الفصل الخامس
البدعة وأسباب نشوئها
البدعة عمل اختياري للمبدع ولها ـ كسائر الأفعال الاختيارية ـ، أسباب وغايات يعدّ الجميع مناشئ لها و لا توجد البدعة إلاّ في ظلّ أسباب وغايات ومن خلال عرض النصوص الدينية وما دخل في التاريخ من بدع، يمكن التوصّل إلى ما نتبنّاه في هذا الفصل.
1 ـ المبالغة في التعبّد لله تعالى
هذا العنوان ذكره الشاطبي لدى تعريفه للبدعة، حيث قال: "طريقة مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في
فانّ المبتدع ربّما يتصوّر أنّ ما اخترعه من طريقة توصله إلى رضا الله سبحانه أكثر ممّا رسمه صاحب الشريعة، فلأجل ذلك يترك قول الشارع ويعمل طبق فكرته، ويذيع ذلك بين الناس باسم الشرع، ولهذا أيضاً شواهد في التاريخ نقتطف منها ما يلي:
1 ـ روى جابر بن عبد الله: إنّ رسول الله كان في سفر فرأى رجلا عليه زحام قد ظُلِّل عليه فقال: "ما هذا؟" قالوا: صائم، قال (صلى الله عليه وآله): "ليس من البرّ الصيام في السفر"(3).
2 ـ روى الكليني عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)خرج من المدينة إلى مكّة في شهر رمضان ومعه الناس وفيهم المشاة، فلمّا انتهى إلى كُراع الغميم دعا بقدح من ماء فيما بين الظهر والعصر فشرب وأفطر ثمّ أفطر الناس معه وثمّ أُناس على صومهم فسمّاهم رسول الله العصاة وإنّما يؤخذ بآخر أمر رسول الله(4).
____________
1 و 2- الشاطبي، الاعتصام 1: 37 و 325.
3- أحمد بن حنبل، المسند 3: 319 و 399 ـ لاحظ الفقيه للصدوق 2: 92 ح 2.
4- الكليني، الكافي 4: 127 ح 5 باب كراهية الصوم في السفر.
3 ـ روى مالك في الموطأ: إنّ رسول الله رأى رجلا قائماً في الشمس فقال: "ما بال هذا؟" قال: نذر ألا يتكلّم ولا يستظلّ من الشمس ولا يجلس ويصوم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "مره فليتكلّم وليستظلّ وليجلس وليتمّ صيامه"(1).
4 ـ روى البخاري عن قيس بن أبي حازم: دخل أبوبكر على امرأة فرآها لا تتكلّم فقال: "ما لها لا تتكلّم؟" فقيل: حجّت مصمِتة، قال لها: "تكلّمي فإنّ هذا لا يحلّ، هذا من عمل الجاهلية" فتكلّمت(2).
5 ـ إنّ متعة الحج ممّا نصّ عليها الكتاب العزيز فقال: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ اِلَىْ الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (البقرة/196) والمقصود من متعة الحج هو حجّ التمتع، وهو أن ينشئ المتمتع بها إحرامه في أشهر الحج من الميقات، فيأتي مكّة ويطوف بالبيت ثمّ يسعى بين الصفا والمروة، ثمّ يقصّر ويحلّ من إحرامه، فيقيم بعد ذلك محلاًّ حتى ينشئ في تلك السنة نفسها إحراماً آخر للحج من مكة ويخرج إلى عرفات، ثمّ يفيض إلى المشعر الحرام ثمّ يأتي بأفعال الحج على ما هو مبيّن في محله. هذا
____________
1- مالك ابن أنس، الموطأ، 2: 475 ح6 كتاب الايمان والنذور.
2- البخاري، الصحيح 5: 41 ـ 42 باب أيام الجاهلية.
ولكن كان بين صحابة النبيّ من يستكره ذلك، فقد روى الدارمي قال: سمعت عام حجّ معاوية يسأل سعد بن مالك: كيف تقول بالتمتع بالعمرة إلى الحجّ؟ قال: حسنة جميلة، فقال: قد كان عمر ينهى عنها فأنت خير من عمر؟ قال: عمر خير منّي وقد فعل ذلك النبيّ هو خير من عمر(1).
