الفصل الثامن
تقسيم البدعة إلى حقيقية وإضافية
هذا التقسيم قام به الشاطبي في كتابه، وعرّف الحقيقية: بأنها ما لم يدلّ عليها دليل شرعي لا من كتاب ولا سنّة ولا إجماع ولا استدلال معتبر عند أهل العلم، لا في الجملة ولا في التفصيل. وإن ادّعى مبتدعها ومن تابعه أنّها داخلة في ما استنبط من الأدلّة، لأنّ ما استند إليه شُبَه واهية لا قيمة لها.
أمّا البدعة الإضافية فقد عرفها بأنها ما لها شائبتان:
إحداهما: لها من الأدلة متعلق فلا تكون من تلك الجهة بدعة.
والأُخرى: ليس لها متعلق إلاّ مثلَ ما للبدعة الحقيقية، أي أنّها بالنسبة لإحدى الجهتين سنّة،لاستنادها إلى دليل، وبالنسبة للجهة
وسميّت إضافية لأنّها لم تتخلص لأحد الطرفين: (المخالفة الصريحة) أو (الموافقة الصريحة)(1).
أقول: قد تقدّم البحث عن البدعة الحقيقية فلا حاجة إلى إيضاحها من جديد، فانّ تحريم الحلال أو تحليل الحرام استناداً إلى شبه واهية أو بلا شبهة بدعة حقيقية، وقد مرّت الأمثلة فيما سبق، والمهم ايضاح المقصود من البدعة الإضافية التي لها شائبتان، التي من جهة تشبه السنّة ومن جهة تشبه البدعة، وتتضح بالأمثلة التالية التي ذكرها الشاطبي نفسه:
1 ـ تخصيص يوم أو أيام، غير ما نهى الشارع عن صومه أو ندب إلى صومه، بالصوم والمداومة عليه.
2 ـ تخصيص الأيّام الفاضلة بأنواع من العبادات لم تشرع لها خصوصاً، كتخصيص اليوم الفلاني بكذا وكذا من الركعات، أو بصدقة كذا وكذا، أو الليلة الفلانية بكذا وكذا من الركعات، أو قراءة القرآن أو الذكر، فإنّ ذلك التخصيص والعمل به إذا لم يكن بحكم الوفاق، أو بقصد يقصد مثله أهل العقل والفراغ والنشاط، كان تشريعاً زائداً.
3 ـ ومن ذلك تحرّي ختم القرآن في بعض ليالي رمضان أو قراءة القرآن أو الدعاء بهيئة الاجتماع في عشية يوم عرفة في المسجد تشبهاً
____________
1- الشاطبي، الاعتصام 1: 286 ـ 287.
4 ـ ومن ذلك الأذان والإقامة في صلاة العيدين.
والسبب في كون هذه الأمور بدعاً، ذكرها الشاطبي:
أولا: أنّ فيها تخصيصاً بغير مخصص من الشرع، وقد أصبحت بهذا التخصيص غير ما كانت عليه بدونه، فكما أنّ الصلاة المفروضة لا تصحّ قبل الوقت مع كونها هي هي، لوقوعها في غير وقتها المخصص لها، فكذلك ما تقدم من الأمثلة بما انضمّ إليها من الأوصاف غير الواردة تصير غير مشروعة.
ثانياً: أنّ مثل هذه الأُمور عمل اشتبه أمره، أَهو بدعة فينهى عنه أَم غير بدعة فيعمل به؟ ومثل هذا جاء الأمر بالتوقي فيه، والاحتراز منه، كما يجب التوقف عن تناول اللحم المشتبه فيه.
ثالثاً: مخالفة السنّة، حيث ترك مثل هذا العمل مع ظهور ما يقتضي فعله في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله) وأصحابه، وعلى فرض أنّه وقع في بعض الأحيان فالأمر الأشهر والأكثر عدم فعله، كما في سجود الشكر، حيث لم يداوم الرسول (صلى الله عليه وآله) والصحابة عليه وإن ورد.
