خاتمة المطاف
آيتان على منضدة التفسير
قد تعرّفت على أدلّة جواز التوسّل بالأنبياء والصالحين، بأقسامه المختلفة، وربّما تثار الشبهة حول التوسّل ببعض الآيات، فإكمال البحث يقتضي توضيح بعض هذه الآيات التي وقعت ذريعة للشبهة لأجل التفسير بالرأي، فحاشا أن يكون بين الآيات تهافت واختلاف بأن يدل بعضها على جواز التوسّل وبعضها الآخر على المنع، وحاشا أن تكون السنّة المتواترة على جواز التوسّل مضادّة للقرآن الكريم وإنّما استغلّهما القائل إذ ولج في تفسير الآية من غير بابها وإليك بعض هذه الآيات:
الآية الأُولى
قوله سبحانه: { قُلِ ادعوا الَّذين زعمتهم من دونه فلا يملكون كشف الضرّ عنكم ولا تحويلا * أُولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربّهم الوسيلة أيّهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إنَّ عذابَ ربِّك كان محذوراً } (الإسراء/56 ـ 57).
وتوضيح الآيتين على وجه يقلع الشبهة من رأس:
تردّ الآيتان على الذين كانوا يعبدون الوسائط والوسائل بتخيّل أنّهم يستطيعون كشف الضرّ وتحويله عنهم، وأنّهم يملكون ذلك، فلأجل تلك الغاية كانوا يعبدون الجنّ والملائكة وغيرهم لتلك الغاية، وكانوا يسمّونهم آلهة، والآيتان تحتجّ على نفي إلوهيتهم بحجة أنّ الإله
هذا هو الدليل الأوّل الذي أبطل به سبحانه إلوهيتهم وربوبيتهم واستحقاقهم للعبادة.
ثم إنّه سبحانه عاد إلى الاحتجاج عليهم بدليل آخر وحاصله: أنّ الذين تعبدونهم وتزعمون أنّهم يستطيعون كشف الضرّ وتحويله ـ نفس هؤلاء ـ يدعون الله تعالى ويطلبون القربة إليه بفعل الخيرات "حتى" أنّ الأقرب منهم يبتغي الوسيلة إلى الله فكيف بغير الأقرب، والجميع يرجون رحمة الله ويخافون عذابه، إنّ عذاب ربّك كان محذوراً، فإذا كان الحال كذلك فاللازم عليكم ترك عبادة هؤلاء ورفضهم الإقبال على عبادة الله تبارك وتعالى وإلى ذلك يشير قوله سبحانه في الآية الثانية:
{ أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربّهم الوسيلة أيّهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إنّ عذاب ربّك كان محذوراً }.
فأشار إليه { بأُولئك } إلى آلهتهم، وبقوله: { الذين يدعون } إلى عبادتهم لهم، ثم وصف آلهتهم بالجمل التالية وهي، هؤلاء الآلهة:
1 ـ يبتغون إلى ربّهم الوسيلة.
2 ـ الذي هو أقربهم إلى الله يبغي الوسيلة فكيف بغير الأقرب.
فأيّ صلة للآيتين بنفي التوسّل، أي التوسّل بعباد صالحين لا يعتقد المتوسّل فيهم شيئاً من الربوبية ولا استطاعة لكشف الضر وتحويله، بل هم عباد صالحون تستجاب دعوتهم، فلو كانت الآية عامة لصورة التوسّل بدعائهم يلزم التهافت بينها وبين قوله سبحانه: { ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاءُوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً } (النساء/64).
الإنسان المصر على عقيدته الذي لا يريد أن يعدل عنها أمام الآيات البيّنات ليس له إلاّ إخراج الآية عن مفادها وتفسيرها لأجل رأي مسبق، فشتّان بين مفاد الآية، أي عبادة الوسائط بزعم أنّهم آلهة يستطيعون لكشف الضر وتحويله وقضاء الحاجة، وبين توسيط الشخصيات الصالحين بما هم عباد الله، بما لهم منزلة وكرامة عند الله حتى يدعوا للمتوسّل أو يستجيب الله تعالى دعاءه ولأجل قربهم وكرامتهم عنده، فالآية ناظرة إلى المعنى الأوّل دون الثاني.
