الصفحة 23

الفصل الثاني

البدعة في اللّغة والاصطلاح


لقد مضت نصوص الكتاب والسنّة في حرمة البدعة وآثارها الهدّامة، ولأجل تحديد مفهومها تحديداً دقيقاً يلزمنا نقل أقوال أهل اللغة وكلمات الفقهاء والمحدّثين في تفسير البدعة، حتى تلقي ضوءاً على ما نتبنّاه من الوقوف على مفهوم البدعة.

قال الخليل: البدع; إحداث شيء لم يكن له من قبل خلق ولا ذكر ولا معرفة... البدع: الشيء الذي يكون أوّلا في كلّ أمر كما قال الله: {مَا كُنْتُ بِدعاً مِنَ الرُّسُلِ} أي لست بأوّل مرسل، والبدعة اسم ما ابتدع من الدين وغيره، والبدعة ما استحدث بعد رسول الله من الأهواء والأعمال(1).

____________

1- الخليل، ترتيب العين: 72.


الصفحة 24
وقال ابن فارس: البدع له أصلان; ابتداء الشي وصنعه لا عن مثال، والآخر الانقطاع والكلال(1).

والمقصود في المقام هو المعنى الأول.

وقال الراغب: الإبداع إنشاء صنعة بلا احتذاء ولا اقتداء، والبدعة في المذهب، إيراد قول لم يستنّ قائلها وفاعلها بصاحب الشريعة وأماثلها المتقدّمة وأُصولها المتقنة(2).

وقال الفيروز آبادي: البدعة ـ بالكسر ـ الحدث في الدين بعد الإكمال أو ما استحدث بعد النبي من الأهواء والأعمال(3).

الى غير ذلك من الكلمات المماثلة لللغويين، ولا نطيل الحديث بنقل غير ما ذكر.

والإمعان في هذه الكلمات يثبت بأنّ البدعة في اللغة وإن كانت شاملة لكلّ جديد لم يكن له مماثل سواء أكان في الدين، أم العادات، كالأطعمة والألبسة والأبنية والصناعات وما شاكلها، ولكن البدعة التي ورد النص على حرمتها هي ما استحدثت بعد رسول الله من الأهواء والأعمال في أُمور الدين، وينصّ عليه الراغب في قوله: "البدعة في المذهب إيراد قول لم يستنّ قائلها وفاعلها فيه"، ونظيره قول القاموس: "الحدث في الدين بعد الإكمال".

كل ذلك يعرب عن أنّ إطار البدعة المحرّمة، هو الإحداث في

____________

1- ابن فارس، المقاييس 1: 209 مادة "بدع".

2- الراغب، المفردات: 28.

3- الفيروز آبادي، القاموس 3: 6.


الصفحة 25
الدين، ويؤيّده قوله سبحانه في نسبة الابتداع إلى النصارى بإحداثهم الرهبانية وإدخالهم إيّاها في الديانة المسيحية، قال سبحانه: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ اِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} (الحديد/27).

فقوله سبحانه: {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} يعني ما فرضناها عليهم ولكنّهم نسبوها إلينا عن كذب.

وأمّا التطوير في ميادين الحياة وشؤونها فإن كان بدعة لغة فليس بدعة شرعاً بل يتبع التطوير في الحياة جوازاً ومنعاً الحكم الشرعي بعناوينه، فإن حرّمه الشرع ولو تحت عنوان عام فهو محرّم، وإلاّ فهو حلال; لحاكمية أصل البراءة ما لم يرد دليل على الحرمة. وسيوافيك تفصيلها في المستقبل.


*  *  *

البدعة في اصطلاح العلماء

لا ريب أنّ البدعة حرام، ولا يشك في حرمتها مسلم واع، لكن المهم في الموضوع تحديدها وتعيين مفهومها بشكل دقيق، حتى تكون قاعدة كليّة يرجع إليها عند الشك في المصاديق، فإنّ واجب الفقيه تحديد القاعدة، وواجب غيره تطبيقها على مواردها، وهذا الموضوع من أهمّ المواضيع فيها.