رابعاً: أنّ العمل بمثل هذه الأُمور قد يؤدي إلى اعتقاد ما ليس بسنة سنّة، وكذلك فالمداومة على فعل لم يداوم عليه الرسول (صلى الله عليه وآله)قد تؤدي إلى اعتقاد النافلة سنّة، وهذا فساد عظيم، لأنّ اعتقاد ما ليس بسنّة سنّة، والعمل به على حدّ العمل بالسنّة،نحو من تبديل الشريعة، وعلى ذلك كان قطع عمر للشجرة التي يتبرّك بها الصحابة، ونهيه الصحابي عن الإحرام من بلده، ونحو ذلك، ونهيه عن إتيان المساجد التي صلّى فيها
يلاحظ على هذا التقسيم: انّه لا طائل فيه، ويعلم ذلك ببيان أمرين:
1 ـ شمول الدليل لجميع الحالات والكيفيات
إنّ مورد النقاش في ما إذا كان لدليل العمل العبادي إطلاق يعمّ جميع الصور والكيفيات، بأن كانت جميع الحالات والصور المتصوّرة له أمراً مسوّغاً يشمله الدليل باطلاقه أو عمومه وسعة دلالته، مثلا إذا دلّ الدليل على استحباب قراءة القرآن مطلقاً من غير تقييد بحالة خاصة فيعمّ جميع الحالات سواء أكانت بهيئة الانفراد أم بهيئة الاجتماع.
أو دلّ على استحباب قراءة الدعاء مطلقاً من يقين خاصّ فعمّ جميع الكيفيات، وبعبارة أُخرى دلّ الدليل بإطلاقه بسوغ جميع الأقسام من غير تخصيص بتلاوة القرآن بصورة الانفراد أو بهيئة الاجتماع ومثله دليل الدعاء.
ومثل ذلك إقامة الصلاة في المساجد، فالدليل يشمل جميع
____________
1- الشاطبي، الاعتصام ج1: الباب الخامس.
2 ـ التداوم على هيئة أو فرد لا يرجع إلى تخصيص التشريع
انّ اختيار كيفية خاصّة، كالدعاء بهيئة الاجتماع أو تخصيص يوم في الأُسبوع للصوم، لا يعني تخصيص التشريع بالفرد المختار وإنّ السائغ هو لا غربل العامل يعتقد أن جميع الصور والكيفيات، سائغة وفي الوقت نفسه يختار كيفية أو فرداً خاصاً لأجل أنّه أوفق بنشاطه وبالعوامل المحيطة به.
وبعبارة أُخرى لا يلتزم بكيفيّة خاصّة إلاّ لأجل أن يتلاءم مع نشاطه ويساعده على تحقيق غرضه، مع الاعتراف بأنّ جميع الكيفيات من حيث الفضيلة سواء.
إذا تعرّفت على الأمرين تقف على أنّ الأمثلة التي قدّمها الشاطبي مثالا للبدعة الإضافية هي إمّا بدعة حقيقية أو سنّة حقيقية، فلو افترضنا عدم إطلاق الدليل للكيفية التي اختارها العامل أو كان له إطلاق، ولكنه يخصص التشريع بمختاره، وينفي غيره فيكون عمله هذا مصداقاً للبدعة الحقيقية.
وأمّا إذا لم يكن هناك قصور في سعة الدليل، أو لم يكن في نيته أي تخصيص وتدخّل في أمر الشريعة، وإنّما كان الاختيار لملاكات اتفاقية، فلا يعدّ العمل بدعة، إذ لم يكن تدخلا في أمر الشارع. وبذلك
وأمّا الأسباب التي اتّخذها ذريعة للحكم بالبدعة فإليك دراستها:
أمّا السبب الأوّل: أعني قوله "إنّ فيها تخصيصاً بغير مخصص من الشرع" فغير مضر، إذ التخصيص إنّما يكون بدعة إذا نسبه إلى الشرع، دون ما كان نتيجة ظروف فرضت عليه اختيار هذا الفرد مع الاعتراف بأنّه مثل سائر الأفراد.