وروى الترمذي قال: حدّثنا قتية بن سعيد عن مالك بن أنس عن ابن شهاب عن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل، أنّه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس عام حجّ معاوية بن أبي سفيان وهما يذكران التمتّع بالعمرة إلى الحجّ، فقال الضحاك بن قيس: لا يصنع ذلك إلاّ من جهل أمر الله تعالى. فقال سعد: بئس ما قلت يا بن أخي! فقال الضحاك: فإنّ عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلك. فقال سعد: قد صنعها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصنعناها معه، هذا حديث صحيح.
وروى ابن إسحاق عن الزهري عن سالم قال: إنّي لجالس مع ابن عمر في المسجد إذ جاءه رجل من أهل الشام فسأله عن التمتّع بالعمرة الى الحجّ، فقال ابن عمر: حسن جميل. قال: فإنّ أباك كان ينهى عنها.
____________
1- الدارمي، السنن 2: 36 كتاب المناسك.
ولأجل ذلك كان هذا الصحابي يحرم بإحرام واحد للعمرة والحج، مع أنّ النبيّ أمر الإحرام بإحرامين: الإحرام للعمرة ثمّ يتحلّل ويتمتّع بمحظورات الإحرام ثمّ يحرم للحج، وما هذا إلاّ لزعم أنّ ترك التمتع بين العملين أكثر قربة إليه تعالى، وقد برّر فتواه بعد الاعتراف، بأنّ عمرة التمتّع سنّة رسول الله بقوله: ولكنّني أخشى أن يعرسوا بهنّ تحت الاراك ثمّ يروحوا بهنّ حجّاجاً(2).
هذه بعض النماذج التي تعرّض لها التاريخ في شتّى المناسبات، والجامع لذلك هو المبالغة في التعبّد لله ـ حسب زعمه ـ وهي ناشئة عن قلّة استيعاب المبتدع لما يجب أن يعرفه، فانّ الله سبحانه أعرف بمصالح العباد ومفاسدهم، وبأسباب السعادة والشقاء، ولا يشذّ عن علمه شيء. وكم في التاريخ الإسلامي من شواهد واضحة على هذا السبب(3).
2 ـ اتباع الهوى
إنّ استعراض تاريخ المتنبّئين الذين ادّعوا النبوّة عن كذب ودجل، يثبت بأنّ الأهواء وحبّ الظهور والصدارة كان له دور كبير في نشوء هذه الفكرة وظهورها على صعيد الحياة، والمبتدع وإن لم يكن
____________
1- القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 2: 388.
2- أحمد بن حنبل، المسند 1: 49.
3- لاحظ السيرة النبوية لابن هشام، صلح الحديبية 2: 316 ـ 317.
إنّ لحبّ الظهور دوراً كبيراً في الحياة الإنسانية، فلو كانت هذه الغريزة جامحة لأدّب بالإنسان إلى ادّعاء مقامات ومناصب تختصّ بالأنبياء، ولعلّ بعض المذاهب الظاهرة بين المسلمين في القرون الأُولى كانت ناشئة عن تلك الغريزة.
روى ابن أبي الحديد في شرح النهج أنّ عليّاً مرّ بقتلى الخوارج فقال: بؤساً لكم لقد ضرّكم من غرّكم، فقيل: ومن غرّهم؟ فقال: الشيطان المضلّ، والنفس الأمارة بالسّوء، غرّهم بالأماني وفسحت لهم في المعاصي ووعدتهم الاظهار فاقتحمت بهم النار(2).
3 ـ حبّ الاستطلاع إلى ما هو دونه
إنّ حبّ الاستطلاع من نعم الله سبحانه، إذ في ظلّه يقف الإنسان على مجاهيله ويكتشف معلومات تهمّه في حياته، ولولا ذلك الحبّ لكان الإنسان اليوم في أوليات حياته في العلم والمعرفة، قال سبحانه: {اللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاَْبْصَارَ وَالاَْفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل/78) ومع اشتراك الكلّ في تلك
____________
1- الكليني، الكافي 1: 45/1 باب البدع.
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 19: 235.
