المسألة الثانية:
حصر الاستعانة في الله
هذه هي المسألة الثانية التي طرحت في صدر المقال وقلنا: إنّ المسلمين في أقطار العالم يَحصرون الاستعانة في الله سبحانه ومع ذلك يستعينون بالأسباب العادية، جرياً على القاعدة السائدة بين العقلاء، ولا يرونه مخالفاً للحصر، كما أنّ المتوسّلين بأرواح الأنبياء يستعينون بهم في مشاهدهم ومزاراتهم ولا يرون تعارض ذلك مع حصر الاستعانة بالله سبحانه، وذلك لأنَّ الاستعانة بغير الله يمكن أن تتحقق بصورتين:
1 ـ أن نستعين بعامل ـ سواء أكان طبيعياً أم غير طبيعي ـ مع الاعتقاد بأنّ علمه مستند إلى الله، بمعنى أنّه قادر على أن يعين العباد ويزيل مشاكلهم بقدرته المكتسبة من الله
وهذا النوع من الاستعانة ـ في الحقيقة ـ لا ينفك عن الاستعانة بالله ذاته، لأنّه ينطوي على الاعتراف بأنّه هو الذي منح تلك العوامل، ذلك الأثر، وأذن بها، وإن شاء سلبها وجرّدها منه.
فإذا استعان الزارع بعوامل طبيعية كالشمس والماء وحرث الأرض، فقد استعان بالله ـ في الحقيقة ـ لأنّه تعالى هوالذي منح هذه العوامل: القدرة على إنماء ماأودع في بطن الأرض من بذر ومن ثم إنباته والوصول به إلى حدّ الكمال.
2 ـ وإذا استعان بإنسان أو عامل طبيعي مع الاعتقاد بأنّه مستقلّ في وجوده، أو في فعله عن الله، فلا شك أنّ ذلك الاعتقاد يصير شركاً والاستعانة به عبادة.
فإذا استعان زارع بالعوامل المذكورة وهو يعتقد بأنّها مستقلّة في تأثيرها أو أنّها مستقلّة في وجودها ومادتها كما في فعلها وقدرتها، فالاعتقاد شرك والطلب عبادة.
وبذلك يظهر أنّ الاستعانة المنحصرة في الله المنصوص عليها في قوله تعالى {وإيّاك نَستعينُ} هي الاستعانة بالمعونة المستقلّة النابعة من ذات المستعان به،
وعلى ذلك لا مانع من حصر الاستعانة في الله سبحانه بمعنى، وتجويزها بغيره بمعنى آخر وهو ما له نظر في الكتاب العزيز.
ولإيقاف القارئ على هذه الحقيقة نلفت نظره إلى آيات تحصر جملة من الأفعال الكونية في الله تارة، مع أنّها تنسب نفس الأفعال في آيات أُخرى إلى غير الله أيضاً، وما هذا إلاّ لعدم التنافي بين النسبتين لاختلاف نوعيتهما فهي محصورة في الله سبحانه مع قيد الاستقلال، ومع ذلك تنسب إلى غير الله مع قيد التبعية والعرضية.
الآيات التي تنسب الظواهر الكونية إلى الله وإلى غيره:
1 ـ يقول سبحانه: {وإذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (الشعراء/80). بينما يقول سبحانه فيه (أي في العسل): {شِفاءٌ لِلنّاسِ} (النحل/69).
3 ـ يقول سبحانه: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ} (الواقعة/64). بينما يقول سبحانه: {يُعْجِبُ الزُّرّاعَ لِيَغِظَ بِهِمُ الكُفّارُ} (الفتح/29).
4 ـ يقول تعالى: {واللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ} (النساء/81). بينما يقول سبحانه: {بَلَى ورُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} (الزخرف/80).
5 ـ يقول تعالى: {ثُمَّ اسْتَوى عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ} (يونس/3). بينما يقول سبحانه: {فالمُدَبِّراتِ أَمراً} (النازعات/5).
6 ـ يقول سبحانه: {اللهُ يَتَوفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِها} (الزمر/42). بينما يقول: {الَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ طَيِّبينَ} (النحل/32).
إلى غير ذلك من الآيات التي تنسب الظواهر الكونية تارة إلى الله، وتارة إلى غيره تعالى.
