____________
<=
وإذا كان لنا أن نعرف السبب الذي من أجله اختفى عن جمهور المسلمين بعض مرويّات عليّ وفقهه، فإنّا نقول: إنّه لابدّ أن يكون للحكم الأموي أثر في اختفاء الكثير من آثار علي في القضاء والإفتاء; لأنّه ليس من المعقول أن يلعنوا عليّاً فوق المنابر وأن يتركوا العلماء يتحدّثون بعلمه، وينقلون فتاويه وأقواله للناس، وخصوصاً ما كان يتصل منها بأُسس الحكم الإسلامي.
والعراق الذي عاش فيه عليّ رضي اللّه عنه وكرّم اللّه وجهه، وفيه انبثق علمه، كان يحكمه في صدر الدولة الأموية ووسطها حكّام غلاظ شداد، لا يمكن أن يتركوا آراء علي تسري في وسط الجماهير الإسلاميّة، وهم الذين يخلقون الريب والشكوك حوله، حتى إنّهم يتخذون من تكنية النبي (صلى الله عليه وسلم) له (بأبي تراب) ذريعة لتنقيصه، وهو (رضي الله عنه) كان يطرب لهذه الكنية، ويستريح لسماعها; لأنّ النبي (صلى الله عليه وسلم) قالها في محبّة، كمحبّة الوالد لولده".
ثمّ يعرّج بعد ذلك على قضيته الأخيرة التي ذكرها، وهي ترك تراث الإمام علي العلمي من قبل المحدّثين، فهل كلّ الأُمّة تركته، أم أنّ هناك من حفظ تراثه العلمي؟
يقول أبو زهرة مجيباً على هذا التسائل: "ولكن هل كان اختفاء أكثر آثار علي (رضي الله عنه) وعدم شهرتها بين جماهير المسلمين سبيلا لاندثارها وذهابها في لجة التاريخ إلى حيث لا يعلم بها أحد؟!
إنّ عليّاً (رضي الله عنه) قد استشهد وقد ترك وراءه من ذريته أبراراً أطهاراً كانوا أئمة في علم الإسلام، وكانوا ممّن يقتدى بهم، ترك ولديه من فاطمة الحسن والحسين، وترك روّاد الفكر محمّد بن الحنفية، فأودعهم (رضي الله عنه) ذلك العلم وقد قال ابن عبّاس: (إنّه ما انتفع بكلام بعد كلام رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) كما انتفع بكلام عليّ بن أبي طالب كرّم اللّه وجهه).
لقد قام أُولئك الأبناء بالمحافظة على تراث أبيهم الفكري، وهو إمام الهدى، فحفظوه من الضياع، وقد انتقل معهم إلى المدينة لما انتقلوا إليها بعد
=>
____________
<=
استشهاده (رضي الله عنه).
وقد يقول قائل: إنّه قد يكون في الاستتار مجال للتزييد؟
ونقول في الإجابة عن هذا: إنّ التزيد لا يمكن أن يكون من رجال أهل البيت الكريم، الذي اشتهر رجاله بالصدق في القول والعمل والإخلاص وفي كلّ شؤون دينهم; فهل يتصوّر التزيد من الحسين أو علي زين العابدين أو الباقر أو الصادق؟! إنّ ذلك لا يتصوّر، ولا يمكن أن يفرضه عالم مسلم مهما تكن نحلته". الإمام الصادق للإمام محمّد أبو زهرة: 126 ـ 128.
فإذا كان فقه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) محفوظاً عند أبنائه الحسن والحسين وعلي ابن الحسين والباقر والصادق، فلماذا تركتهم الأُمّة ولم ترجع إليهم في الأخذ بفقه علي (عليه السلام)؟!
ولماذا تركهم الإمام أبو زهرة نفسه وولّى وجهه شطر الأئمة من أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ولم يضمّ إليهم الإمام جعفر بن محمّد الصادق، ويجعله عدلهم ومساوياً لهم في الأخذ على الأقلّ؟
ولماذا ولّوا وجوههم شطر النواصب والخوارج؟ أمثال عمران بن حطّان وعكرمة البربري، وجرير بن عثمان الحمصي، وحصين بن نمير الواسطي، وإسحاق بن سويد العدوي والوليد بن كثير بن يحيى المدني، وقيس بن أبي حازم.. وغيرهم الكثير الذي أخرجت لهم الصحاح كالبخاري ومسلم، وتركت سادة أهل البيت أمثال جعفر الصادق ومحمّد الباقر وغيرهم؟!