وقد عُرفت البدعة بتعاريف مختلفة، بين متشدد لا يتسامح فيها، وبين متسامح في تعريفها، وإليك بعضها:


الصفحة 26
1 ـ البدعة: ما أُحدث ممّا لا أصل له في الشريعة يدلّ عليه. أمّا ما كان له أصل من الشرع يدلّ عليه فليس ببدعة شرعاً، وإن كان بدعة لغة(1).

2 ـ البدعة: أصلها ما أُحدث على غير مثال سابق، وتطلق في الشرع في مقابل السنّة فتكون مذمومة(2).

ويقول ابن حجر في موضع آخر: المحدثات جمع محدثة، والمراد بها أي في حديث "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"; ما أُحدث وليس له أصل في الشرع يسمّى في عرف الشرع بدعة، وما كان له أصل يدلّ عليه الشرع فليس ببدعة(3).

3 ـ البدعة لغة: ما كان مخترعاً. وشرعاً: ما أُحدث على خلاف أمر الشرع ودليله الخاص أو العام(4).

4 ـ البدعة في الشرع موضوعه: الحادث المذموم(5).

5 ـ إنّ البدعة الشرعية هي: التي تكون ضلالة، ومذمومة(6).

6 ـ البدعة: طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية.

وعرّفه الشاطبي أيضاً في مكان آخر بنفس ذلك وأضاف في

____________

1- ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم الحكم: 160 ط الهند.

2 و 3- ابن حجر العسقلاني، فتح الباري 5: 156 و 17: 9.

4- ابن حجر الهيثمي، التبيين بشرح الأربعة: 221.

5- الزركشي، الابداع: 22.

6- محمد بخيت المصري، أحسن الكلام: 6.


الصفحة 27
آخره: "يقصد بالسلوك عليها: المبالغة في التعبّد لله تعالى"(1). وما أضافه ليس أمراً كليّاً كما سيوافيك عند البحث عن أسباب نشوء البدعة ودواعيها.

وهذه التعاريف، تحدّد البدعة تحديداً، وتصوّر لها قسماً واحداً. والمحدود في هذه التعاريف هو البدعة في الشرع والدين الإسلامي، والتدخّل في أمر التقنين والتشريع.

وهناك من حدّدها ثمّ قسّمها إلى: محمودة ومذمومة، منهم:

1 ـ عن حرملة بن يحيى، قال: سمعت الشافعي (رحمه الله) يقول: "البدعة بدعتان: بدعة محمودة وبدعة مذمومة، فما وافق السنّة فهو محمود وما خالف السنّة فهو مذموم".

2 ـ وقال الربيع: قال الشافعي (رحمه الله): "المحدثات من الأمور ضربان: أحدهما يخالف كتاباً أو سنّة أو إجماعاً أو أثراً، فهذه البدعة الضلالة.

والثاني: ما أُحدث من الخبر لا خلاف فيه لواحد من هذا، فهي محدثة غير مذمومة"(2).

3 ـ قال ابن حزم: "البدعة في الدين; كلّ ما لم يأت في القرآن، ولا عن رسول الله، إلاّ أنّ منها ما يؤجر عليه صاحبه ويُعذّر بما قصد إليه من الخير، ومنها ما يؤجر عليه صاحبه ويكون حسناً وهو ما كان أصله الإباحة، كما روي عن عمر (رضي الله عنه): "نعمت البدعة هذه ـ إلى أن قال: ـ ومنها ما يكون مذموماً، ولا يُعذَّر صاحبه، وهو ما قامت الحجة على فساده

____________

1- الشاطبي، الاعتصام 1: 37.

2- ابن حجر العسقلاني، فتح الباري 17: 10.


الصفحة 28
فتمادى القائل به"(1).

4 ـ وقال الغزالي: "وما يقال: انّه أبدع بعد رسول الله، فليس كل ما أبدع منهياً بل المنهي عنه بدعة تضاد سنّة ثابتة، وترفع أمراً من الشرع مع بقاء علّته، بل الإبداع قد يجب في بعض الأحوال إذا تغيّرت الأسباب"(2).

5 ـ وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي في شرح المشكاة: "إعلم أنّ كل ما ظهر بعد رسول الله بدعة، وكلّ ما وافق أُصول سنّته وقواعدها أو قيس عليها فهو بدعة حسنة، وكلّ ما خالفها فهو بدعة سيّئة وضلالة"(3).

