الصفحة 376
الإسلام.

ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه أنّ رجلين اختلفا في الحجّاج قال أحدهما: هو كافر، وقال الثاني: بل هو مؤمن ضالّ، ولمّا تعاندا سألاَ الشعبي عنه فقال: إنّه مؤمن بالجُبتِ والطّاغوت وكافر بالله العظيم(1).

هذا الحجّاج المجرم المنتهك لما حرّم الله، والذي يذكر المؤرّخون بأنّه أسرف في القتل والتعذيب، والتمثيل بصلحاء الأُمّة والمخلصين، وخصوصاً منهم شيعة آل محمّد، فإنّهم لاقوا منه ما لم يُلاقوه من غيره.

يقول ابن قتيبة في تاريخه بأنّ الحجّاج قتل في يوم واحد بضع وسبعين ألفاً، حتّى سالتْ الدماء إلى باب المسجد وإلى السكك(2).

ويقول الترمذي في سننه: أحصى ما قتلَ الحجّاجُ صبراً، فوجد مائة وعشرون ألفاً(3).

ويقول ابن عساكر في تاريخه بعد ذكر من قتلهم الحجاج: ووجد في سجنه بعد موته ثمانون ألفاً منهم ثلاثون ألف امرأة(4).

____________

1- تاريخ ابن عساكر 12: 187، البداية والنهاية 9: 157، المصنّف لابن أبي شيبة 7: 217.

2- تاريخ الخلفاء لابن قتيبة 2: 40.

3- سنن الترمذي 3: 339، تاريخ دمشق 12: 184، تاريخ الطبري 5: 183، البداية والنهاية 9: 156.

4- تاريخ ابن عساكر 12: 185، البداية والنهاية 9: 156. وأضاف ابن كثير قائلا: (قال الاصمعي: ثنا أبو صم، عن عبّاد بن كثير، عن قحدم قال: أطلق سليمان بن عبد الملك في غداة واحدة أحداً وثمانين ألف أسير كانوا في سجن الحجّاج، وقيل إنه لبث في سجنه ثمانون ألفاً منهم ثلاثون ألف امرأة، وعرضت السجون بعد الحجّاج فوجدوا فيها ثلاثة وثلاثين ألفاً لم يجب على أحد منهم قطع ولا صلب..).


الصفحة 377
وكان الحجّاج يشبّه نفسه بربّ العزّة والجلالة، فإذا مرّ قرب السجن وسمع نداء المسجونين واستغاثتهم له يقول لهم: اخسأوا فيها ولا تكلّمون.

هذا الحجّاج الذي تنبّأ به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل وفاته فقال: إنّ في ثقيف كذّاباً ومُبيراً. والغريب أنّ راوي هذا الحديث هو عبد الله بن عمر نفسه(1)!

نعم، لقد ترك عبد الله بن عمر بيعة خير البشر بعد النبيّ، ولم ينصره ولم يصلّ وراءه، فأذلّه الله سبحانه وذهب إلى الحجّاج يقول: سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: "مَنْ مات وليست في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية". فاحتقره الحجّاج اللّعين وأعطاه رجله قائلا: إنّ يدي مشغولة، فبايعه(2).

وكان يصلّي خلف الحجّاج الزنديق، وخلْف واليه نجدة بن عامر رأس الخوارج(3).

ولا شكّ بأنّ عبد الله بن عمر اختار الصلاة وراء هؤلاء لأنّهم كانوا مشهورين بشتم ولعن علي بعد كلّ صلاة، فكان ابن عمر يشفي غليله، ويروي حقده الدّفين، وهو يسمعُ ذلك فيرتاح قلبه ويهدأ روعه.

____________

1- مسند أحمد 2: 87، 91، البداية والنهاية 6: 265، وقال النووي في شرح مسلم 16: 100: (واتفق العلماء على أنّ المراد... بالمبير الحجّاج بن يوسف..). وقال في فيض القدير شرح الجامع الصغير 2: 600 بعدما ذكر ما ذكره النووي قال: (وقال ابن العربي: الحجّاج ظالم معتدي ملعون على لسان المصطفى (صلى الله عليه وسلم) من طرق خارج عن الإسلام عندي).

2- راجع النصّ والاجتهاد: 599.