إنّ القرون الثلاثة الأُول، كانت قرون ظهور المذاهب الكلامية والفقهيّة، وكانت الأمصار وحواضرها الكبرى ميداناً لمطارحات الفرق المختلفة، وقد ظهرت في تلك القرون أكثر المذاهب والفرق، مع أنّ الحقّ في طرف واحد، فلو أنّهم توحّدوا في العقائد; لما أدّى بهم الأمر إلى شقّ العصى وإيجاد الفرقة، وبالتالي ذهاب الوحدة الإسلامية في مهبّ الريح ضحية البحوث الكلامية والفقهية وغير ذلك.
كان للخوض في الآيات المتشابهات دور كبير في ظهور البدع في الصفات الخبرية، وفي تفسير اليد والرجل والوجه لله سبحانه الواردة في الكتاب والسنّة، فقد كان البسطاء يخوضون في تفسيرها من دون إرجاعها إلى المحكمات التي هي أُمّ الكتاب وما هذا إلاّ لقصور أفهامهم وقلّة بضاعتهم العلمية، فكان واجبهم السكوت وسؤال الراسخين في العلم، دون الخوض فيها.
____________
1- نهج البلاغة، قسم الحكم: رقم 287.
"أيّها الأخ إنّي قد مخضت لك في هذه الإشارات عن زبدة الحق، وألقمتك قفي(1) الحكم في لطائف الكلم. فصُنْه عن الجاهلين والمبتذلين ومن لم يرزق الفطنة الوقّادة والدربة والعادة وكان صغاه(2)مع الغاغة، أو كان من ملحدة هؤلاء الفلاسفة ومن همجهم، فإن وجدت من تثق بنقاء سريرته واستقامة سيرته وبتوقّفه عمّا يتسرّع إليه الوسواس، وينظر إلى الحقّ بعين الرضا والصدق فآته ما يسألك منه مدرجاً مجزءاً مفرقاً تستفرس ممّا تسلفه لما تستقبله. وعاهدْه بالله وبأيمان لا مخارج لها ليجري فيما يأتيه مجراك متأسّياً بك فإن أذعتَ هذا العلم أو أضعته فالله بيني وبينك وكفى بالله وكيلا"(3).
4 ـ التعصّب الممقوت
وهناك سبب آخر لا يقل تأثيره عمّا سبق من الأسباب وهو تقليد الآباء والأجداد، وصيانة كيانهم وسننهم، فإنّ اتّباع الأهواء القبلية والقومية وما شاكل فإنّها من أعظم سدود المعرفة وموانعها، وهي التي منعت الأُمم عبر التاريخ من الخضوع للأنبياء والرسل رغم البراهين
____________
1- القفي: الشيء الذي يؤثر به للصنف.
2- صغاه: ميله.
3- كتاب الإشارات 34: 419.
ومن هذا المنطلق، اقترح تميم بن جراشة على النبي ـ عندما جاء على رأس وفد من الطائف يخبره بإسلام قومه ـ اقترح عليه أن يكتب لهم كتاباً، بأن يفي لهم بأُمور، يقول: قدمتُ على النبيّ (صلى الله عليه وآله) في وفد ثقيف فأسلمنا وسألناه أن يكتب لنا كتاباً فيه شروط؟ فقال: اكتُبوا ما بدا لكم ثمّ إيتوني به، فسألناه في كتابه أن يُحلّ لنا الربا والزنا، فأبى عليّ (رضي الله عنه) أن يكتب لنا، فسألنا خالد بن سعيد بن العاص، فقال له علي: تدرى ما تكتب؟ قال: أكتب ما قالوا، ورسول الله (صلى الله عليه وآله) أولى بأمره، فذهبنا بالكتاب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال للقارئ: إقرأ، فلمّا انتهى إلى الربا قال: ضع يدي عليها في الكتاب، فوضع يده فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (2) الآية، ثمّ محاها، وأُلقيت علينا السكينة فما راجعناه، فلمّا بلغ الزنا وضع يده عليها (وقال:) {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا اِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} (3)الآية، ثمّ محاها وأمر بكتابنا أن ينسخ لنا(4).
ورواه ابن هشام بصورة أُخرى قال: وقد كان ممّا سألوا رسول الله(صلى الله عليه وآله)أن يدع لهم الطاغية، وهي اللاّت، لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذلك عليهم فما برحوا يسألونه سنة سنة، ويأبى عليهم، حتى سألوا شهراً واحداً بعد مقدمهم، فأبى عليهم أن يدعها شيئاً مسمّى،
____________
1- الزخرف: 23.
