مشاهد الصحابة في مصر:
ويذكر أيضاً من المشاهد في قوله: مشهد معاذ بن جبل (رضي الله عنه)، مشهد عقبة بن عامر الجهني حامل راية رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، مشهد صاحب بردة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، مشهد أبي الحسن صائغ رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، مشهد سارية الجبل (رضي الله عنه)، مشهد محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، مشهد أولاده رضي الله عنهم، مشهد أحمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، مشهد أسماء ابنة أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، مشهد ابن الزبير بن العوام رضي الله عنهما، مشهد عبد الله بن حذافة السهمي صاحب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، مشهد ابن حليمة رضيع رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
مشاهد الفقهاء الكبار في مصر:
وعن مشاهد الأئمة العلماء الزهّاد يقول: مشهد الإمام الشافعي(رضي الله عنه)، وهو من المشاهد العظيمة احتفالا واتّساعاً، وبُني بإزائه مدرسة لم يُعْمَر بهذه البلاد مثلها، يخيل لمن يطوف عليها أنّها بلد مستقل بذاته، بإزائها الحمام، إلى غير ذلك من مرافقها، والبناء فيها حتى الساعة، والنفقة عليها لا تُحصى، تولّى ذلك بنفسه الشيخ الإمام الزاهد العالم المعروف بنجم الدين الحُبوشاني.
وسلطان هذه الجهات صلاح الدين، يسمح له بذلك كلّه ويقول: زد احتفالا وتأنّقاً وعلينا القيام بمؤونة ذلك كله، فسبحان الذي جعله صلاح دينه كاسمه.
ثمّ يذكر مشاهد أُخرى ويقول:
والمشاهد الكريمة بها أكثر من أن تُضبَط بالتقييد أو تتحصّل
وبقبلة القرافة المذكورة بسيط متّسع يُعرف بموضع قبور الشهداء، وهم الذين استُشهدوا مع سارية رضي الله عن جميعهم، والبسيط المذكور مُسنّم كله للعيان على مثال أسنِمة القبور دون بناء.
القباب الرفيعة لأهل البيت في مكة المكرّمة:
وعن مشاهد مكة المكرّمة يقول ابن جبير: فمن مشاهدها التي عاينّاها قبّة الوحي، وهي في دار خديجة أُمّ المؤمنين رضي الله عنها، وبها كان ابتناء النبي (صلى الله عليه وسلم) بها، وقبّة صغيرة أيضاً في الدار المذكورة فيها كان مولد فاطمة الزهراء رضي الله عنها، وفيها أيضاً ولدت سيديّ شباب أهل الجنّة، الحسن والحسين رضي الله عنهما، وهذه المواضع المقدّسة المذكورة مغلقة مصونة قد بنيت بناءً يليق بمثلها.
ومن مشاهدها الكريمة أيضاً مولد النبي (صلى الله عليه وسلم)، والتربة الطاهرة التي هي أوّل تربة مسّت جسمه الطاهر بُني عليها مسجد لم يُر أحفل بناءً منه، أكثره ذهب منزّل به، والموضع المقدّس الذي سقط فيه (صلى الله عليه وسلم) ساعة الولادة السعيدة المباركة التي جعلها الله رحمةً للأُمّة أجمعين محفوف بالفضة.
ثمّ يعد بعض المشاهد فيقول: دار الخيزران، وهي الدار التي كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يعبد الله فيها سراً مع الطائفة الكريمة المبادرة للإسلام من أصحابه رضي الله عنهم... دار أبي بكر الصديق... قبّة بين الصفا والمروة تنسب لعمر بن الخطاب...
يقول ابن جبير: دخلنا مولد النبي (صلى الله عليه وسلم)، وهو مسجد حفيل البنيان
المشاهد المكرّمة ببقيع الغرقد:
وفي ذكر المشاهد المكرّمة ببقيع الغرقد يقول ابن جبير: فأوّل ما نذكر من ذلك مسجد حمزة (رضي الله عنه)، وهو بقِبْلَي الجبل المذكور، والجبل جوفيّ المدينة، وهو على مقدار ثلاثة أميال، وعلى قبره (رضي الله عنه) مسجد مبنيّ، والقبر برحبة جوفي المسجد، والشهداء رضي الله عنهم بإزائه... وحول الشهداء تربة حمراء هي التربة التي تنسب إلى حمزة ويتبرّك الناس بها.
