التعريف بالشّيعة
إذا أردنا الكلام عن الشيعة(1) بدون تعصّب ولا تكلّف، قلنا: هي الطائفة الإسلامية التي تُوالي وتقلّد الأئمة الاثني عشر من أهل بيت المصطفى علياً وبنيه، وترجع إليهم في كلّ المسائل الفقهيّة من العبادات والمعاملات، ولا يفضّلون عليهم أحداً سوى جدّهم صاحب الرسالة محمّداً رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
هذا هو التعريف الحقيقي للشيعة بكلّ اختصار، ودعك من أقوال المرجفين والمتعصّبين من أنّ الشيعة هم أعداء الإسلام، أو أنّهم يعتقدون بنبوّة علي وأنّه صاحب الرسالة، أو أنّهم ينتمون إلى عبدالله بن سبأ اليهودي.
وقد قرأت كتُباً ومقالات عديدة يُحاول أصحابها بكلّ جهودهم تكفير الشيعة وإخراجهم من الملّة الإسلامية.
ولكن أقوالهم كلّها محض افتراء وكذبٌ صريح، لم يأتوا عليه بحجّة ولا بدليل، سوى أنّهم يُعيدون ما قاله أسلافهم من أعداء أهل البيت، والنواصب الذين تسلّطوا على الأُمّة وحكموها بالقوّة والقهر، وتتبّعوا عترة النبيّ ومن
____________
1- ونقصد بالشيعة هنا: (الإماميّة الاثني عشرية) والمسمّاة أيضاً بالجعفرية نسبة للإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، ولا يتعلّق بحثنا بالفرق الأُخرى كالإسماعيلية والزيدية ولا يهمّنا من أمر هؤلاء ما دمنا نعتقد بأنّهم كسائر الفرق الأُخرى التي لم تتمسّك بحديث الثقلين، ولا ينفع اعتقادهم بإمامة علي (عليه السلام) بعد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) مباشرة (المؤلّف).
ومن هذه الألقاب التي تتردّد كثيراً في كتب أعداء الشيعة لقب الرافضة، أو الروافض، فيخيّل للقارئ لأوّل وهلة أنّ هؤلاء رفضوا قواعد الإسلام ولم يعملوا بها، أو أنّهم رفضوا رسالة النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يقبلوا بها.
ولكنَّ الواقع على غير هذا، إنّما لُقِّبوا بالرّوافض; لأنّ الحكّام الأوّلين من بني أُميّة وبني العبّاس، ومن يتزلّف إليهم من علماء السوء أرادوا تشويههم بهذا اللقب; لأنّ الشيعة والوا عليّاً ورفضوا خلافة أبي بكر وعمر وعثمان أوّلا، كما رفضوا خلافة كلّ الحكّام من بني أُميّة وبني العبّاس ولم يقبلوا بها ثانياً.
ولعلّ هؤلاء كانوا يُموِّهون على الأُمّة بإعانة بعض الوضّاعين من الصحابة بأنّ خلافتهم شرعيّة لأنّها بأمر الله سبحانه، فكانوا يُروِّجون بأنّ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}(1) تخصّهم ونازلة في حقّهم، فهم أولو الأمر الواجبة طاعتهم على كلّ المسلمين، وقد استأجروا من يروي لهم كذباً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قول: "ليس أحد خرج من السلطان شبراً فمات عليه إلاّ مات ميتةٌ جاهلية"(2)، فليس من حقّ أيّ مسلم أن يخرج عن طاعة السلطان.
وبهذا نفهمُ بأنّ الشيعة إنّما استُهدفوا من قبل الحكّام; لأنّهم رفضوا بيعتهم
____________
1- النساء: 59.
2- مسند أحمد 1: 310 وصرح محقق الكتاب العلاّمة أحمد محمّد شاكر بصحته، صحيح البخاري 8: 87 (كتاب الفتن، باب قول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): سترون بعدي أموراً تنكرونها).
وإذا رجعنا إلى لعبة تلبيس الحقّ بالباطل، فسندرك بأنّ هناك فرقاً بينَ مَنْ يُريد هدم الإسلام، وبين مَنْ يريد هدم الحكومة الجائرة الفاسقة التي تعمل ضدّ الإسلام.