6 ـ وقال ابن الأثير: "البدعة بدعتان: بدعة هدى، وبدعة ضلال، فما كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله (صلى الله عليه وآله) فهو في حيز الذم والإنكار، وما كان واقعاً تحت عموم ما ندب الله إليه، وحثّ عليه الله أو رسوله فهو في حيّز المدح. وما لم يكن له مثال موجود، كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف، فهو من الأفعال المحمودة، ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما ورد الشرع به، لأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله)قد جعل له في ذلك ثواباً فقال: "من سنّ سنّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها" وقال في ضدّه: "ومن سنّ سنّة سيّئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها" وذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله (صلى الله عليه وآله).

ومن هذا النوع قول عمر (رضي الله عنه): "نعمت البدعة هذه (التراويح) لما

____________

1- ابن حزم والفصل كما في البدعة للدكتور عزت: 161.

2- الغزالي، الاحياء 2: 3 ط الحلبي.

3- الكشّاف لاصطلاحات الفنون كما في البدعة للدكتور عزت: 162.


الصفحة 29
كانت من أفعال الخير وداخلة في حيز المدح" سمّاها بدعة ومدحها، إلاّ أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لم يسنّها لهم وإنّما صلاّها ليالي ثمّ تركها ولم يحافظ عليها، ولا جمع الناس لها، ولا كانت في زمن أبي بكر، وإنّما عمر (رضي الله عنه) جمع الناس عليها وندبهم إليها، فبهذا سمّاها بدعة، وهي على الحقيقة سنّة، لقوله (صلى الله عليه وآله): "عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي" وقوله: "اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر" وعلى هذا التأويل يحمل الحديث الآخر: "كل محدثة بدعة" إنّما يريد ما خالف أُصول الشريعة ولم يوافق السنّة. وأكثر ما يستعمل المبتدع عرفاً في الذم"(1).

هذه كلمات أعلام السنّة وإليك ما ذكره أصحابنا في الموضوع مقتصراً على نماذج منها:

7 ـ قال السيد المرتضى: "البدعة: الزيادة في الدين أو نقصان منه من اسناد إلى الدين"(2).

8 ـ قال العلامة في المختلف: "كلّ موضوع لم يشرع فيه الأذان فإنّه يكون بدعة"(3).

9 ـ قال الشهيد السعيد محمد بن مكي العاملي (ت678): "محدثات الأُمور بعد عهد النبي (صلى الله عليه وآله) تنقسم أقساماً، لا يطلق اسم البدعة

____________

1- ابن الأثير، النهاية 1: 79 وكلامه صريح في أنّ النبيّ لم يصلّها جماعة إلاّ ليال وتركها، وإن أقامتها جماعة كانت من سنّة عمر، إذ للخليفتين ـ حسب الرواية ـ حقّ التسنين الذي يعبّر عنه بسنّة الصحابي.

2- الشريف المرتضى، الرسائل 3: 83.

3- العلامة، المختلف 2: 131.


الصفحة 30
عندنا إلاّ على ما هو محرّم منها"(1).

ومع ذلك كلّه فقد خالف الشهيد كلامه في كتاب الذكرى، وقال:

10 ـ "إنّ لفظ البدعة غير صريح في التحريم، فانّ المراد بالبدعة ما لم يكن في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله) ثمّ تجدّد بعده، وهو ينقسم إلى: محرّم ومكروه".

11 ـ قال الطريحي (ت6108): "البدعة: الحدث في الدين وما ليس له أصل في كتاب ولا سنّة. وإنّما سمّيت بدعة لأنّ قائلها ابتدع هو نفسه، والبِدَع ـ بالكسر والفتح ـ: جمع بدعة ومنه الحديث "من توضّأ ثلاثاً فقد أبدع" أي فعل خلاف السنّة لأنّ ما لم يكن في زمنه (صلى الله عليه وآله) فهو بدعة"(2).

