«7»
أسئلة حول طلب الشفاعة
قد اتّضح أنّ طلب الشفاعة بمعنى طلب الدعاء، ليس ممّا يرتاب في جوازه مؤمن واع، عارفٌ بالكتاب والسنّة،نعم ربما تُثار هنا شبهات أو أسئلة يجب رفعها أو الإجابة عليها وليست الأسئلة مطروحة على صعيد واحد ولأجل ذلك نذكر كلّ واحد بعنوان يُعرّف مغزاه، والجميع يرجع إلى طلب الدعاء من الشفيع بعد رحيله بعد تجويزه في حياته.
السؤال الأول: الشفيع ميّت كيف يُطلبُ منه الدُعاء؟
إنّ طلب الشفاعة وإن كان طلب الدعاء لكنّه لا جدوى فيه لكون الشفيع بعد الموت لا يستطيع أن يقوم بالدعاء.
على هامش السؤال
السؤال جدير بالدراسة والتحليل، وهو عالق على ذهن لفيف من الناس فهم يناجون في أنفسهم كيف يُطلَب الدُعاء والشفاعة من النبي الأكرم وهو ميّت لا يستطيع على إجابة طلب الطالب؟
أولا: إنّ الرجوع إلى القرآن المجيد، واستنطاقه في هذا المجال يوقفنا على جليّة الحال، وهو يعترف بموتهم مادياً لا موتهم على الإطلاق، بل يصرّح بحياة لفيف من الناس الذين انتقلوا من هذه الدنيا إلى الدار الآخرة من صالح وطالح، وسعيد وشقيٍّ، وها نحن نتلو على القارئ الكريم قسماً منها ليقف على أنّ الموت، أمرٌ نسبي، وليس بمطلق، ولو صار بدن الإنسان جماداً، ليس معناه بطلانه وانعدام شخصيته وليس الموت إلاّ انتقالا من دار إلى دار، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة وإليك لفيفاً من الآيات:
1 ـ قال سبحانه: {ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (آل عمران/169 ـ 170).
والآية صريحة في المقصود، صراحةً لا تتصوّر فوقها صراحة، حيث أخبرت الآية عن حياتهم ورزقهم عند ربهم وتبشيرهم لمن لم يلحقوا بهم، وما يتفوهون به في حقهم بقولهم: {ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
2 ـ إنّ القرآن يعدّ النبي شهيداً على الأُمم جمعاء، ويقول سبحانه: {فكيف إذا جئنا من كل أُمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} (النساء/41).
فالآية تصرّح بأنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شاهد على الشهود الذين يشهدون على أُممهم فإذا كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شاهداً على الأُمم جمعاء، أو على شهودهم فهل تعقل الشهادة بدون الحياة، وبدون الاطلاع على ما تجري فيهم من الأُمور من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان؟!
ولا يصح لك أن تفسّر شهادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بشهادته على معاصريه فقط، وذلك لأنّه سبحانه عدّ النبي شاهداً في عداد كونه مبشّراً ونذيراً، وهل يتصوّر أحدٌ أن يختص الوصفان الأخيران بمن كان يعاصر النبي؟!
كلاّ. فإذن لا وجه لتخصيص كونِهِ شاهداً على الأُمة المعاصرة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
3 ـ الآيات القرآنية صريحة في امتداد حياة الإنسان إلى ما بعد موته، يقول سبحانه في حقّ الكافرين: {حتى إذا جاء أحدهم الموت قال ربّ ارجعون * لعلّي أعمل صالحاً فيما تركت كلاّ إنّها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون} (المؤمنون/99 ـ 100).
فهذه الآية تصرّح بامتداد الحياة الإنسانية إلى عالم البرزخ، وإنّ هذا العالم وعاءٌ للإنسان يعذّب فيها مَن يُعذّب وينعَّم فيها من ينعَّم.
وأمّا العقوبة، فيقول سبحانه: {النار يعرضون عليها غدوّاً وعشيّاً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب} (غافر/46).