فالشيعة لم يخرجوا على الإسلام، إنّما خرجوا على الحكّام الجائرين، وهدفهم إرجاع الحقّ إلى أهله لإقامة قواعد الإسلام بالحاكم العادل، وعلى كلّ حال فالذي عرفناه خلال البحوث السابقة من كتاب "ثمّ اهتديت"، و "مع الصادقين"، و "أهل الذكر"، أنّ الشيعة هم الفرقة الناجية; لأنّهم تمسّكوا بالثّقلين: كتاب الله وعترة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
وإذا أنصفنا المنصفين، فإنّ البعض من علماء "أهل السنّة" يعترف بهذه الحقيقة، فقد قال ابن منظور في كتابه "لسان العرب" في تعريف الشيعة:
"والشيعة هم: قومٌ يهوون هوى عترة النبيّ ويوالونهم"(1).
كما يقول الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور بعد استعراض هذا المقطع من الكتاب المذكور: "وإذا كان الشيعة هم الذين يهوون هوى عترة النبيّ ويوالونهم، فَمَنْ من المسلمين يرفض أن يكون شيعيّاً؟!".
هذا وقد ولّى عصر التعصّب والعداوة الوراثيّة، وأقبل عهد النور والحرية
____________
1- لسان العرب 8: 189، مادة (شيع).
والعالم اليوم في متناول الجميع، والشيعة موجودون في كلّ بقاع الدنيا من هذه الأرض، وليس من الحقّ أن يسأل الباحث عن الشيعة أعداء الشيعة وخصومهم الذين يخالفونهم في العقيدة، وماذا ينتظر السائل من هؤلاء أن يقولوا في خصومهم منذ بداية التاريخ؟
فليست الشيعة فرقة سرّيّة لا يطلع على عقائدها إلاّ مَنْ ينتمي إليها، بل كتبها وعقائدها منشورة في العالم، ومدارسُها وحوزاتها العلمية مفتوحة لكلّ طلاّب العِلم، وعلماؤهم يُقيمون الندوات والمحاضرات والمناظرات والمؤتمرات، ويُنادون إلى كلمة سواء وإلى توحيد الأُمّة الإسلامية.
وأنا على يقين بأنّ المنصفين من الأُمّة الإسلامية إذا ما بحثوا في الموضوع بجدّ، سوف يستبصرون إلى الحقّ الذي ليس بعده إلاّ الضلال; لأنّ مانعهم من الوصول هو فقط وسائل الدعاية المغرضة والإشاعة الكاذبة من أعداء الشيعة، أو تصرّفٌ خاطئ من بعض عوام الشيعة(1).
ويكفي في أغلب الأحيان أنْ تُزاح شُبهة واحدة، أو تنمحي خرافة باطلة، حتى ترى مَن كان عدوّاً للشّيعة يصبحُ منهم.
ويحضرني في هذا الصدد قصة الشامي الذي ضلّلته وسائل الإعلام في
____________
1- ستعرف في آخر هذا الكتاب بأنّ أعمال بعض العوام من الشيعة ينفّر الشباب المثقّف من أهل السنّة ولا يشجّعهم على مواصلة البحث للوصول إلى الحقيقة (المؤلّف).
استغرب الشامي وتعجّب أن يكون في الدّنيا رجلٌ له من الهالة والتعظيم أكثر من معاوية في الشام، فسأل عن الرجل، فقيل له: إنّه الحسن بن علي بن أبي طالب، قال: هذا هو ابن أبي تراب الخارجي؟ ثمّ أولغ سبّاً وشتماً في الحسن وأبيه وأهل بيته.
