قال الله تبارك وتعالى:
{ يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقوا اللهَ وَابْتَغُوا إليهِ الوَسِيلَةَ وجاهِدُوا في سبيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }. المائدة/35
والحمد لله ربّ العالمين، والصَلاة والسلام على سيد رُسُله، وخاتم أنبيائه وآله ومن سار على خطاهم وتبعهم بإحسان الى يوم الدين.
يولي المسلمون أهميّة كبرى للعقيدة الصحيحة لأنّها تشكّل حجر الزاوية في سلوكهم ومناراً يضيءُ دروبهم وزاداً لمعادهم.
ولهذا كرّسَ رسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الفترة المكيّة من حياته الرسالية نفسه لإرساء أُسس التوحيد الخالص، ومكافحة الشرك والوثنية، ثم بنى عليها في الفترة المدنية صَرحَ النظامِ الأخلاقي والإجتماعي والاقتصادي والسياسيّ.
ولهذا ـ ونظراً للحاجةِ المتزايدة ـ رأينا أن نقدّم للأُمةِ الإسلاميّة الكريمة دراسات عقائدية عابرة مستمدَّة من كتاب اللهِ العزيز، والسُنّةِ الشريفة الصحيحة، والعقل السليم، وما اتَّفق عليه علماءُ الأُمةِ الكرام، تُروي ظمأَ العطشانِ، وتلَبّي حاجةَ المشتاق، وتساعد على إيقاظ الأُمة، وتوحيد صفوفها، والله الموفِق.
معاونيّة التعليم والبحوث الإسلاميّة
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّد رسله وخاتم أنبيائه محمد وآله الطاهرين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
تكتسب العقيدة الصحيحة أهمية كبرى في حياة المسلم، لأنها تشكِّل حجر الزاوية في سلوكه وتمثل ضوء طريقه، وزاد معاده.
ولهذا كرّس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الفترة المكية من حياته الرسالية في إرساء أُسس التوحيد الخالص، ومكافحة الشرك والوثنية، ثم بنى عليها في الفترة المدنية صَرح النظام الأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
ولهذا ـ ونظراً للحاجة المتزايدة ـ رأينا أن نقدّم للأُمة الإسلامية الكريمة وجبات اعتقادية عاجلة، مستمدّة من كتاب الله العزيز، والسنّة الشريفة الصحيحة، والعقل السليم الحصيف، وما اتّفق عليه علماء الأُمة الكرام، تروي ظمأ العطشان، وتلبّي حاجة المشتاق، وتساعد على إيقاظ الأُمة، وتوحيد صفوفها والله الموفق.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف أنبيائه وأفضل سفرائه محمد وآله الطاهرين وعلى عباد الله الصالحين.
أمّا بعد: فقد خلق الله سبحانه العالم التكويني على أساس الأسباب والمسبّبات، فلكل ظاهرة في الكون سبب عادي يؤثّر فيها بإذنه سبحانه، وليس للعلم والعالم التجريبي شأن سوى الكشف عن تلك الروابط الموجودة بين الظواهر الكونية، وكلّما تقدّم العلم في ميادين الكشف، تتجلّى تلك الروابط بأعمق صورة لدينا والكلُّ يدل على شيء وهو، أنّه سبحانه خلق النظام الكوني على أساس وسائل وأسباب تتبنّى مسبّباتها بتنظيم منه سبحانه إذ { هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً } والماء سبباً للحياة فالكل مؤثرات فيما سواه حسب
وهذا ليس بمعنى تفويض النظام لهذه الظواهر المادية، والقول بتأصّلها في التأثير واستقلالها في العمل بل الكل، متدلٍّ بوجوده سبحانه، قائم به، تابع لمشيئته وإرادته وأمره.
هذا هو الذي نفهمه من الكون ويفهمه كل من أمعن النظر فيه، فكما أنّ الحياة الجسمانية قائمة على أساس الأسباب والوسائل، فهكذا نزول فيضه المعنوي سبحانه إلى العباد تابع لنظام خاص كشف عنه الوحي، فهدايته سبحانه تصل إلى الإنسان عن طريق ملائكته وأنبيائه ورسله وكتبه، فالله سبحانه هو الهادي، والقرآن أيضاً هو الهادي، والنبي الأكرم أيضاً هو الهادي ولكن في ظل إرادة الله سبحانه، قال سبحانه: { والله يريد الحقِّ وهو يهدي السَّبيل } (الأحزاب/4) وقال سبحانه: { إنّ هذا القرآن يهدي للَّتي هي أقوم } (الإسراء/6) وقال سبحانه في حقّ نبيّه: { وإنّك لتهدي إلى صراط مستقيم } (الشورى/52).
