الصفحة 58
ويُسمّيان أمراً إرشادياً ونهياً إرشاديّاً.

ومنها ما يوجب فعل المأمور به ويحرم تركه ويحرم فعل المنهيّ عنه، وهذان تمتدّ آثار مخالفتهما على الإنسان إلى يوم القيامة وتسبِّب له العذاب، ويُسمّيان بالأمر والنهي المولويَّين. مثل:

ب ـ ترك الأُولى:

في ما يصدر من الإنسان من عمل ما يكون فعل خِلافه وضدّه أفضل، مثل الموردين الآتيين من أفعال أنبياء الله تعالى المذكورة في القرآن الكريم.

ج ـ المعصية:

عصى أمره يعصيه عصياناً ومعصيةً: خرج من طاعته ولم يُنَفِّذ أمره، فهو عاص وعصيٌّ.

ولفظ (الأمر) قد يأتي في الكلام بعد ذكر مشتقّات المعصية، مثل ما جاء:

1 ـ سورة الكهف في حكاية قول موسى لمن أراد أن

الصفحة 59
يصحبه:

(سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْراً )(الآية69).

2 ـ في وصف الملائكة الموكّلين بالنار في سورة التحريم:

(عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غَلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (الآية6).

ولا يأتي لفظ الأمر في الكلام ـ غالباً ـ بوضوح المعنى مثل قوله تعالى في سورة طه: (فَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ )(الآية121).

وأحياناً لا يذكر من عصى أمره مثل قوله تعالى في ما جاء عن خبر فرعون في سورة النازعات: (فَكَذَّبَ وَعَصى)(الآية2).

د ـ الذنب:

إنّ حقيقة الذنب هو تبعة كلّ عمل يصيب الإنسان في المستقبل، وقد تخصّ هذه التبعة بعض الأعمال في الدنيا،

الصفحة 60
وتردّ على الإنسان ممّن يقدرون على الإضرار بالإنسان، كما جاء في حكاية قول موسى (عليه السلام) في مناجاة ربّه في سورة الشعراء:

(وَإِذْ نَادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلاَ يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونَ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونَ * قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ )(الآيات10-15).

فإنّ فعل موسى كان قتله القبطي الذي جاء خبره في الآيات من سورة القصص:

(وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَة مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قَالَ هذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ * فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالاَْمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ

الصفحة 61
مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ * فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالاَْمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الاَْرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ * وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قَالَ يَا مُوسى إِنَّ الْمَلاَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )(الآيات15-21).

وكان لفعله ـ قتله القبطي ـ تبعة في الدّنيا، وهي ائتمار قوم فرعون لقتله.

وتبعة عصيان أوامر الله ونواهيه المولوية تصيب الإنسان في الآخرة، وأحياناً في الدنيا والآخرة، وهي ذنوب العبد تجاه ربّه جلّ اسمه.

ثانياً: شرح بعض الكلمات

أ ـ ذَا الاَْيد:

آدَ، يئيدَ، أيداً: اشتدَّ وقويَ، وذا الأيد: صاحب القوّة.


الصفحة 62

ب ـ أوّاب:

أوّب تأويباً: رجع فهو أوّابٌ، والأوّاب كالتوّاب: الراجع إلى الله بترك معاصيه وفعل طاعاته.

ج ـ تُشْطِطْ:

الشَّطط: الجور في الحكم وتجاوز القدر المحدود في كلّ شيء.

د ـ أكفِلْنيها:

كفله كفلا وكفالة: عاله ورعاه، وأكفلنيها: أعطني إيّاها لأرعاها.

هـ ـ عزَّني في الخطاب:

عزّه وعازّه: غلبه، وعزّني في الخطاب: غالبني في الكلام.


الصفحة 63

و ـ الخُلطاءُ:

مفردُهُ الخليط: الصديق والمجاور والشريك.

ز ـ ظنَّ:

الظّنُّ ما يحصل عن أمارة، وقد يبلغ الظنّ درجة اليقين مثل قوله تعالى: (وَظَنَّ دَاوُدَ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ) أيْ أيقن أنّا فتنّاه، وقد لا يبلغه ويكون دونه إلى حدّ التوهّم، مثل قوله تعالى في خبر يونس (عليه السلام): (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ).

ح ـ فَتَنَّاهُ:

الفتنةُ: الامتحان، ويكون المعنى: أيقن داود أنّا امتحنّاه.

ط ـ خرَّ:

خرّ: سقط من علوّ، وخرّ راكعاً: أي هوى إلى الركوع.

ي ـ أنابَ:

ناب إلى الشيء نوباً ونوبة: رجع إليه مرّة بعد أُخرى، وأناب العبد إلى الله: رجع إليه بالتوبة من المعصية، وكذلك

الصفحة 64
اعتمد عليه في ما ينزل به، وكان ابراهيم (عليه السلام) منيباً يرجع إليه في أُموره كلّها.

ك ـ فغفرنا ولْيغفِر:

غفره مغفرة وغفراً وغفراناً: ستره وغطّاه فهو غافر وغفور، وللمبالغة غفّار، وكلّ شيء سترته فقد غفرته، وسمّي ما ينسج من الدروع على قدر الرأس ويلبس تحت القلنسوة بالمغفر لأنه يستر الرأس والرقبة، وغفر الله ذنوبه: أي سترها، ويكون ذلك بمحوْ آثار الذّنوب في الدنيا وآثارها في الآخرة.

ل ـ لزُلفى:

زلف إليه زلفاً، وزلفى، وزلفة، وازدلف: دنا منه وتقرّب، والزلفة: القرب.

م ـ مآب:

آب يؤوب أوباً وإياباً ومآباً: رجع، والمآب: اسم

الصفحة 65
زمان ومكان للأوب.