وشهر أصحاب الحسن سيوفهم كلّ يريد قتله، ومنعهم الإمام الحسن ونزل عن جواده، فرحب به ولاطفه قائلا له:
يبدو أنّك غريب عن هذه الديار يا أخا العرب؟ قال الشامي: نعم أنا من الشام من شيعة أمير المؤمنين وسيّد المسلمين معاوية بن أبي سفيان، فرحّب به الإمام من جديد وقال له: أنت من ضيوفي، وامتنع الشامي ولكنّ الحسن لم يتركه حتّى قَبِلَ النزول عنده، وبقي الإمام يخدمه بنفسه طيلة أيام الضيافة ويلاطفه، فلمّا كان اليوم الرابع بدا على الشامي الندم والتوبة ممّا صدر منه تجاه الحسن بن علي، وكيف يسبّه ويشتمه فيقابله بالإحسان والعفو وحُسن الضيافة، فطلب من الحسن ورجاه أن يُسامحه على ما صدر منه، وكان بينهما الحوار التالي بمحضر من أصحاب الحسن:
الحسن: أقرأتَ القرآن يا أخا العرب؟
الشامي: أنا أحفظ القرآن كلّه.
الحسن: هل تعرف من هم أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم؟
استغرب الحاضرون وتعجّبوا، وابتسم له الحسن قائلا: أنا الحسن بن علي، وأبي هو ابن عمّ رسول الله وأخوه، وأُمّي فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين، وجدّي رسول الله سيّد الأنبياء والمرسلين، وعمّي حمزة سيّد الشهداء، وجعفر الطيار، ونحن أهل البيت الذي طهّرنا الله سبحانه، وافترض مودّتنا على كلّ المسلمين، ونحن الذين صلّى الله وملائكته علينا وأمر المسلمين بالصلاة علينا، وأنا وأخي الحسين سيّدا شباب أهل الجنّة.
وعدّد له الإمام الحسن بعض فضائل أهل البيت، وعرّفه حقيقة الأمر، فاستبصر الشامي وبكى، وأخذ يقبِّل أنامل الحسن ويلثم وجهه معتذراً عمّا صدر منه في حقّه قائلا:
والله الذي لا إله إلاّ هو إنّي دخلتُ المدينة وليس لي على وجه الأرض أبغض منكم، وها أنا أخرج منها وليس على وجه الأرض أحبّ إليَّ منكم، وإنّي أتقرَّب إلى الله سبحانه بحبِّكم ومودّتكم وموالاتكم، والبراءة من أعدائكم.
التفتَ الإمام الحسن إلى أصحابه قائلا: لقد أردتم قتله وهو بريء; لأنّه لو عرف الحقّ ما كان ليعانده، وإنّ أكثر المسلمين في الشام مثله لو عرفوا الحقّ لاتّبعوه.
ثمّ قرأ قول الله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(1)(2).
____________
1- فصلت: 34.
2- راجع بحار الأنوار 43: 344.
وإنّما المصيبة في الذين يرون الحقّ عياناً ويلمسونه بأيديهم، ثمّ يقفون ضدّه ويحاربونه من أجل أغراض خسيسة، ودنيا دنيئة، وأحقاد دفينة.
وهذا النمط من الناس قال في حقّهم ربّ العزّة والجلالة: {وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}(1).
فلا فائدة في تضييع الوقت معهم، وحرق الأعصاب من أجلهم، وإنّما الواجب علينا أن نضحّي بكلّ شيء مع أُولئك المنُصفين الذين يبحثون عن الحقّ، ويبذلون جهدهم للوصول إليه، والذين قال في حقهم ربّ العزّة والجلالة: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَة وَأَجْر كَرِيم}(2).
فعلى المستبصرين من الشيعة في كلّ مكان أن ينفقوا من أوقاتهم ومن أموالهم في سبيل التعريف بالحقّ لكلّ أبناء الأُمّة الإسلامية، فلم يكن أئمّة أهل البيت حكرة على الشيعة وحدهم، إنمّا هم أئمّة الهدى ومصابيح الدّجى لكلّ المسلمين.
وإذا بقي الأئمّة من أهل البيت مجهولين لدى عامّة المسلمين، وخصوصاً
____________
1- يس: 10.
2- يس: 11.
كما إذا بقي الناس كفّاراً وملحدين، لا يعرفون دين الله القويم الذي جاء به محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) سيّد المرسلين، فالمسؤولية تقع على كلّ المسلمين.
التعريف بأهل السنّة
هم الطائفة الإسلامية الكبرى التي تمثِّل ثلاثة أرباع المسلمين في العالم، وهم الذين يرجعون في الفتوى والتقليد إلى أئمّة المذاهب الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل.