وهناك استفهامات كثيرة يعجز أحفاد الأمويين الإجابة عنها واقناع المسلمين بأسبابها.
وقد توهّم الدكتور إبراهيم الرحيلي في كتابه الانتصار للصحب والآل: 168 تناقض المؤلّف في كلامه; إذ قال تحت عنوان تناقضات المؤلّف: (قوله في كتابه الشيعة هم أهل السنّة: "ويكفينا على ذلك دليل واحد يعطينا الحجّة البالغة، وكما قدّمنا بأنّ أهل السنّة والجماعة لم يعرفوا إلاّ في القرن الثاني للهجرة كردِّ فعل
=>
وإذا أردنا دليلا آخر، فما علينا إلاّ أن نحلّل موقف "أهل السنّة والجماعة" من ذكرى يوم عاشوراء، ذلك اليوم المشؤوم الذي هُدم فيه ركن الإسلام بقتل سيّد شباب أهل الجنّة، والعترة الطاهرة من ذرّية المصطفى،
____________
<=
على الشيعة الذين والوا أهل البيت وانقطعوا إليهم، فإنّنا لا نجد شيئاً في فقههم وعباداتهم وكلّ معتقداتهم يرجعون فيه إلى السنّة النبويّة المروية عن أهل البيت" يعارض هذا قوله في الكتاب نفسه: "وإذا شئنا التوسّع في البحث لقلنا بأنّ "أهل السنّة والجماعة" هم الذين حاربوا أهل البيت النبوي... ولذلك لو فتشت في عقائدهم وكتب الحديث عندهم فسوف لا تجد لفقه أهل البيت شيئاً عندهم يذكر".
قال الرحيلي: ففي النصّ الأوّل يدّعي أنّ كلّ معتقدات أهل السنّة وفقهم ترجع إلى أهل البيت!! وفي النصّ الثاني يناقض ذلك تماماً ويزعم أنّ أهل السنّة أخذوا كلّ معتقداتهم... من أعداء أهل البيت..).
هذا ما ذكره الرحيلي، وهو يثير العجب حيث إنّ المؤلّف نفى في النصّ الأوّل رجوع أهل السنّة إلى أهل البيت وقال: ".. لا نجد شيئاً في فقههم يرجعون فيه إلى السنّة النبويّة المروية عن أهل البيت". وكذلك في النصّ الثاني نفى رجوع أهل السنّة في الأُصول والفروع لأهل البيت، فكيف يتفوّه الرحيلي بهذا الكلام ويدّعي التناقض على المؤلّف مع أنّه لا تناقض إلاّ في مخيّلته التي أعماها التعصّب المقيت!!
أوّلا: نلاحظ أنّهم يقفون من قتلة الحسين موقف الراضي الشامت المعين، ولا يستغرب منهم ذلك، فقتلة الحسين كلّهم من "أهل السنّة والجماعة"، ويكفي أن نعرف بأنّ قائد الجيش الذي ولاَّه ابن زياد لقتل الحسين هو عمر بن سعد بن أبي وقاص.
ولذلك فـ "أهل السنّة والجماعة" يترضّون على الصحابة أجمعين بما فيهم قتلة الحسين والذين شاركوهم، ويوثّقون أحاديثهم، بل وفيهم من يعتبر الإمام الحسين "خارجياً"; لأنّه خرج على أمير المؤمنين يزيد بن معاوية!
وقد قدّمنا فيما سبق بأنّ فقيه "أهل السنّة والجماعة" عبد الله بن عمر قد بايع يزيد بن معاوية، وحرَّم أن يخرج أحد من أتباعه على يزيد، وقال: "نحن مع من غلب".
ثانياً: نرى بأنّ "أهل السنّة والجماعة" على مرّ التاريخ من يوم عاشوراء إلى يوم الناس هذا، يحتفلون بيوم عاشوراء ويجعلونه عيداً، يخرجون فيه زكاة أموالهم ويوسعون فيه على عيالهم، ويروون بأنّه يوم بركات ورحمات.
ولا يكفيهم كلّ ذلك، فتراهم إلى اليوم يشنّعون على الشيعة، وينتقدون بكاءهم على الحسين، وفي بعض البلدان الإسلامية يمنعونهم من إقامة ذكرى العزاء، ويهجمون عليهم بالسلاح، ويعملون فيهم ضرباً وتقتيلا بدعوى محاربة البدع.
