التعريف بأئمّة " أهل السنّة والجماعة "
وقد انقطع "أهل السنّة والجماعة" إلى الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المعروفة، وهم: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل.
وهؤلاء الأئمة الأربعة لم يكونوا من صحابة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا من التابعين، فلا يعرفهم رسول الله ولا يعرفونه، ولم يرَهم ولم يرونه، فأكبرهم سناً أبو حنيفة بينه وبين النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أكثر من مائة عام; لأنّ مولده كان في سنة ثمانين للهجرة ووفاتة سنة خمسين ومائة، أمّا أصغرهم أحمد بن حنبل، فكان مولده سنة خمس وستين ومائة وكانت وفاته سنة إحدى وأربعين ومائتين، هذا بالنسبة لفروع الدين.
أمّا بالنسبة لأُصول الدين فـ "أهل السنّة والجماعة" يرجعون للإمام أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، الذي وُلد سنة سبعين ومائتين وتوفّي سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة.
فهؤلاء هم أئمة "أهل السنّة والجماعة"، والذين ينقطعون إليهم في أُصول الدين وفروعه.
فهل ترى فيهم واحداً من أئمة أهل البيت، أو من أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله)، أو تكلّم رسول الله عن واحد منهم، وأرشد الأُمّة إليه؟؟
كلاّ لا يوجد شيء من ذلك، ودونه خرط القتاد.
وإذا كان "أهل السنّة والجماعة" يدعون التمسّك بالسنّة النبويّة، فلماذا
ثمّ كيف ينقطعون إلى رجال لم يعاصروا النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا عرفوه، وإنّما ولدوا بعدما وقعت الفتنة، وبعدما تحارب الصحابة وقتل بعضهم بعضاً، وكفّر بعضهم بعضاً(1)، وبعدما تصرف الخلفاء في القرآن والسنّة، واجتهدوا فيهما بآرائهم.
____________
1- كما حكموا بارتداد مالك بن نويرة فقتلوه، مع أنّ أبا قتادة وعمر بن الخطّاب كانا من المعترضين، وكما كفّرت عائشة عثمان حيث قالت: "اقتلوا نعثلا فقد كفر" (تاريخ الطبري 3: 477، السيرة الحلبية 3: 402، الفتوح لابن الأعثم الكوفي 1: 79) وفي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3: 50 عن عمّار قال: "ثلاثة يشهدون على عثمان بالكفر وأنا الرابع..."، وقال الذهبي في مقدّمة رسالته (في الرواة الثقات المتكلّم فيهم بما لا يوجب ردهم ص 3 ـ 21): "وما زال يمرّ بالرجل الثبت وفيه مقال من لا يعبأ به، ولو فتحنا هذا الباب على نفوسنا لدخل فيه عدّة من الصحابة والتابعين والأئمة، فبعض الصحابة كفّر بعضهم بتأويل ما.." نقلا عن كتاب فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي لأحمد بن الصديق الغماري ص147.
وقال ابن تيميّة: "وأمّا علي فأبغضه وسبّه أو كفرّه الخوارج وكثير من بني أُميّة وشيعتهم الذين قاتلوه وسبّوه..
وأمّا شيعة علي الذين شايعوه بعد التحكيم، وشيعة معاوية التي شايعته بعد التحكيم، فكان بينهما من التقابل، وتلاعن بعضهم البعض وتكافر بعضهم ما كان.." مجموعة الفتاوى 4:267.
ومن الواضح أنّ شيعة علي أغلبها من الصحابة الأنصار، وشيعة معاوية من الصحابة الطلقاء، وهؤلاء ـ كما صرح ابن تيميّة ـ وقع بينهما التقاتل وتكفير بعضهم البعض.
فما ذكره صاحب كتاب كشف الجاني: 170 من تكذيب المؤلّف بتكفير الصحابة بعضهم البعض عار على الصحّة، وناشيء من الجهل وقلّة الاطّلاع والتسرّع في تكذيب الآخرين.