2- البقرة: 278.
3- الاسراء: 32.
4- ابن الأثير، أُسد الغابة 1: 216 مادة تميم و 3: 406.
انظر إلى التعصّب المميت للعقل يسأل رسول الله ـ الذي بعث لكسر الأصنام وتحطيم كلّ معبود سوى الله ـ أن يدع لهم الطاغية وهي اللاّت لا يهدمها ثلاث سنين....
وكان هذا الاقتراح نابعاً عن العصبية لطرق الآباء وسلوكهم. وكان المقترح في حضرة النبيّ (صلى الله عليه وآله).
هذه هي الأسباب العامّة، وهناك أسباب خاصّة لظهور البدع في المجتمع الإسلامي لا تخفى على القارئ الكريم.
5 ـ التسليم لغير المعصوم
إنّ من أسباب نشوء البدع التسليم لغير المعصوم، فلا شكّ أنّه يخطأ وربّما يكذب، فالتسليم لقوله سبب للفرية على الله سبحانه والتدخّل في دينه عقيدة وشريعة.
____________
1- ابن هشام، السيرة النبوية 2: 537 ـ 543.
وهناك كلام للدكتور عزّت علي عطية، جعل فيه الاقتداء بأئمة أهل البيت تسليماً لغير المعصوم ثمّ قال: نتساءل عن الصلة بين هذا الإمام وبين الله جلّ جلاله، هل هي وحي، أم إلهام أم حلول؟ إن كانت وحياً فقد نفوه، وإن كانت حلولا فهو الكفر بعينه، وإن كانت إلهاماً فما الذي يفرق بينه وبين وساوس الشيطان وخطرات النفوس(1).
إنّ الدكتور عطية لم يدرس عقائد الإمامية حقّها وإنّما اكتفى بكتاب صغير كتب في بيان العقائد لا في البرهنة عليها، ولو أنّه رجع إلى علمائهم ومؤلفاتهم لوقف على أدلّة عصمة الأئمة، فإنّ أحد تلك الأدلّة هو حديث الثقلين الذي أطبق المحدّثون على نقله، وهو أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: "إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن تضلّوا ما إن تمسّكتم بهما". فإن كانت العترة عدلا للكتاب وقريناً له
____________
1- الدكتور عزت علي عطية، البدعة: 245.
وأمّا مصدر علومهم; فغالب علومهم مأخوذ من الكتاب والسنّة إذ أخذ عليّ (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله)، وأخذ الحسن (عليه السلام) عن أبيه، وهكذا كل إمام يأخذ عن أبيه، علم يتناقل ضمن هذه السلسلة الطاهرة المعروفة، ولم يأخذ أحد منهم (عليهم السلام) عن صحابي ولا تابعي أبداً، بل أخذ الجميع عنهم، ومنهم انتقلت العلوم إلى الآخرين كما تلقّاها رسول الله (صلى الله عليه وآله) من لدن حكيم خبير.
قال الإمام الباقر (عليه السلام): "لو كنّا نحدّث الناس برأينا وهوانا لهلكنا، ولكن نحدّثهم بأحاديث نكنزها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضّتهم".
وهناك مصدر آخر لعلومهم وهو أنّهم محدّثون كما أنّ مريم كانت محدّثة، وكما كان عمر بن الخطاب محدّثاً حسب ما رواه البخاري، روى أبو هريرة قال: قال النبي: "لقد كان فيمن قبلكم من بني إسرائيل رجال يُكلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء فإن كان من أُمّتي أحد فعمر"(1). لكن الدكتور خلط بين التحديث والوحي.
وأمّا أنّهم بماذا يميّزون الإلهام من وساوس الشيطان، فليس بأمر عسير فإنّ الوساوس تدخل القلب بتردّد والإلهام يرد النفس بصورة علم قاطع ولأجل ذلك تلقّت مريم وأُمّ موسى ما أُلهما به، كلاماً إلهياً، لا وسوسة شيطانية.
____________
1- البخاري، الصحيح 2: 194 باب مناقب عمر بن الخطاب.