فعلى ضوء هذا الأساس فالعالم المعنوي يكون على غرار العالم المادي فللأسباب سيادة وتأثير بإذنه سبحانه، وقد شاء الله أن يكون لها دور في كلتا النشأتين، فلا غرو لمن يطلب رضى الله أن يتمسّك بالوسيلة، قال الله سبحانه: {يا أيّها الذين آمنوا اتَّقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلّكم تفلحون } (المائدة/35).
فالله سبحانه حثّنا للتقرب إليه على التمسّك بالوسائل وابتغائها، والآية دعوة عامة لا تختص بسبب دون سبب، بل تأمر بالتمسّك بكل وسيلة توجب التقرّب إليه سبحانه، وعندئذ يجب علينا التتبّع في الكتاب والسنّة، حتّى نقف على الوسائل المقرّبة إليه سبحانه، وهذا ممّا لا يعلم إلاّ من جانب الوحي، والتنصيص عليه في الشريعة، ولولا ورود النص لكان تسمية شيء بأنّه سبب للتقرّب، بدعة في الدين، لأنّه من قبيل إدخال ما ليس من الدين في الدين.
ونحن إذا رجعنا إلى الشريعة نقف على نوعين من الأسباب المقرّبة إلى الله سبحانه:
النوع الأول:
الفرائض والنوافل التي ندب إليها الكتاب والسنّة، ومنها التقوى، والجهاد الواردين في الآية، وإليه يشير عليّ أمير
____________
1- الكليني: الكافي: 1/183.
غير أنّ مصاديق هذا النمط من الوسيلة لا تنحصر في ما جاء في الآية أو في تلك الخطبة بل هي من أبرزها.
النوع الثاني:
وسائل ورد ذكرها في الكتاب والسنّة الكريمة، وحثّ عليها الرسول وتوسّل بها الصحابة والتابعون وكلّها توجب التقرّب إلى الله سبحانه، وهذا هو الذي نطلبه في هذا الأصل حتى يعلم أنّ الوسيلة لا تنحصر في الفرائض والمندوبات الرائجة بل هناك وسائل للتقرّب دلّت عليها السنّة، وهي التوسّل بالنبي الأكرم على أشكاله المختلفة التي سنذكرها، فهذا عليّ (عليه السلام)يقول في ذكر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): " اللّهمّ أعل على بناء البانين بناءه، وأكرم لديك نُزُله، وشرِّف عندك منزله وآته الوسيلة وأعطه السناء والفضيلة واحشرنا في زمرته "(2).
فإذا وقفنا على أنّ النبيّ هوالوسيلة المقرّبة إلى الله، فتجب علينا
____________
1- نهج البلاغة، الخطبة: 110.
2- المصدر نفسه: الخطبة 106.
أخي العزيز: فقد عالجت في هذه الرسالة الوجيزة مسألة التوسّل الذي قد أثارت في بعض الأجواء قلقاً واضطراباً، ولو أنَّ إخواننا رجعوا إلى كتاب الله وسنّة نبيّه بنظرة فاحصة متجردة عن كل رأي مسبق لوجدوا فيهما بياناً شافياً، لا يدع شكاً لشاك ولا ريباً لمرتاب، وبما أنّ بعضهم ـ سامحهه الله ـ ربّما يرمي المتوسّل بالتألّه للمتوسّل به، أو يعد عمله بدعة. وضعنا أمامك بحثاً موجزاً حول هذين الأصلين: 1 ـ التوحيد في العبادة، 2 ـ حرمة البدعة، ليقف القارئ على أنّ المتوسِّل بالأسباب ـ مادية كانت أم معنوية ـ يؤمن بذينك المبدأين أتمّ الإيمان، وأنّه مع إيمانه وتسليمه بهما يتوسل بما سُوِّغ في الشريعة الإسلامية التمسّك به.