والحل أن يقال: إنّ المحصور بالله تعالى هو انتساب هذه الأُمور على نحو الاستقلال، وأمّا المنسوب إلى غيره فهو على نحو التبعية، وبإذنه تعالى، ولا تعارض بين
فمن اعتقد بأنّ هذه الظواهر الكونية مستندة إلى غير الله على وجه التبعية لا الاستقلال لم يكن مخطئاً ولا مشركاً، وكذا من استعان بالنبيّ أو الإمام على هذا الوجه.
هذا مضافاً إلى أنّه تعالى الذي يعلّمنا أن نستعين به فنقول: {إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَستَعِينُ} يحثُّنا في آية أُخرى على الاستعانة بالصبر والصلاة فيقول: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ} (البقرة/45) وليس الصبر والصلاة إلاّ فعل الإنسان نفسه.
حصيلة البحث:
إنّ الآيات الواردة حول الاستعانة على صنفين:
الصنف الأول: يحصر الاستعانة في الله فقط ويعتبره الناصر والمعين الوحيد دون سواه.
والصنف الثاني: يدعونا إلى سلسلة من الأُمور المعينة (غير الله) ويعتبرها ناصرة ومعينة، إلى جانب الله.
أقول: اتضح من البيان السابق وجه الجمع بين هذين النوعين من الآيات، وتبيّن أنّه لا تعارض بين الصنفين
إنّ الاستعانة لا تجوز إلاّ بالله إلاّ في الموارد التي أذن الله بها، وأجاز أن يستعان فيها بغيره، فتكون الاستعانة بالقدرة الإنسانية والعوامل الطبيعية ـ مع أنّها استعانة بغير الله ـ جائزة ومشروعة على وجه التخصيص، وهذا ممّا لا يرتضيه الموحّد.
في حين أنّ هدف الآيات هو غير هذا تماماً، فإنّ مجموع الآيات يدعو إلى أمر واحد وهو: عدم الاستعانة بغير الله، وأنّ الاستعانة بالعوامل الأُخرى يجب أن تكون بنحو لا يتنافى مع حصر الاستعانة في الله بل تكون بحيث تعدّ استعانة بالله لا استعانة بغيره.
وبتعبير آخر: إنّ الآيات تريد أن تقول: بأنّ المعين والناصر الوحيد والذي يستمدّ منه كلّ معين وناصر، قدرته وتأثيره، ليس إلاّ الله سبحانه، ولكنّه ـ مع ذلك ـ أقام
وإليك فيما يلي إشارة إلى بعض الآيات من الصنفين:
{ومَا النَّصرُ إلاّ مِنْ عِنْدِ اللهِ العَزيزِ الحَكيمِ} (آل عمران/126).
{إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَستَعِينُ} (الحمد/5).
{ومَا النَّصْرُ إلاّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكيمٌ} (الأنفال/10).
هذه الآيات نماذج من الصنف الأول وإليك فيما يأتي نماذج من الصنف الآخر الذي يدعونا إلى الاستعانة بغير الله من العوامل والأسباب:
{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ} (البقرة/45).
{وتَعاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوى} (المائدة/2).
{ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيرٌ فَأعِينُونِي بِقُوَّة} (الكهف/95).
{وإنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَليْكُمُ النَّصْرُ} (الأنفال/72).
ومفتاح حلّ التعارض بين هذين الصنفين من الآيات هو ما ذكرناه وملخّصه:
إنّ في الكون مؤثراً تاماً، ومستقلا واحداً، غير معتمد
وأمّا العوامل الأُخر فجميعها مفتقرة ـ في وجودها وفعلها ـ إليه وهي تؤدي ما تؤدي بإذنه ومشيئته وقدرته، ولو لم يعط سبحانه تلك العوامل ما أعطاها من القدرة ولم تجر مشيئته على الاستمداد منها لما كانت لها أيّة قدرة على شيء.