الفصل السادس
في تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة
إذا كانت البدعة بمعنى التدخّل في أمر الشرع بزيادة أو نقيصة في مجالي العقيدة والشريعة، من غير فرق بين العبادات والمعاملات والإيقاعات والسياسات، فليس لها إلاّ قسم واحد لا يُثَنّى ولا يتكثّر ولكن ربّما تقسم البدعة إلى تقسيمات نذكر منها ما يلي:
البدعة الحسنة والبدعة السيئة
لقد جاء هذا التقسيم في كلمات الإمام الشافعي، وابن حزم
قال عبدالرحمن بن عبدالقارئ: خرجت مع عمر بن الخطاب(رضي الله عنه)ليلة رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرّقون يصلّي الرجل لنفسه، ويصلّي الرجال فيصلّي بصلاته الرهط فقال عمر: إنّي أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثمّ عزم فجمعهم على أُبيّ بن كعب، ثمّ خرجت معه ليلة أُخرى والناس يصلّون بصلاة قارئهم، قال عمر: "نعم البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون" يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوّله(2).
إنّ إقامة صلاة التراويح جماعة لا تخلو من صورتين:
الأُولى: إذا كان لها أصل في الكتاب والسنّة، فعندئذ يكون عمل الخليفة إحياء لسنّة متروكة سواء أراد إقامتها جماعة أو جمعهم على قارئ واحد، فلا يصحّ قوله: "نعم البدعة هذه" إذ ليس عمله تدخّلا في الشريعة.
الثانية: إذا لم يكن هناك أصل في المصدرين الرئيسين، لا لإقامتها جماعة أو لجمعهم على قارئ واحد، وإنّما كره الخليفة تفرّق الناس،
____________
1- ابن الأثير، النهاية 1: 79.
2- البخاري، الصحيح 3: 58 كتاب الصوم، باب فضل من قام رمضان.
توضيح ذلك
إنّ البدعة التي تحدّث عنها الكتاب والسنّة هي التدخّل في أمر الدين بزيادة أو نقيصة، والتصرّف في التشريع الإسلامي، وهي بهذا المعنى لا يمكن أن تكون إلاّ أمراً محرّماً ومذموماً ولا يصحّ تقسيمه إلى حسنة وقبيحة، وهذا شيء واضح لا يحتاج إلى استدلال.
نعم، البدعة بالمعنى اللغوي التي تعمّ الدين وغيره تنقسم إلى قسمين، فكلّ شيء محدث مفيد في حياة المجتمعات من العادات والرسوم، إذا أُدّي به من دون الاسناد إلى الدين ولم يكن محرّماً بالذات شرعاً، كان بدعة حسنة، أي أمراً جديداً مفيداً للمجتمع، كما إذا احتفل الشعب بيوم استقلاله في كلّ عام، أو اجتمع للبراءة من أعدائه أو أقام الأفراح لمولد بطل من أبطاله، وبالجملة ما هو حلال بالذات لا مانع من أن تتّفق عليه الأُمّة، وتتّخذه عادة متبعة في المناسبات، ويكون بدعة لغوية.
وأمّا ما كان محرّماً بالذات فهو محرّم ليس من باب البدعة. فلو اتّخذ أمراً مرسوماً ورائجاً، مثل دخول النساء سافرات متبرّجات في مجالس الرجال في الاستقبالات والضيافات، فهذا أمر حرام بالذات أولا، وليس بمحرم من باب البدعة الشرعية، بمعنى التدخّل في أمر الدين والتسنين فيه والتشريع على خلاف ما شرّعه الشارع، وإنّما هو
وبذلك يظهر أنّ أكثر من أطنب الكلام في تقسيم البدعة إلى حسنة وسيّئة فقط خلط البدعة في مصطلح الشرع بالبدعة اللغوية، فأسهبوا في الكلام وأتوا بأمثلة كثيرة زاعمين أنّها من البدع الشرعية مع أنّ أمرها يدور بين أمرين:
إمّا أنّها عمل ديني يؤتى بها باسم الدين والشريعة، ولكن يوجد لها أصل فيهما، فتخرج بذلك عن تحت البدعة، كتدوين الكتاب والسنّة إذا خيف عليهما التلف من الصدور، وبناء المدارس والرُّبَط وغيرهما. وقد مثلوا بالتدوين للبدعة الواجبة، وببناء المدارس والرُّبَط بالبدعة المستحبّة، مع أنّهما ليسا ببدعة لوجود أصل صالح لهما في الشريعة.