وبقيع الغرقد شرقي المدينة، تخرج إليه على باب يعرف بباب البقيع، وأوّل ما تلقى عن يسارك عند خروجك من الباب المذكور مشهد صفية عمّة النبي (صلى الله عليه وسلم) أُمّ الزبير بن العوام (رضي الله عنه)، وأمام هذه التربة قبر مالك بن أنس الإمام المدني (رضي الله عنه)وعليه قبّة صغيرة مختصرة البناء، وأمامه قبر السلالة الطاهرة ابراهيم ابن النبي (صلى الله عليه وسلم) وعليه قبّة بيضاء، وعلى اليمين منها تربة ابن لعمر بن الخطاب (رضي الله عنه) اسمه عبد الرحمن الأوسط، وهو المعروف بأبي شَحْمة، وهو الذي جَلَده أبوه الحدّ، فمرض ومات، رضي الله عنهما، وبازائها قبر عقيل بن أبي طالب (رضي الله عنه)، وعبد الله بن جعفر الطيار (رضي الله عنه)، وبازائهم روضة فيها أزواج النبي (صلى الله عليه وسلم)، وبإزائها روضة صغيرة
ومشاهد هذا البقيع أكثر من أن تُحصى، لأنّه مدفن الجمهور الأعظم من الصحابة المهاجرين والأنصار، رضي الله عنهم أجمعين، وعلى قبر فاطمة المذكورة مكتوب: ما ضمّ قبر أحد كفاطمة بنت أسد رضي الله عنها وعن بنيها.
مشاهد الكوفة:
ويقول ابن جبير عن مسجد الكوفة:
وبهذا الجامع المكرّم آثار كريمة: فمنها بيت بإزاء المحراب عن يمين المستقبل القبلة، يقال: إنّه كان مصلّى ابراهيم الخليل (صلى الله عليه وسلم)، وعليه ستر أسود صوناً له، ومنه خرج الخطيب لابساً ثيابَ السواد للخطبة،
وهذه الآثار الكريمة تلقّيناها من ألسنة أشياخ من أهل البلد فأثبتناها حسبما نقلوها إلينا، والله أعلم بصحّة ذلك كلّه.
وفي الجهة الشرقيّة من الجامع بيت صغير يُصعَد إليه فيه قبر مسلم ابن عقيل بن أبي طالب (رضي الله عنه)، وفي غربي المدينة على مقدار فرسخ منها المشهد الشهير الشأن المنسوب لعليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه)، وحيث بركت ناقته وهو محمول عليها مسجّى ميّتاً على ما يُذكر، ويقال: إنّ قبره فيه.
قبور العلماء والأولياء المشيّدة ببغداد:
يقول ابن جبير:
إلى مشاهد كثيرة ممّن لم تحضرنا تسميتُه من الأولياء والصالحين والسلف الكريم، رضي الله عن جميعهم.
وبأعلى الشرقيّة خارج البلد محلّة كبيرة بإزاء محلّة الرّصافة، وبالرصافة كان باب الطّاق المشهور على الشطّ، وفي تلك المحلّة مشهد حفيل البنيان، له قبّة بيضاء سامية في الهواء، فيه قبر الإمام أبي حنيفة (رضي الله عنه)، وبه تعرف المحلّة، وبالقرب من تلك المحلّة قبر الإمام أحمد بن حنبل(رضي الله عنه)، وفي تلك الجهة أيضاً قبر أبي بكر الشبلي (رحمه الله)، وقبر الحسين ابن منصور الحلاج، وببغداد من قبور الصالحين كثير، رضي الله عنهم.
المشاهد المكرّمة والآثار المعظّمة في الشام:
يقول ابن جبير:
فأوّلها مشهد رأس يحيى بن زكرياء (عليه السلام)، وهو مدفون بالجامع المكرّم في البلاط القبلي قبالة الركن الأيمن من المقصورة الصحابيّة(1)، رضي الله عنهم، وعليه تابوت خشب معترض من الأسطوانة، وفوقه
____________
1- هي أول مقصورة وضعت في الإسلام وضعها معاوية بن أبي سفيان.