فكيف يركن العاقل إلى أُولئك الأئمة الذين هم من تلك الطبقة البشرية التي تدنست بأوحال الفتنة وتغذّت بألبانها المتلونة، وشبّتْ وترعرعت على أساليبها الماكرة الخداعة، وقلدتها أوسمة العلم المزيفة، فلم يبرز للوجود منهم إلاّ الذين رضيت عنهم الدولة ورضوا عنها(1)؟!!
كيف يترك ـ من يدّعي التمسك بالسنة ـ الإمام علي باب مدينة العلم، والإمام الحسن، والإمام الحسين سيدا شباب أهل الجنّة، والأئمة الطاهرين من عترة النبيّ الذين ورثوا علوم جدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويتبع أئمة لا علم لهم بالسنة النبويّة، بل هم صنيعة السياسة الأموية؟!
كيف يدعي "أهل السنّة والجماعة" بأنّهم أتباع السنّة النبويّة وهم يهملون القيّمين عليها؟ بل كيف يتركون وصايا النبيّ وأوامره بالتمسك بالعترة الطاهرة، ثمّ يدّعون أنّهم أهل السنّة؟!
وهل يشكّ مسلم عرف التاريخ الإسلامي، وعرف القرآن والسنّة بأن "أهل السنّة والجماعة" هم أتباع الأمويين والعباسيين؟
____________
1- سيأتي في الأبحاث القادمة بأنّ الحكّام الأمويين والعبّاسيين هم الذين أوجدوا تلك المذاهب وفرضوها (المؤلّف).
أرأيت أيّها القارئ العزيز كيف تقلب السياسة الأُمور، وتجعل من الباطل حقّاً ومن الحقّ باطلا! فإذا بالموالين للنبي وعترته تُسمّيهم بالروافض وبأهل البدع، وإذا بأهل البدع الذين نبذوا سنّة النبيّ وعترته، واتبعوا اجتهاد الحكّام الجائرين تسميهم "أهل السنّة والجماعة"! إنّه حقّاً أمر عجيب!
أمّا أنا فأعتقد جزماً بأنّ قريش هي وراء هذه التسمية، وهو سرّ من أسرارها، ولغز من ألغازها.
وقد عرفنا في ما سبق بأنّ قريشاً هي التي نهت عبد الله بن عمرو عن كتابة السنّة النبويّة بدعوى أنّ النبيّ غير معصوم.
فقريش هي في الحقيقة أشخاص معيّنون، لهم نفوذ وعصبية وقوّة معنوية في أوساط القبائل العربية، وقد يُسميهم بعض المؤرّخين بـ "دهاة العرب"; لما اشتهروا به من المكر والدهاء والتفوّق في إدارة الأُمور، ويسمّيهم البعض بـ "أهل الحلّ والعقد".
ومن هؤلاء أبو بكر، وعمر، وعثمان، وأبو سفيان، ومعاوية ابنه، وعمرو ابن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومروان بن الحكم، وطلحة بن عبد الله، وعبد الرحمان بن عوف، وأبو عبيدة عامر بن الجراح وغيرهم(1).
____________
1- لقد استثنينا من هؤلاء الإمام علياً (عليه السلام) لأنه يُفرِّقُ بين دهاء الحكمة وحُسن التدبير وبين دهاء الخداع والغش والنفاق، وقد قال غير مرّة: "لولا الغشّ والنفاقُ لكنتْ أدهى العرب" كما جاء في القرآن قوله: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} فمكر الله هو الحكمة وحسن التدبير، أمّا مكر المشركين فهو غش ونفاق وخداع وزور وبهتان (المؤلّف).
ومن هذا المكر الذي مكروه قولهم بأنّ محمّداً غير معصوم، وهو كسائر البشر يجوز عليه الخطأ، فينتقصونه ويجادلونه في الحقّ وهم يعلمون.
ومنها: شتمهم لعلي بن أبي طالب، ولعنهم إيّاه باسم أبي تراب، وتصويره للناس بأنّه عدوّ لله ولرسوله.
ومنها: شتمهم ولعنهم للصحابي الجليل عمّار بن ياسر تحت اسم مستعار فسموه عبد الله بن سبأ أو ابن السوداء; لأنّ عمّاراً كان ضدّ الخلفاء، وكان يدعو الناس لإمامة علي بن أبي طالب(1).