نسأله سبحانه أن يرزقنا توحيد الكلمة، كما تفضّل علينا كلمة التوحيد إنّه بذلك قدير وبالإجابة جدير.
جعفر السبحاني
4 رمضان المبارك
عام 1415 هـ
1 ـ التوحيد في العبادة أساس دعوة الأنبياء
التوحيد في العبادة يُشكِّل أساس دعوة الأنبياء في جميع عهود الرسالة السماوية، والمقصود منه دعوة الإنسان إلى عبادة الله، وردعه عن عبادة غيره أيّاً كان.
فالتوحيد في العبادة، وتحطيم أغلال الشرك والوثنيّة، هو الحجر الأساس للتعاليم السماوية، فكأنّ الأنبياء والرسل لم يُبْعَثوا إلاّ إلى هذا الهدف الوحيد وهو، تثبيت دعائم التوحيد ومكافحة الشرك بعامّة ألوانه، وأخصّ منها بالذكر، الشرك في العبادة.
لقد جاءت تلك الحقيقة في الذكر الحكيم بجلاء، إذ قال تعالى: { ولقد بعثنا في كلّ أُمة رسولا أنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } (النحل/36).
وقال سبحانه: { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلاّ نوحي إليه أنّه لا إله إلاّ أنا فاعبدون } (الأنبياء/25) وفي موضع آخر يصف القرآن الكريم التوحيد في العبادة: الأصل المشترك بين جميع الشرائع السماوية إذ يقول: { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبدَ إلاّ إيّاه ولا نشرك به شيئاً } (آل عمران/64).
إنّ القرآن الكريم يصوِّر موقفَ المشرك في الحياة بالذي خرّ من السماء فلا يكون مصيره إلاّ طُعماً للصقور والنسور، أو ملقىً في مكان سحيق، قال سبحانه: { ومن يشرك بالله فكأنّما خرّ من السماء فتخطّفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق } (الحج/31) فما هذا إلاّ لأنّ المشرك اعتمد في الحياة على ما ليست له مسحة من الواقعية أو لمسة
فنبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) حسب هذه الآيات ووفقَ ما وَصَلَنا من حياته، كافح الشرك في العبادة بكل حول وقوة، وجعله السبيل إلى سائر دعواته، كما كافح سائر ألوانه وإن كان التركيز على الشرك في العبادة أكثر.
فالمسلم لا يدخل في حظيرة الإسلام إلاّ بالاعتقاد بهذا الأصل الذي لا يقبل التخصيص ولا التقييد، فالعبادة بمعناها الحقيقي، مختصة بالله سبحانه لا تعمّ غيره وإشراك الغير معه ظلم وتعدٍّ على حدود الله قال سبحانه حاكياً عن أحد عباده الصالحين: { يا بُنيّ لا تشرك بالله إنّ الشرك لظلمٌ عظيم } (لقمان/13).
فعلى ضوء ذلك فكل عمل في الشريعة الإسلامية يجب أن ينطبق على هذا الأصل ولا يتعدّاه، حتى لو ورد في حديث، أو نقل عن إمام شيء يزاحم ذلك الأصل فهو كذب على النبي أو الإمام، وهو مرفوض يضرب عرض الجدار.
2 ـ البدعة في الدين
وهناك أصل آخر له الأهمية الخاصة بعد ذلك الأصل وهو حرمة البدعة والتدخّل فيما يرجع إلى الشريعة الإلهية من عند نفسه، وذلك لأجل حصر التشريع في الله سبحانه، وانّه ليس لأحد الدخول في تلك
ويقول سبحانه: { وكيف يحكّمونك وعندهم التَّوراة فيها حكم الله ثم يتولّون من بعد ذلك وما أُولئك بالمؤمنين } (المائدة/43).
ترى أنّه سبحانه يذمُّ اليهودَ في إعراضهم عن التوراة وفيها حكم الله وتحكيم النبي الأكرم، وما هذا إلاّ لأنّ التشريع خاص بالله تعالى وليس لأحد في التشريع أيّ حقّ.
يقول سبحانه في ذمّ اليهود وأحبارهم حيث كانوا يعدلون عن حكم الله إلى حكم آخر طمعاً في الدنيا إذ ينددهم بقوله: { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأُولئك هم الكافرون } (المائدة/44).