ومولد ابراهيم صلّى الله عليه وسلّم وعلى نبيّنا الكريم، وهو بصفح جبل قاسيون عند قرية تُعرف بِبَرْزَة، وهي من أجمل القرى، وهذا الجبل مشهور بالبركة في القديم لأنّه مصعد الأنبياء، صلوات الله عليهم، ومطلعهم، وهو في الجهة الشماليّة من البلد وعلى مقدار فرسخ، وهذا المولد المبارك غار مستطيل ضيّق، وقد بُني عليه مسجد كبير مرتفع مُقسّم على مساجد كثيرة كالغُرف المطلّة، وعليه صومعة عالية، ومن ذلك الغار رأى (صلى الله عليه وسلم) الكوكب ثمّ القمر ثمّ الشمس، حسبما ذكره الله تعالى في كتابه عزّ وجلّ(1)، وفي ظهر الغار مقامه الذي كان يخرج إليه، وهذا كلّه ذكره الحافظ محدّث الشام أبو القاسم بن هبة الله بن عساكر الدمشقي في تاريخه في أخبار دمشق، وهو ينيف على مائة مجلّد.
وذكر أيضاً أنّ بين باب الفراديس، وهو أحد أبواب البلد، وفي الجهة الشماليّة من الجامع المبارك، على مقربة منه إلى جبل قاسيون، مدفن سبعين ألف نبي، وقيل: سبعون ألف شهيد، وأنّ الأنبياء المدفونين به سبعمائة نبي، والله أعلم، وخارج هذا البلد الجبّانة العتيقة، وهي مدفن الأنبياء والصالحين، وبركتها شهيرة، وفي طرفها ممّا يلي البساتين وَهْدَة من الأرض متّصلة بالجبّانة، ذُكر أنّها مدفن سبعين نبيّاً، وعصمها الله ونزّهها من أن يُدفن فيها أحد، والقبور محيطة بها، وهي لا تخلو من
____________
1- الأنعام: 76-78.
وبجبل قاسيون أيضاً لجهة الغرب، على مقدار ميل أو أزيد من المولد المبارك، مغارة تعرف بمغارة الدم، لأنّ فوقها في الجبل دم هابيل قتيل أخيه قابيل إبني آدم (صلى الله عليه وسلم)، يتّصل من نحو نصف الجبل إلى المغارة، وقد أبقى الله منه في الجبل آثاراً حُمراً في الحجارة تُحك فتستَحيل، وهي كالطريق في الجبل، وتنقطع عند المغارة، وليس يوجد في النصف الأعلى من المغارة آثار تشبهها، فكان يقال: إنّها لون حجارة الجبل، وإنّما هي من الموضع الذي جرّ منه القاتل لأخيه حيث قتله حتى انتهى إلى المغارة، وهي من آيات الله تعالى، وآياته لا تُحصى.
وقرأنا في تاريخ ابن المعلّى الأسدي أنّ تلك المغارة صلّى فيها ابراهيم وموسى وعيسى ولوط وأيوب، عليهم وعلى نبيّنا الكريم أفضل الصلاة والسلام.
وعليها مسجد قد أُتقن بناءه، ويُصعد إليه على أدراج، وهو كالغرفة المستديرة، وحولها أعواد مشرجبة مطيفة بها، وبه بيوت ومرافق للسكنى، وهو يفتح كلّ يوم خميس، والسُّرُج من الشمع والفتائل تَقِد في المغارة، وهي متّسعة.
وفي أعلى الجبل كهف منسوب لآدم (صلى الله عليه وسلم)، وعليه بناء، وهو موضع مبارك، وتحته في حضيض الجبل مغارة تعرف بمغارة الجُوع، ذُكر أنّ سبعين نبيّاً ماتوا فيها جوعاً، وكان عندهم رغيف، فلم يزل كلّ واحد منهم يؤثر به صاحبه ويدور عليه من يد إلى يد حتى لحقتهم المنيّة، صلوات الله عليهم. وعلى هذه المغارة أيضاً مسجد مبني، وأبصرنا فيه
ولكلّ مشهد من هذه المشاهد أوقاف معيّنة من بساتين وأرض بيضاء ورباع، حتى إنّ البلد تكاد الأوقاف تستغرق جميع ما فيه.