أو أنّها عمل عادي لا يؤتى بها باسم الدين بل يؤتى بها لأجل تطوير الحياة وطلب الرفاه، فتكون خارجاً عن موضوع البدعة في الشرع، كنخل الدقيق، فقد ورد أنّ أوّل شيء أحدثه الناس بعد رسول الله، اتّخاذ المناخل ولين العيش من المباحات.
وإنّما يصح إطلاق البدعة عليها بالمعنى اللغوي، بمعنى الشيء الجديد، سواء كان عملا دينياً أو عادياً. وقد وافقَنا على نفي ذاك التقسيم لفيف من المحقّقين:
منهم: أبو إسحاق الشاطبي في كلام مسهب نذكر منه ما يلي:
ولمّا ثبت ذمّها، ثبت ذمّ صاحبها، لأنّها ليست بمذمومة من حيث تصوّرها فقط، بل من حيث اتّصف بها المتّصف، فهو إذن المذموم على الحقيقة، والذمّ خاصة التأثيم، فالمبتدع مذموم آثم، وذلك على الإطلاق والعموم"(1).
ومنهم: العلاّمة المجلسي قال: "إحداث أمر لم يرد فيه نصّ بدعة، سواء كان أصله مبتدعاً أو خصوصياته مبتدعة فلربما يقال: إنّ البدعة منقسمة بانقسام الأحكام الخمسة أمر باطل، إذ لا تطلق البدعة إلاّ على ما كان محرّماً، كما قال رسول الله: "كلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة سبيلها إلى النار"(2).
ومنهم: الشهيد في قواعده: محدثات الأُمور بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله)تنقسم
____________
1- الشاطبي، الموافقات 1: 142.
2- المجلسي، البحار 74: 203.
سؤال وإجابة
وهناك سؤال يطرح نفسه، وهو أنّه إذا كانت البدعة قسماً واحداً وأمراً محرّماً مقابل السنّة، لا تقبل التقسيم إلى غيره فما معنى قوله (صلى الله عليه وآله): "من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فعمل بها بعده، كتب له أجر من عمل بها ولا ينقص من أُجورهم من شيء، ومن سنّ سنة سيئة فعمل بها بعده كتب له مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء"(2).
والجواب: أنّ الشقّ الأوّل راجع إلى المباحات العامّة المفيدة للمجتمع، كإنشاء المدارس والمكتبات وسائر الأعمال الخيّرة، فلو أنّ رجلا قام ـ برفض الأُميّة ـ بإنشاء مدرسة أو مكتبة وصار عمله أُسوة للغير، فقام الآخرون بإنشاء مدارس في سائر الأمكنة، فهو سنّة حسنة.
وأمّا الشقّ الثاني: فهو راجع إلى الأمور المحرّمة بالذات، فلو قام أحد بضيافة أشرك فيها النساء السافرات المتبرّجات، ثمّ صار عمله قدوة للآخرين، فعلى هذا المسنن وزر عمله ووزر من عمل بسنّته.
وعلى ضوء ذلك فالحديث لا يمتّ بالبدعة المصطلحة، ولم يكن ببال أحد من الشخصين التدخّل في أمر الشرع بالزيادة والنقيصة، بل كلّ قام بعمل خاصّ حسب دواعيه وحوافزه النفسية، فالإنسان العاطفي يندفع إلى القسم الأوّل الذي ربّما يكون مباحاً أو مسنوناً، ومن
____________
1- الشهيد، القواعد والفوائد 2: 144 ـ 145 القاعدة 205، ونعلّق على كلامه أنّ القسم إنّما يكون بدعة إذا أتى باسم الدين، وإلاّ يكون محرّماً ومعصية لا بدعة.
2- مسلم، الصحيح 8: 61 كتاب العلم.
فكلا العملين لا صلة لهما بالبدعة الشرعية أصلا، ولو أُطلقت فإنّما تطلق عليهما بالمعنى اللغوي، أي إبداع أمر لم يكن، سواء أكان مباحاً أم حراماً، ومن المعلوم أنّه ليس كلّ محرّم بدعة وإن كانت كلّ بدعة محرّمة.