وقال: { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأُولئك هم الظّالمون } (المائدة/45).
وقال: { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأُولئك هم الفاسقون } (المائدة/47).
فهذه الآيات ونظائرها، دليل على أنّه ليس لأحد الحكم إلاّ وفق ما شرّع الله، ومن خرج في حكمه عن إطار التشريع الإلهي فهو كافر وظالم وفاسق.
إنّ الآيات الدالّة على ذم التشريع والتدخل في شؤون الله تعالى كثيرة تجمعها البدعة في الدين، من غير فرق بين الإفتاء بما خالف الكتاب والسنّة أو إدخال ما لم يرد فيها ورميه بالله، فالمعنى الجامع للبدعة هو الافتراء على الله ورسوله ونشر المفترى بين الأُمة باسم الدين، يقول سبحانه: { ومن أظلم ممّن افترى على الله كذباً أو كذّب بآياته إنّه لا يفلح الظالمون } (الأنعام/21).
ترى أنّه سبحانه يُلقِّن النبيَّ الأكرم أن يجيب المشركين الذين اقترحوا عليه أن يأتي بغير هذا القرآن أو يبدّله فيقول: { قل ما يكون لي أن أُبدّله من تلقاء نفسي إن أتّبع إلاّ ما يوحى إليَّ إنّي أخاف إن عصيت ربّي عذاب يوم عظيم } (يونس/15).
وقال الرسول: " إنّ أصدقَ الحديث كتاب الله، وإنّ أفضل الهدى هدى محمد، وشر الأُمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار "(2).
يقول ابن حجر في تفسير قوله: { وشرّ الأُمور محدثاتها }: " المحدثات جمع محدثة، المراد ما أحدث وليس له أصل في الشرع، ويسمّى في عرف الشرع بدعة، وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة "(3).
____________
1- الوسائل: 12، الباب 5 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6.
2 و 3- العسقلاني: فتح الباري في شرح البخاري: 13/153.
فالمسلم يتلو كل يوم قوله: { إيّاك نعبد وإيّاك نستعين } (الحمد/5).
كما يتلو قوله سبحانه: { يا أيّها الَّذين آمنوا لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله واتّقوا الله إنّ الله سميعٌ عليم } (الحجرات/1).
وقوله سبحانه: { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالا مبيناً } (الأحزاب/36).
وقوله سبحانه: {إنّ هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه ولا تتّبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله ذلكم وصّاكم به لعلّكم تتقون } (الأنعام/153).
فالمُبْتدع هو المشرّع المعرِضُ عن سبيل الله، التابعُ لغير سبيله، المفرِّق جماعة المسلمين عن سبيله سبحانه، لا بل هو المفتري الكذّاب الذي يفتري على الله سبحانه ويقترف أفضح المعاصي فمصيره إلى النار.
إذا وقف على موقف الأصلين فالهدف هو تبيين مفهوم التوسّل وبيان أقسامه وأحكامه في ضوء الكتاب والسنّة ولا تتخطاهما قيد شعرة، فما سوّغه الكتاب والسنّة النبوية، جعلناه في قائمة التوسّل المشروع، وما خالفهما، تركناه في قائمة الممنوع والمرفوض،
وقد اعتمدنا في فهم أحكامه، على غُرّ الآيات ومحكماتها، وصحاح السنّة وحسانها والسيرة الرائجة بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان التي نكشف بها عن وجود دليل عليه وصل إليهم ولم يصل إلينا. ولم نتّخذ في ذلك موقفاً مسبقاً حتى نُخْضِع الأدلة عليه، بل اتّبعنا مرامي الكتاب ومقاصد السنّة.
التوسّل لغة واصطلاحاً
التوسّل من وسلت إلى ربّي وسيلة: عملتُ عملا أتقرّبُ به إليه، وتوسّلت إلى فلان بكتاب أو قرابة، أي تقربتُ به إليه(1).
وقال الجوهري في الصحاح: الوسيلة ما يتقرّب به إلى الغير والجمع: الوُسُل والوسائل(2).
ونحن في غنى عن تحقيق معنى الوسيلة في اللغة، لأنّها من المفاهيم الواضحة لدينا وحقيقتها لا تتجاوز عن اتّخاذ شيء ذريعة إلى أمر آخر يكون هو المقصود والمبتغى، وهي تختلف حسب اختلاف المقاصد.