فالمعين الحقيقي في كل المراحل ـ على هذا النحو تماماً ـ هو الله فلا يمكن الاستعانة بأحد باعتباره معيناً مستقلاّ. لهذه الجهة حصر هنا الاستعانة في الله وحده، ولكن هذا لا يمنع بتاتاً من الاستعانة بغير الله باعتباره غير مستقلّ (أي باعتباره معيناً بالاعتماد على القدرة الإلهية) ومعلوم أنّ استعانة ـ كهذه ـ لا تنافي حصر الاستعانة في الله سبحانه لسببين:
أوّلا:
لأنّ الاستعانة المخصوصة بالله هي غير الاستعانة بالعوامل الأُخرى، فالاستعانة المخصوصة بالله هي: (ما تكون باعتقاد أنّه قادر على إعانتنا بالذات، وبدون الاعتماد على غيرها، في حين أنّ الاستعانة بغير الله سبحانه إمّا هي على نحو آخر، أي مع الاعتقاد بأنّ المستعان قادر
ثانياً:
إنّ استعانة ـ كهذه ـ غير منفكّة عن الاستعانة بالله، بل هي عين الاستعانة به تعالى، وليس في نظر الموحّد (الذي يرى أنّ الكون كلّه من فعل الله ومستنداً إليه) مناص من هذا.
وأخيراً نذكّر القارئ الكريم بأنّ مؤلّف المنار حيث إنّه لم يتصوّر للاستعانة بالأرواح إلاّ صورة واحدة لذلك اعتبرها ملازمة للشرك فقال:
"ومن هنا تعلمون: إنّ الذين يستعينون بأصحاب الأضرحة والقبور على قضاء حوائجهم وتيسير أُمورهم وشفاء أمراضهم ونماء حرثهم وزرعهم، وهلاك أعدائهم وغير ذلك من المصالح هم عن صراط التوحيد ناكبون، وعن ذكر الله معرضون"(1).
ويلاحظ عليه:
بأنّ الاستعانة بغير الله (كالاستعانة
____________
1- المنار 1: 59.
إحداهما عين التوحيد، والأُخرى موجبة للشرك، إحداهما مذكّرة بالله، والأُخرى مبعدة عن الله.
إنّ حدّ التوحيد والشرك ليس هو كون الأسباب ظاهرية أو غير ظاهرية وإنّما هو استقلال المعين وعدم استقلاله، وبعبارة أُخرى المقياس: هو الغنى والفقر، هو الأصالة وعدم الأصالة.
إنّ الاستعانة بالعوامل غير المستقلّة المستندة إلى الله، التي لا تعمل ولا تؤثر إلاّ بإذنه تعالى غير موجبة للغفلة عن الله، بل هو خير موجّه، ومذكّر بالله. إذ معناها: انقطاع كلّ الأسباب وانتهاء كلّ العلل إليه.
ومع هذا كيف يقول صاحب المنار: "أُولئك عن ذكر الله معرضون" ولو كان هذا النوع من الاستعانة موجباً لنسيان الله والغفلة عنه للزم أن تكون الاستعانة بالأسباب المادية الطبيعية هي أيضاً موجبة للغفلة عنه.
على أنّ الأعجب من ذلك هو شيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت الذي نقل ـ في هذا المجال ـ نصّ كلمات عبده دون زيادة ونقصان، وختم المسألة بذلك، وأخذ
اجابة على سؤال
إذا كانت الاستعانة بالغير على النحو الذي بينّاه جائزة فهي تستلزم نداء أولياء الله والاستغاثة بهم في الشدائد والمكاره، وهي غير جائزة وذلك لأنّ نداء غير الله في المصائب والحوائج تشريك الغير مع الله، يقول سبحانه: {وَأنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً} (الجن/18) ويقول تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} (الأعراف/197) ويقول عزّ من قائل: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِير} (فاطر/13). إلى غير ذلك من الآيات التي تخص الدعاء لله ولا تسيغ دعوة غيره.
وقد طرح هذا السؤال الشيخ الصنعاني حيث قال: وقد سمّى الله الدعاء عبادة بقوله: {اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ * إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} فمن هتف باسم نبيّ أو صالح بشيء فقد دعا النبي والصالح، والدعاء عبادة بل مخُّها فقد عبد
____________
1- راجع تفسير شلتوت: 36ـ39.