3- الطبقات الكبرى لابن سعد 4: 110 ط ليدن، والمحلّى لابن حزم 4: 213.


الصفحة 378
ولذلك نجد مذهب "أهل السنّة والجماعة" يفتون بالصّلاة وراء البرّ والفاجر، وراء المؤمن والفاسق، وذلك استناداً لما فعله سيّدهم وفقيه مذهبهم عبد الله بن عمر في صلاته وراء الحجّاج الزنديق والخارجي نجدة بن عامر.

أمّا ما قاله الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): "يؤمُّ القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنّة، فإن كانوا في السنّة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلماً"(1) فيضربُ به عرض الجدار.

وليستْ هذه الخصال الأربعة: حفظ القرآن، وحفظ السنّة، وقدم الهجرة، وقدم الإسلام، ولا واحدة منهنّ توجد في هؤلاء الذين بايعهم ابن عمر وصلّى بإمامتهم، لا معاوية ولا يزيد، ولا مروان ولا الحجّاج، ولا نجدة الخارجي.

وهذه طبعاً من السنن النبويّة التي خالفها عبد الله بن عمر، وضرب بها عرض الجدار، وعمل بعكسها تماماً، إذ أنّه ترك سيّد العترة الطاهرة علياً الذي اجتمعت فيه كلّ هذه الخصال وأكثر منها، فنبذه وراء ظهره، ويمّم وجهه شطر الفسّاق والخوارج والملحدين أعداء الله ورسوله، واقتدى بصلاتهم!

وكم لعبد الله بن عمر فقيه "أهل السنّة والجماعة" من مخالفات لكتاب الله وسنّة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولو شئنا لجمعنا في ذلك كتاباً مستقلاًّ، ولكنْ يكفينا ذكر بعض الأمثلة من كُتبهم وصحاحِهم حتّى تكون حجّتنا بالغة.

____________

1- صحيح مسلم 2: 133 (كتاب الطهارة باب من أحق بالإمامة)، سنن الترمذي 1: 149، سنن أبي داود 1: 140.


الصفحة 379

خلاف عبد الله بن عمر للكتاب والسنّة:

قال الله تعالى في كتابه العزيز: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}(1)، وقال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): "يا علي أنت تقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين"(2).

فيخالف عبد الله بن عمر نُصوص القرآن والسنّة النبويّة، كما يخالف إجماع الأُمّة من المهاجرين والأنصار الذين قاتلوا مع أمير المؤمنين، ويقول برأيه: لا أُقاتل في الفتنة وأُصلي وراء من غلب(3).

كما ذكر ابن حجر بأنّ عبد الله بن عمر كان من رأيه ترك القتال في الفتنة، ولو ظهر أنّ إحدى الطائفتين مُحقِّة والأُخرى مُبطلة(4).

عجيبٌ والله أمر عبد الله بن عمر الذي يرى الحقّ مع طائفة ويرى الباطل مع الأُخرى، ثمّ لا يتحرّك لنصرة الحقّ على الباطل، ولا لردْع الباطل حتى

____________

1- الحجرات: 9.

2- المستدرك 3: 139، كنز العمال 11: 327 ح31649، تاريخ دمشق 42: 468. ويؤيّد هذا الحديث حديث النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والذي قال فيه: (إنّ منكم من يقاتل على تأويل هذا القرآن كما قاتلت على تنزيله، فاستشرفنا وفينا أبو بكر وعمر! فقال: لا، ولكنّه خاصف النعل، يعني عليّاً (رضي الله عنه)) راجع سلسلة الأحاديث الصحيحة: 5: 639، ح2487 حيث نجد تخريج الحديث فيها.

وهذا الحديث يشهد بصحّة حديث المتن، وأنّ الحروب التي قامت زمن خلافة الإمام علي كانت باطلة وظالمة في حقّ علي، وأنّها كانت لأجل تشويه صورة القرآن الكريم، وتفسيره بحسب أهوائها الدنيوية.

3- الطبقات الكبرى لابن سعد 4: 149.

4- فتح الباري لابن حجر 13: 40.


الصفحة 380
يفيء إلى أمر الله، ويصلّي وراء الغالب ولو كان باطلا!! وهو ما وقع فعلا من ابن عمر.