ومنها: تسمية الشيعة الذين والوا عليّاً بـ (الروافض) كي يموّهوا على الناس بأنّ هؤلاء رفضوا محمّداً واتبعوا عليّاً.
____________
1- يراجع في ذلك كتاب "الصلة بين التصوّف والتشيّع" للدكتور مصطفى كامل الشيبي المصري، والذي بيّن فيه بعشرة أدلّة قوية بأنّ عبد الله بن سبأ اليهودي أو ابن السوداء ليس إلاّ سيّدنا عمّار بن ياسر (رضوان الله تعالى عليه) (المؤلّف).
وفي تاريخ اليعقوبي 2: 171 إنّ عثمان قال لعمّار: "ويلي على ابن السوداء".
وفي العقد الفريد لابن عبد البر 4: 318: "فقال معاوية لعمرو بن العاص: يا عمرو، هذا المرقال واللّه لئن زحف بالراية زحفاً، إنّه ليوم أهل الشام الأطول، ولكن أرى ابن السوداء ـ يعني عمّاراً ـ وفيه عجلة في الحرب، وأرجو أن تقدمه إلى الهلكة". ومثله في جواهر المطالب لابن الدمشقي الشافعي: 140.
وفي الحقيقة هم يقصدون بـ "السنّة" البدعة المشؤومة التي ابتدعوها في سبّ ولعن أمير المؤمنين وأهل بيت النبيّ على المنابر في كلّ مسجد من مساجد المسلمين، وفي كلّ البلدان والمدن والقرى، فدامت تلك البدعة ثمانين عاماً، حتى كان خطيبهم إذا نزل للصلاة قبل أن يلعن علي بن أبي طالب صاح به من في المسجد: "تركت السنّة، تركت السنّة"!!
ولما أراد الخليفة عمر بن عبد العزيز إبدال هذه السنّة بقوله تعالى:
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي القُرْبى... }(1) تآمروا عليه وقتلوه; لأنّه أمات سنّتهم، وسفّه بذلك أقوال أسلافه الذين أوصلوه للخلافة، فقتلوه بالسمّ وهو ابن ثمانية وثلاثين سنة، ولم تطل خلافته غير سنتين، وذهب ضحية الإصلاح; لأنّ بني عمومته الأمويين لم يقبلوا أن يُميتَ سنّتهم، ويرفع بذلك شأن أبي تراب والأئمة من ولده.
وبعد سقوط الدولة الأموية جاء العبّاسيون، فنكّلوا بدورهم بأئمة أهل البيت وشيعتهم، إلى أن جاء دور الخليفة جعفر بن المعتصم الملقّب "بالمتوكّل" فكان من أشدّ الناس عداوةً لعلي وأولاده(2)، ووصل به البغض
____________
1- النحل: 90.
2- قال الذهبي في سير أعلام النبلاء 12: 18: (وكان في المتوكّل نصب نسأل اللّه العافية).
وقال ابن كثير في البداية والنهاية 11: 96: (وكان شديد التحامل على عليّ وولده).
وقال الشيخ محمّد الخضري في كتابه الدولة العباسية: 223: (امتاز المتوكّل عن سائر أهل بيته بكراهة علي بن أبي طالب وأهل بيته، وهذا ما يعرف في العقائد بالنصب، وهو ضدّ التشيّع، وكان يقصد من يبلغه عنه أنّه يتولى عليّاً وأهله بأخذ المال والدم، وكان ينادمه ويجالسه جماعة اشتهروا بالنصب وبغض علي).
وقال ابن الأثير في الكامل 7: 55: (وكان المتوكّل شديد البغض لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) ولأهل بيته، وكان يقصد من يبلغه عنه أنّه يتولى عليّاً وأهله بأخذ المال والدم...).
