الصفحة 233

تعليق لابدَّ منه لإكمال البحث


وتجدر الإشارة إلى أنّ الشيعة تقيّدوا بمصادر التشريع من الكتاب والسنّة ولم يزيدوا عليها شيئاً، وذلك لوجود النصوص الكافية عند أئمّتهم لكلّ مسألة من المسائل التي يحتاجها الناس.

وقد يستغرب ذلك بعض الناس، ويستبعدون أنْ يكون لأئمّة أهل البيت نصوصٌ كافية لكلّ ما يحتاجه الناس لمواكبة كلّ العصور حتى تقوم الساعة.

ولتقريب هذا الواقع لذهن القارئ لابدّ من الإشارة إلى الأُمور التالية:

إذا اعتقد المسلمُ بأنّ الله سبحانه بعث محمّداً بشريعة مُكمّلة لكلّ الشرائع السابقة، ومهيمنة عليها لتكمل مسيرة الإنسانية فوق هذه الأرض لتعود بعدها إلى الحياة الأبديّة، { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ }(1).

وإذا اعتقد المسلمُ بأنّ الله سبحانه أراد من الإنسان أن يكون خاضعاً لأحكامه في كلّ أقواله وأفعاله، ويسلّم إليه مقاليد أُموره { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ }(2)، { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ }(3).

وإذا كان الأمرُ كذلك، فلابدّ أن تكون أحكام الله كاملة وشاملة لتغطية

____________

1- التوبة: 33.

2- آل عمران: 19.

3- آل عمران: 85.


الصفحة 234
كلّ ما يحتاجه الإنسان في مسيرته الشاقّة; للتغلّب على كلّ العقبات، والصمود أمام التحدّيات، والوصول إلى الهدف المنشود.

ولكلّ ذلك عبّر سبحانه وتعالى عن هذه الحقيقة بقوله:

{مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيء}(1).

وعلى هذا الأساس فليس هناك من شيء إلاّ وهو مذكور في كتاب الله تعالى، ولكنّ الإنسان بعقله المحدود لا يدرك كلّ الأشياء التي ذكرها الله سبحانه وتعالى لحكمة بالغة لا تخفى على أهل المعرفة، وذلك كقوله سبحانه وتعالى:

{وَإِن مِنْ شَيء إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}(2).

و"إن من شيء" بدون استثناء تدلّ على الإنسان، والحيوان، والجماد يسبّحُ، وقد يقبلُ الإنسان تسبيح الحيوان والكائنات الحيّة من النباتات، ولكن عقله لا يفقهُ تسبيح الحجارة مثلا، قال تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ}(3).

وإذا سلّمنا بذلك وآمنّا به، فلابدّ من التسليم والإيمان بأنّ كتاب الله فيه كلّ الأحكام التي يحتاجها الناس إلى يوم القيامة، ولكنّنا لا ندركها إلاّ إذا رجعنا لِمَنْ أُنزل عليه وفهم كلّ معانيه، وهو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال تعالى:

{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيء}(4).

____________

1- الأنعام: 38.

2- الإسراء: 44.

3- ص: 18.

4- النحل: 89.


الصفحة 235
وإذا سلّمنا بأنّ الله سبحانه بيّنَ كلّ شيء إلى رسوله ليُبيّنَ للنّاس ما نُزّل إليهم، فلابدّ أن نُسلّم بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد بيّنَ كلَّ شيء، ولم يترك شيئاً يحتاجه الناس إلى يوم القيامة إلاّ وأعطى فيه حُكماً.

وإذا لم يصلنا ذلك البيانُ أو لم نعرفه نحنُ اليوم، فذلك ناتجٌ عن قصورنا وتقصيرنا وجهلنا، أو هو ناتجٌ عن خيانة الواسطة التي بيننا وبينه، أو هو ناتجٌ عن جهل الصحابة وعدم وعيهم لما بيّنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولكنّ الله سبحانه وتعالى جلّتْ حكمته يعلم أنّ كلّ هذه الاحتمالات ممكنة أو واقعة فلا يترك شريعته تضيع، فاصطفى من عباده أئمّةً أورثهم علم الكتاب وتبيانه، لكي لا يكون للنّاس على الله حجّة، قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}(1).

ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيّن للنّاس ما يحتاجون إليه، واختصّ وصيّه علياً بكلّ ما يحتاجه الناس بعده إلى قيام الساعة، وذلك للمزايا التي كان يتمتّع بها علي من بين الأصحاب جميعاً، من ذكاء مفرط، وفهم حادٍّ، وحفظ قوي، ووعي لكلّ ما يسمع، فعلّمه النبيّ كلّ ما يعلم، وأرشد الأُمّة إليه على أنّه بابه الذي منه يُؤتَى.

وإذا قال قائلٌ بأنّ رسول الله بعثه الله للنّاس كافّة، فليس من حقّه أن يختصّ بالعلم أحدهم ويحرم الآخرين!

قُلنا: ليس لرسول الله في ذلك الأمر شيء، إنّما هو عبدٌ مأمورٌ ينفّذُ ما يوحى إليه من ربّه، فالله هو الذي أمره بذلك، لأنّ الإسلام هو دين التوحيد

____________

1- فاطر: 32.


الصفحة 236
ومبنيٌّ على الوحدة في كلّ شيء، فلابدّ لتوحيد الناس وجمعهم من قيادة واحدة، فهذا أمرٌ بديهيٌّ قرّرهُ كتاب الله، وحكم به العقلُ والوجدانُ، قال تعالى: { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا }(1).

وقال أيضاً: { وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَه إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَه بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض }(2).

كذلك لو أرسل الله رسولين في زمن واحد لانقسم الناسُ إلى أُمّتين، وتفرّق أمرهم إلى حزبين متعارضين، قال تعالى: { وَإِنْ مِنْ أُمَّة إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ }(3).

كذلك كان لكلّ نبيٍّ وصيٌّ يخلفهُ في قومِه وأُمّته، كي لا يتشَتّتَ أمرُهم ويتفرّق جمعهم.

وهذا لعمري أمرٌ طبيعيّ يعرفه الناسُ كافّة سواء كانوا علماء أو جاهلين مؤمنين أو كافرين، ألا ترى أنّ كلّ قبيلة وكلّ حزب وكلّ دولة لابدّ لها من رئيس واحد يتزعّمها ويقودها، ولا يمكن أن يخضعوا لرئيسين في نفس الوقت.

لكلّ هذا اصطفى الله سبحانه من الملائكة رُسُلا ومن الناس، وشرّفهم بمهمّة القيادة لعباده، وجعلهم أئمّة يهدون بأمره، قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ}(4).

____________

1- الأنبياء: 22.

2- المؤمنون: 91.

3- فاطر: 24.

4- آل عمران: 33.


الصفحة 237
والأئمّة الذين اصطفاهم الله سبحانه لختم الرسالة المحمّدية هم أئمّة الهدى من عترة النبيّ، وكلّهم من آل إبراهيم ذرية بعضها من بعض، هؤلاء هم الذين أشار إليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: "الخلفاء من بعدي اثنا عشر كلّهم من قريش"(1).

ولكلّ زمان إمامٌ معلوم، فمن ماتَ ولم يعرف إمام زمانه ماتَ ميتة جاهلية.

والله سبحانه وتعالى إذا اصطفى إماماً طهّرهُ وعَصَمهُ وعلّمهُ فلا يؤتي الحكمة إلاّ لأهلها ومُستحقّيها.

وإذا رجعنا إلى أصل الموضوع، وهو معرفة الإمام كلّ ما يحتاج إليه الناس من أحكام الشريعة، من خلال النصوص التي جاءت في الكتاب والسُنّة، والتي تُواكبُ مسيرة البشريّة إلى قيام الساعة، فإنّنا لا نجدُ في الأُمّة الإسلامية من ادّعى ذلك غير أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) الذين صرّحوا عديد المرّات بأنّ عندهم الجامعة، وهي من إملاء رسول الله وخطّ علي بن أبي طالب، وفيها كلّ ما يحتاجه الناس إلى يوم القيامة حتى أرش الخدش.

وقد أشرنا إلى هذه الصحيفة الجامعة التي كان يحملها عليٌّ معه، وقد أشار إليها البخاري ومسلم في صحيحيهما، ولا يمكنُ لأيّ واحد من المسلمين تكذيب ذلك.