4 ـ هذا هو الذكر الحكيم ينقل بياناً عن الرجل الذي جاء من أقصى المدينة، وأيّد رسل المسيح، فلمّا قتل خوطب باللفظ التالي: {قيل ادخل الجنة} فأجاب بعد دخوله الجنة: {يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين} (يس/26 ـ 27) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على امتداد الحياة، واستشعار لفيف من عباد الله لما يجري هنا وهناك، غير أنّا لا نَسمع بيانَهم ولا نفهم خِطابهم، وهم سامعون، عارفون بإذن الله سبحانه.
ثانياً: إنّ الأحاديث الواردة في هذا المورد فوق الحصر فحدِّث عنها ولا حرج، وقد روى المحدِّثون عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما من أحد يسلّم عليّ إلاّ ردّ الله روحي حتى أردّ عليه السلام "(1) كما نَقَلوا قوله: " إنّ لله ملائكةً سيّاحين في الأرض يبلّغوني من أُمتي السلام "(2).
ثالثاً: نرى أنّه سبحانه يسلم على أنبيائه في آيات كثيرة، ويقول: {سلامٌ على نوح في العالمين ـ سلام على إبراهيم ـ سلام على موسى وهارون ـ سلام على آل ياسين ـ وسلام على المرسلين} (الصافات/79، 109، 120، 130، 181).
____________
1- وفاء الوفا: 4/1349.
2- المصدر نفسه: 1350.
السؤال الثاني: الشفيع ميّت وهو لا يسمع؟
هذا هو السؤال الثاني الذي ربّما يُطرَح في المقام، وهو أيضاً جديرٌ بالدراسة، ولكنّه في التحقيق صورةٌ صغيرة من السؤال السابق، فالتركيز ـ هنا ـ على خصوص عدم السماع، ولكنّه في السابق على معنىً أعم وهو عدم الاستطاعة على شيء سماعاً كان أو غيره.
ونقول: ربما يقال: ظاهر الذكر الحكيم على أنّ الموتى لا يسمعون، حيث شبّه المشركين بهم. ووجه الشبه هو عدم السماع. قال: {إنّك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصمّ الدعاء إذا ولّوا مدبرين} (النمل/80)، فالآية تصف المشركين بأنّهم أموات وتشبِّهُهُم بها، ومن المعلوم أنّ صحة التشبيه تتوقّف على وجود وجه الشبه في المشبَّه به بوجه أقوىً وليس وجه الشبه إلاّ أنّهم لا يسمَعون، فعند ذلك تُصبح النتيجة: إنّ
ووجه الدلالة في الآيتين واحد.
على هامش السؤال
القرآن الكريم منزّه عن التناقض والاختلاف وكيف لا يكون كذلك وهو يقول: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} (النساء/82) وهو يصرّح في غير واحد من آياته على أنّ الأنبياء كانوا يكلّمون الموتى ويخاطبونهم. ونلمس ذلك بوضوح في قصتي صالح وشعيب.
أمّا الأُولى: فالقرآن يحكي خطابَه لقومه ـ بعد هلاكهم وأخذهم الرجفة ـ ويقول: {فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين * فتولّى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبّون الناصحين} (الأعراف/78 ـ 79).
أمعن النظر في قوله: {فتولّى} حيث تصدَّر بالفاء الدالة على الترتيب: أي بعدما عمّهم الهلاك أعرض صالح بوجهه عنهم وخاطبهم بقوله: يا قوم...
أمّا الثانية فهو أيضاً قرينة الأُولى ونظيرتها قال سبحانه: {فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين * الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها الذين كذّبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين * فتولّى عنهم وقال يا
إنّ الأُوليين من الآيات صريحتان في نزول البلاء عليهم وإبادتهم وإهلاكهم جميعاً ـ فبعد ذلك ـ يخاطبهم نبيُّهم شعيب معرِضاً بوجهه عنهم، مشعراً بالتبرّي ويقول: يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي... وليس لنا، ولا لغيرنا تأويل القرآن لأخذ موقف مسبَّق في الموضوع، بل يجب عرض الرأي عليه لا عرض القرآن على الفكر الإنساني.
ونكتفي من الآيات بما تلوناه عليك وهناك آيات أُخرى موحدة في المضمون نترك نقلها للاختصار.