وفي الحقيقة هم لا يحاربون البدع بقدر ما يمثلون دور الحكَّام الأمويين
فهم إلى الآن يريدون القضاء على إحياء تلك الذكرى خوفاً من أن يعرف الناس ومن يجهلون حقيقة أهل البيت واقع الأُمور، فتنكشف بذلك عورات أسيادهم وكبرائهم، ويعرف الناس الحقّ من الباطل، والمؤمن من الفاسق.
وبهذا يتبيَّن لنا مرّة أُخرى بأنّ الشيعة هم أهل السنّة النبويّة; لأنّهم اتبعوا سنّة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى في الحزن والبكاء علي أبي عبد الله الحسين، وذلك بروايات ثابتة أنّه بكى على ولده الحسين عندما أعلمه جبريل بمقتله في كربلاء وذلك قبل الواقعة بخمسين عاماً.
ويتبيّن لنا أيضاً بأنّ "أهل السنّة والجماعة" يحتفلون بيوم عاشوراء; لأنّهم اتبعوا سنّة يزيد بن معاوية وبني أُميّة في احتفالهم بذلك اليوم; لأنّهم انتصروا فيه على الحسين، وأخمدوا ثورته التي كانت تهدّد كيانهم، وقطعوا بذلك دابر الشغب على حدّ زعمهم.
والتاريخ يحدّثنا بأنّ يزيد وبني أُميّة، احتفلوا بذلك اليوم احتفالا كبيراً حتى وصل إليهم رأس الحسين وسبايا أهل البيت، ففرحوا بذلك وشمتوا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا في ذلك أشعاراً.
وتقرَّب إليهم علماء السوء من "أهل السنّة والجماعة"، فوضعوا لهم أحاديث في فضل ذلك اليوم، وأنّ عاشوراء هو اليوم الذي تاب الله فيه على آدم، وهو اليوم الذي رست فيه سفينة نوح على جبل الجودي، وهو اليوم الذي كانت فيه النار برداً وسلاماً على إبراهيم، وهو اليوم الذي خرج فيه
وهذه الروايات كلّها يردّدها علماء "أهل السنّة والجماعة" وأئمتهم على المنابر حتى اليوم بمناسبة عاشوراء، وهي روايات كلّها من وضع الدجّالين الذين تزيّوا بزي العلماء، وتقرَّبوا إلى الحكَّام بكلّ الوسائل، فباعوا آخرتهم بدنياهم، فما ربحت تجارتهم وهم في الآخرة من الخاسرين.
وقد أمعنوا في الكذب عندما رووا بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) هاجر إلى المدينة فصادف دخوله إليها يوم عاشوراء، فوجد يهود المدينة صياماً، فسألهم عن السبب، قالوا: هذا اليوم الذي انتصر فيه موسى على فرعون، فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): نحن أولى بموسى منكم(1)، ثمّ أمر المسلمين بصوم عاشوراء وتاسوعاء لمخالفة اليهود.
وهذا كذب مفضوح إذ إنّ اليهود يعيشون معنا، ولم نسمع لهم بعيد يصومون فيه يسمونه عاشوراء.
وهل لنا أن نسأل ربنا عزّ وجلّ: كيف جعل هذا اليوم مباركاً على كلّ أنبيائه ورسله من آدم إلى عيسى إلاّ محمّد، فقد كان عليه هذا اليوم مصيبة وعزاء وشؤماً، إذ قُتل فيه ذريته وعترته، وذُبحوا ذبح الغنم، وأخذت بناته سبايا؟ والجواب: إنّه {لا يُسْأَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}(2).
{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءَكُمْ
____________
1- مسند أحمد 1: 336، سنن أبي داود 1: 546.
2- الأنبياء: 23.
____________
1- آل عمران: 61.
5 ـ أهل السنّة والجماعة والصلاة البتراء
بعدما قدّمنا في فصل سابق نزول الآية وتفسيرها من قبل الرسول نفسه، وتعليمهم كيفيّة الصلاة الكاملة، ونهيهم عن الصلاة البتراء التي لا يقبلها الله سبحانه، ومع ذلك نجد إصراراً كبيراً من طرف "أهل السنّة والجماعة" على الصلاة البتراء لئلاّ يذكرون آل محمّد ضمن الصلاة، وإذا ما ذكروهم غصباً تراهم يضيفون الصحابة معهم، وإذا قلت أمام أحدهم: صلّى الله عليه وآله، فإنّه يفهم على الفور بأنّك شيعي، وذلك لأنّ الصلاة الكاملة على محمّد وآل محمّد أصبحت شعاراً للشيعة وحدهم.