وعلى هذا الأساس فإنّ الشيعة الذين انقطعوا لأئمّة أهل البيت حكموا

____________

1- مضى الكلام حوله في صفحات سابقة. وفي بعض الروايات كلّهم من بني هاشم بدلا من قريش، وسواء أكان من بني هاشم أم من قريش فكلّهم من آل إبراهيم كما هو معلوم.


الصفحة 238
في الشريعة بنصوص القرآن والسُنّة ولم يضطرّوا لغيرها، وذلك على الأقل طيلة ثلاثة قرون حياة الأئمّة الاثني عشر.

أمّا "أهل السنّة والجماعة" فقد اضطرّوا للاجتهاد والقياس وغير ذلك; لفقدان النصوص وجهل أئمّتهم من أيّام الخلافة الأُولى.

وإذا كان الخلفاء عندهم قد عمدُوا لحرق النصوص النبويّة والعمل على منعها وكتمانها.

وإن كان كبيرهم يقول: حسبنا كتاب الله، ضارباً بالسنّة النبويّة عرض الجدار، فمن الطبيعي جداً أن يفتقروا إلى النصوص المبيّنة لأحكام القرآن نفسه.

فكلّنا يعلم بأنّ أحكام القرآن الظاهرية قليلة جداً، وهي في عمومها تفتقرُ إلى بيان النبيّ، ولذلك قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}(1).

وإذا كان القرآن يفتقرُ للسنّة النبويّة لتبيّن أحكامه ومقاصده.

وإذا كان أقطاب "أهل السنّة والجماعة" قد أحرقوا السنّة المبيّنة للقرآن، فلم يبقَ عندهم بعدها نصوصٌ لا لبيان القرآن ولا لبيان السنّة نفسها.

فلابدّ والحال هذه أن يعمدوا للاجتهاد والقياس واستشارة العلماء عندهم، فيأخذوا بالاستحسان، وبما يرون فيه مصلحتهم الوقتية.

ومن الطبيعي جداً أن يحتاجوا إلى كلّ ذلك لفقد النصوص، ويضطرّوا إليه اضطراراً.

____________

1- النحل: 44.


الصفحة 239

التقليد والمرجعيّة عند الشيعة


لابدّ لكلّ مكلّف من المسلمين إذا لم يكن مجتهداً، بمعنى أنّه قادرٌ على استنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنّة أن يُقلّدَ مرجعاً جامعاً للشرائط من العلم، والعدل، والورع، والزهد، والتقوى، وذلك لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(1).

وإذا بحثنا هذا الموضوع نجد الشيعة الإمامية قد واكبوا الأحداث، فلم تنقطع عندهم سلسلة المرجعية أبداً من وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وإلى يوم الناس هذا.

وقد واصل الشيعة تقليد الأئمّة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم السلام)، وقد استمرّ وجود هؤلاء الأئمّة أكثر من ثلاثة قرون على نسق واحد، فلم يُخالف واحدٌ منهم قول الثاني(2); لأنّ النصوص الشرعية من الكتاب والسنّة كانت

____________

1- النحل: 43.

2- كيف يختلفون وقد جعلهم الله على لسان نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أحد الثقلين وعدل القرآن، وأوصى بالتمسّك بهم وأنّه العاصم من الضلال، فكما لا اختلاف ولا تناقض في القرآن، كذلك لا اختلاف ولا تناقض في أقوال العترة المعصومين (عليهم السلام)، وهذا هو مقتضى حديث الثقلين.

ثمّ إنّه لا ينتقض علينا بما ورد من الاختلاف والتناقض فيما نسب إلى الأئمة (عليهم السلام) لأنّه أوّلا: يرد هذا النقض على ما ورد عند أهل السنّة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ايضاً حيث كثرت الأحاديث المختلفة والمتناقضة فيها وثانياً توجد عدّة عوامل وأسباب لظهور هذا الاختلاف من قبيل الدس والوضع، أو ما اختلف بحسب الزمان والمكان، وإلاّ فلا اختلاف في أقوال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة من عترته (عليهم السلام).