السنّة لا تتفق مع عدم السماع
إنّ السنّة الكريمة، عدل القرآن، يُحتَجُّ بها كما يُحتجّ به، فقد أخذت موقف الإيجاب فهي لا تتفق مع عدم السماع وإليك نزراً يسيراً منها:
1 ـ ما أنتم بأسمعَ منهم
هذه الكلمة ألقاها النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما كان بمقربة من قتلى قريش، وكان يكلّمهم ولمّا اعترض عليه بعض أصحابه بقوله: " كيف تكلّمهم وهم قوم موتى " أجابه بقوله: " ما أنتم بأسمع منهم " وإليك التفصيل:
ولمّا أمر النبي بإلقاء قتلى المشركين في القليب وقفَ رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عند القليب وأخذ يخاطب القتلى واحداً واحداً ويقول:
" يا أهلَ القليب، يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا أُمية بن خلف، ويا أبا جهل (وهكذا عدّ من كان منهم في القليب) هل وجدتم ما وعدَكم ربّكم حقاً، فإنّي قد وجدت ما وعدَني ربّي حقاً ".
فقال له بعض أصحابه: يا رسول الله أتنادي قوماً موتى؟
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " وما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنّهم لا يستطيعون أن يجيبوني ".
وكتب ابن هشام يقول: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " يا أهل القليب بئس عشيرة النبيّ كنتم لِنبيّكم كذَّبتموني وصدّقني الناسُ، وأخرجتُموني وآواني الناس، وقاتلتُموني ونصرني الناس، (ثم قال:) هل وجدتُم ما وعدكم ربي حقاً؟ "(1).
وقد أنشد حسان قصيدة بائيّةٌ رائعة حول وقعة بدر الكبرى يشير في بعض أبياتها إلى هذه الحقيقة، أعني قصة القليب إذ يقول:
يناديهمْ رسولُ الله لمّا | قذَفناهم كباكبَ في القليب |
____________
1- السيرة النبوية: 1/639 ; السيرة الحلبية: 2/179 و 180 وغيرهما.
ألم تجِدوا كلامي كان حقاً | وأمـرُ الله يـأخـذ بالقـلوب؟ |
فما نَطقوا ولو نَطقوا لقالوا | صدقتَ وكنتَ ذا رأي مصيب! |
على أنّه لا توجد عبارة أشد صراحة ممّا قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المقام، حيث قال: " ما أنتم بأسمع منهم ".
وليس ثمة بيان أكثر إيضاحاً وأشد تقريراً لهذه الحقيقة من مخاطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لواحد واحد من أهل القليب، ومناداتهم بأسمائهم وتكليمهم كما لو كانوا على قيد الحياة.
فلا يحق لأيّ مسلم مؤمن بالرسالة والرسول، أن يسارع إلى إنكار هذه القضية التاريخية الإسلامية المسلّمة، ويبادر قبل التحقيق ويقول: إنّ هذه القضية غير صحيحة، لأنّها لا تنطبق مع الموازين العقلية المادية المحدودة.
وقد نقلنا هنا نصَّ هذا الحوار، لكي يرى المسلمون الناطقون باللغة العربية كيف أنّ حديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يصرّح بهذه الحقيقة، بحيث لا توجد مثلها عبارة في الصراحة، والدلالة على هذه الحقيقة.
ومن أراد الوقوف على مصادر هذه القصة فعليه أن يراجع ما ذكرناه في الهامش أدناه(1).
____________
1- إنّ تكلّم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع رؤوس الشرك الموتى الذين أُلقيت أجسادُهم في البئر من مسلّمات التاريخ والحديث، وقد أشار إلى هذا من بين المحدّثين والمؤرخين: صحيح البخاري: 5/76 و 77 ـ 86 و 87 في معركة بدر ; صحيح مسلم: 8/163 كتاب الجنة باب مقعد الميت ; سنن النسائي: 4/89 و 90 باب أرواح المؤمنين ; مسند الامام أحمد: 2/131 ; السيرة النبوية: 1/639 ; المغازي: 1/112 غزوة بدر ; بحار الأنوار: 19/346.