وقد تفرّع عنها فيما بعد ما يسمَّى بالسّلفية، التي جدّد معالمها ابن تيميّة الذي يسمّونه مجدّد السنّة، ثمّ الوهّابية التي ابتدعها محمّد بن عبد الوهّاب، وهو مذهب السعودية.
وكلّ هؤلاء يُسمّون أنفسهم "بأهل السنّة"، وفي بعض الأحيان يضيفون كلمة الجماعة، فيُقال: "أهل السُنّة والجماعة".
ويتبيّنُ لنا من خلال البحث التاريخي أنّ كلّ مَن انتمى إلى ما يُسمّى عندهم بالخلافة الراشدة، أو الخلفاء الراشدين وهم: "أبو بكر وعمر وعثمان وعلي"(1) واعترف بإمامتهم، سواء في عهدهم أو في عصرنا، فهو سنّي من "أهل السنّة والجماعة".
وكلّ من رفض تلك الخلافة واعتبرها غير شرعية، وقال بثبوت النصّ على علي بن أبي طالب، فهو شيعي من أهل الرفض.
ويتبيّن لنا أيضاً أن كلّ الحكّام، من أبي بكر وإلى آخر خلفاء بني
____________
1- سيتبيّن لنا في أبحاث لاحقة بأنّ "أهل السنّة والجماعة" لم يُلحِقوا عليَّ بن أبي طالب بالخلفاء الراشدين الثلاثة إلاّ في زمن متأخّر جدّاً (المؤلّف).
وعلى هذا الأساس فإنّ علي بن أبي طالب وشيعته لم يكونوا معدودين عندهم من "أهل السنّة والجماعة"، وكأنّ هذا الاصطلاح ـ يعني "أهل السنّة والجماعة" قد وُضِعَ في مقابل علي وشيعته، وهو حسب أعتقادي السَّبب الرئيسي في تقسيم الأُمّة الإسلامية بعد وفاة الرسول إلى سنّة وشيعة.
وإذا رجعنا لتحليل الأسباب، وكشف الأستار حسب المصادر التاريخية الموثوقة، لوجدنا أنّ هذا التقسيم ظهر عقيب وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مباشرة وبدون فصل، إذ أنّ الأمر استتبّ لأبي بكر باعتلائه منصّة الخلافة، وأيّدتْه الأغلبيّة الساحقة من الصحابة، وعارضه علي بن أبي طالب وبنو هاشم، وقلّة قليلة من الصحابة الذين كانوا في أغلبهم من الموالي.
وبديهي أنّ السلطة الحاكمة أقصت هؤلاء وأبعدتهم واعتبرتهم خارجين من الصفّ الإسلامي، وعملت كلّ جهودها على شلّ معارضتهم بكلّ الأساليب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
ومن المعلوم أنّ "أهل السنّة والجماعة" اليوم لا يُدركون الأبعاد السياسيّة التي لعبتْ في تلك العصور، ومدى العداوة والبغضاء التي أولدتها تلك الأدوار الخبيثة في عزل وإبعاد أعظم شخصية عرفها تاريخ البشرية بعد الرسول محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم).
و"أهل السنّة والجماعة" في هذا العصر يظنّون أو يعتقدون بأنّ الأُمور كانت على أحسن ما يُرام، وأنّها تدور وفقَ الكتاب والسنّة في زمن الخلفاء
ولكلّ ذلك تراهم يرفضون كلّ ما يقوله الشيعة في الصحابة عامّة، وفي الخلفاء الراشدين منهم خاصّة.
وكأنّ "أهل السنّة والجماعة" لم يقرأوا كتب التاريخ التي سجّلها علماؤهم، واكتفوا فقط بما يسمعونه من أسلافهم من مديح وإطراء وإعجاب بعامّة الصحابة وخصوصاً منهم الخلفاء الراشدين، ولو فتحوا قلوبهم وأبصارهم، وتصفّحوا تاريخهم وكتب الحديث عندهم، طلباً للحقّ ومعرفة الصواب، لغيروا عقيدتهم ليس في الصحابة فحسب، ولكن في كثير من الأحكام التي يعتبرونها صحيحة وما هي كذلك.