وأمّا السبب الثاني: أعني قوله "إنّ مثل هذه الأمور عمل اشتبه أمره..." فهو مثل الأول; فانّه مشتبه لمن لم يدرس البدعة حقها دون من درسها.
وأما السبب الثالث: أعني قوله "مخالفة السنّة حيث ترك مثل هذا العمل..." فذلك لأنّ تركهم لا يكون حجّة على كون العمل بدعة بعد افتراض سعة رقعة الدليل، وتركهم فرداً خاصاً لا يدلّ على عدم مشروعيته إذ لم يكونوا يعانون من الإتيان بسائر الأفراد فلأجله تركوا ذاك الفرد، بخلاف الانسان الذي فرضت الظروف عليه مداومة هذا الفرد أو كان نشاطه محفوظاً فيه دون سائر الأفراد.
ولو صحّ ما ذكره يجب ترك المسنونات أحياناً، لئلا يتخيل الجاهل أنّها فريضة، فعلى من يرى القبض في الصلاة سنّة، تركه في
وعلى من يقم صلاة التراويح جماعة، تركها والإتيان بها فرادى لئلا يعتقد الجاهل أنّ التشريع مختص بالجماعة. إلى غير ذلك من المضاعفات التي لا يلتزم بها الشاطبي وغيره. فجهل الجاهل، لا يكون سبباً لترك المسنون، لأنّه لو قصر في التعليم فما ذنب من يريد الإتيان به وإنّما علينا دفع عاديته وبذلك يظهر حسن إتيان المساجد التي صلّى النبي فيها. وذلك لعموم الدليل الشامل لتمام المساجد التي صلّى فيها أم لم يصلّ، وإنّما يختار ذلك لأجل التبرك الذي تضافر النص بجوازه، وليس تخصيصها بالعبادة، ليس بمعنى ورود النصّ به بالخصوص وانّما يختاره لغرض آخر وهو التبرك.
وأمّا كراهات مالك المجيء إلى بيت المقدس، فهو على خلاف السنّة، حيث رخص النبي السفر إليه، كما سيوافيك عند البحث عن شدّ الرحال إلى زيارة قبر النبي.
ومنه تظهر حال كراهة زيارة قبور الشهداء، أو المجيء إلى مسجد قباء، فإنّه إعراض عن السنّة التي رسمها النبي، حيث أمر بزيارة القبور، وكان يجيء إلى مسجد قباء كلّ أُسبوع مرّة ويصلّي فيه.
وما أجمل قول الإمام الصادق: "انّ هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق"(1).
قال التفتازاني: "ومن الجهلة من يجعل كلّ أمر لم يكن في زمن
____________
1- الكليني، الكافي 2: 86 ح1.
وأمّا السبب الرابع: أعني قوله "انتهاء هذا العمل إلى اعتقاد ما ليس بسنّة سنة" فهو أيضاً مثله فانّه يجب على العالم إرشاد الجاهل لا ترك العمل الذي دلّ الشرع على جوازه بالإطلاق والعموم.
____________
1- التفتازاني، شرح المقاصد 5: 232.
الفصل التاسع
لا بدعة في ما فيه الدليل نصّاً أو إطلاقاً
عرفت أنّ حقيقة البدعة هي الافتراء على الله والفرية عليه، بإدخال شيء في دينه أو نقصه منه، ونسبته إلى الله ورسوله. فإذا كان هذا هو الملاك فكلّ مورد يدلّ عليه الدليل يكون خارجاً عن البدعة موضوعاً.