2 ـ رواية الصحابي الجليل: عثمان بن حنيف
روى الحافظ الطبراني عن الصحابي الجليل عثمان بن حنيف: أنّ رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له، وكان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقى ابنَ حنيف فشكى إليه ذلك، فقال له ابنُ حنيف: إئت الميضأة، فتوظأ ثم ائتِ المسجد فصلِّ ركعتين، ثم قل: اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّنا محمد نبيّ الرحمة، يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّك أن تقضي حاجتي، وتذكر حاجتك.
فانطلق الرجل فصنع ما قال، ثم أتى باب عثمان فجاءَه البوّاب حتى أخذ بيده، فأُدخِلَ على عثمان فأجلسه معه على الطنفسة فقال: حاجتك؟ فذكر حاجته وقضى له، ثم قال له: ما ذكرتُ حاجتك حتى كانت الساعة، وقال: ما كانت لك من حاجة فاذكرها، ثم إنّ الرجل خرج من عنده فلقى ابن حنيف فقال له: جزاك الله خيراً، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليّ حتى كلّمتَه فيّ.
فقال ابن حنيف: والله ما كلّمته، ولكن شهدتُ رسول الله، وأتاه ضرير فشكى إليه ذهاب بصره، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إن شئت دعوتُ أو تصبر، فقال: يا رسول الله إنّه ليس لي قائدٌ وقد شقّ عليّ، فقال له النبي: ائت الميضأة فتوضّأْ ثم صلّ ركعتين ثم ادعُ بهذه الدَعَوات. قال ابنُ حنيف: فو اللهِ ما تفرَّقْنا وطال بنا الحديثُ حتى دَخَلَ علينا الرجلُ كأنّه لم يكن به ضر(1).
____________
1- صحيح الترمذي: 5 كتاب الدعوات، الباب 119، رقم 3578 ; سنن ابن ماجة: 1/441، رقم 1385 ; مسند أحمد: 4/138 وفي غير ذلك.
وقال ابن ماجة: هذا حديثٌ صحيحٌ.
وقال الرفاعي: لا شك أنّ هذا الحديث صحيحٌ ومشهورٌ(1).
تفسير الآيتين
إلى هنا اتّضح الأمر وإنّ هناك إسماعاً وسماعاً ومخاطِباً وخطاباً، وإفهاماً وفهماً، فعند ذلك تصل النوبة إلى تفسير الآيتين، علماً منّا ومن كل مسلم، بأنّه لا اختلاف في القرآن ولا تعارض بين آياته فنقول:
قال سبحانه: {فإنّك لا تسمع الموتى...} (الروم/52).
وقال تعالى: {وما أنت بمسمع من في القبور} (فاطر/22).
فالآيتان صريحتان في امتناع إسماع الموتى.
والجواب على هذا واضح: فإنّ هاتين الآيتين ناظرتان إلى الأجساد الموجودة في القبور، فإنّها هي التي لا تسمع، ولا تعي، والاتصال لا يكون بيننا وبين هذه الأجساد، بل يتحقّق بيننا وبين الأرواح الطاهرة والنفوس الزكية الباقية الخالدة، وإن تبعثر الجسدُ وتناثرت أجزاؤه فالأرواح هي التي يُسلَّم ويُصلّى عليها وهي التي تَسمع وتردُّ.
وأمّا الحضور عند المراقد التي تضم الأجساد والأبدان فلأجل أنّه يبعث على التوجه إلى صاحب تلك الأجساد ويكون أدعى إلى تذكّر خصاله، وصفاته، وإلاّ فإنّ الارتباط بهم، والسلام عليهم يمكن حتى
____________
1- التوصل إلى حقيقة التوسل: 158.
وبعبارة ثانية: إنّ الآية تنفي السماع والإفهام عن الأموات المدفونين في القبور، فإنّهم أصبحوا بعد الموت كالجماد لا يفهمون ولا يسمعون، وهذا غير القول بأنّ الأرواح المفارقة عن هذه الأبدان غير قابلة للإفهام ولا للإسماع. والآيتان دالّتان على عدم إمكان إسماع الأموات والمدفونين في القبور، ولا تدلاّن على عدم إمكانية تفهيم الأرواح المفارقة عن الأبدان، العائشة في البرزخ عند ربّهم كما دلّت عليه الآيات السابقة.