الآية الثانية
قال سبحانه: { إيّاك نعبد وإيّاك نستعين }.
ربما يقال: إنّ التوسّل نوع من الاستعانة بغير الله سبحانه، وهو ينافي الحصر الموجود في قوله: { إيّاك نستعين }.
والجواب: أنّ الاستعانة بالناس والاستغاثة بهم لا يتنافى مع
وإنّما ينافي الحصر لو اعتقدنا بأنّ للأسباب والوسائط أصالة واستقلالا في العمل والتصرف، وهذا ما لا يليق أن ينسب إلى موحّد أبداً.
إنّ القرآن حافل بحصر أفعال بالله سبحانه، فينسبها إليه في صورة الحصر، ولكنّه يعود فينسبها في نفس الوقت إلى غيره وليس هناك تهافت وتضادّ بين الإسنادين والنسبتين لأنّ المحصور في الله سبحانه غير المنسوب إلى غيره.
يقول سبحانه: { إيّاك نستعين } وفي الوقت نفسه يقول عزّ وجلّ: { استعينوا بالصبر والصلاة وإنّها لكبيرة إلاّ على الخاشعين } (البقرة/45).
قال الدكتور عبد الملك السعدي: أمّا من يمنع ذلك ويستدلّ بقوله: { إيّاك نعبد وإيّاك نستعين } وبقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لابن عباس: " وإذا استعنت فاستعن بالله " وبقوله: " لا يستغاث بي وإنّما المغيث هو الله ".
فالجواب عنه: أنّ الإعانة تكون حقيقية ومجازية، فالمعين الحقيقي هو الله وطلب الإعانة من غيره مجاز، ولولا إمداد الله له بالعون والقوّة لما استطاع أن يعينك، فالاستعانة بالإنسان هي استعانة بالقوة والملكة والسلطة التي منحه الله إياه إذ لا حول ولا قوّة إلاّ بالله، فالآية حصرت الاستعانة الحقيقية بالله تعالى، وكذا وصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لابن عباس من هذا القبيل، والآية والحديث فيهما توجيه للعبد، أن لا ينسب إلى المخلوق حولا ولا قوة، ولو طلب العون المجازي منه وإذا لم توجّه
أمّا الحديث الأخير فإنّه ضعيف، لأنّ في سنده ابن لهيعة فلا يقاوم الأحاديث الصحاح ولا مدلول الآية(1).
والأولى أن يعبّر عن الحقيقي والمجازي بالاستقلال وعدم الاستقلال، بالأصالة والتبع، فالله سبحانه يملك كلّ شيء استقلالا وأصالة والعبد يملك العون والقدرة، ولكن بإذنه ومشيئته في كل آن، فهو الذي أراد أن يقدر العبد ويستطيع على إقامة الفرائض والسنن.
فالعون القائم بالذات غير المفاض فهو عون الله سبحانه، وأمّا العون المفاض المحدود فهو عون العبد، فلو استعان بالعبد بما أنّه معين مستقل وبالأصالة فهو مشرك، فجعلَ المخلوق مكان الخالق ولو طلب منه بما أنّه أقدر الله عليه وأجاز له أن يعين أخاه، فقد طلب شيئاً مشروعاً وهو نفس التوحيد.
هذا من غير فرق بين من يستعين بالأحياء وبالأموات، غاية الأمر إذا كان الميت غير مستطيع على الإعانة تكون الاستعانة لغواً، وإن كان قادراً فتكون الاستعانة عقلائية، فالحياة والموت ليسا ملاكاً للتوحيد والشرك، بل ملاكاً للجدوى وعدمها.