وقصّة المتوكّل مع ابن السكّيت العالم النحوي المشهور معروفة، وقد قتله شرّ قتلة، فاستخرج لسانه من قفاه عندما اكتشف بأنّه يتشيّع لعلي وأهل
____________
1- وإذا كان الخليفة يصل إلى هذه الدّرجة من الخسّة والانحطاط، فينبش قبور الأئمة من أهل البيت، وبالخصوص قبر سيّد شباب أهل الجنّة، فلا تسأل بعدها عمّا فعلوه في الشيعة الذين كانوا يتبرّكون بزيارة قبره، فقد وصل شيعة أهل البيت إلى أقصى المعاناة والمحن حتى يتمنّى المسلم أن يتّهموه بأنّه يهودي ولا يتّهموه بالتشيّع، فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم (المؤلّف).
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء 12: 35: (في سنة ستّ وثلاثين هدم المتوكّل قبر الحسين فقال البسامي أبياتاً منها:
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا | في قتله فتتبّعوه رميماً |
وكان المتوكّل في نصب وانحراف، فهدم هذا المكان وما حوله من الدور، وأمر أن يزرع، ومنع الناس من اتيانه)، وارجع أيضاً إلى: الكامل لابن الأثير 7: 55، البداية والنهاية لابن كثير 11: 96، تاريخ الطبري 9: 185 حوادث سنة 236، تاريخ الخلفاء للسيوطي: 347، تاريخ أبي الفداء 1: 351.
وبلغ حقد المتوكّل ونصبه أن أمر بقتل كلّ مولود يُسمّيه أبواه باسم علي; لأنّه أبغض الأسماء إليه، حتى إنّ علي بن الجهم الشاعر لمّا تقابل مع المتوكّل قال له: يا أمير المؤمنين إن أهلي عقوني، قال المتوكّل: لماذا؟ قال: لأنّهم سمّوني علياً، وأنا أكره هذا الاسم وأكره من يتسمّى به، فضحك المتوكّل وأمر له بجائزة(2).
وكان يقيمُ في مجلسه رجلا يتشبّه بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فيضحك الناس عليه ويقولون: قد أقبل الأصلع البطين، فيسخر منه أهل المجلس ويتسلّى بذلك الخليفة(3).
ولا يفوتنا هنا أن نلاحظ بأنّ المتوكّل هذا، والذي دلّ بغضهُ لعليّ على نفاقه وفسقه، يُحبُه أهل الحديث وقد لقبوه بـ "محيي السنّة".
وبما أنّ أهل الحديث هم أنفسهم "أهل السنّة والجماعة" فثبت بالدليل الذي لا ريب فيه أن "السنّة" المقصودة عندهم هي بغض علي بن أبي طالب
____________
1- وفيات الأعيان لابن خلّكان 5: 339، النجوم الزاهرة 2: 318، سير أعلام النبلاء، الذهبي 12: 18.
2- ورد في لسان الميزان 4: 210 في ترجمة (558) علي بن الجهم السلمي: "وأما علي بن الجهم بن بدر بن محمّد بن مسعود بن أسد بن ادينه الساجي الشاعر في أيام المتوكّل فكان مشهوراً بالنصب، كثير الحطّ على علي وأهل بيته، وقيل: إنّه كان يلعن أباه لم سماه علياً..".
3- تاريخ أبي الفداء 1: 351، الكامل لابن الأثير 7: 55.
وممّا يزيدنا وضوحاً على ذلك أنّ الخوارزمي يقول في كتابه: "حتى أنّ هارون بن الخيزران وجعفر المتوكّل على الشيطان لا على الرحمان، كانا لا يعطيان مالا ولا يبذلان نوالا، إلاّ لمن شتم آل أبي طالب، ونصر مذهب النواصب"(2).