12 ـ وقال المجلسي (ت1110): "البدعة في الشرع: ما حدث بعد الرسول ولم يرد فيه نصّ على الخصوص، ولا يكون داخلا في بعض العمومات، أو ورد نهي عنه خصوصاً أو عموماً، فلا تشمل البدعة ما دخل في العمومات مثل بناء المدارس وأمثالها، الداخلة في عمومات إيواء المؤمنين وإسكانهم وإعانتهم، وكإنشاء بعض الكتب العلمية، والتصانيف التي لها مدخل في العلوم الشرعية، وكالألبسة التي لم تكن في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله) والأطعمة المحدثة فإنّها داخلة في عمومات

____________

1- الشهيد الأول، القواعد والفوائد: 2: 144 ـ 145 القاعدة 205 وقد ذكر الأقسام الخمسة غير واحد من الفقهاء منهم القرافي في الفروق 4: 202 ـ 205. وسيوافيك الكلام في عدم صحة هذا التقسيم.

2- الطريحي النجفي، مجمع البحرين ج1: مادة "بدع" لاحظ "ترتيب المجمع".


الصفحة 31
الحليّة، ولم يرد فيها نهي".

وما يفعل منها على وجه العموم إذا قصد كونها مطلوبة على الخصوص كان بدعة، كما أنّ الصلاة خير موضوع ويستحبّ فعلها في كلّ وقت. ولو عيّن ركعات مخصوصة على وجه مخصوص في وقت معيّن صارت بدعة، وكما إذا عيّن أحد سبعين تهليلة في وقت مخصوص على أنّها مطلوبة للشارع في خصوص هذا الوقت بلا نصّ ورد فيها كانت بدعة، وبالجملة إحداث أمر في الشريعة لم يرد فيه نصّ بدعة، سواء كانت أصلها مبتدعة أو خصوصيتها مبتدعة" ثمّ ذكر كلام الشهيد عن قواعده(1).

13 ـ وقال المحدّث البحراني (ت6118): "الظاهر المتبادر من البدعة لاسيما بالنسبة إلى العبادات إنّما هو المحرّم، ولما رواه الشيخ الطوسي عن زرارة ومحمد بن مسلم والفضيل عن الصادقين عليهما السلام: "ألا وإنّ كلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة سبيلها إلى النار"(2).

14 ـ وقال المحقق الآشتياني (ت1322): البدعة; "إدخال ما علم أنّه ليس من الدين في الدين ولكن يفعله بأنّه أمر به الشارع"(3).

15 ـ وقال أيضاً: "البدعة: إدخال ما لم يعلم أنّه من الدين في الدين"(4).

____________

1- المجلسي، البحار 74: 202 ـ 203.

2- البحراني (الشيخ يوسف)، الحدائق 10: 180 ـ وسائل الشيعة 5: 192 ذح1.

3 و 4- الآشتياني، بحر الفوائد: 80 وترى قريباً من هذه الكلمات في فرائد الشيخ الأنصاري: 30 وفوائد الأصول للمحقق النائيني 2: 130.


الصفحة 32
16 ـ وقال السيد محسن الأمين: "البدعة: إدخال ما ليس من الدين في الدين كإباحة محرّم أو تحريم مباح، أو إيجاب ما ليس بواجب أو ندبة، أو نحو ذلك سواء كانت في القرون الثلاثة أو بعدها، وتخصيصها بما بعد القرون الثلاثة لا وجه له، ولو سلّمنا حديث "خير القرون قرني" فإنّ أهل القرون الثلاثة غير معصومين بالاتّفاق. وتقسيم بعضهم لها إلى حسنة وقبيحة، أو إلى خمسة أقسام ليس بصحيح، بل لا تكون إلاّ قبيحة. ولا بدعة فيما فهم من إطلاق أدلّة الشرع أو عمومها أو فحواها أو نحو ذلك، وإن لم يكن موجوداً في عصر النبيّ"(1).

تلك ستة عشر نصّاً من كلمات مشاهير علماء الإسلام، فمنهم من خصّ بالتعريف بالبدعة في الدين فجعله قسماً واحداً، ومنهم عمّمها فقسّمها إلى ممدوحة ومذمومة، والحافز الوحيد إلى ذاك، هو اقتفاء قول عمر في صلاة التراويح، ولولا صدور ذاك لما خطر ببال هؤلاء هذا التقسيم.