الصفحة 240
هي المتبعة عندهم جميعاً، ولم يعملوا بقياس ولا باجتهاد، ولو فعلوا لكان الاختلاف عندهم شائعاً، كما وقع لأتباع "أهل السنّة والجماعة".

ويُستنتجُ من هذا أنّ مذهب "أهل السنّة والجماعة" سواء كان حنفياً أم مالكياً أم شافعياً أم حنبلياً، فهو مبنيٌّ على رأي رجل واحد بعيد عن عصر الرسالة، ولا تربطه بالنّبي أيّة صلة.

أمّا مذهب الشيعة الإمامية فهو متواتر عن اثني عشر إماماً من ذرية النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ينقلُ الابنُ عن أبيه، فيقول أحدهم: "حديثي هو حديث أبي، وحديث أبي هو حديث جدّي، وحديث جدّي هو حديث أمير المؤمنين علي، وحديث علي هو حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحديث رسول الله هو حديث جبريل (عليه السلام)، وهو كلام الله تعالى"(1).

{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}(2).

ثمّ جاءت مرحلة ما بعد غيبة الإمام المعصوم الذي أرجع الناس إلى تقليد العالم الفقيه الجامع للشرائط.

وبدأت سلسلة الفقهاء المجتهدين منذ ذلك العهد إلى اليوم تتوالى بدون انقطاع، وفي كلّ عهد يبرز في الأُمّة مرجعٌ واحدٌ أو عدّة مراجع للشّيعة، يقلّدونهم في أعمالهم حسب الرسائل العمليّة التي يستنبطها كلّ مرجع من

____________

1- نحوه في الكافي 1: 53 ح14.

2- النساء: 82.


الصفحة 241
الكتاب والسنّة، ولا يجتهد إلاّ في الأُمور المستحدثة التي عرفها هذا القرن بسبب التقدّم العلمي والتكنولوجي، كعملية زرع القلب أو أيّ عضو جسدي من شخص لآخر، أو الحمل الاصطناعي، أو المعاملات البنكية وغير ذلك(1).

وقد يبرز من بين المجتهدين أعلمهم فيُسمّى المرجع الأعلى للشيعة، أو زعيم الطّائفة والحوزة العلمية، والذي يحظى بتقدير واحترام كلّ المراجع

____________

1- في كتاب (الانتصار للصحب والآل: 168) للدكتور إبراهيم الرحيلي في معرض ردّه على المؤلّف ذكر أن المؤلّف في الصفحات السابقة ذكر أنّ الشيعة تقيدوا بالنصوص الشرعيّة الواردة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، بينما هنا يقرّر أنّ الفقهاء والمجتهدين يتولّون في كلّ عصر استنباط الأحكام الشرعيّة من النصوص! وهذا تناقض، إذ كيف يمكن القول بأنّهم تقيّدوا بالنصّ والقول بأنّهم استخدموا الاجتهاد في استنباط الأحكام؟

وفي الجواب على هذا الكلام نقول: إنّه ليس هناك تهافت في كلام المؤلّف حيث إنّ استنباط الأحكام الشرعيّة من قبل الفقهاء لا ينافي تقيّد الشيعة بالنصوص الشرعيّة الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام); لأنّ الفقيه يستنبط الحكم الشرعي من الكتاب الكريم والأحاديث الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام)، ودائرة عمله تكون في حدود فهم النصّ ودراسة الظروف والملابسات والقرائن الحافة به واستخراج الحكم الشرعي منه، فهو الذي يقوم بعرض الروايات على الكتاب الكريم، وتنقية الصحيح من السقيم، والموافق للكتاب من مخالفه، حتى يستخرج الحكم الشرعي الصحيح الوارد في النصوص الشرعيّة.

وهذا خلافاً لأهل السنّة والجماعة حيث إنّهم عند فقد النصّ يرجعون إلى القياس والاستحسان وسنّة الصحابة والمصالح المرسلة ممّا لم يرد دليل شرعي يجوّز الاعتماد عليها والرجوع إليها عند فقد النصّ الشرعي. فلا يوجد تخالف في كلام المؤلّف وإنما التخالف في ذهن الرحيلي لا غير.