والدليل على قسمين:
الأوّل: أن يكون هناك نصّ في القرآن يشخص المورد وحدوده وتفاصيله وجزئياته، كالاحتفال بعيدي الفطر والأضحى، والاجتماع في عرفة ومنى، فعندئذ لا يكون هذا الاحتفال والاجتماع بدعة، بل سنّة قد أمر بها الشارع بالخصوص، فيكون إتيان العمل امتثالا، لا ابتداعاً.
1 ـ قال سبحانه: {وَاِذَا قُرِئَ الْقُرْآنَ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأعراف/204) والآية تأمر باستماع القرآن عند قراءته والإنصات له، والمصداق الموجود لها في ظرف الرسالة هو استماع القرآن مباشرة من فم القارئ الذي يقرأ القرآن في المسجد أو في البيت، ولكن الحضارة الصناعية أحدثت مصداقاً آخر لم يكن موجوداً في ظرف الرسالة، كقراءة القرآن من خلال المذياع والإذاعة المرئية، فالآية حجّة في كلا الموردين، وليس لنا ترك الاستماع والإنصات في القسم الثاني، بحجّة أنّه لم يكن في ظرف الرسالة. وذلك لأنّ العربي الصميم عندما يتدبّر في مفهوم الآية لا يرى فرقاً بين القراءتين، فلو قلنا حينئذ بوجوب الاستماع أو ندبه فليس هذا قولا بغير دليل، أو بدعة في الدين.
2 ـ قال النبيّ الأكرم: "طلب العلم فريضة على كلّ مسلم"(1) ومن الواضح أنّ العلوم حتى ما يمت إلى الشرع، كانت في ظرف صدور الحديث محدودة، ولكن المحدودية لا تمنع عن شمول الحديث للعلوم التي ابتكرها المسلمون لفهم الكتاب والسنّة، كعلم اللغة
____________
1- الهيتمي، مجمع الزوائد 1: 19.
3 ـ لا شك أنّ من واجب المسلمين حفظ القرآن والسنّة النبويّة من الضياع، لأنّ الإسلام ليس ديناً اقليميّاً بل ديناً عالمياً وليس ديناً مؤقتاً بل خاتماً، فطبيعة ذلك الدين تقتضي لزوم حفظ نصوصه وسنّته حتى ترجع إليها الأجيال اللاحقة.
وعندما لحق النبيّ إلى الرفيق الأعلى ورأى المسلمون أنّ من واجبهم حفظُ القرآن من الضياع خصوصاً بعدما لحقت بالمسلمين في الحروب; خسارة كبيرة باستشهاد مجموعة كبيرة من القرّاء، فصار الحكم الكلي (لزوم حفظ القرآن) مبدأ لإجراء عمليات مختلفة عبر الزمان، وكلّها أُمور دينية مستمدّة من الحكم الكلي، أي لزوم حفظ القرآن والسنّة فعمدوا إلى كتابة القرآن وتنقيطه وإعراب كلمه وجمله، وعدّ آياته وتمييزها بالنقاط الحمراء، وأخيراً طباعته ونشره، وتشجيع حفّاظه وقرّائه وتكريمهم في احتفالات خاصّة، إلى غير ذلك من الأُمور التي تعتبر كلّها دعماً لحفظ القرآن وتثبيته، وإن لم يفعل بعضها رسول الله ولا أصحابه ولا التابعون، إذ يكفينا وجود أصل له في الأدلة.
4 ـ إنّ من واجب المسلمين الاستعداد الكامل أمام هجمات الكفّار، وأخذ الحيطة والحذر في كلّ ما يحتمل خطره عليهم، يقول
5 ـ قال رسول الله: "إنّ أفضلكم مَن تعلّم القرآن وعلّمه"(1).
وغير خفيّ على القارئ النابه أنّ كيفية التعليم في عصر الرسالة تختلف كثيرة عن عصرنا، فكلا العملين يعدّان تعليماً وتجسيداً لكلام الرسول يقصد به رضا الله سبحانه وتقرّبه، وليس للمتزمّت رفض الأساليب الحادثة لتعلّم الكتاب والسنّة.