ويبدو أنّ أوضح التعاريف ما نقلناه عن العلمين: الآشتياني والسيد الأمين، فإنّهما (قدس سرهما) أتيا باللبّ، وحذفا القشر، فمقوّم البدعة هو التصرّف في الدين عقيدة وتشريعاً، بإدخال ما لم يعلم أنّه من الدين فيه، فضلا عمّا علم أنّه ليس منه قطعاً. والذي يؤخذ على تعريفهما أنّه لا يشمل البدعة بصورة النقص كحذف شيء من أجزاء الفرائض.

____________

1- الأمين العاملي (السيد محسن)، كشف الارتياب: 143.


الصفحة 33

الفصل الثالث

تحديد مفهوم البدعة ومقوّماتها


إنّ الأمر المهم بعد الوقوف على النصوص، هو تحديد مفهوم البدعة التي وقعت موضوعاً للحكم الشرعي كسائر الموضوعات الواردة في المصدرين الرئيسين، فما لم تحدّد ولم نقف على مفهومها الدقيق وعلى ما هو معتبر في صميمها عند الشرع، لا يمكن لنا تطبيق الحكم الكلّي على مصاديقها ومواضيعها. وقد اتّضح بعد دراسة الأدلّة أنّ قيود البدعة التي هي الموضوع لدى الشرع ثلاثة، نذكرها بالتدريج:

الأوّل: التدخّل في الدين عقيدة وحكماً، بزيادة أو نقيصة.

الثاني: أن تكون هناك إشاعة ودعوة.

الثالث: أن لا يكون هناك دليل في الشرع يدعم جوازها

الصفحة 34
لا بالخصوص ولا بالعموم.

وإليك دراسة هذه القيود المكوّنة لمفهوم البدعة التي اتّخذها الكتاب والسنّة موضوعاً للحكم.

1 ـ التدخّل في الدين بزيادة أو نقيصة

هل انّ الموضوع في المصدرين هو نفس البدعة أو خصوص البدعة في الدين؟ فلو قلنا بأنّ الموضوع نفسُ البدعة بسيطاً، سواء كان الإحداث والإبداع راجعاً إلى صميم الدين أو غيره، فيكون الحكم بحرمة ذلك الموضوع الواسع أمراً غير ممكن، ولأجل ذلك لجأ أصحاب ذلك القول إلى تقسيمها إلى أقسام خمسة حسب انقسام الأحكام.

وأمّا إذا كان الموضوع هو الأمر المركّب، أي البدعة في الدين، فذلك له حكم واحد لا يقبل التخصيص. إلاّ أنّ صحة إحدى النظرتين متوقفة على دراسة الآيات والروايات. وقد اتّضح ممّا سبق، عند استعراض النصوص، أنّ الموضوع في الكتاب والسنّة هو البدعة في الدين لا مطلقها، فلو كان الكتاب والسنّة يتكلّمان فيها فإنّما يتكلّمان فيها باسم الدين والشريعة وعن البدعة فيهما، لأنّ كلّ متكلّم إنّما يتكلّم في إطار اختصاصه ومقامه وحسبَ شأنه، فالكتاب العزيز كتاب إلهي جاء لهداية الناس وإلى ما فيه مرضاة الله بتشريعه القوانين والسنن، والنبيّ الأكرم مبعوث لتبيان ذلك الكتاب بأقواله وأفعاله وتقريراته، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا اِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا أُنْزِلَ اِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ

الصفحة 35
يَتَفَكَّرُونَ} (النحل/44).

وعلى ضوء ذلك فإنّ الكتاب والسنّة يتكلّمان بتلك الخصوصية التي يمتلكانها، فاذا تكلّما عن البدعة فإنّما يتكلّمان عن البدعة الواردة في حوزتهما، وقيد الدين والشريعة وإن لم يذكرا في متون النصوص غالباً; لكنّهما مفهومان من القرائن الموجودة فيها، فلا عبرة بالإطلاق بعد القرائن الحافّة على الكلام، هذا ما نستنبطه من مجموع الخطابات الواردة في الأدلّة وإليك بيان ودراسة تلك الأدلّة تفصيلا:

1 ـ تضافرت الآيات على ذمّ عمل المشركين حينما كانوا يقسمون رزق الله إلى ما هو حلال وحرام فجاء الوحي مندِّداً بقوله: {قُلْ ءَآللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ} (يونس/59) وفي آية أُخرى يعدّ عملهم افتراءً على الله كما يقول: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذَا حَلاَلٌ وَهذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ} (النحل/116) ومن المعلوم أنّ المشركين كانوا ينسبون الحكمين إلى الله سبحانه، وأنّه سبحانه قد جعل منه حلالا وحراماً، فكان عملهم بدعة في الدين.