الصفحة 242
الآخرين.

ويقلّد الشيعة على مرّ العصور الفقيه الحيّ الذي يعيش مشاكل الناس ويهتمّ بهمومهم، فيسألونه ويجيبهم.

وبهذا بقي الشيعة في كلّ العصور يحافظون على المصدرين الأساسيين للشريعة الإسلامية من الكتاب والسنّة، والنصوص المنقولة عبر الأئمّة الاثني عشر من العترة الطاهرة، وجعلت علماءهم يستغنون عن القياس والقول بالرأي; لأنّ الشيعة اعتنوا بتدوين السنّة النبويّة من زمن علي بن أبي طالب الذي كان يحتفظ بالصحيفة الجامعة، التي جمعت كلّ ما يحتاجه الناس إلى يوم القيامة، وكان الأئمّة من ولده يتوارثونها كابراً عن كابر، ويكنزونها كما يكنز الناس الذّهب والفضّة.

وقد نقلنا قول الشهيد آية الله الصدر في رسالته العملية، والتي ذكر فيها بأنّه لم يعتمد إلاّ على القرآن والسنّة.

وليس ذكرنا للشهيد الصدر إلاّ مثالا، وإلاّ فإنّ كلّ مراجع الشيعة بدون استثناء يقولون نفس القول.

وبهذا البحث الوجيز في مسألة التقليد الشرعي والمرجعية الدينية يتبيّن لنا بأنّ الشيعة الإمامية هم أهل القرآن والسنّة النبويّة المنقولة مباشرة عن علي "باب مدينة العلم"، العالم الربّاني، والمرشد الثاني للأُمّة بعد نبيّها، من كان في القرآن كنفس النبيّ(1).

____________

1- إشارة إلى الآية: 61 من سورة آل عمران في قوله تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ}، فدعا علي بن أبي طالب. أخرجه مسلم في صحيحه 7: 21 (كتاب الفضائل، باب فضائل علي (عليه السلام)).


الصفحة 243
فمن جاء للمدينة ودخلها من بابها فقد وصل إلى المعين الصَّافي، وأخذ بالكيل الوافي والعلاج الشَّافي، وقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، لقوله تعالى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا }(1).

ومن أتى البيوت من غير أبوابها سمّيَ سارقاً، فلم يتمكّن من الدّخول، ولم يعرف سنّة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسيُعاقبه الله على عصيانه.

____________

1- البقرة: 189.


الصفحة 244

الصفحة 245

التقليد والمرجعيّة عند أهل السنّة والجماعة


وإذا بحثنا موضوع التقليد والمرجعيّة عند "أهل السنّة والجماعة" فإننا نتحيّر لإيجاد علاقة تربط هؤلاء بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكلّنا يعلم بأنّ "أهل السنّة والجماعة" يرجعون في التقليد إلى أئمة المذاهب الأربعة: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وابن حنبل، وكلّ هؤلاء لا يعرفون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا صاحبوه.

وفي وقت كان الشيعة يقلِّدون علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي لم يُفارق النبيّ طيلة حياته، ومن بعده يقلِّدون سيّدي شباب أهل الجنة الإمام الحسن والإمام الحسين سبطي النبيّ، والإمام علي بن الحسين زين العابدين، وابنه الإمام الباقر، وحفيده الإمام الصادق (عليهم السلام)، لم يكن "لأهل السنّة والجماعة" وجود في ذلك العصر، ولم يحدّثنا التاريخ عنهم أين كانوا، ومن هو إمامهم الذي يقلِّدونه ويرجعون إليه في الأحكام الشرعيّة من الحلال والحرام، من يوم وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ظهور المذاهب الأربعة؟

ويظهر بعد ذلك على مسرح الحياة أئمة المذاهب الأربعة واحداً بعد واحد، وعلى فترات متفاوتة حسب رغبة الحكّام العباسيين، كما قدمنّا في بحث سابق.