____________
1- الدكتور عبد الملك السعدي: البدعة في مفهومها الإسلامي الدقيق: 53 ـ 54.
«10»
التوسّل بالنبي متواتر إجمالا
إنّ هناك لفيفاً من التوسّلات المبثوثة في كتب التاريخ والتفسير والسيرة وغيرها وهي بأجمعها تدلّ على جريان السيرة بالتوسّل إلى الرسول، وهي تدل على جواز التوسّل بدعاء الرسول أو بذاته أو بمنزلته حياً وميتاً، والكل يعرب عن كونه أمراً رائجاً بين المسلمين غير منكر، وانّما حدث الإنكار في الآونة الأخيرة أي بعد سبعة قرون متكاملة فلم ينبس فيها أحد ببنت شفة بالإنكار أبداً.
نعم هناك لفيف يمنعون التوسّل، ولكنّهم لمّا وقعوا أمام هذه الروايات الهائلة الدالة على جواز التوسّل بدعائه أو بذاته وشخصه حيّاً وميتاً، حاولوا أن يناقشوا في أسناد هذه الروايات، غافلين عن أنّ هذه الروايات مستفيضة، بل متواترة في مفادها الإجمالية أي جواز التوسّل بنفسه، ولا وجه للمناقشة في اسنادها وقال ابن تيميّة: " والمراسيل إذا تعددت طرقها وخلت عن المودطئة قصداً أو الاتفاق بغير قصد كانت
وأنت إذا لاحظت ما سبق من الصحاح والحسان وما نذكره الآن تذعن على تواتره الإجمالي:
1 ـ توسّل الأعرابي بالنبي نفسه
روى جمع من المحدثين أنّ أعرابياً دخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وقال: لقد أتيناك وما لنا بعير يئط، ولا صغير يغط، ثم أنشأ يقول:
أتيناك والعذراء تَدمي لبانها | وقد شغلت أُم الصبي عن الطفل |
ولا شيء ممّا يأكل الناس عندنا | سوى الحنظل العاميوالعلهز الفسل |
وليس لنا إلاّ إليك فرارنا | وأين فرار الناس إلاّ إلى الرسل؟ |
فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يجر رداءه حتى صعد المنبر، فرفع يديه وقال: اللّهمّ اسقنا غيثاً مغيثاً... فما ردّ النبي يديه حتى ألفت السماء... ثم قال: لله درّ أبي طالب، لو كان حياً لقرّت عيناه. من ينشدنا قوله؟
فقام علي بن أبي طالب عليهما السلام وقال: كأنّك تريد يا رسول الله قوله:
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه | ثمال اليتامى عصمة للأرامل |
يطوف به الهلاك من آل هاشم | فهم عنده في نعمة وفواضل |
فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أجل.
فأنشد علي (عليه السلام) أبياتاً من القصيدة، والرسول يستغفر لأبي طالب على المنبر، ثم قام رجل من كنانة وأنشد يقول:
لك الحمد والحمد ممّن شكر | سقينا بوجه النبي المطر(2) |
____________
1- ابن تيميّة: مقدمة في اصول التفسير: 24.
2- السيرة الحلبية: 1/116، لاحظ فتح الباري: 2/494، والقصيدة مذكورة في السيرة النبوية لابن هشام: 1/272 ـ 280.
دلالة الحديث:
إنّ الإمعان في مجموع الرواية يعرب عن أنّ الأعرابي توسّل بشخص النبي وطلب منه قضاء حاجته، والدليل على ذلك الأُمور التالية:
أ ـ أتيناك وما لنا بعير يئط.
ب ـ أتيناك والعذراء تدمى لبانها.
ج ـ وليس لنا إلاّ إليك فرارنا.
د ـ وأين فرار الناس إلاّ إلى الرسل؟
هـ ـ إنشاء علي بن أبي طالب شعر والده، وهو يتضمّن قوله: وأبيض يستسقي الغمام بوجهه.