فقد تغلّبَ معاوية وقهر الأُمّة، وتولّى عليها رغم أنفها، فجاء ابن عمر فبايعه وصلّى خلفَه، رغم ما فعله معاوية من جرائم وبوائق تفوق التصوّر، ولا تخفى على ابن عمر.

وقد تغلّب أهل الباطل من أئمّة الجور بكثرتهم على أهل الحقّ وهم أئمّة أهل البيت فأُبعدوا، وقام الطلقاء والفسّاق والمجرمون الضالّون يحكمون الأُمّة بالقوّة والقهر.

فترك ابن عمر الحقّ بكامله، فلم يُسجّل له التاريخ صحبة ولا مودّة لأهل البيت، وقد عاصر منهم خمسة أئمّة، فلم يصلّ وراء واحد منهم، ولم يروِ عن واحد منهم حديثاً، ولم يحدّث ولم يعترف لواحد منهم بفضل ولا فضيلة.

وقد عرفنا في فصل الأئمة الاثني عشر من هذا الكتاب(1) رأيه في الخلفاء الاثني عشر على حدّ زعمه، فقد صحّح خلافة أبي بكر، وعمر، وعثمان، ومعاوية، ويزيد، والسفّاح، وسلام، والمنصور، وجابر، والمهدي، والأمين، وأمير العصب، قال: هؤلاء الاثنا عشر كلّهم من بني كعب بن لؤي، كلّهم صالح لا يوجد مثله.

فهل ترى في هؤلاء واحداً من أئمّة الهدى من عترة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، والذين وصفهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّهم سفينة النجاة وأعدال القرآن؟!

____________

1- راجع موضوع (الخلفاء الراشدون عند أهل السنة).


الصفحة 381
ولذلك فإنّك لا ترى لهم وجوداً عند "أهل السنّة والجماعة"، ولا يوجد في قائمة أئمّتهم وخلفائهم الذين يقتدون بهم واحد من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)(1).

____________

1- قال الدكتور إبراهيم الرحيلي في كتابه الانتصار للصحب والآل: 172 بأنّ هذا الكلام ينافي ما ذكره المؤلّف في كتابه فسألوا أهل الذكر: 164 "من اتفاق المسلمين على مودّة أهل البيت (عليهم السلام) " فإذا كان المسلمون متّفقون على مودّة أهل البيت (عليهم السلام) فكيف يأتي هنا ويقول بأنّ أهل السنّة لم يقتدوا بأهل البيت، ولا يوجود إمام من أئمة أهل البيت في قائمة أئمة أهل السنّة؟!.

والجواب: إن الدكتور الرحيلي نسي المسألة الأساسيّة التي افترق بها الشيعة عن السنّة، وهو بذلك نسي حتّى ردّه الذي كتبه ردّاً على الدكتور التيجاني، ولا بأس بعرضها للدكتور الرحيلي حتّى يكون على بيّنة منها لذلك نقول: إنّ المسلمين عموماً وبلا استنثاء متّفقون على وجوب مودّة أهل البيت (عليهم السلام); لأجل النصوص القرآنية والسنّة والنبويّة الصريحة الآمرة بذلك، وهذا لم يختلف عليه المسلمون، ومن خالف ذلك وذهب إلى بعض أهل البيت (عليهم السلام) فيعدونه ناصبياً باصطلاح العلماء، أو منافقاً بتعبير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم); لأنّ علي لا يحبّه إلاّ مؤمن ولا يبغضه إلاّ منافق. وعليه فالمسلمون متّفقون على وجود مودّة أهل البيت وحبّهم وعدم إيذائهم.

ولكن الخلاف وقع في وجوب الاتباع وعدمه فالشيعة ذهبوا إلى وجود اتباع أهل البيت (عليهم السلام) والأخذ عنهم والردّ إليهم; لأجل حديث الثقلين المتواتر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والقائل فيه: "إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي" وحدّد لنا أهل البيت بآية التطهير وحديث الكساء الذي رواه مسلم، وعليه التزمت الشيعة بلزوم الرجوع إلى القرآن والعترة الطاهرة من أهل البيت (عليهم السلام) لفهم معالم الدين.