كما ذكر ابن حجر عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: لما حدّث نصر ابن علي بن صهبان بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذ بيد الحسن والحسين وقال: "من أحبني وأحبَّ هذين وأباهما وأُمهما كان في درجتي يوم القيامة"، أمر المتوكّل بضربه ألف سوط، فأشرف على الهلاك، فكلّمه فيه جعفر بن عبد الواحد وجعل يقول له: يا أمير المؤمنين هذا من أهل السنّة، فلم يزل
____________
1- إذا رجعنا إلى كلمات بعض علماء السنّة يستخدمون السنّة في لعن علي بن أبي طالب والبراءة منه، فيقولون: فلان شديد التمسّك بالسنّة، مع أنّه معروف بلعن علي بن أبي طالب وبغضه، فمثلا ذكر ابن حبان في ترجمة إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني أنّه: (كان حروري المذهب ولم يكن بداعية وكان صلباً في السنّة حافظاً للحديث، إلاّ أنّه من صلابته ربما كان يتعدّى طوره، وقال ابن عدي: كان شديد الميل إلى مذهب أهل دمشق في الميل على عليّ) تهذيب التهذيب 1: 183، وقال ابن خلكان في ترجمة علي بن الجهم: (وكان مع انحرافه عن علي ابن أبي طالب (رضي الله عنه) وإظهاره التسنّن مطبوعاً مقتدراً على الشعر) وفيات الأعيان 3: 311.
فمن هذه التصريحات وغيرها الكثير يفهم القارئ أنّ لفظ السنّة كان يستخدم فيمن نصب العداء لأهل البيت (عليهم السلام).
2- رسائل أبي بكر الخوارزمي: 166، رسالته إلى جماعة الشيعة بنيسابور.
والعاقلُ يفهم من قول جعفر بن عبد الواحد للمتوكّل بأنّ نصراً هو من أهل السنّة لينقذه من القتل، دليلا آخراً بأنّ "أهل السنّة" هم أعداء أهل البيت الذين يبغضهم المتوكّل، ويقتل كلّ من يذكر لهم فضيلة واحدة وإن لم يكن يتشيّع لهم.
وهذا ابن حجر يذكر أيضاً في كتابه بأنّ عبد الله بن إدريس الأزدي كان صاحب "سنّة وجماعة"، وكان صلباً في السنّة مرضياً، وكان عثمانياً(2).
كما قال في عبد الله بن عون البصري: إنه موثق وله عبادة وصلابة في السنّة، وشدّة على أهل البدع، قال ابن سعد: كان عثمانياً(3).
وذكر أيضاً أن إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني كان حريزي المذهب، (أي على مذهب حريز بن عثمان الدمشقي) المعروف بالنصب، وقال ابن حبّان: إنّه كان صلباً في السنّة(4).
وبهذا عرفنا بأنّ النصب والبغض لعلي وأولاده، وشتم آل أبي طالب، ولعن أهل البيت يُعدّ عندهم من الصلابة في "السنّة"، وعرفنا بأنّ العثمانيين
____________
1- تهذيب التهذيب لابن حجر 10: 284 رقم 781، ترجمة نصر بن علي بن صهبان.
2- ابن حجر في تهذيب التهذيب 5: 127 رقم 248، والمعروف أنّ العثمانيين كانوا يلعنون علياً ويتّهمونه بقتل عثمان بن عفان، راجع مجموعة الفتاوى لابن تيميّة 4: 267.
3- ابن حجر في التهذيب 5: 305 رقم 600.
4- ابن حجر في تهذيب التهذيب 1: 159 رقم 332.
ويقصدون بأهل البدع "الشيعة الذين قالوا بإمامة علي"، لأنّها عندهم بدعة، إذ خالفتْ ما عليه الصحابة والخلفاء الراشدين و"السلف الصالح" من إبعاده، وعدم الاعتراف بإمامته ووصايته.
والشواهد التاريخية على إقامة هذا الدليل كثيرة جدّاً، ولكن ما ذكرناه فيه الكفاية لمن أراد البحث والتحقيق وقد رمنا الاختصار كالعادة، وعلى الباحثين أن يُدركوا أضعاف ذلك إن شاؤوا.
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(1).
____________
1- العنكبوت: 69.
النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي عيَّن أئمّة الشيعة
لا يشكُّ باحثٌ درسَ السيرة النبويّة، وعرف التاريخ الإسلامي بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي عيّن الأئمة الاثني عشر، ونصّ عليهم ليكونوا خلفاءه من بعده، وأوصياءه على أُمّتهِ.