الجواب:
إنّ النقطة الحاسمة في الموضوع تكمن في تفسير الدعاء وهل كل دعاء عبادة وبينهما من النسب الأربع هي التساوي حتى يصح لنا أن نقول كل دعاء عبادة، وكل عبادة دعاء، أو أنّ الدعاء أعمّ من العبادة وأنّ قسماً من الدعاء عبادة وقسماً منه ليس كذلك؟ والكتاب العزيز يوافق الثاني لا الأول، وإليك التوضيح:
لقد استعمل القرآن لفظ الدعاء في مواضع عديدة ولا يصح وضع لفظ العبادة مكانه، يقول سبحانه حاكياً عن نوح: {رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَاراً} (نوح/5) وقال سبحانه حاكياً عن لسان إبليس في خطابه للمذنبين يوم القيامة: {وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَان إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} (إبراهيم/22) إلى غيرهما من الآيات التي ورد فيها لفظ الدعاء، أفيصح القول بأنّ نوحاً دعا قومه أي عبدهم، أو أنّ الشيطان دعا المذنبين أي عبدهم؟ كل ذلك يحفزنا إلى أن نقف في تفسير الدعاء وقفة تمعّن حتى نميّز الدعاء. الذي
____________
1- الصنعاني، تنزيه الاعتقاد كما في كشف الارتياب: 284.
والإمعان فيما تقدم في تفسير العبادة يميِّز بين القسمين فلو كان الداعي والمستعين بالغير معتقداً بألوهية المستعان ولو ألوهية صغيرة كان دعاؤه عبادة ولأجل ذلك كان دعاء عبدة الأصنام عبادة لاعتقادهم بألوهيتها، قال سبحانه: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْء} (هود/101).
وما ورد من الآيات في السؤال كلها من هذا القبيل فأنها وردت في حق المشركين القائلين بألوهية أصنامهم وأوثانهم باعتقاد استقلالهم في التصرف والشفاعة وتفويض الأُمور إليهم ولو في بعض الشؤون. ففي هذا المجال يعود كل دعاء عبادة، ويفسر الدعاء في الآيات الماضية والتالية بالعبادة، قال تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} (الأعراف/194). {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاَ} (الاسراء/56). {أُولئك الَّذِينَ يَدعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةُ} (الاسراء/57). {وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ} (يونس/106). {إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} (فاطر/14).
وفي روايات أئمة أهل البيت إلماع إلى ذلك، يقول الإمام زين العابدين في ضمن دعائه: "... فسميت دعاءك عبادة وتركه استكباراً وتوعّدت على تركه دخول جهنم داخرين"(1) وهو يشير في كلامه هذا إلى قوله سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ * إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر/60).
هذا هو الدعاء المساوي للعبادة وهناك قسم آخر منه لا صلة بينه وبين العبادة وهو فيما إذا دعا شخصاً بما أنه إنسان وعبد من عباد الله غير أنه قادر على إنجاز طلبه باقدار منه تعالى وإذن منه، فليس مثل هذه الدعوة عبادة بل سنة من السنن الإلهية في الكون، هذا هو ذو القرنين يواجه قوماً مضطهدين يطلبون منه أن يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج سداً فعند ذلك يخاطبهم ذو القرنين بقوله: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ ربِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّة أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً} (الكهف/95)
____________
1- الصحيفة السجادية، دعاؤه برقم 45.
ثمّ إنّ القائلين بأنّ دعاء الصالحين عبادة، عند مواجهتهم لهذا القسم من الآيات وما تقتضيه الحياة الاجتماعية، يتشبثون بكلّ طحلب حتى ينجيهم من الغرق ويقولون إنّ هذه الآيات تعود على الأحياء ولا صلة لها بدعاء الأموات، فكون القسم الأول جائزاً وانّه غير عبادة; لا يلازم جواز القسم الثاني وكونه غير عبادة.
ولكن عزب عن هؤلاء انّ الحياة والموت ليسا حدين للتوحيد والشرك ولا ملاكين لهما، بل هما حدان لكون الدعاء مفيداً أو لا، وبتعبير آخر ملاكان للجدوائية وعدمها.
كل ذلك يوقفنا على أنّ القوم لم يدرسوا ملاكات التوحيد والشرك بل لم يدرسوا الآيات الواردة في النهي عن دعاء غيره، فأخذوا بحرفية الآيات من دون تدبر مع أنّه سبحانه يقول: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَليتذكَّرَ أُولُوا الاَْلْبَاب} (ص/29).
ثمّ انّ الكلام في أنّ دعاء الصالحين بعد انتقالهم إلى رحمة الله مفيد أو لا، يتطلب مجالا آخراً وسوف نستوفي الكلام عنه في رسالة خاصة حول وجود الصلة بيننا وبين أولياء الله في ضوء الكتاب والسنة.
جعفر السبحاني
تحريراً في 27 صفر المظفر 1416 هـ