم السلام)
الإمام الحق بعد علي (عليه السلام) ولده الحسن، ثم الحسين، ثم ابنه علي بن الحسين زين العابدين، ثم ابنه محمد الباقر، ثم ابنه جعفر الصادق، ثم ابنه موسى الكاظم، ثم ابنه علي بن موسى الرضا، ثم ابنه محمد الجواد، ثم ابنه علي الزكي، ثم ابنه الحسن العسكري، ثم ابنه محمد الخلف الحجة المنتظر (عليهم السلام). ولنا في إثبات هذا الترتيب وجهان:
الأول: أنا قد بينا أن الإمام يجب أن يكون هو المنصوص عليه من قبل الرسول (صلى الله عليه وآله) أو من يقوم مقامه، وثبت أيضا أن الإمام يجب أن يكون معصوما، ثم علمنا بالتواتر أن عليا (عليه السلام) نص على ابنه الحسن بالخلافة، فتعين أن يكون هو الإمام بعده. وتعين أنه معصوم، وإنه نص على أخيه الحسين وهكذا نص كل واحد منهم على من بعده من المذكورين، فوجب أن يكون هو الإمام فلزم من ذلك أن تكون الإمامة معينة في المذكورين واحدا بعد آخر إلى آخرهم.
الثاني: الخبر المتواتر عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال للحسين (عليه السلام): " ابني هذا إمام ابن إمام أخو إمام أبو أئمة تسعة، تاسعهم قائمهم حجة ابن حجة أخو حجة
بقي أن يقال لو سلمنا تواتر هذا الخبر في هذا اللفظ، لكن لم قلتم، إن التسعة هم الذين عنيتموهم، ولم يجوز أن يكون غيرهم من أولاد الحسين (عليهم السلام)، فحينئذ يتعين الرجوع منا إلى كل واحد منهم وقد نص على من بعده.
إذ نقول: إن غير الإمام يعترف باختيار الرعية له و [ عدم ](2) اطلاعهم على أنه صاحب الملكة الرادعة عن المعاصي المسماة بالعصمة من بين سائر أولاد الإمام، وبتعيين(3) الإمام يتعين أن يكون هو الإمام الحق، وبظهور الكرامات على يده.
وأما الكلام في تواتر هذا الخبر سؤالا وجوابا، وتقريرا وإبطالا، فكما تقدم في تواتر النص الجلي على إمامة علي (عليه السلام)، وبالله التوفيق.
____________
(1) إكمال الدين 2: 262، مع اختلاف في التعبير.
(2) زيادة بمقتضى السياق.
(3) في النسختين: بتعين.
الباب الثالث
في تقرير شبهة الخصوم
والجواب عنها
المقدمة
1 - شبهة المنكرين لإمامة علي (عليه السلام)
2 - مطاعن الخوارج وغيرهم في علي (عليه السلام)
3 - فساد ما قالته الطوائف من الشيعة المنكرين لواحد واحد من الأئمة (عليهم السلام)
4 - غيبة الإمام (عليه السلام)
أما المقدمة:
فاعلم أن المخالفين لنا في المسألة إما شيعة أو غير شيعة، أما غير الشيعة فهم المنكرون لتقديم علي (عليه السلام) على أبي بكر وهم أكثر الأمة، وأما الشيعة فأصولهم فرق أربعة: الإمامية، والكيسانية(1)، والزيدية(2)، والغلاة(3)، وكل فرقة كالنوع لأصناف، ويلزم مقالة كل واحدة من هذه الأصناف إنكار أحد الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)، ونحن نعين كل واحدة من الفرق المنكرون لإمام إمام.
[ فالأولى ]: المنكرون لإمامة علي (عليه السلام) من الشيعة بعد أن كان مستحقا لها وهم الكاملية أصحاب أبي كامل معاد بن الحصين، وذلك أنهم زعموا أن الصحابة
____________
(1) الكيسانية: نسبة إلى كيسان معرب كيشان مولى المختار بن أبي عبيدة الثقفي والوسيط بينه وبين محمد بن علي (عليه السلام) المعروف بابن الحنفية، وكان كيسان يقول بإمامته.
(2) الزيدية: نسبة إلى زيد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) يقولون بإمامته بعد أبيه.
(3) الغلاة: الذين غالوا في علي (عليه السلام) بالقول بأن الله قد اتحد به أو حل فيه!
الثانية: المنكرون لإمامة الحسن بن علي (عليهما السلام)، وهم صنفان:
الأول: السبأية وهم أصحاب ابن سبأ، زعموا أن عليا (عليه السلام) لم يمت وأنه في السحاب، والرعد صوته والبرق سوطه، وأنه ينزل إلى الأرض بعد حتى يقتل أعداءه.
الصنف الثاني: الذين قطعوا بموته لكنهم أنكروا إمامة الحسن (عليه السلام)، وساقوا الإمامة من علي (عليه السلام) إلى ابنه محمد بن الحنفية (رضي الله عنه) وزعموا أنه القائم المهدي، وهو قول بعض الكيسانية.
الثالثة: المنكرون إمامة [ ولد ](1) الحسين بعد أخيه الحسن (عليهما السلام)، وهم الذين ساقوا الإمامة من الحسن (عليه السلام) إلى ابنه الحسن " الرضى من آل محمد " ومنه إلى ولده عبد الله بن الحسن بن الحسن، ومنه إلى ولده محمد النفس الزكية، ومنه إلى أخيه إبراهيم.
الرابعة: المنكرون لإمامة زين العابدين علي بن الحسين (عليهم السلام)، وهم الذين ساقوها من الحسين (عليه السلام) إلى أخيه محمد بن الحنفية، وهم أكثر الكيسانية.
الخامسة: المنكرون لإمامة محمد بن علي الباقر (عليه السلام) وهم الذين ساقوها إلى زيد بن علي (رضي الله عنه) وهم الزيدية.
السادسة: المنكرون لإمامة جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)، وهم فرقتان:
إحداهما: الذين قالوا إن الباقر لم يمت وهم ينتظرونه.
الثانية: الذين قطعوا بموته لكن ساقوا الإمامة إلى محمد بن عبد الله ابن الحسن بن الحسن، من غير ولده، وهم أصحاب المغيرة بن سعد العجلي.
____________
(1) زيادة بمقتضى السياق.