2 ـ شعر صفية في رثاء النبي
أنشدت صفية بنت عبد المطلب عمّة النبي قصيدة بعد وفاة النبي في رثائه (صلى الله عليه وآله وسلم) وجاء فيها قولها:
ألا يا رسول الله أنت رجاؤنا | وكنت بنا برّاً ولم تك جافيا |
وكنت بنا برّاً رؤوفاً نبيّنا | ليبك عليك اليوم من كان باكيا(1) |
إنّنا نستنتج من هذه المقطوعة الشعرية ـ التي أُنشدت على مسمع من الصحابة وسجّلها المؤرخون وأصحاب السير ـ أمرين:
الأوّل: إنّ مخاطبة الأرواح ـ وبالخصوص مخاطبة رسول الله بعد
____________
1- ذخائر العقبى للحافظ الطبري: 252، مجمع الزوائد: 9/36، ونشير إلى أنّ جملة: "أنت رجاؤنا" في الشطر الأوّل جاءت في هذا المصدر هكذا (كنت رجاؤنا).
الثاني: إنّ قولها: " أنت رجاؤنا " يدل على أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أمل المجتمع الإسلامي في كل العصور والأحوال، ولم تنقطع الروابط والعلاقات معه (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى بعد وفاته.
3 ـ خبر العتيق
روى الإمام القسطلاني في المواهب اللدنية: وقف أعرابي على قبره الشريف (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: اللّهمّ إنّك أمرت بعتق العبيد وهذا حبيبك وأنا عبدك فأعتقني من النار على قبر حبيبك، فهتف به هاتف: يا هذا سألت العتق لك وحدك؟ هلاّ سألت العتق لجميع المؤمنين إذهب فقد أعتقتك.
ثمّ أنشد القسطلاني البيتين المشهورين وهما:
إنّ الملوك إذا شابت عبيدهم | في رقّهم أعتقوهم عتق أحرار |
وأنت يا سيدي أولى بذا، كرماً | قد شِبتُ في الرقّ فاعتقني من النار(1) |
4 ـ خبر حاتم الأصم
نقل في المواهب عن الحسن البصري، قال: وقف حاتم الأصم على قبره (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا ربّ إنّا زرنا قبر نبيّك (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا تردّنا خائبين، فنودي يا هذا ما أذنّا لك في زيارة قبر حبيبنا إلاّ وقد قبلناك فارجع أنت ومن معك من الزوّار مغفوراً لكم.
____________
1- القسطلاني: المواهب اللدنية بالمنح المحمدية: 4/584 طـ. دار الكتب الإسلامي.
5 ـ اللّهمّ ربّ جبرئيل وميكائيل
روى النووي أنّ النبي أمر أن يقول العبد بعد ركعتين الفجر: اللّهمّ ربّ جبرئيل وميكائيل وإسرافيل ومحمد أجرني من النار (أو) أعوذ بك من النار. وخصّ هؤلاء بالذكر للتوسّل بهم في قبول الدعاء وإلاّ فهو سبحانه ربّ جميع المخلوقات.
والحديث صحّحه الحاكم، وقال ابن حجر: إنّه حسن(2).
6 ـ حديث السؤال بالأنبياء
يروى عن عبد الملك بن هارون بن عنترة عن أبيه عن جدّه أنّ أبا بكر الصدّيق أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إنّي أتعلّم القرآن وينفلت منّي. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " قل: اللّهمّ إنّي أسألك بمحمد نبيّك، وإبراهيم خليلك، وبموسى نجيّك، وعيسى روحك وكلمتك، وبتوراة موسى، وانجيل عيسى، وفرقان محمد وبكل وحي أوحيته وقضاءً قضيته... ".
قال ابن تيمية: هذا الحديث ذكره زرين بن معاوية العبدري في جامعه. ونقله ابن الأثير في جامع الأُصول، ولم يعزه لا هذا، ولا هذا إلى كتاب من كتب المسلمين، لكنّه رواه من صنَّف في عمل يوم وليلة كابن السنّي، وأبي نعيم. وقد رواه أبو الشيخ الاصبهاني في كتاب "فضائل الأعمال"(3).