وإنّي أحاول بهذا المجهود المتواضع أن أُبيّن لإخواني من "أهل السنّة والجماعة" بعض الحقائق التي طفحتْ بها كتب التاريخ، وأخرج لهم باختصار وجيز النصوص الجليّة التي تدحض الباطل وتظهر الحقّ، عسى أن يكون في ذلك الدّواء الناجع لتشتّت المسلمين واختلافهم، ويعمل على توحيدهم وجمع كلمتهم.
وإنّ "أهل السنّة والجماعة" كما أعرفهم اليوم ليسوا متعصّبين، وليسوا ضدّ الإمام علي وأهل البيت، بل إنّهم يحبّونهم ويحترمونهم، ولكنّهم في نفس الوقت يحبّون ويحترمون أعداء أهل البيت، ويقتدون بهم باعتبار "كلّهم من رسول الله ملتمسٌ".
و"أهل السنّة والجماعة" لا يعملون بقاعدة الولاء لأولياء الله والبراءة من أعداء الله، بل يُلْقُون بالمودّة للجميع، ويترضّون على معاوية بن أبي سفيان كما يترضّون على علي بن أبي طالب.
ولكلّ ذلك لابدّ من كشف حقيقي لتلك المؤامرة الكبرى التي لعبتْ أخطر الأدوار في إقصاء السنّة المحمّدية، وإبدالها ببدع جاهلية سبّبتْ نكسة المسلمين وارتدادهم عن الصراط المستقيم، وتفرّقهم واختلافهم، ثمّ تكفير ومقاتلة بعضهم البعض، الشيء الذي سبّب تخلّفهم العلمي والتقني ممّا أدّى إلى احتلالهم وغزوهم، ثمّ إذلالهم وتحقيرهم وتذويبهم.
وبعد هذا الاستعراض الوجيز للتعريف بالشّيعة وبالسنّة، لابدّ من الملاحظة بأنّ اسم الشيعة لا يعني معارضة السنّة، كما يتوهّم عامّة الناس عندما يتباهون بقولهم: نحن أهل السنّة; ويقصدون بأنّ غيرهم ضدّ السنّة، فهذا لا يوافق عليه الشيعة أبداً، بل إنّ الشيعة يعتقدون بأنّهم وحدهم المتمسكّين بسنّة النبيّ الصحيحة; لأنّهم أتوها من بابها وهو علي بن أبي طالب ولا بابَ سِواه، وعلى رأيهم لا يمكن الوصول إلى الرسول إلاّ عن طريقه.
ونحن كالعادة في توخّي الحياد للوصول إلى الحقّ، لابدّ أن نتدرّج بالقارئ العزيز، ونستعرض معه بعض الأحداث التاريخية، ونقدّم إليه الدّليل والبرهان على أنّ الشيعة هم أهل السنّة، كما جاء عنوان الكتاب.
ونترك له بعد ذلك حريّة الاختيار والتعليق.
أوّل حادث
فرّق المسلمين إلى شيعة وسنّة
ذلك هو الموقف الرهيب والخطير الذي وقفهُ عمر بن الخطّاب، وأكثر الصحابة تجاه أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما أراد أن يكتب لهم ذلك الكتاب الذي يعصم المسلمين من الضلالة(1).
وعارضوه بشدّة وقساوة، وعدم احترام لمقامه السامي، حتى اتّهموه بالهجر والهذيان، مُدّعين بأنّ كتاب الله يكفيهم فلا حاجة لكتابة الرسول!!
ومن خلال هذه الحادثة التي سمّاها ابن عباس رزيّة المسلمين، يتبيّن لنا بأنّ الأكثرية من الصحابة يرفضون السنّة النبويّة ويقولون: "حسبنا كتاب الله".
أمّا علي وأتباعه من الصحابة وهم الأقليّة، والذين سماهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بشيعة علي، فكانوا يمتثلون أوامر الرسول بدون اعتراض ولا نقاش، ويعتبرون كلّ أقواله وأفعاله سنّة واجبة الاتّباع تماماً ككتاب الله، ألم يقل كتاب الله:
____________
1- رزية يوم الخميس مذكورة في صحيح البخاري 5: 138 (كتاب المغازي، باب مرض النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ووفاته)، وصحيح مسلم 5: 76 (كتاب الوصية، باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه).