2 ـ وقفت في التقديم، أنّه سبحانه يصف من لم يحكم بما أنزل الله، بكونه كافراً وظالماً وفاسقاً ومن المعلوم أنّ أحبار اليهود كانوا يحرّفون الكتاب فيصفون ما لم يحكم به الله، بكونه حكم الله، قال سبحانه: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} (البقرة/79) فقوله {هذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ} صريح في أنّهم كانوا يتدخّلون في الشريعة الإلهية فيعرِّفون ما ليس من عند الله على أنّه من

الصفحة 36
عند الله، وهذا يؤكد بأنّ الموضوع في هذه الآية وأمثالها هو البدعة في الدين لا مطلقها.

3 ـ ذمّ الله سبحانه الرهبان لابتداعهم ما لم يكتب عليهم، قال سبحانه: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ اِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} (الحديد/27) ومعنى الآية أنّهم كانوا ينسبون الرهبانية الى شريعة المسيح مدّعين بأنّه هو الذي شرع لهم ذلك العمل، والقرآن يردّهم بقوله: {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} .

4 ـ إنّه سبحانه وصف أهل الكتاب بأنّهم اتّخذوا رهبانهم وأحبارهم أرباباً من دون الله، وقد فسّره النبيّ الأكرم بأنّهم كانوا يحرّمون ما أحلّ الله فيتبعونهم أتباعهم، أو يحلّلون ما حرّم الله عليهم فيقبلونه بلا تردّد، ومن المعلوم أنّ الأحبار والرهبان كانوا يعرِّفون ما تخيّلوه من الحرام والحلال على انّه حكم الله سبحانه، وليس هذا إلاّ بدعة في الشرع، وتدخلا في أمر الشريعة.

وإذا تدبّرت في هذه الآيات وأمثالها يتّضح لك أنّ الآيات تدور حول محور واحد هو البدعة في الدين لا مطلقها، ولا يضرّ عدم ذكر القيد في اللفظ إذ هو مفهوم من القرائن القطعية.

ثمّ إنّ في قوله: {اِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ} وجهين: فمنهم من يجعله استثناءً منقطعاً، أي ما كتبنا عليهم الرهبانية وإنّما كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله، ومنهم من يجعله استثناءً متّصلا، بمعنى أنّه سبحانه كتب عليهم أصل الرهبانية، لأجل كسب رضوان الله، ولكنّهم لم يراعوا حقّها. فتكون البدعة على الأوّل نفس الرهبانية وعلى الثاني الخروج عن

الصفحة 37
حدودها.

هذا كلّه حول الآيات، وأمّا السنّة، ففيها قرائن كثيرة تعطي نفس المفهوم الذي أعطته الآيات، وإليك تلك القرائن.

1 ـ ففي الرواية الأُولى يبتدئ النبي كلامه بقوله: "أصدق الحديث كتاب الله وأفضل الهدى هدي محمد" وهذا يدل على أنّ ما اتّخذه النبي موضوعاً للبحث هو ما يرجع إلى كتاب الله وهدي نبيّه، فإذا قال بعده: "وشرّ الأُمور محدثاتها" يكون المراد أي ما دخل في الشريعة من أُمور، وإذا قال: "كلّ بدعة ضلالة"، أي البدعة فيما يتكلّم عنه، ومن المعلوم أنّه يتكلّم عن دعوته وشريعته، فتحوير كلامه إلى مطلق البدعة، وإن لم يمسّ الكتاب والسنّة، تأويل للظاهر بلا دليل.

2 ـ ثمّ إنّه (صلى الله عليه وآله) يحكم على كلّ بدعة بالضلال، ومن المعلوم أنّه لا يصدق إلاّ على البدعة في الشريعة، وأمّا غيرها فهي على أقسام كما قالوا.