وكلّ مسجد يُستحدث بناؤه أو مدرسة أو خانقة يُعيّن لها السلطان أوقافاً تقوم بها وبساكنيها والملتزمين لها، وهذه أيضاً من المفاخر المخلّدة.
ومن النساء الخواتين ذوات الأقدار من تأمر ببناء مسجد أو رباط أو مدرسة وتُنفِق فيها الأموال الواسعة وتعيّن لها من مالها الأوقاف.
ومن الأُمراء من يفعل مثل ذلك، لهم في هذه الطريقة المباركة مُسارعة مشكورة عند الله عزّ وجلّ.
وبآخر هذا الجبل المذكور، في آخر البسيط البستاني الغربي من هذا البلد، الربوة المباركة المذكورة في كتاب الله تعالى، مأوى المسيح وأُمّه، صلوات الله عليهما، وهي من أبدع مناظر الدنيا حسناً وجمالا وإشراقاً، وإتقان بناء واحتفال تشييد وشرف وضع، هي كالقصر المشيّد، ويُصعَد إليها على أدراج، والمأوى المبارك منها مغارة صغيرة في وسطها، وهي كالبيت الصغير، وبإزائها بيت يقال: إنّه مصلّى الخضر (صلى الله عليه وسلم)، فيبادر الناس للصلاة بهذين الموضعين المباركين، ولا سيّما المأوى المبارك، وله باب حديد صغير ينغلق دونه، والمسجد يطيف بها، ولها شوارع دائرة، وفيها سقاية لم يُرَ أحسن منها، قد سِيقَ إليها الماء من
وهذه الربوة المباركة رأس بساتين البلد ومَقْسِم مائه، ينقسم فيها الماء على سبعة أنهار، يأخذ كلّ نهر طريقه، وأكبر هذه الأنهار نهر يُعرف بثوار، وهو يشقّ تحت الربوة، وقد نُقِر له في الحجر الصلد أسفلها حتى انفتح له متسرّب واسع كالغار، وربّما انغمس الجَسُور من سُبّاح الصبيان أو الرجال من أعلى الربوة في النهر واندفع تحت الماء حتى يشقّ متسرّبه تحت الربوة ويخرج أسفلها، وهي مخاطرة كبيرة.
ويُشرَف من هذه الربوة على جميع البساتين الغربية من البلد، ولا إشراف كإشرافها حسناً وجمالا واتّساعَ مسرح للأبصار، وتحتها تلك الأنهار السبعة تتسرّب وتسيح في طرق شتّى، فتحار الأبصار في حسن اجتماعها وافتراقها واندفاع انصبابها، وشرفُ موضوع هذه الربوة ومجموع حسنها أعظم من أن يحيط به وصف واصف في غلوّ مدحه، وشأنها في موضوعات الدّنيا الشريفة خطير كبير.
ومن أحفل هذه المشاهد مشهد منسوب لعليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه)، قد بُني عليه مسجد حفيل رائق البناء، وبإزائه بستان كلّه نارنج، والماء يطرد فيه من سقاية معيّنة، والمسجد كلّه ستور معلّقة في جوانبه صغار وكبار.
____________
1- الشاذروان: حائط صغير بجوار الجدار الأصلي لتقويته.
ومن مشاهد أهل البيت رضي الله عنهم: مشهد أُمّ كلثوم ابنة عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنهما، ويقال بها زينب الصغرى، وأُمّ كلثوم كنية أوقعها عليها النبي (صلى الله عليه وسلم)، لشبهها بابنته أُمّ كلثوم، رضي الله عنها، والله أعلم بذلك، ومشهدها الكريم بقرية قبليّ البلد تعرف براوية على مقدار فرسخ، وعليه مسجد كبير، وخارجه مساكن، وله أوقاف، وأهل هذه الجهات يعرفونه بقبر الستّ أُمّ كلثوم، مشَينا إليه وبتنا به وتبرّكنا برؤيته، نفعنا الله بذلك.