ومن المعلوم أنّ خطاب الزائر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: يا محمد اشفَعْ لنا عند الله، لا يشير إلى جَسَده المطهَّر، بل إلى روحه الزكية الحية العائشة عند ربّها إلى غير ذلك من الصفاتِ التي يضفيها عليه القرآن الكريم وعلى سائر الشهداء. حتى إنّ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)وإن وقف عند أجساد أهل القليب لكن التكلّم مع أرواحهم، والوقوف عنده، لأجل تخصيص خطابه بهم وإفهامه لغيرهم من الحاضرين.
تحقيق رائع حول الآيتين
هناك تحقيق رائع حول الآيتين، لا يقف عليه إلاّ الذي كرّس عمره في تفسير القرآن. وإليك بيانه: إنّ الآيتين في مقام بيانِ أمر آخر وهو أنّ المراد من الإسماع هنا هو الهداية وهي تتصوَّر على قسمين: هداية مستقلة، وهداية معتمدة على إذنه سبحانه، والآيتان بصدد بيان أنّ
وإذا قارنتَ قولَه: {وما أنت بمسمع من في القبور} مع قوله: {إنّ الله يسمع من يشاء} تقف على أنّ المراد من قوله: {وما أنت بمسمع من في القبور} هو نفي الإسماع أو الهداية المستقلّة من دون مشيئته سبحانه، فكأنّه يقول: لستَ أيّها النبي بقادر على الهداية، بل الهادي هو الله سبحانه، ولأجل ذلك يعود فيصف النبي في الجملة الأخيرة بأنّه: {ليس إلاّ نذير} لا المتصرف في عالم الوجود مستقلا ومعتمداً على إرادته.
وبعبارة ثانية: إنّ كون الآية بصدد بيان أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس بقادر على إسماع الموتى وهدايتهم مطلقاً، شيء، وكونها بصدد أنّ النبي لا يقدر على الهداية والإسماع مستقلاّ ومعتمداً على إرادة نفسه، شيءٌ آخر. والآية بصدد بيان الأمر الثاني لا الأوّل. ويدل على ذلك قوله سبحانه: {ليس عليك هداهم ولكنّ الله يهدي من يشاء} (البقرة/272). وقال سبحانه: {إنّك لا تهدي من أحببت ولكنّ الله يهدي من يشاء} (القصص/56)، وقال سبحانه: {والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} (الأحزاب/4).
____________
1- فاطر/19 ـ 23.
والتدبر في الآيات يوحي أنّ النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) كان حريصاً على هداية الناس وكان راغباً في إسعادهم كما يحكي عنه قوله تعالى: {إنّك لا تهدي من أحببت ولكنّ الله يهدي من يشاء} (القصص/56) وقال تعالى: {وما أكثر الناس ولو حرصتَ بمؤمنين} (يوسف/103) وقال سبحانه: {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم} (آل عمران/128) وقال سبحانه: {لعلّك باخعٌ نفسك ألاّ يكونوا مؤمنين} (الشعراء/3).
كل هذه الآيات تؤكد إلحاح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحرصه على هداية أُمته، وعلى ذلك فيكون المراد من الآيات التي توحي طلب النبي في أمر الأُمة، هو نفي كون النبي قائماً بذلك الأمر على وجه الاستقلال، وعلى نحو الإطلاق، سواء شاء الله أم لم يشأ. بل إنّما تتحقق إرادته وعلاقته بهدايتهم إذا وقعت في إطار إرادته، سبحانه ومشيئته من غير فرق في ذلك بين الموتى والأحياء، بإسماع الموتى وهداية الأحياء.
وبذلك يظهر ما تهدف إليه آية سورة النمل فإنّ المقصود من
فلو تعلّقت مشيئته تهدي من يشاء وتسمع من يشاء من دون فرق بين المؤمن والكافر، والحي والميت.
السؤال الثالث: الشفاعة فعل الله
الشفاعة فعل الله سبحانه، ولا يُطلب فعلُه من غيره، قال سبحانه: {قل لله الشفاعة جميعاً له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون} (الزمر/44).