بينما أهل السنّة لم يلتزموا بذلك، وتركوا أهل البيت (عليهم السلام) وقالوا: لا يجب اتباعهم، والواجب المودّة فقط، ورجعوا في معالم دينهم إلى أئمة المذاهب من غير أهل البيت (عليهم السلام)، كمالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل والشافعي وسفيان الثوري وابن عيينة والأوزاعي وغيرهم ممّا يطول عدّه، ولا تجد إماماً من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) يرجعون إليه ويأخذون فقههم ودينهم منه.

=>


الصفحة 382
هذه حال عبد الله بن عمر في مخالفة الكتاب والسنّة.

أمّا جهله بهما فحدّث ولا حرج، فمنها جهله بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) رخّص للنّساء إذا كنّ محرمات أن يلبسن الخفّين، وكان ابن عمر يفتي بحرمة ذلك(1).

ومنها أنّه كان يكري مزارعه على عهد رسول الله، وعهد أبي بكر وعمر

____________

<=

قال ابن القيّم الجوزية وهو يبيّن الفقهاء الذين نشروا العلم وأخذ عنهم: "والدين والفقه والعلم انتشر في الأُمّة عن أصحاب ابن مسعود، وأصحاب زيد بن ثابت، وأصحاب عبد اللّه بن عمر، وأصحاب عبد اللّه بن عباس، فعلم الناس عامته عن أصحاب هؤلاء الأربعة.

فأمّا أهل المدينة فعلمهم عن أصحاب زيد بن ثابت وعبد اللّه بن عمر.

وأمّا أهل مكّة فعلمهم عن أصحاب عبد اللّه بن عباس.

وأمّا أهل العراق فعلمهم عن أصحاب عبد الله بن مسعود" أعلام الموقعين 1:21.

وقال ابن تيميّة: ".. فليس في الأئمة الأربعة ولا غيرهم من أئمة الفقهاء من يرجع إليه [ يعني علي بن أبي طالب ] في فقهه..." منهاج السنّة 7: 529.

فباعد أهل السنّة أنفسهم عن أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأخذوا علومهم من غيرهم، بل وصل الأمر بهم إلى الرواية عن النواصب أعداء أهل البيت (عليهم السلام)، وترك الرواية عن العترة الطاهرة، فهذا البخاري يروي عن عمران بن حطّان الناصبي وحريز بن عثمان الرحبي الناصبي وعكرمة البربري الناصبي وغيرهم. ويترك الرواية عن صادق أهل البيت وعميد العترة الطاهرة في زمانه الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام)، بل ويطعنون فيه بطعون يتمزّق القلب عند سماعها.

1- سنن أبي داود 1: 411، سنن البيهقي 5: 52، مسند أحمد 2: 29.


الصفحة 383
وعثمان، وعهد معاوية حتى حدَّثه أحد الصحابة في آخر خلافة معاوية بأن رسول الله حرَّمه(1).

نعم، هذا هو فقيه "أهل السنّة والجماعة" لا يعرف حرمة كراء المزارع، ولا شكّ بأنّه كان يفتي بجواز ذلك طوال هذه المدّة المذكورة من عهد النبيّ إلى آخر خلافة معاوية قرابة خمسين عاماً.

ومنها ما أنكرته عليه عائشة من فتواه بأن القُبلة توجب الوضوء، أو فتواه بأن الميت يُعذَّب ببكاء الحيّ عليه، وكذلك في أذان الصبح، وفي قوله بأنّ الشهر تسعة وعشرون يوماً، كما عارضته في عدّة مسائل أُخرى.

ومنها ما أخرجه الشيخان البخاري ومسلم في صحيحهما: قيل لعبد الله ابن عمر: إنّ أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: من تبع جنازة فله قيراط من الأجر.

فقال ابن عمر: أكثر أبو هريرة علينا، فصدّقت عائشة أبا هريرة وقالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقوله، فقال ابن عمر: لقد فرَّطنا في قراريط كثيرة(2).

وتكفينا شهادة عمر بن الخطّاب في ابنه عبد الله عندما قال له أحد المتملّقين، وهو على فراش الموت: استخلف عبد الله بن عمر، فقال له: كيف استخلف عليهم من لا يعرف كيف يطلِّق زوجته؟(3)

____________

1- صحيح البخاري 3: 72 (كتاب الوكالة، باب من أحيا أرضاً مواتاً)، صحيح مسلم 5: 21 (كتاب المزارع، باب كراء الأرض).