وبالجبّانة التي بغربي البلد، من قبور أهل البيت، كثير، رضي الله عنهم، منها قبران عليهما مسجد يقال إنّهما من ولد الحسن والحسين، رضي الله عنهما، ومسجد آخر فيه قبر يقال إنّه لسكينة بنت الحسين، رضي الله عنهما، أو لعلّها سُكينة أُخرى من أهل البيت.
ومن المشاهد أيضاً قبر بجامع النَيْرب، في بيت بالجهة الشرقيّة منه، يقال إنّه لأُمّ مريم، رضي الله عنها.
وبقرية داريّة(1) قبر أبي مسلم الخولاني (رضي الله عنه)، وعليه قبّة هي
____________
1- تكتب عادة: داريا، بالألف.
وبين هذه القرية وبين البلد مقدار أربعة أميال، وهي لجهة الغرب منه.
ومن المشاهد الكريمة التي لم نعاينها ووصفت لنا قبرا شيث ونوح عليهما السلام، وهما بالبِقاع، وهي على يومين من البلد، وحدّثنا من ذَرَع قبر شيث فألفى فيه أربعين باعاً، وفي قبر نوح ثلاثين، وبإزاء قبر نوح قبر ابنة له، وعلى هذه القبور بناء، ولها أوقاف كثيرة، ولها قيّم يلتزمها.
ومن المشاهد المباركة أيضاً، بالجبّانة الغربيّة وبمقربة من باب الجابية، قبر أُويس القرني (رضي الله عنه)، وقبور خلفاء بني أُمية (رحمهم الله)، يقال: إنّها بإزاء باب الصغير بمقربة من الجبّانة المذكورة، وعليها اليوم بناء يُسكَن فيه.
والمشاهد المباركة في هذه البلدة أكثر من أن تنضبط بالتقييد، وإنّما رُسِم من ذلك ما هو مشهور ومعلوم.
ومن المشاهد الشهيرة أيضاً مسجد الأقدام، وهو على مقدار ميلين من البلد ممّا يلي القبلة على قارعة الطريق الأعظم الآخذ إلى بلاد الحجاز والساحل وديار مصر، وفي هذا المسجد بيت صغير فيه حجر مكتوب عليه: كان بعض الصالحين يرى النبيّ (صلى الله عليه وسلم) في النوم فيقول: هاهنا قبر أخي موسى (صلى الله عليه وسلم)، والكثيب الأحمر على الطريق بمقربة من هذا الموضع، وهو بين غالية وغُويلية كما ورد في الأثر، وهما موضعان.
وشأن هذا المسجد في البركة عظيم، ويقال: إنّ النور ما خلا قطّ من هذا الموضع الذي يذكر أنّ القبر فيه حيث الحجر المكتوب، وله أوقاف كثيرة.
هذا وقد أخذنا من رحلة ابن جبير المواضيع اللاّزمة، وإلاّ فالساير في الكتاب يقف على أُمور لم نذكرها، والكلّ يدلّ على أنّ البناء على القبور وصيانتها عن الانطماس وزيارتها في فترات مختلفة كان أمراً رائجاً في خير القرون الذي جُعِل مقياساً بين الحقّ والباطل.
ابن الحجاج والقبّة البيضاء على قبر الإمام علي (عليه السلام):
إنّ الحسين بن أحمد بن محمد المعروف بابن الحجّاج البغدادي أحد الشعراء المفلقين في القرنين الثالث والرابع (262-392هـ) أنشأ قصيدته الفائية في مدح الإمام أمير المؤمنين، وأنشدها في الحضرة العلويّة عندما زارها يقول في مستهلّها:
يا صاحب القبّة البيضاء على النجفِ | من زارَ قبرك واستشفى لديك شُفي |
زوروا أبا الحـسـن الهـادي لعلّكم | تحظون بالأجر، والاقبال والزلف(2) |
____________
1- قد نقلنا هذه النصوص برمّتها عن رحلة ابن جبير طبع دار صادر عام 1384، فراجع فيما يرجع إلى مصر صفحة 19-24، وفيما يرجع إلى مكة المكرّمة صفحة 87، 141 و 142، وفيما يرجع إلى المدينة المنوّرة صفحة 173-174، وفيما يرجع إلى مشاهد الكوفة صفحة 187-198، وفيما يرجع إلى بغداد صفحة 202، وما يرجع إلى الشام صفحة 246-249 و 253-254.