وقد جاء ذكر عددهم في صحاح أهل السنّة، وأنّهم اثنا عشر، وكلّهم من قريش، وقد أخرج ذلك البخاري ومسلم وغيرهما.
كما جاء في بعض المصادر السنّية ذكرهم بأسمائهم مُوضحاً (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّ أوّلهم علي بن أبي طالب، وبعده ابنه الحسن، ثمّ أخوه الحسين، ثمّ تسعة من ذرية الحسين آخرهم المهدي.
أخرج صاحب ينابيع المودة في كتابه قال: قدم يهوديٌّ يقال له: "الأعتل" فقال: يا محمّد، أسألك عن أشياء تلجلج في صدري منذ حين، فإن أجبتني عنها أسلمتُ على يديك. قال: "سل يا أبا عمارة"، فسأله عن أشياء إلى أن قال: صدقت، ثمّ قال: فأخبرني عن وصيّك من هو؟ فما من نبي إلاّ وله وصيٌّ، وإنّ نبينا موسى بن عمران أوصى إلى يوشع بن نون.
فقال: "إنّ وصيّي علي بن أبي طالب، وبعده سبطاي الحسن والحسين، تتلوه تسعة أئمّة من صلب الحسين".
قال: يا محمّد فسمّهم لي.
قال: إذا مضى الحسين فابنه علي، فإذا مضى علي فابنه محمّد، فإذا
ولو أردنا تصفّح كتب الشيعة وما فيها من الحقائق بخصوص هذا الموضوع لوجدنا أضعاف ذلك.
ولكن يكفينا دليلا أنّ علماء "أهل السنّة والجماعة" يعترفون بعدد الأئمة الاثني عشرة، ولا وجود لهؤلاء الأئمّة غير علي وبنيه الطّاهرين.
وممّا يزيدنا يقيناً أنّ الأئمة الاثني عشر من أهل البيت، لم يتتلمذوا على أيّ واحد من علماء الأُمّة، فلم يروِ لنا أصحاب التواريخ ولا المحدّثون وأصحاب السير، بأنّ أحد الأئمّة من أهل البيت تلقّى علمه من بعض الصحابة أو التابعين، كما هو الحال بالنّسبة لكلّ علماء الأُمّة وأئمّتهم(2).
____________
1- ينابيع المودة للقندوزي 3: 282، عن فرائد السمطين للحمويني 2: 132 ح431.
2- نعم، ورد في الكتب الروائية رواية الأئمة عن الصحابي أو التابعي، وهذا غير أخذ العلم والتتلمذ عليهم، فالرواية عن شخص شيء وأخذ العلم عنه شيء آخر، وهذا الدهلوي يعترف ويصرّح بأنّ علماء أهل السنّة تتلمذوا على يد الأئمة (عليهم السلام) وأخذوا العلم عنهم (راجع مختصر التحفة للآلوسي: 8، 34، 193، التحفه الاثني عشرية للدهلوي: 93، 142، 467، والإمام الصادق لأبي زهرة: 53).
ثمّ إنّ جهات علوم الأئمة (عليهم السلام) متعدّدة، فقد ورد في الكافي 1: 264 إنّ مبلغ علمهم على ثلاثة وجوه: ماض، وغابر، وحادث. أمّا الماضي فمفسّر، وأمّا الغابر
=>
____________
<=
فمزبور، وأمّا الحادث فقذف في القلوب ونقر في الأسماع وهو أفضلهاولا نبيّ بعد نبيّنا.
ويقول المجلسي (رحمه الله) في مرآة العقول 3: 126 عند شرحه لهذا الحديث: " (أمّا الماضي فمفسّر) أي فسّره لنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، (وأمّا الغابر) أي المتعلّق بالأمُور الآتية المحتومة (فمزبور) أي مكتوب لنا في الجامعة ومصحف فاطمة (عليها السلام) وغيرها، والشرائع والأحكام داخل فيهما أو في أحدهما، (وأمّا الحادث) وهو ما يتجدّد من الله تعالى حتمه من الأُمور أو العلوم أو المعارف الربانية أو تفصيل المجملات (فقذف في القلوب) بالإلهام من الله تعالى بلا توسّط ملك (أو نقر في الأسماع) بتحديث الملك إيّاهم... ولما كان هذا القول منه (عليه السلام) يوهم ادّعاء النبوة ـ فإنّ الأخبار عن الملك عند الناس مخصوص بالأنبياء ـ نفى ذلك الوهم بقوله: (ولا نبيّ بعد نبيّنا)...".