2- صحيح البخاري 2: 82 (كتاب الجنائز، باب فضل اتباع الجنائز)، صحيح مسلم 3: 51 (كتاب الجنائز، باب فضل الصلاة على الجنائز واتباعها).

3- فتح الباري 7: 54، نيل الأوطار 6: 164.


الصفحة 384
فهذا هو ابن عمر ولا أحد يعرفه أكثر من أبيه.

وأمّا الأحاديث المكذوبة التي خدم بها سيّده معاوية فكثيرة جداً، ونذكر منها على سبيل المثال قوله: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يطلع عليكم رجل من أهل الجنة فطلع معاوية، ثمّ قال من الغد: يطلع عليكم رجل من أهل الجنّة، فطلع معاوية، ثمّ قال من الغد مثل ذلك فطلع معاوية.

وقوله: لما نزلت آية الكرسي قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لمعاوية: أكتبها، فقال معاوية: ما لي بكتبها إن كتبتها؟ قال: لا يقرأها أحد إلاّ كُتب لك أجرها.

وقوله: أما إنّ معاوية يبعث يوم القيامة وعليه رداء من نور الإيمان(1).

وأنا لا أدري لماذا لم يُلحق "أهل السنّة والجماعة" سيّدهم معاوية كاتب الوحي بالعشرة المبشّرين بالجنّة وسيّدهم ابن عمر يؤكّد ثلاث مرات، وفي ثلاثة أيام متوالية أنّ معاوية من أهل الجنّة؟! وإذا كان الناس يبعثون يوم القيامة حفاة عراة فإنّ معاوية أفضل منهم جميعاً، إذ يبعث وعليه رداء من نور الإيمان!! إقرأ واعجب!!

هذا هو عبد الله بن عمر، وهذا مبلغه من العلم، وهذا فقهه وخلافه للكتاب والسنّة النبويّة، وهذا هو عداؤه لأمير المؤمنين، والأئمّة الطاهرين من عترة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا هو ولاؤه وتزلّفه لأعداء الله ورسوله وأعداء الإنسانية.

فهل يتبصر "أهل السنّة والجماعة" اليوم بهذه الحقائق، ويعلمون بأنّ السنّة المحمّدية لا توجد إلاّ عند أتباع العترة الطاهرة وهم الشيعة الإمامية؟

____________

1- راجع الغدير 10: 69.


الصفحة 385
{ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ }(1).

صدق الله العلي العظيم         

12 ـ عبد الله بن الزبير:

أبوه الزبير بن العوّام الذي قُتل في حرب الجمل، وتسمّى في السنّة النبويّة حرب الناكثين، وأُمّه أسماء بنت أبي بكر بن أبي قحافة، وخالته عائشة أُمّ المؤمنين بنت أبي بكر وزوج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو من أكبر المناوئين للإمام عليّ (عليه السلام) والمبغضين له.

ولعلّه كان يفتخر بخلافة جدّه أبي بكر وبخالته عائشة، فورث منهما ذلك الحقد وشبَّ عليه، فكان الإمام عليّ (عليه السلام) يقول للزبير: "قد كنا نعدّك من بني عبد المطلب حتى بلغ ابنك ابن السوء ففرَّق بيننا وبينك"(2).

والمشهور في التاريخ أنّه كان في حرب الجمل من العناصر البارزة والقادة المباشرين، حتى إنّ عائشة قدّمته ليؤم الناس في الصلاة بعدما عزلت طلحة والزبير; لأنّهما اختلفا ورغب كلّ واحد منهما فيها.

ويقال أيضاً: إنّه هو الذي جاء لخالته عائشة بخمسين رجلا يشهدون زوراً بأنّ المكان ليس بـ (ماء الحوأب)، فواصلت معهم طريقها(3).

وعبد الله هو الذي عيّر أباه بالجبن واتهمه بالخوف لمّا عزم على اعتزال المعركة، بعدما ذكَّره الإمام علي (عليه السلام) بحديث النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وإعلامه بأنّه

____________

1- الحشر: 20.