2- إقرأ ترجمته في يتيمة الدهر 3: 25; معجم الأُدباء 4: 6; المنتظم 7: 216; تاريخ بغداد 80: 14; وفيات الأعيان 1: 170; الكامل لابن الأثير 9: 63 إلى غير ذلك من مصادر الترجمة; وفي روضات الجنّات 3: 148-155 له ترجمة ضافية.
ولأجل شيوع البناء على القبور في جميع الأقطار الإسلاميّة نجد أنّ الأمير محمد بن اسماعيل اليماني الذي توهّب مع كونه زيدياً يفترض على نفسه ويقول في كتابه: وهذا أمر عمّ البلاد وطبق الأرض شرقاً وغرباً بحيث لا بلدة من بلاد الإسلام إلاّ فيها قبور ومشاهد، ولا يسع عقل عاقل أنّ هذا منكر يبلغ إلى ما ذكرت من الشناعة ويسكت علماء الإسلام(1).
فلو كانت هذه سيرة المسلمين من خير القرون إلى عصرنا فلماذا لا تكون حجّة؟ فلو كان التهديم أمراً واجباً فلماذا ترك الخلفاء تلك الفريضة؟! فهل يصحّ لنا اتّهامهم بالتسامح في أمر الدين مع أنّ الصحابة والتابعين مرّوا على تلك الآثار ولم ينبسوا فيها ببنت شفة؟
وإذا لم يكن ذلك الإجماع حجّة، فأيّ إجماع يكون حجّة شرعيّة؟
فهذه النصوص من المؤرّخين تدلّ بوضوح على جريان السيرة على بناء القباب والأبنية على قبور الأولياء من دون أن يخطر ببال أحد أنّه مقدمة للشرك ومفض إليه، فإذا لم يكن مثل هذا الإجماع حجّة فأيّ
____________
1- الأمير محمد بن اسماعيل اليماني (ت1186هـ) تطهير الاعتقاد: 17، ثمّ إنّه حاول أن يُجيب عن هذا الاستنكار بما الإعراض عن ذكره أحسن.
والعجب من ابن بليهد قاضي الحكومة السعودية أيام تدمير آثار رسول الله (صلى الله عليه وآله) عام 4413 هـ فبعد ما نفّذ ما أُمر به من قبل المشايخ، نشر بياناً في جريدة أُمّ القرى في عددها الصادر في شهر جمادى الآخر من شهور سنة 4513 هـ وممّا جاء فيه قوله: إنّ القباب على مراقد العلماء صار متداولا منذ القرن الخامس الهجري.
فهل هذا صحيح أو افتراء أمام كلّ هذه النصوص من المسعودي وغيره؟ وليس البحث في خصوص العلماء، بل مطلق قبور المسلمين، نبيّاً كان أو وليّاً، صحابيّاً كان أو تابعياً، فقهياً كان أو محدّثاً.
ونعم ما قال السيد المحقّق محسن الأمين في قصيدته المسمّاة بالعقود الدُّريّة في ردّ شبهات الوهابية:
أو ليس أُمّة أحمد إجماعها | فيه الصوابُ وحجّةٌ لم تردد |
وعلى ضلال كلّها لم تجتمع | فيما رويتم في الحديث المسندِ |
مضت القرون وذي القباب مشيّدة | والناس بين مؤسس ومجدّد |
في كلّ عصر فيه أهل الحلّ و | العقد الذين بغيرهم لم يُعقد |
لم يُنكروا أبداً على من شادها | شيدت ولا من منكر ومغند |
مِنْ قبل أنْ تلد ابنها تيمية | أو يخلق الوهاب بعضَ الأعبد |
أفأيّ إجماع لكم أقوى على | أمثاله من مورد لم يورد |
فبسيرة للمسلمين تتابعت | في كلّ عصر نستدلّ ونقتدي |
أقوى من الإجماع سيرتهم ومن | قد حاد عنها فهو غير مسدّد |
هيهات ليس نبيّاً إنّ بليهد | في الناس لم يُخطئ ولم يتعمّد |
كلاّ ولا العلماء قد حصرت به | هي في بقاع الأرض ذات تعدّد |
كلاّ ولا من وافقوه لخوفهم | أو جهلهم من خائف ومقلّد |
والجُلُّ من علماء طيبة ساكت | للخوف مكفوف اللسان مع اليد(1) |
كيف يدّعي الإجماع على التحريم مع أنّ فقهاء المذاهب الأربعة في العصر الحاضر اتّفقوا على الكلمة التالية: يكره أن يبنى القبر ببيت أو قبّة أو مسجد(2)، أين الكراهة من الحرمة، وأين هي من الشرك؟
وهذا النووي شارح صحيح مسلم يقول في شرح حديث أبي الهياج الذي سيوافيك نصّه: أمّا البناء فإن كان في ملك الباني فمكروه وإن كان في مقبرة مسبلة فحرام، نصّ عليه الشافعي والأصحاب(3).