والحقّ أنّ هذا الموقف موضع زلّة لأكثر من يصف عمل المسلمين في بعض الموارد بالبدعة، بحجة عدم وجود دليل خاص
____________
1- البخاري، الصحيح 2: 158 ـ ولاحظ سنن الترمذي رقم 3071 وغيرهما.
أ ـ قال سبحانه: {لَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} (النساء/141) فالآية تنفي أي سبيل للكافر على المؤمن، ومن المعلوم أنّ السبل تختلف حسب تطور الحضارات، وكثرة المواصلات، و تشعّب العلاقات بين الناس. ففي عصر الرسالة كان السبيل السائد هو تسلّط الفرد الكافر على المسلم، ككون العبد المسلم رقّاً للكافر، أو تمليك المصحف منه وما قاربهما، وأمّا في عصرنا هذا; فحدّث عن السبيل ولا حرج، فأين هو من تدخل الكفّار في مصير المسلمين حكومة وشعباً حتى صار رؤساء الحكومات الإسلامية أسرى بيد الاستكبار العالمي.
ب ـ يقول سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الاِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة/2) فإنّ التعاون الموجود في العصور السابقة كان محدوداً في إطار ضيّق، وأكثر ما كان يتحقّق منه هو اشتراك جمع من مدينة واحدة أو من قبيلة معيّنة على أن يتعاونوا فيما بينهم، وأين هذا من التعاون السائد في عصرنا هذا كتعاون دول المنطقة على إجراء مشروع مفيد للمنطقة، أو تعاونهم على ضرب حكومة إسلامية فتيّة خوفاً على كراسيهم ومناصبهم.
ولو أنّ المتزمّتين درسوا هذا البحث دراسة عميقة لربّما خمدت ثورتهم ضدّ المسلمين، الذين يعملون الخير امتثالا لحكم الدين.
روى الطبراني: "انّ النبيّ عليه الصلاة والسلام مرّ على أعرابي وهو يدعو في صلاته ويقول: "يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيّره الحوادث، ولا يخشى الدوائر، يعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وعدد ما أظلم عليه الليل، وأشرق عليه النهار، لا توارى سماء منه سماء، ولا أرض أرضاً، ولا بحرٌ ما في قعره، ولا جبل ما في وعره، إجعل خير عمري آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيّامي يوم ألقاك".
فوكّل رسول الله بالأعرابي رجلا، وقال: إذا صلّى فأتني به، وكان قد أُهْدِي بعض الذهب إلى رسول الله، فلمّا جاء الأعرابي، وهب له الذهب، وقال له: تدري لم وهبت لك؟
قال الأعرابي: للرحم التي بيني وبينك.
قال الرسول الكريم: إنّ للرحم حقّاً، ولكن وهبت لك الذهب لحسن ثنائك على الله"(1).
وأين هذا الكلام ممّا روي عن الشاذلي أنّه قال يقول: "من دعا بغير ما دعا به رسول الله فهو مبتدع"(2).
____________
1- محمد الغزالي، تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل: 102.
2- إسماعيل البروسوي، روح البيان 9: 385.
الفصل العاشر
الخطوط العامة لتحصين الدين
من الابتداع
كان النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) يتنبأ دبيب البدعة في دينه بعد رحيله، ويعلم أنّ سماسرة الأهواء سيبثّون بذور البدع في المجتمع الإسلامي. ولما كان الدين أعزّ شيء عند الرسول (صلى الله عليه وآله)، وقد ضحى بالنفس والنفيس لأجله، وتحمّل عبئاً عظيماً في طريق دعوته، لذا اتّخذ عدّة اجراءات لتحصينه من البدعة، نذكر منها ما يلي:
الأُولى: التحذير من البدع والمبتدعين
إنّ الخط الدفاعي الأوّل الذي وضعه رسول الله لحصانة دينه تمثل في ذمّ البدع والمبتدعين، وتحذير المجتمع الإسلامي منهما، من
قال رسول الله: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"(1).