فمن ابتغى رضى الله تبارك وتعالى يتوسّل بالأعمال الصالحة التي بها يكتسب رضاه، ومن طلب استجابة دعائه يتوسّل بشيء جُعِل
____________
1- الخليل: ترتيب المعين، مادة "وسل".
2- الجوهري: الصحاح، ج 5، مادة "وسل".
والمقصود منه في المقام، هو أن يقدِّم العبدُ إلى ربّه شيئاً، ليكون وسيلةً إلى الله تعالى لأن يتقبّل دعاءه ويجيبه إلى ما دعا، وينالَ مطلوبه، مثلا إذا ذكر الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا ومجّده وقدّسه وعظّمه، ثم دعا بما بدا له، فقد اتّخذ أسماءه وسيلة لاستجابة دعائه ونيل مطلوبه، ومثله سائر التوسّلات، والتوسّل بالأسباب في الحياة، أمر فطري للإنسان، فهو لم يزل يدق بابها ليصلَ إلى مسبباتها، وقال الإمام الصادق (عليه السلام): " أبى الله أن تجري الأشياء إلاّ بأسباب فجعل لكل شيء سبباً "(1).
إنّ الوسيلة إذا كانت وسيلة عادية للشيء وسبباً طبيعياً له، فلا يشترط فيها إلاّ وجود الصلة العادية بين الوسيلة والمتوسّل إليه، فمن يريد الشبع فعليه الأكل فلا يُريحه شربُ الماء، إذ لا صلة بين شرب الماء، وسدِّ الجوع، فالعقلاء في حياتهم الدنيوية ينتهجون ذلك المنهج بوازع فطري، أو بعامل تجريبي، نرى أنّ ذا القرنين عندما دُعي إلى دفع شرّ يأجوج ومأجوج الّذين كانوا يأتون من وراء الجبل ويفسدون ويقتلون ويغيرون، لبّى دعوتهم وتمسك بالسبب الطبيعي القويم الذي يدفع به شرّهم فخاطبهم بقوله: { آتوني زُبرَ الحديد حتى إذا ساوى بين الصَّدفين قال انفخوا حتى إذا جعله ناراً قال آتوني أُفرغ عليهم قِطراً * فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا } (الكهف/96 ـ 97).
____________
1- الكليني: الكافي: 1/183.
ففي المورد وأضرابه التي بنيت عليها الحياة الإنسانية في هذا الكوكب، لا يشترط بين الوسيلة والهدف سوى الرابطة الطبيعية أو العادية التي كشف عنها العلم والتجربة وأمّا التوسّل في الأُمور الخارجة عن نطاق الأُمور العادية، فبما أنّ التعرّف على أسبابه خارج عن إطار العلم والتجربة بل يُعدّ من المكنونات الغيبية، فلا يقف عليها الإنسان إلاّ عن طريق الشرع وتنبيه الوحي، وبيان الأنبياء والرسل وما ذاك إلاّ لأنّهم هم الذين يرفعون الستار عن وجه الحقيقة ويصرّحون بالوسيلة ويبيّنوه بأنّ هناك صلة بينها وبين ما يبغيه الإنسان المتوسّل.
وهذا الأصل يبعثنا إلى أن لا نتوسل بشيء فيما نبتغيه من رضى الربّ، وغفران الذنوب واستجابة الدعاء ونيل المنى، إلاّ عن طريق ما عيّنه الشارع وصرّح بأنّه وسيلة لذلك الأمر، فالخروج عن ذلك الإطار يسقطنا في مهاوي التشريع ومهالك البِدع التي تعرّفتَ على مضاعفاتها.
فالمسلمون سلفُهم وخلفهم، صحابيّهم وتابعيّهم، والتابعون لهؤلاء بإحسان في جميع الأعصار ما كانوا يخرجون عن ذلك الخط الذي رسمناه، فما نَدَب إليه الشرع في مجال التوسّل يأخذون به، وما لم
وها نحن نذكر عليك التوسّلات المشروعة التي ندب إليها الشرع، وحثّ عليها النبي الأكرم وخلفاؤه مجتنبين عن الإسهاب في الكلام، مقتصرين على اللبّ تاركين القشر.