2- أنساب الأشراف للبلاذري: 255، تاريخ الطبري 3: 519.

3- الإمامة والسياسة 1: 82، المعيار والموازنة للاسكافي: 56.


الصفحة 386
سيقاتل علياً وهو له ظالم، حتّى إن أباه لمّا أكثر هو تعييره قال له: مالك أخزاك الله من ولد ما أشأمك(1).

ويقال: إنّه ما زال يُعيّر أباه ويهيّجه حتى حمل على جيش عليّ فقُتل، وبهذا يصدق عليه قول أبيه "ما أشأمك من ولد".

وهذه هي الرواية التي اخترناها لأنّها أقرب للواقع ولنفسية الزبير الحاقدة وابنه عبد الله ابن السوء، فلا يمكن للزبير أن ينسحب من المعركة بتلك السهولة، ويترك وراءه طلحة وأصحابه ومواليه وعبيده الذين جاء بهم إلى البصرة، ويترك أُمّ المؤمنين أُخت زوجته وقد أشرفت على الهلاك، ولو سلَّمنا بأنّه تركهم فهم لا يتركونه، وبالخصوص ابنه عبد الله الذي عرفنا عزمه وشدّة حزمه.

ويذكر المؤرّخون بأنّ عبد الله بن الزبير كان يشتم علياً ويلعنه ويقول: جاءكم الوغد اللئيم، يقصد علياً (عليه السلام)!! وخطب في أهل البصرة يستنفر الناس ويحرّضهم على القتال فقال: أيّها الناس إنّ علياً قتل الخليفة بالحقّ عثمان مظلوماً، ثمّ جهَّز الجيوش ليستولي عليكم ويأخذ مدينتكم، فكونوا رجالا تطالبون بثأر خليفتكم، واحفظوا حريمكم، وقاتلوا عن نسائكم وذراريكم، وأحسابكم وأنسابكم، ألا وإنّ علياً لا يرى في هذا الأمر أحداً سواه، والله لئن ظفر بكم ليهلكن دينكم ودنياكم(2).

وقد بلغ من بغضه لبني هاشم عامة ولعليّ (عليه السلام) خاصة أنّه ترك الصلاة

____________

1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 166.

2- تاريخ المسعودي 5: 163.


الصفحة 387
على محمّد أربعين جمعة ويقول: إنّه لا يمنعني من ذكره إلاّ أن تشمخ رجال بآنافها(1).

وإذا كان حقده وبغضه يصل به إلى ترك الصلاة على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلا لوم عليه ولا يستغرب منه أن يكذب على الناس، ويتهم الإمام علياً (عليه السلام) ويرميه بكلّ قبيح، وقد سمعت خطبته في أهل البصرة وقوله لهم: والله لئن ظفر بكم ليهلكن دينكم ودنياكم.

إنّه كذب مفضوح، وبهتان عظيم من عبد الله بن الزبير الذي لا يعرف الحقّ إلى قلبه سبيلا.

والشاهد على ذلك أنّ عليّ بن أبي طالب ظفر بهم، وانتصر عليهم، وأسَرَ الأغلبية منهم، وفيهم عبد الله بن الزبير نفسه، ولكنّه عفا عنهم جميعاً وأطلق سراحهم، وأكرم عائشة بأن سترها وأرجعها إلى بيتها في المدينة، كما منع أصحابه من أخذ الغنائم وسبي النساء والأطفال، والإجهاز على جريح، حتى سبَّب له ذلك تمرّد بعض الجيش عليه والتشكيك في أمره.

فعلي (عليه السلام) هو محض السنّة النبويّة، وهو العارف بكتاب الله ولا أحد يعرفه سواه، فقد ثارت ثائرة بعض المنافقين المندسين في جيشه وألَّبوا عليه، وقالوا: كيف يبيح لنا قتالهم ويحرّم علينا سبي نسائهم؟

واغترَّ بهذا القول كثير من المقاتلين غير أنّه (سلام الله عليه) احتجّ عليهم بكتاب الله وقال لهم: اقترعوا على من يأخذ منكم أُمّه عائشة! وعند ذلك

____________

1- تاريخ اليعقوبي 2: 261، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4: 62، مروج الذهب 3: 79.