وقال: "إيّاكم والبدع فانّ كلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة تسير إلى النار"(2).
وقال: "أصحاب البدع كلاب النار"(3).
وقال: "أهل البدع شرّ الخلق والخليقة"(4).
وقال: "يجيء قوم يميتون السنّة ويوغلون في الدين، فعلى أُولئك لعنة الله ولعنة اللاعنين والملائكة والناس أجمعين"(5).
وقال: "من وقّر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام"(6).
وقال: "إذا رأيتم صاحب بدعة فاكفهّروا في وجهه"(7).
إلى غير ذلك من البيانات البليغة التي تحذّر المجتمع الإسلامي من البدعة والمبتدعين الذين سيظهرون بعد رحيله، وبذلك أعطى بصيرة لمن خلفه لكي لا يغترّوا بكلام المبتدعين ويفتتنوا به.
الثانية: الإشارة إلى وجود الكذابة على لسانه
وقف النبي الأكرم على أنّ هناك أُناساً في حياته أو بعد رحيله يكذبون أو سيكذبون على لسانه، فيبدلون دينه، وقال في حديث يرشد المسلمين إلى وجود الكذابين ليأخذوا حذرهم:
____________
1 - 7) لاحظ علاء الدين الهندي، كنز العمال ج 1 الحديث 1101، 1113، 1094، 1095، 1124، 1102، 1676.
أو "من كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار"(2).
أو "من يقل عليّ ما لم أَقُل فليتبوّأ مقعده من النار"(3).
إنّ التاريخ يشهد بأنّ الأُمّة الإسلامية ـ في عصر الخلفاء ـ يوم اتسعت رقعة البلاد الإسلامية واستوعبت شعوباً كثيرة، شهدت دخول جماعات عديدة من أحبار اليهود وعلماء النصارى في الإسلام، مثل كعب الأحبار، وتميم الداري ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام، الذين تسلّلوا إلى صفوف المسلمين، وراحوا يدسّون الأحاديث الإسرائيلية، والخرافات والأساطير النصرانية في أحاديث المسلمين وكتبهم وأذهانهم.
وقد ظلّت هذه الأحاديث المختلقة، تُخيِّم على أفكار المسلمين ردْحاً طويلا من الزمن، وتؤثّر في حياتهم العمليّة، وتوجهها الوجهة المخالفة لروح الإسلام الحنيف، في غفلة من المسلمين وغَفْوتهم، ولم ينتبه إلى هذا الأمر الخطير، إلاّ من عصمه الله، كعليّ(عليه السلام)، الذي راح يحذّر المسلمين عن الأخذ بمثل هذه الأحاديث المختلقة فقال: "فلو علم الناس أنّه منافق كاذب، لم يقبلوا منه ولم يصدَّقوا، ولكنّهم قالوا: صاحب رسول الله رآه وسمع منه ولقف عنه"(4).
نماذج وأرقام عن الأحاديث الموضوعة:
____________
1 - 3) البخاري، الصحيح 1: 27 ـ السنن لابن ماجة 1: 13 ـ الصحيح لمسلم بشرح النووي: 661 ـ والترمذي رقم 2796 إلى غير ذلك من المصادر.
4- نهج البلاغة: الخطبة 210.
ميزان الاعتدال للذهبي.
وتهذيب التهذيب للعسقلاني.
ولسان الميزان للعسقلاني.
ونظائرها من الكتب التي صنّفت في هذا المجال.
ولعلّ فيما قاله البخاري صاحب "الصحيح" المعروف، إشارة إلى طرف من هذه الحقيقة المرّة، حيث قال ابن حجر في مقدّمة فتح الباري:
إنّ أبا عليّ الغساني روى عنه قال: خرّجت الصحيح من 006 ألف حديث(1).