____________
1- المصدر نفسه.
2- زيني دحلان: 30، والرفاعي: التوصل إلى حقيقة التوسّل: 306 عن كتاب الأذكار للنووي.
3- الرفاعي: التوصّل إلى حقيقة التوسّل: 310.
7 ـ حديث دعاء حفظ القرآن
ذكر موسى بن عبد الرحمن الصنعاني صاحب التفسير باسناده عن ابن عباس مرفوعاً، أنّه قال: من سرّه أن يوعيه الله القرآن فليكتب هذا الدعاء: "... اللّهمّ إنّي أسألك بأنّك مسؤول لم يُسأل مثلك ولا يسأل وأسألك بمحمد نبيّك، وإبراهيم خليلك، وبموسى نجيّك، وعيسى روحك وكلمتك ووجيهك... "(1).
8 ـ حديث استفتاح اليهود على المشركين بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)
يروى عن عبد الملك بن هارون بن عنترة عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كانت يهود خيبر تقاتل غطفان... فكلّما التقوا هزمت يهود، فعاذت بهذا الدعاء: " اللّهمّ إنّا نسألك بحقّ محمد النبي الأُمّي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا آخر الزمان إلاّ نصرتنا عليهم، فكانوا إذا دعوا بهذا الدعاء هزموا غطفان... فلما بُعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كفروا به فأنزل الله تعالى: { وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا... } (البقرة/89)(2).
____________
1- المصدر نفسه.
2- المصدر نفسه، نقلا عن الحاكم في المستدرك على الصحيحين. ولم نعثر عليه فيه بعد الفحص الأكيد.
9 ـ توسّل الشافعي بآل البيت
ذكر ابن حجر المكي في كتابه المسمّى بـ "الصواعق المحرقة" من أشعار الإمام الشافعي هذين البيتين:
آل النـبي ذريـعـتي | وهـم إلـيـه وسيـلتي |
أرجو بهم أُعطى غداً | بيدي اليمين صحيفتي(1) |
10 ـ استسقاء بلال بن حرث
روى البيهقي وابن أبي شيبة أنّ الناس أصابهم قحط في خلافة عمر (رضي الله عنه)، فجاء بلال بن الحرث (رضي الله عنه) وكان من أصحاب النبي إلى قبر النبي، وقالوا: يا رسول الله استسق لأُمتك فانّهم قد هلكوا، فأتاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنام وأخبره بأنّهم سيسقون(2) ففيه النداء بعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) والخطاب بالطلب منه أن يستسقي لأُمّته.
ومراده من الاستسقاء بقرينة الحال دعاؤه سبحانه أن ينزل رحمته إليهم لا أن يصلّي صلاة الاستسقاء وليس العبرة بنوم بلال، وإنما العبرة بعمل ذلك الصحابي الذي كان في بعض غزواته(3).
قال زيني دحلان: ومن تتبع أذكار السلف والخلف وأدعيتهم وأورادهم وجد فيها شيئاً كثيراً في التوسّل ولم ينكر عليهم أحد في ذلك حتى جاء هؤلاء المنكرون، ولو تتبّعنا من أكابر الأُمّة في التوسّل لامتلأت بذلك الصحف، وفيما ذكر كفاية ومقنع لمن كان بمرأى من التوفيق ومسمع(4).
____________
1- ابن حجر: الصواعق المحرقة: 180، طـ. مكتبة القاهرة، تحقيق عبد الوهاب.
2- زيني دحلان: الدرر السنية: 18.
3- جمال الدين المزي: 4/282، ابن عساكر: تهذيب تاريخ دمشق الكبير: 3/301 ـ 303.
4- زيني دحلان: الدرر السنية: 31.