الصفحة 388
أدركوا أنّه على الحقّ، فقالوا نستغفر الله لقد أصبت وأخطأنا.

فقول عبد الله بن الزبير كذب وبهتان مبين; لأنّ بغضه لعليّ (عليه السلام) أعمى بصره وبصيرته وأخرجه عن الإيمان، ولم يتُب ابن الزبير بعد ذلك، ولم يتّخذ من تلك الحرب دروساً ومواعظ يستفيد منها.

كلاّ إنّه قابل الحسنة بالسيئة، وازداد حقده وبغضه لبني هاشم، ولسيّد العترة الطاهرة، وعمل كلّ ما في وسعه لإطفاء نورهم والقضاء عليهم.

فقد روى المؤرّخون بأنّه وبعد مقتل الإمام علي (عليه السلام) قام يدعو لنفسه بإمارة المؤمنين، والتف حوله بعض الناس وقويت شوكته، فعمل على سجن محمّد بن الحنفية، ولد الإمام علي (عليه السلام)، وكذلك الحسن بن علي ومعهم سبعة عشر رجلا من بني هاشم، وأراد أن يحرقهم بالنار فجمع على باب الحبس حطباً كثيراً وأضرم عليهم النار، ولولا وصول جيش المختار في الوقت المناسب فأطفأ النار واستنقذهم لبلغ فيهم ابن الزبير مراده(1).

وبعث إليه مروان بن الحكم جيشاً بقيادة الحجّاج، فحاصره وقتله وصلبه في الحرم.

وهكذا انتهت حياة عبد الله بن الزبير، كما انتهت حياة أبيه من قبل، كلّ منهما أحبّ الدنيا وحرص على الإمارة، وأراد البيعة لنفسه وقاتل من أجلها، وهلك وأهلك، ومات مقتولا دونها ولم يبلغ مناه.

ولعبد الله بن الزبير أراء في الفقه أيضاً، وهي ردّ فعل منه لمخالفة فقه أهل البيت الذين يبغضهم، ومن أشهرها قوله بحرمة زواج المتعة.

____________

1- تاريخ المسعودي 3: 76، تاريخ اليعقوبي 2: 261.


الصفحة 389
فقد قال مرّة لعبد الله بن عباس: يا أعمى البصر لئن فعلتها لأرجمنك بالحجارة.

ورد عليه ابن عباس: أنا أعمى البصر، أما أنت فأعمى البصيرة، وإذا أردت معرفة حليّة المتعة فاسأل عنها أُمّك!(1)

ولا نريد الإطالة في هذا الموضوع الذي كثر فيه الكلام، وإنّما أردنا إبراز مخالفة ابن الزبير لأهل البيت في كلّ شيء حتى في الأُمور الفقهية التي ليس له فيها قدم راسخة.

وقد ذهب كلّ هؤلاء بخيرهم وشرّهم، وتركوا الأُمّة المنكوبة تمخر في بحر من الدماء وتغرق في بحر الضلالة، والأغلبية منهم لا يعرفون الحقّ من الباطل، وقد صرَّح بذلك طلحة والزبير، وكذلك سعد بن أبي وقاص.

ولكنّ الوحيد الذي كان على بيِّنة من ربّه ولم يشكّ في الحقّ طرفة عين، هو عليّ بن أبي طالب (سلام الله عليه) الذي كان يدور الحقّ معه حيث توجّه ودار.

فهنيئاً لمن اتبعه واقتدى به، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) له: "أنت يا عليّ وشيعتك هم الفائزون يوم القيامة"(2).

____________

1- أعمى البصر; لأنّ عبد الله بن عبّاس كفّ بصره في كبره، وأمّا قوله: فاسأل عنها أُمّك فيقال: إنّ الزبير تزوّج أسماء بزواج متعة، وإن عبد الله نفسه ولد من المتعة. ويقال: إن عبد الله رجع إلى أُمّه فقالت له: ألم أنهك عن ابن عباس فهو أعلم الناس بمثالب العرب (المؤلّف).

2- الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور لجلال الدّين السيوطي 6: 379 في سورة البيّنة باختلاف.


الصفحة 390
{أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}(1).

صدق الله العلي العظيم         

____________

1- يونس: 35.