3 ـ روى مسلم في صحيحه أنّ رسول الله إذا خطب احمرّت عيناه وعلا صوته، واشتدّ غضبه كأنّه منذرُ جيش ثمّ يقول: "أمّا بعد فانّ خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدي محمد.. الخ" ومن المعلوم أنّ الأرضية الصالحة لثوران غضبه ليس إلاّ تدخّل المبتدع في شريعته، لا مطلق التدخل في شؤون الحياة وإن لم تمسّ دينه، خصوصاً إذا كان في مصلحة الإنسان.

4 ـ إنّه (صلى الله عليه وآله) وصف البدعة بالضلالة وقال: "إنّ صاحبها في النار" ولا تصدق تلك القاعدة إلاّ على صاحب البدعة في الشريعة.

5 ـ إنّه (صلى الله عليه وآله) عندما رأى أنّ رجالا يُذادون عن حوضه فأخذ

الصفحة 38
يناديهم بقوله: "ألا هلمّ ألا هلمّ ألا هلمّ" فإذ ينادي المنادي بقوله: "إنّهم قد بدّلوا بعدك" فيقول النبي: "فسحقاً! فسحقاً! فسحقاً!" ومن المعلوم أنّه قد بدلّوا دين الرسول وشريعته وإلاّ لما كانوا مستحقّين دعاءه بقوله: "فسحقاً...".

6 ـ دلّت الروايات السابقة على أنّه إذا ظهرت البدع في الأُمّة فعلى العالم أن يظهر علمه وإلاّ فعليه لعنة الله.

7 ـ كما دلّت على أنّ صاحب البدعة لا تقبل توبته.

8 ـ وإن من زار ذا بدعة فقد سعى في هدم الإسلام.

9 ـ وأوضح من الكل ما خطب الإمام علي (عليه السلام) حيث قال: "إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع وأحكام تبتدع يخالف كتاب الله".

10 ـ وفي رواية أُخرى: ما أُحدثت بدعة إلاّ تركت فيها سنّة، فاتركوا البدع والزموا المهيع إنّ عوازم الأُمور أفضلها، وإنّ محدثاتها شرارها(1).

11 ـ هذا ما تعطيه نصوص الكتاب والسنّة، وتليهما نصوص لفيف من أهل اللغة التي سبق ذكرها، مثل:

قول الخليل: والبدعة: ما استحدثت بعد الرسول.

وقول الراغب: البدعة في المذهب: إيراد قول لم يستنّ قائلها وفاعلها فيه بصاحب الشريعة.

وقول الفيروزآبادي: البدعة: الحدث في الدين بعد الإكمال أو ما

____________

1- قد سبقت مصادرها في الفصل الأول فلاحظ.


الصفحة 39
استحدث بعد النبي من الأهواء والأعمال.

وتليه نصوص لفيف من الفقهاء، نظير قول ابن رجب الحنبلي: البدعة: ما أُحدث ممّا لا أصل له في الشريعة يدلّ عليه.

وقول ابن حجر العسقلاني: البدعة: ما أُحدث وليس له أصل في الشرع.

وقول ابن حجر الهيتمي: البدعة: ما أُحدث على خلاف أمر الشارع ودليله الخاص.

وقول الزركشي: البدعة الشرعية: هي التي تكون ضلالة(1).

ومن يدرس هذه النصوص جليلها ودقيقها يقف على أنّ موضوع البحث في جميع الأدلّة هو الأمر الذي يمتّ إلى الشريعة بصلة، وأنّ الله سبحانه ونبيّه الصادع بالحق يهيبان بالمجتمع الإسلامي عن البدعة والكذب على الله، والتدخّل في الكتاب والسنّة، والتلاعب بما أنزل الله في مجالي العقيدة والشريعة، وهذا أمر واضح لا سترة عليه، وبذلك يختلف اتّجاهنا في تفسير النصوص عن غيرنا.

فإذا ثبت ذلك اتّضح أنّ البدعة ليس لها إلاّ قسم واحد، ولها حكم واحد لا يُخصص ولا يُقيّد بل هو بمثابة لا يقبل التخصيص، وهذا نظير قوله سبحانه: {اِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان/13) فإنّ تلك القاعدة لا تقبل التخصيص أي يمتنع تجويز الظلم والشرك في مكان دون مكان، نظير قوله سبحانه: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالُْمجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (القلم/35).

____________

1- قد مضت النصوص في مواضعها.