وعند مراجعة كتاب كشف الجاني لعثمان الخميس: 171 نجده غالط في موارد كثيرة وأُمور متعدّدة، فذكر أنّ المؤلّف يكذب بقوله: إنّ أئمة أهل البيت لم يتتلمذوا على أي عالم من علماء الأُمّة، فيشكل عليه بأنّهم تتلمذوا على يد غيرهم، مستدلا علي ذلك بكتب أهل السنّة أنفسهم!! وفي هذه مغالطة واضحة; إذ كيف يعترض على خصمه ويتهمه بالكذب، ثمّ يستدلّ على كذبه بمصادره لا بمصادر الخصم، أو بمصادر مقبولة من الطرفين؟! وهذا عين المغالطة والخلط في الاستدلال.
وذكر في كلامه أيضاً ترجمة لأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وقد نحى في ترجمته لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) منحى النواصب والمعادين لهم (عليهم السلام)، إذ إنّه عندما يذكر ترجمة إمام من الأئمة يذهب إلى المترجمين الشاذين والمبغضين لأهل البيت (عليهم السلام)، والذين يسعون دائماً إلى التقليل من شأنهم وتضعيف فضائلهم فيذهب إلى هؤلاء ويأتي بكلامهم، ويترك كلام علماء أهل السنّة المعتدلين والمنصفين والذين لهم شأنهم في الوسط العلمي. ونذكر على سبيل المثال نماذج لذلك:
ذكر في الصفحة 173 في ترجمة الإمام الرضا كلام ابن طاهر وابن حبان والذي فيه طعن وتقليل من شأن الإمام، وترك كلام بقية العلماء من أئمة الرجال والجرح والتعديل، فترك كلام إمام السنّة أحمد بن حنبل والذي قال عن رواية ورد في سندها الإمام الرضا، وكان يرويها عن آبائه فقال: (لو قرأت هذه الإسناد على مجنون لبرئ من جنته) أورده ابن حجر الهيتمي في الصواعق المحرقة: 310.
وقال الحاكم النيسابوري في تاريخه: (كان يفتي في مسجد رسول اللّه وهو ابن نيف وعشرين سنة، روى عنه من أئمة الحديث: آدم بن أبي أياس، ونصر بن علي الجهضمي، ومحمّد بن رافع القشيري) نقل كلامه ابن حجر في تهذيب التهذيب 5: 746.
وقال الحافظ جمال الدين بن الجوزي في المنتظم 10: 120: (علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب... سمع أباه وعمومته، وكان يفتي في مسجد رسول اللّه وهو ابن نيف وعشرين سنة).
وقال ابن النجار: (وكان من العلم والدين بمكان، كان يفتي في مسجد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو ابن نيف وعشرين سنة) ذيل تاريخ بغداد 4: 135.
إلى غير ذلك من الكلمات الكثيرة والتي تتجاوز عشرات الأقوال في حق الإمام الرضا ومنزلته وعلمه.
=>
____________
<=
وذكر في الصفحة 173 الإمام الحسن العسكري فقال عنه: قال ابن حجر: ضعّفه ابن الجوزي في الموضوعات فهو اعتمد فقط على ابن الجوزي وترك بقية العلماء، مع أنّ ابن الجوزي معروف بالتساهل وعدم التثبت، ولذلك ألّف الذهبي كتاب تلخيص الموضوعات استدراكاً عليه، وارجع إلى مقدمة الكتاب لترى كلماتهم في ابن الجوزي وكيفية تساهله وعدم تثبّته.
قال سبط بن الجوزي عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): (هو الحسن بن علي بن محمّد بن علي بن موسى الرضا.. كان عالماً ثقة) تذكرة الخواص: 324.
=>