ثمّ يظهر بعد ذلك تكتل يجمع المذاهب الأربعة تحت شعار برَّاق يأخذ بالألباب، ويتسمّى بـ "أهل السنّة والجماعة"، ويلتف حوله كلّ من عادى

الصفحة 246
علياً والعترة الطاهرة، وكان من أنصار الخلفاء الثلاثة وكلّ الحكّام من بني أُميّة وبني العباس، فاعتنق الناس تلك المذاهب طوعاً وكرهاً; لأنّ الحكّام عملوا على تأييدها بوسائل الترغيب والترهيب، والناس على دين ملوكهم.

ثمّ نجد "أهل السنّة والجماعة" وبعد موت الأئمة الأربعة، يغلقون باب الاجتهاد في وجه علمائهم، فلا يسمحون لهم إلاّ بالتقليد لأُولئك الأئمة الميّتين.

ولعلّ الحكّام والأمراء هم الذين أغلقوا عليهم باب الاجتهاد، ولم يسمحوا لهم بالنقد والنظر في شؤون الدين، خوفاً من التحرّر الفكري الذي قد يسبِّب لهم قلاقل وفتناً قد تهدّد مصالحهم وكيانهم.

وأصبح "أهل السنّة والجماعة" مقيّدين لتقليد رجل ميّت لم يشاهدوه ولم يعرفوه حتى يطمئنوا لعدالته وورعه وعلمه، وإنّما كلّ ما هنالك أنّهم أحسنوا الظنّ بأسلافهم الذين يروي كلّ فريق منهم مناقب خيالية في الإمام الذي يتبعه، فجاء أغلبها فضائل مناميَّة لا تتعدّى أضغاث أحلام أو طيف منام، أو ظنّاً وأوهاماً، فكلّ حزب بما لديهم فرحون.

ولو نظر المثقّفون من "أهل السنّة والجماعة" اليوم إلى المثالب التي رواها أسلافهم أيضاً، وتضارب الأقوال في بعضهم حتى وصل بهم الأمر إلى الحروب والتكفير في ما بينهم، لراجعوا موقفهم من أُولئك الأئمة ولكانوا من المهتدين.

ثمّ كيف يقلّد المسلم العاقل في هذا الزمان رجلا لا يعرف من مستحدثات العصر شيئاً، ولا يجيبه إذا سأله عن حل لبعض مشاكله، ومن

الصفحة 247
المؤكّد بأنّ مالكاً وأبا حنيفة وغيرهم سيتبرَّأون من "أهل السنّة والجماعة" يوم القيامة ويقولون: ربنا لا تؤاخذنا بما فعل هؤلاء الذين لم نعرفهم ولم يعرفونا، وما قلنا لهم يوماً بوجوب تقليدنا.

ولا أدري ماذا سيكون جواب "أهل السنّة والجماعة" عندما يسألهم ربّ العالمين عن الثقلين؟ ثمّ يأتي عليهم بالرسول شهيداً، وسوف لن يقدروا على دفع شهادته، ولو تذرَّعوا بطاعة ساداتهم وكبرائهم.

وإذا سألهم: هل وجدتم في كتابي أو في سنّة رسولي عهداً أو ميثاقاً أو حجّة على اتباع المذاهب الأربعة؟

والجواب على هذا معروف ولا يتطّلب مزيداً من العلم، فليس في كتاب الله ولا في سنّة رسوله شيء من ذلك، وإنّما في كتاب الله وسنّة رسوله أمر صريح بالتمسّك بالعترة الطاهرة وعدم التخلّف عنهم.

ولعلّهم سيقولون: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ}(1) وسيكون الردّ: كلا، تلك كلمة أنتم قائلوها.

وسيقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): يا ربّ إنّ قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً، إنّني أوصيتهم بعترتي، وبلَّغتهم ما أمرتني به من مودّة قرابتي، فنكثوا بيعتي، وقطعوا رحمي، وذبحوا ولدي، وأباحوا حرمي، فلا ترزقهم يا ربّ شفاعتي.

ومرّة أُخرى يتبيَّن لنا بأنّ "أهل السنّة والجماعة" لا تربطهم بالرسول صلة ولا مودّة، فمن فارق العترة فقد فارق القرآن ومن فارق القرآن فلن تجد له من دون الله وليّاً ولا نصيراً.

____________

1- السجدة: 12.


الصفحة 248
{ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولا }(1).

____________

1- الفرقان: 27 ـ 29.