وسيرة عمر بن الخطّاب معروفة عند كلّ المسلمين، ومواقفه المعارضة للنّبي في كلّ أدوار حياته مشهورة(2).
وبطبيعة الحال فإنّ عمر بن الخطّاب كان يرى عدم التقيّد بالسنّة النبويّة، ويظهر ذلك جليّاً من خلال أحكامه عندما أصبح أميراً للمؤمنين، فكان يجتهد برأيه مقابل النصوص النبويّة، بل كان يجتهد برأيه مقابل النصوص الإلهية الجليّة، فيحرّم ما أحلّ الله ويحلّلُ ما حرّم الله(3).
وبطبيعة الحال إنّ أنصاره ومؤيّديه من الصحابة كانوا على شاكلته، وإنّ محبّيه والمعجبين به من السلف والخلف يقتدون به وببدعه الحسنة كما يُسمّونها.
وسيأتي خلال الأبحاث القادمة بأنّهم يتركون سنّة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويتّبعون سنّة عمر بن الخطّاب.
____________
1- النساء: 59.
2- لقد وافينا البحث لمعارضة عمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتابنا "فاسألوا أهل الذكر" (المؤلّف).
3- كتحريمه سهم المؤلّفة قلوبهم، ومتعة الحجّ، ومتعة النساء التي حلّلها الله، وتحليله طلاق الثلاث بطلقة واحدة وقد حرّم الله ذلك (المؤلّف).
الحادث الثاني
في مخالفتهم للسنّة النبويّة
ذلك هو رفضهم الالتحاق بجيش أُسامة الذي عبّأه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بنفسه، وأمرهم بالسّير تحت قيادته، يومين قبل وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم).
ووصل الأمر بهم إلى الطعن برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وانتقاده، إذ ولّى عليهم شاباً صغيراً لا نبات بعارضيه، عمره سبعة عشر عاماً.
وتخلّف عن السير أبو بكر وعمر وبعض الصحابة، ولم يلتحقوا بالجيش بدعوى إدارة أمر الخلافة، رغم لعن الرسول لمن تخلّف عن أُسامة(1).
أمّا علي وأتباعه فلم يعيّنهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الجيش وذلك لحسم الخلاف، وليصفُوا الجوّ ويخلو من أُولئك المعاندين والمعارضين لأمر الله، فلا يرجعوا من مؤتة إلاّ والأمر قد استتبّ لعلي كما يريده الله ورسوله في خلافة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).
لكنّ دهاة العرب من القريشيين عرفوا ذلك منه، فرفضوا الخروج من المدينة، وتباطأوا حتى لحقَ الرسول بربّه، فأبرموا أمرهم كما خطّطوا له من قبل، وأبعدوا ما أراده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو بعبارة أُخرى رفضوا السنّة النبويّة.
وبهذا يتبيّن لنا ولكلّ باحث أنّ أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعبد الرحمان
____________
1- الملل والنحل للشهرستاني 1: 23، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6: 52.
أمّا علي والصحابة الذين اتّبعوه، فكانوا يتقيّدون بالسنّة النبويّة، ويعملون على تنفيذها حرفياً ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وقد رأينا عليّاً (عليه السلام) في تلك المحنة كيف أنّه تقيّد بوصيّة النبيّ له على أن يقوم بتغسيله وتكفينه والصلاة عليه ومواراته في قبره.
فنفّذ عليٌّ كلّ أوامره ولم يشغله عن ذلك شاغل، ورغم علمه المسبق بأنّ الجماعة تسابقوا إلى السقيفة لاختيار أحدهم للخلافة، وكان بإمكانه أن يُسارع إليها هو الآخر ويفسِد عليهم تخطيطهم، ولكنّ احترامه للسنّة النبويّة والعمل على تطبيقها يحتّم عليه البقاء بجانب ابن عمّه، ولو كلّفه ذلك ضياع الخلافة.
ولابدّ لنا هنا من وقفة ولو قصيرة، لنلاحظ الخلق العظيم الذي ورثه علي من المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم).
ففي حين يزهدُ علي في الخلافة من أجل تنفيذ السنّة، نرى الآخرين يرفضون السنّة من أجل الخلافة.