تلك عشرة كاملة
ونلفت نظر القارئ بأنّ الاحتجاج بهذه الأحاديث العشرة الكاملة وما قبلها مبني على أمرين أُشير إليهما فيما سبق:
1 ـ إنّ أصل التوسّل إذا كان شركاً أو محرّماً، لم يتجرأ الوضّاع على أن يجعله أساساً لما يريده من الوضع والدس، فهذا يعرب عن أنّ أساس (جواز التوسّل) كان أمراً مسلّماً فبنى عليه ما بنى من القصص والروايات لو افترضنا عدم صحتها، لكن أنّى لنا، هذه الفرية.
2 ـ إنّ مجموع الروايات العشرة وما تقدّم عليها من الصحاح والحسان يثبت كون التوسّل بالنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) بعامة صوره أمر أُستُفيض جوازه من النبي والصحابة بل تواتر إجمالا وإن كانت الخصوصيات غير متواترة.
وليس المورد ممّا يقبل الجرح والدقّة في اسناد الروايات، إذ ليس المقصود الإذعان بصحة كل ما جاء فيها من الخصوصيات وإنّما المقصود ثبوت جواز التوسّل بصورة عامة ببركة هذه الحكايات والقصص وإن كان بعضها ضعيف السند عند البعض وصحيحاً عند آخر.
ومن أراد ردّ هذه الروايات بضعف السند، فقد ولج البيت من غير باب.
ما أُلّف حول التوسّل بقلم علماء الإسلام
لقد أُلّف حول التوسّل بخير الأنام وأولياء الله الكرام كتباً ورسائل قام بتأليفها لفيف من علماء الإسلام وأكابرهم الذين يعتمد على أقوالهم وآرائهم فأحببت أن أنوّه ببعض أسمائها حتى يقف القارئ عليها، فلو أراد التوسّع فعليه الرجوع إليها:
1 ـ كتاب الوفاء في فضائل المصطفى: لابن الجوزي المتوفى سنة 975 هـ، وقد أفرد باباً حول التوسّل بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وباباً حول الاستشفاء بقبره الشريف.
2 ـ مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام: تأليف محمد بن نعمان المالكي المتوفى سنة 736 هـ، وقد نقل السمهودي في كتاب وفاء الوفا، باب التوسّل بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذا الكتاب نقلا كثيراً.
3 ـ البيان والاختصار: لابن داود المالكي الشاذلي، وقد ذكر فيه توسّل العلماء والصلحاء بالرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في المحن والأزمات.
4 ـ شفاء السقام: لتقي الدين السبكي المتوفى عام 567 هـ، وقد تحدّث عن التوسّل بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بشكل تحليلي رائع من ص 120 ـ 133.
5 ـ وفاء الوفا لأخبار دار المصطفى: للسيد نور الدين السمهودي المتوفى سنة 911 هـ، وقد بحث عن التوسّل بحثاً واسعاً في الجزء الرابع من ص 134 ـ 194.
6 ـ المواهب اللدنية: لأبي العباس القسطلاني المتوفى سنة 932 هـ، وسيوافيك كلامه في التوسّل.
7 ـ شرح المواهب اللدنية: للزرقاني المالكي المصري المتوفى سنة 1122 هـ، وفي الجزء الثامن، ص 317.
9 ـ كنز المطالب: للعدوي الحمزاوي المتوفى سنة 1303 هـ.
10 ـ فرقان القرآن: للعزامي الشافعي القضاعي، وقد طبع هذا الكتاب مع كتاب الأسماء والصفات للبيهقي في 041 صفحة.
أيُّها القارئ الكريم: إنّ مطالعة هذه الكتب ـ وخاصة تلك التي تحدّثت بالتفصيل عن التوسّل، ويأتي كتاب صلح الإخوان وفرقان القرآن في طليعتها ـ أنّ مطالعة هذه الكتب يثبت جريان سيرة المسلمين ـ في كلّ عصر ومصر ـ على التوسّل بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)لنقتصر بهذا المقدار وفيه كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد.