وهذه حقيقة لا مرية فيها، وقد اعتمدتها شخصياً في بداية البحث، فكنت أعرف تشيّع الكاتب من قوله بعد ذكر محمّد: صلى الله عليه وآله وسلّم، وعندما لا أجد إلاّ لفظة صلّى الله عليه وسلّم أعرف أنّه سنّي.
كما أفهم تشيّع الكاتب عندما يكتب "عليّ (عليه السلام) "، ولكنّه عندما يكتب كرَّم الله وجهه أعرف بأنّه سنّي.
ونرى من خلال الصلاة الكاملة بأن الشيعة اقتدوا بالسنّة النبويّة الشريفة، بينما خالف "أهل السنّة والجماعة" أوامر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يقيموا لها وزناً، فتراهم دائماً يصلّون الصلاة البتراء، وإذا ما اضطروا إلى إضافة الآل فأنّهم عند ذلك يضيفون معهم الصحابة أجمعين بدون استثناء، حتى لا يبقوا لأهل
وهذا كلّه ناتج عن موقف الأمويين تجاه أهل البيت، والعداوة التي كانوا يحملونها لهم، حتى وصل بهم الأمر أن أبدلوا الصلاة عليهم بلعنهم على المنابر، وحمل الناس على ذلك بوسائل الترهيب والترغيب.
فـ "أهل السنّة والجماعة" لم يجاروهم في السبّ واللعن لأهل البيت، ولو فعلوا ذلك لافتضحوا عند المسلمين، ولعُرفوا على حقيقتهم وتبرّأ منهم الناس، فتركوا السبّ واللعن، ولكنّهم أضمروا العداوة والبغضاء لأهل البيت، وحاولوا بكلّ جهودهم إطفاء نورهم بأن رفعوا مكانة أعدائهم من الصحابة، واختلقوا لهم فضائل خيالية لا تمت للحقّ بصلة.
والدليل على ذلك أنّك تجد "أهل السنّة والجماعة" حتى اليوم يقولون شيئاً في معاوية والصحابة الذين لعنوا أهل البيت طيلة ثمانين عاماً، بل ويترضّون عليهم أجمعين، وفي الوقت يكفِّرون أيّ مسلم ينتقص أحداً منهم (من الصحابة) ويكشف عن جرائمه، فيفتون بقتله.
وقد حاول بعض الوضّاعين أن يضيف إلى الصلاة الكاملة ـ التي علمها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أصحابه ـ جزءاً آخر، ظنّاً منه بأنّ ذلك سينقص من مكانة أهل البيت وقيمتهم، فروى بأنّه قال: قولوا اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد وعلى أزواجه وذريته، والباحث يفهم بأنّ هذا الجزء قد أُضيف لكي تلحق عائشة بركب أهل البيت.
ونحن نقول لهم: لو سلَّمنا جدلا بصحة الرواية، وقبلنا أُمهات المؤمنين ضمنها، فإنّ الصحابة لا دخل لهم فيها، وأنا أتحدّى أن يأتي أحد المسلمين
والقرآن والسنّة أمرا كلّ الصحابة، وكلّ من يأتي بعدهم من المسلمين إلى قيام الساعة بالصلاة على محمّد وآل محمّد، وهذه وحدها مرتبة عظيمة تقصر عنها كلّ المراتب، ومنقبة جليلة لا يلحقهم فيها لاحق.
فأبو بكر وعمر وعثمان، وكلّ الصحابة أجمعين، وكلّ المسلمين في العالم، والذين يعدّون بمئات الملايين عندما يصلّون يقولون في تشهدهم: اللهّم صلّ على محمّد وآل محمّد! وإذا لم يقولوا ذلك فصلاتهم مردودة لا يقبلها الله سبحانه.
وهذا هوا المعنى بالضبط الذي قصده الإمام الشافعي عندما قال:
يكفيكم من عظيم الشأن أنّكم | من لم يصلّ عليكم لا صلاة له(1) |
وقد اتهم الشافعي بالتشيّع من أجل قوله هذا، فإنّ أذناب الأمويين والعباسيين يتهمون بالتشيّع كلّ من صلّى على محمّد وآل محمّد، أو قال فيهم شعراً، أو حدَّث بفضيلة من فضائلهم.
وعلى كلّ حال فالبحث في هذا المجال واسع، قد يتكرّر في العديد من الكتب، فلا بأس بالإعادة إذا كان فيها إفادة.
والمهم أنّنا عرفنا خلال هذا الفصل بأنّ الشيعة هم أهل السنّة النبويّة، وصلاتهم كاملة ومقبولة حتى على رأي من خالفهم، و"أهل السنّة
____________
1- راجع الصواعق المحرقة 3: 435.