وروى عنه الإسماعيلي أنّه قال:
أحفظ مائة ألف حديث صحيح وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح(2).
ويعرب عن كثرة الموضوعات اختيار أئمة الحديث أخبار تآليفهم (الصحاح والمسانيد) من أحاديث كثيرة هائلة، والصفح عن غيرها، وقد أتى أبو داود في سننه بأربعة آلاف وثمانمائة حديثاً وقال: انتخبته من خمسمائة ألف حديث(3).
____________
1- من الهدى الساري مقدمة فتح الباري: 4.
2- المصدر نفسه: 5.
3- طبقات الحفاظ للذهبي 2: 154 ـ تاريخ بغداد 9: 57.
وفي صحيح مسلم أربعة آلاف حديث أصول دون المكرّرات، صنّفه من ثلاثمائة ألف(2).
وذكر أحمد في مسنده ثلاثين ألف حديث، وقد انتخبه من أكثر من سبعمائة وخمسين ألف حديث، وكان يحفظ ألف ألف حديث(3).
وقد قام الباحث الكبير المجاهد العلامة الأميني في موسوعته (الغدير) ـ الجزء الخامس ـ باستخراج أسماء الكذّابين والوضّاعين للحديث على حسب الحروف الهجائية فبلغ عددهم 700، وما قام به رحمه الله، وإن كان عملا كبيراً يشكر عليه، غير أنّه لو قامت بهذا الأمر لجنة من الباحثين لعثروا على أضعاف ما ذكره ذلك الباحث الكبير.
وكان تحذير النبي الأكرم عن الدجّالين الكذّابين وشيوع الكذب على لسانه سبباً لقيام العلماء بوضع علم الرجال وبيان مقاييس يُميّز به الصحيح عن السقيم.
وقال: وقد تنبّأ الرسول بما سيصيب سنّته الشريفة ويصيب المسلمين فيما بعد على أيدي الكذّابين ووضّاعي الحديث وأعداء الإسلام، وفي الوقت نفسه أخبر عمّن يقف في وجه هذا الخطر العظيم
____________
1- ارشاد الساري 1: 208 ـ صفوة الصفوة 4: 143.
2- طبقات الحفاظ للذهبي 2: 151، 157 ـ شرح صحيح مسلم للنووي 1: 32.
3- طبقات الذهبي 9: 17.
روى السيوطي أنّ عثمان بن عفان لمّا أراد أن يكتب المصاحف، أراد أن يحذف الواو التي في سورة البراءة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِنَّ كَثِيراً مِنَ الأحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَالَّذِينَ يَكْنُزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَاب أَلِيم} (التوبة/34).
قال أُبيّ بن كعب لتلحقنها أو لأضعنّ سيفي على عاتقي(2).
فانّ الخليفة كان يريد أن يقرأ قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنُزُونَ} بدون واو العطف، لتكون هذه الجملة وصفاً للأحبار واليهود. وهذا مضافاً إلى كونه خلاف التنزيل وتغييراً في ما نزل به الوحي كما تلاه الرسول وقرأه على مسامع القوم، فإنّ حذف الواو كان يعني أنّ آية حرمة الكنز سوف لا تشمل المسلمين بل ستبقى صفة للأحبار والرهبان. وكان يقصد من هذه اضفاء طابع الشرعية على اكتناز الأموال الطائلة.
وهذا يكشف عن مدى حفظ الأُمّة لنصّ الكتاب بهذه الصورة الدقيقة الأمينة، بيد أنّ حفظ الأُمّة كان محدوداً لا يتجاوز هذا الحد، إذ كان غير شامل لجوانب أُخرى من الشريعة وأُصولها ومصادرها وينابيعها.
____________
1- الكشي، الرجال: 5.
2- السيوطي، الدر المنثور 3: 232.