كلام لابن حجر حول التوسّل
قال: وينبغي للزائر أن يكثر من الدعاء والتضرّع والاستغاثة والتشفّع والتوسّل به (صلى الله عليه وآله وسلم) فجدير بمن استشفع به أن يشفعه الله تعالى فيه.
واعلم أنّ الاستغاثة هي طلب الغوث، فالمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث منه، فلا فرق بين أن يعبّر بلفظ: الاستغاثة أو التوسّل أو التشفّع أو التجوّه أو التوجّه، لأنّهما من الجاه والوجاهة، ومعناه: علو القدر والمنزلة.
وقد يتوسّل بصاحب الجاه إلى من هو أعلى منه، ثم إنّ كلاًّ من
فأمّا الحالة الأُولى فحسبك ما قدمته في المقصد الأوّل من استشفاع آدم (عليه السلام) به لما أُخرج من الجنّة، وقول الله تعالى له: يا آدم لو تشفّعت إلينا بمحمد في أهل السماوات والأرض لشفّعناك.
وفي حديث عمر بن الخطاب عند الحاكم والبيهقي وغيرهما: وإن سألتني بحقّه فقد غفرت لك. ويرحم الله ابن جابر حيث قال:
به قد أجاب الله آدم إذ دعا | ونجا في بطن السفينة نوح |
وما ضرت النار الخليل لنوره | ومن أجله نال الفداء ذبيح |
وصحّ أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا ربّ، أسألك بحقّ محمد لما غفرت لي، قال الله تعالى: يا آدم، وكيف عرفتَ محمّداً ولم أخلقه؟ قال: يا ربّ إنّك لمّا خلقتني بيدك ونفخت فيّ من روحك، رفعت رأسي فرأيت قوائم العرش مكتوباً عليها لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله، فعرفت أنّك لا تضيف إلى اسمك إلاّ أحبّ الخلق إليك. فقال الله تعالى: صدقتَ يا آدم، إنّه لأحبّ الخلق إليّ، وإذ سألتني بحقّه، فقد غفرت لك ولولا محمّد ما خلقتك ". ذكره الطبري، وزاد فيه: " وهو آخر الأنبياء من ذريتك "(1).
وأمّا التوسّل بعد خلقه في مدّة حياته، فمن ذلك الاستغاثة به (صلى الله عليه وآله وسلم) عند القحط وعدم الأمطار، وكذلك الاستغاثة به من الجوع
____________
1- القسطلاني (851 ـ 923 هـ): المواهب اللدنية بالمنح المحمدية: 4/593 ـ 595.
وأمّا التوسّل به (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد موته في البرزخ وهو أكثر من أن يحصى أو يدرك باستقصاء وفي كتاب "مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام" للشيخ أبي عبد الله بن النعمان طُرَف من ذلك.
إنّ لابن حجر العسقلاني مقاماً شامخاً عند أهل الحديث، لا يعدل عنه إلى غيره إلاّ بدليل وهو خريت فن الحديث وأُستاذه فكلامه يعرب عن تسلميه صحة ما نقل من الأحاديث وتقدّم جميعها في الفصول السابقة.
أخي العزيز لقد عالجت مسألة التوسّل على ضوء الكتاب والسنّة ولم أخرج عنهما قدر شعرة، وإن ذكرت من غيرهما شيئاً فإنّما هو لأجل إيضاح ما ورد في الكتاب والسنّة لقد ذكرت ما ذكرت من النصوص بعد التأكد من مصادرها ولم أعتمد على قول الآخرين إلاّ في موارد نادرة، كما صُنت قلمي ويراعي عمّا لا يناسب أدب الكتاب الإسلامي فإن وجد في هذه الرسالة شيء يتضمّن قسوة في الكلام فإنّما هو عن قوة العارض ووضوح الحجة والله سبحانه من وراء القصد.
جعفر السبحاني
8 رمضان المبارك ـ عام 1415 هـ