{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً }(1).
____________
1- النساء: 54.
6 ـ عصمة النبيّ وتأثيرها على "أهل السنّة والجماعة"
إنّ نظريّة العصمة مختلف فيها عند المسلمين، وهي في الحقيقة العامل الوحيد الذي يفرض على المسلمين أن يتقبَّلوا أحكام النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بدون نقاش ولا جدال، إذا ما اعتقدوا في أنّه لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى، فلا يؤمنون بأنّ أقوال النبيّ وأحكامه إذا لم تكن قرآناً يتلى، فهي مجرّد اجتهاد منه، فإذا اعتقدوا هذا الاعتقاد، وسلّموا بأنّ الأمر كلّه لله، وليس النبيّ إلاّ واسطة للتبليغ والبيان فقط فهم شيعة، وقد اشتهر كثير من الصحابة بهذا الاعتقاد، وعلى رأس هؤلاء الإمام علي (عليه السلام) الذي ما كان يغيِّر من سنّة النبيّ قليلا ولا كثيراً باعتبارها من وحي الله، فلا يجوز استعمال الرأي والاجتهاد مقابل أحكام الله سبحانه وتعالى.
وأمّا إذا اعتقدوا أنّ النبيّ غير معصوم في أقواله وأفعاله، والعصمة لا تختصّ إلاّ بالقرآن الكريم وما يتلى من آياته، وما عدا ذلك فهو كسائر البشر يخطئ ويصيب، أمّا إذا قالوا بهذا فإنّهم "أهل السنّة والجماعة" الذين يجوِّزون أن يجتهد الصحابة والعلماء مقابل أقوال وأحكام النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، بما يتماشى والمصلحة العامة طبقاً للظروف التي تقتضيها الحال، حسب رأي الحاكم في كلّ زمان.
وإنّه غنيّ عن البيان بأنّ مدرسة الخلفاء الراشدين (باستثناء الإمام علي) قد اجتهدوا بآرائهم مقابل السنّة النبويّة، ثمّ ذهبوا شوطاً أبعد فاجتهدوا
وقد تكلّمنا عن اجتهادات أبي بكر وعمر وعثمان في كتاب "مع الصادقين"، وكذلك في كتاب "فاسألوا أهل الذكر" وقد نفرد لهم كتاباً خاصاً في المستقبل إن شاء الله تعالى.
وقد عرفنا أنّ "أهل السنّة والجماعة" يضيفون إلى المصدرين الأساسين للتشريع الإسلامي (القرآن والسنّة) مصادر أُخرى كثيرة، من جملتها سنّة الشيخين (أبي بكر وعمر) واجتهاد الصحابي، وهذا ناتج عن اعتقادهم بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن معصوماً، وإنّما كان يجتهد برأيه، وكان بعض الصحابة يصوِّب رأيه ويصلح خطأه.
وبهذا يتبيَّن لنا بأنّ "أهل السنّة والجماعة" عندما يقولون بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس معصوماً، فهم يجوِّزون بذلك مخالفته وعصيانه من حيث يشعرون أو من حيث لا يشعرون; لأنّ غير المعصوم غير واجب الطاعة شرعاً وعقلا، وما دمنا نعتقد بخطئه فلا تلزمنا طاعته.. كيف نطيع الخطأ؟
كما يتبيَّن لنا في المقابل بأنّ الشيعة عندما يقولون بعصمة النبيّ المطلقة، فهم يفرضون بذلك طاعته; لأنّه معصوم عن الخطأ، فلا تجوز مخالفته ومعصيته بأيّ حال من الأحوال، ومن يخالفه أو يعصيه فقد خالف وعصى ربّه، وإلى ذلك يشير القرآن الكريم في العديد من الآيات بقوله: { وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا }(1)، وقوله: { أَطِيعُوا اللّهَ وَالرَّسُولَ }(2)،
____________
1- الحشر: 7.
2- آل عمران: 32.
وهذا يفرض بالضرورة أن يكون الشيعة هم أهل السنّة النبويّة لاعتقادهم بعصمتها ووجوب اتباعها، كما يفرض أن يكون "أهل السنّة والجماعة" بعيدين عن السنّة النبويّة لاعتقادهم بخطئها وجواز مخالفتها.
{كانَ الناسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتابَ بِالحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراط مُسْتَقِيم}(2).
____________
1- آل عمران: 31.
2- البقرة: 213.