فاذا كانت الشفاعة مملوكة لله وهو المالك لها، فكيف يُطلَب ما يرجع إليه من غيره؟
على هامش السؤال
لا شك أنّ الشفاعة لله كما هو صريح الآية وما يرجع إليه سبحانه لا يُطلَب من غيره. مثلا إنّ الرزق والإحياء والإماتة له لا تُطلَب من عباده. غير أنّ المهم تشخيص ما يرجع إليه سبحانه، وتمييزه ما أعطاه لعباده الصالحين.
والمسؤول والمطلوب من النبي والصالحين هو الشفاعة المرخّصة المحدّدة، من الله سبحانه، أي ما رخّص لهم في أن يشفعوا ويطلبوا لعباده الغفران، فمثل هذه الشفاعة المرخّصة المأذونة ليست له لأنّه سبحانه فوق كل شيء، لا يَستأذن ولا يُؤذن ولا يُحدّد فعله.
وبعبارة واضحة: المراد من قوله سبحانه: {قل لله الشفاعة جميعاً} ليس أنّه سبحانه هو الشفيع دون غيره، إذ من الواضح أنّه سبحانه لا يشفع عند غيره، بل المراد أنّ المالك لمقام الشفاعة هو سبحانه وأنّه لا يشفع أحد في حقّ أحد إلاّ بإذنه للشفيع وارتضائه للمشفوع له، ولكن هذا المقام ثابت لله سبحانه بالأصالة والاستقلال، ولغيره بالاكتساب والاجازة، قال سبحانه: {ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلاّ من شهد بالحق وهم يعلمون} (الزخرف/86).
فالآية صريحة في أنّ من شهد بالحق يملك الشفاعة ولكن تمليكاً منه سبحانه وفي طول ملكه.
وعلى ذلك فالآية أجنبية عن طلب الشفاعة من الأولياء الصالحين الذين شهدوا بالحق وملكوا الشفاعة، وأُجيزوا في أمرها في حقّ من ارتضاهم لها.
السؤال الرابع: طلب الشفاعة يشبه عمل المشركين
إنّ طلب الشفاعة يشبه عمل عَبَدة الأصنام في طلبهم الشفاعة من آلهتهم الكاذبة الباطلة، وقد حكى القرآن ذاك العمل منهم، قال سبحانه: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرّهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} (يونس/18) وعلى ذلك فالاستشفاع من غيره سبحانه عبادة لهذا الغير.
على هامش السؤال
ما كنت أفكّر أيّها الأخ أن تغتر بظواهر الأعمال وتقضي بالبساطة والسذاجة، مع أن القرآن أمر بالتدبّر والتفكّر والدقّة في مصادر الأعمال وجذورها، لا بالاغترار بظاهرها.
فالفرق واضحٌ بين عمل المسلم والمشرك لأنّك إذا أمعنتَ النظر في مضمون الآية تقف على أنّ المشركين كانوا يقومون بعملين:
1 ـ عبادة الآلهة ويدل قوله عليه: {ويعبدون...}.
2 ـ طلب الشفاعة ويدل عليه: {ويقولون...}.
وكان علّة اتّصافهم بالشرك هو الأوّل لا الثاني، إذ لو كان
إذاً لا دلالة للآية على أنّ الاستشفاع بالأصنام كان عبادة، فضلا عن كون الاستشفاع بالأولياء المقربين عبادة لهم.
وهناك فرق واضح بين طلب شفاعة الموحِّد من أفضل الخليقة ـ عليه أفضل التحية ـ وطلب شفاعة المشرك، حيث إنّ الأول يطلب الشفاعة منه بما أنّه عبدٌ صالح أذِنَه سبحانه ليشفع في عباده تحت شرائط خاصة، بخلاف المشرك فإنّه يطلب الشفاعة منه، بما أنّه ربّ يملك الشفاعة يعطيها من يشاء ويمنعها عمّن يشاء. أفيصح عطفُ أحدهما على الآخر والحكم بوحدتهما جوهراً وحقيقة؟!
كيف يصح لمسلم واع اتخاذ المشابهة دليلا على الحكم، فلو صح ذلك لزم عليه الحكم بتحريم أعمال الحج والعمرة فانّها مشابهة لأعمال المشركين، أمام أربابهم وآلهتهم.
{إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السّمع وهو شهيد}.
السؤال الخامس: إن طلب الشفاعة دعاء الغير، وهو عبادة له