إنّ التحريم في الصورة الثانية لكونه مزاحماً للانتفاع، وعلى خلاف أهداف الواقف وأغراضه، وأين هو من البناء على أرض مشتراة أو مهداة أو موات فلا تترتّب عليها تلك الحرمة.
دفن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) في بيته الرفيع ولم يخطر ببال أحد من الصحابة الحضور أنّ البناء على القبر حرام وأنّه (صلى الله عليه وآله) نهى عنه نهياً مؤكداً، ولمّا كان البيت متعلّقاً بالسيدة عائشة جعلوا في وسطه ساتراً، ولمّا توفّي الشيخان أوصيا بدفنهما في حجرة النبي (صلى الله عليه وآله) تبركاً بذاته ومكانه، ولم تُسْمَع عن أي ابن اُنثى نعيرةُ أنّه حرام ولا مكروه، وعلى ذلك استمرّت سيرة المسلمين في حقّ العلماء والأولياء، يدفنونهم في البيوت المعدّة
____________
1- محسن الأمين، كشف الارتياب: 295 وهي مطبوعة في آخر الكتاب.
2- الجريري، الفقه على المذاهب الأربعة 1: 431.
3- النووي، شرح صحيح مسلم ج17 كتاب الجنائز ط مصر.
وهذا عمل المسلمين وسيرتهم القطعيّة في جميع الأقطار والأمصار، على مرأى ومسمع الجميع وإنْ اختلفت نزعاتهم، من بدء الإسلام إلى هذا العصر، من الشيعة والسنّة، وأي بلاد من بلاد الإسلام من مصر والعراق أو الحجاز أو سوريا، وتونس ومراكش وإيران، وهلمّ جرّا، ليس فيها قبور مشيّدة، وضرائح منجدة، وهؤلاء أئمة المذاهب: الشافعي في مصر، وأبو حنيفة في بغداد، ومالك بالمدينة، وتلك قبورهم من عصرهم إلى اليوم شاهقة القباب، شامخة المباني، غير أنّ الوهابيّين لمّا استولوا على المدينة هدموا قبر مالك.
وهذه القبور قد شُيّدت وبنيت في الأزمنة التي كانت حافلة بالعلماء وأرباب الفتاوى، وزعماء المذاهب، فما أنكر منهم نكر، وليس هذا رائجاً بين المسلمين فقط، بل جرى على هذا جميع عقلاء العالم، بل يعدّ تعمير قبور الشخصيات من غرائز البشر ومقتضيات الحضارة وشارة الرقيّ، فكلّ هذا دليل على الجواز لو لم نقل يفوق ذلك، ولو لم تكن السيرة المسلّمة بين المسلمين والعقلاء عامّة غير مفيدة في المقام، فلا يصحّ الاستناد إلى أيّة سيرة قاطعة بين المسلمين أو الناس.
وليس يصحّ في الأذهان شيء | إذا احتاج النهار إلى دليل |
ثمّ إنّ الوهابيّين تمسّكوا بروايات، إمّا عديمة الدلالة، أو ضعيفة السند، وسنذكر في الفصل الآتي بشكل عام مجملَ ما تمسّكوا به ليتبيّن مدى وعيهم.