ن ـ خليفةً:

ليس معنى خليفة الله في القرآن نوع الإنسان على الأرض كما قيل، بل المراد: الإمام المنصوب من قبل الله لهداية الناس وليحكم بين الناس، كما يظهر ذلك في قوله تعالى لداود (عليه السلام): (يَا دَاوُدَ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الاَْرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ).

س ـ الخِيَرَة:

خار الشيء على غيره خِيْرةً وخِيَرَةً وخيراً: فضَّله على غيره.

ع ـ وَطَراً:

الوَطَرُ: حاجة للإنسان له عناية بها واهتمام فإذا بلغها ونالها قيل: قضى وطره.

ف ـ أدعياؤهم:


الصفحة 66
الأدعياء: مفردُهُ الدَّعيُّ: من يُنسَب إلى قوم وليس منهم، وأظهر مصاديقه: المتبنّى.

ص ـ سُنَّةُ الله:

النّظام الذي قدّره الله لخلقه، و (سُنَّةُ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا)أي حكم الله وشريعته التي أنزلها على مَن سبق خاتم الأنبياء من الرُّسُل.

ق ـ قدراً مقدوراً:

قدّر الله الأمر يقدِّرُه: دبَّره أو أراد وقوعه، وقدَرَ الله الرّزقَ يقْدِرُه جَعَله محدوداً ضيّقاً.

ر ـ جُذاذاً:

جذّ الشيء جذّاً: قطعه; فالشيء مجذوذ، وجذّه كسره وفتّته، والجذاذ المقطّع أو المكسَّر.


الصفحة 67

ش ـ فَتى:

الفتى: الشابُّ من كلّ شيء، ويقال للعبد والأمة تلطُّفاً بهما، والفتى: الكامل من الرجال، والمراد به هنا الشابُّ من الرجال.

ت ـ نُكِسُوا:

نَكَسَ رأسه ونُكِسَ على رأسه: طَأْطَأَ رأسه ذُلاًّ وانكساراً.

ض ـ السِّقاية:

السِّقاية: الإناء يُسقى به وقد يكال به.

ظ ـ العِير:

القوم معهم حملهم من الميرة، وقد يقال للرجال والجمال معاً، كما يقال لكلٍّ منهما وحده: العِير.

غ ـ صُواع:

المراد بالصُّواع هنا: صاع الملك وهو السقاية المذكورة

الصفحة 68
قبله.

خ ـ زَعيم:

زعم يزعمُ زعماً وزَعامة: ضمن وكفل فهو زعيم.

ثالثاً: تأويل الآيات

في بيان تأويل الآيات نبدأ أوّلا ببيان تأويل بعض الموارد، حسب معناها اللغوي، وثانياً بايراد الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في ذلك.

تأويل الآيات بحسب معنى الألفاظ في لغة العرب

أ ـ خبر ابراهيم (عليه السلام) في كسر الأصنام:

في قوله (عليه السلام): (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) الأنبياء/63) تورية، والمعنى في الكلام: فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون، ويعرف ذلك من قوله تعالى بعده: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاَءِ يَنْطِقُونَ) (الآية65).

ب ـ خبر يوسف مع إخوته:


الصفحة 69
قصدوا من قولهم لاخوة يوسف (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ) أنّهم سرقوا يوسف (عليه السلام) من أبيه.

أمّا صواع الملك فقد قالوا عنه (نفقد صواع الملك)، ولم يقولوا سُرق صواع الملك، وفي هذا الكلام ـ أيضاً ـ تورية كما اتّضح ممّا بيّنّاه(1).

ج ـ خبر رسول الله بعد الفتح:

قال سبحانه في سورة الفتح:

(إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً * وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً * هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ ... )(الآيات1-4).

____________

1- مجمع البيان في تفسير القرآن 3 : 252.


الصفحة 70

تفسير الكلمات

أ ـ فتحنا:

المراد بالفتح هنا: صلح الحديبية، وقد سمّاه الله فتحاً لما أعقب من كسر شوكة قريش، وعدم استطاعتهم مناوأة الرسول (صلى الله عليه وآله) وتجهيز الجيوش لمحاربته، وفتح الرسول (صلى الله عليه وآله)مكّة بعد ذلك.

ب ـ ليغفر:

في اللغة غفر الشيء: ستره.

ج ـ ذنبك:

قال الرّاغب: الذنب في الأصل الأخذ بذنب الشيء، يقال: أذنبته، أي: أصبت ذنبه، ويستعمل في كلّ فعل يستوخم عقباه، ولهذا يسمّى الذنب: تبعة اعتباراً بذنب الشيء، وجمع الذنب: ذنوب.


الصفحة 71

تأويل الآية بحسب معناها اللغوي

كان من خبر صلح الحديبية ما رواه الواقدي في المغازي وقال ما موجزه:

وثبَ عمر إلى رسول الله (ص)، وقال: ألسنا بالمسلمين؟ قال (ص): "بلى"، قال: فعلامَ نعطي الدنيّة في ديننا؟ فقال رسول الله (ص): "أنا عبد الله ورسوله ولن أُخالف أمره ولن يضيعني"، وجعل عمر يردّ على رسول الله (ص) الكلام، وتكلّم مع أبي بكر وأبي عبيدة في ذلك فردّا عليه، وكان يقول بعد ذلك: لقد دخلني يومئذ من الشكّ وراجعت النبي (ص) مراجعة ما راجعته مثلها قط ... الخبر(1).

ونزلت السورة تُعلِم بأنّ الصلح فتح للرسول وللمسلمين، وأنّ ما كان المشركون يعدّونه ذنباً للرسول في ما تقدّم من قيامه بمكّة بتسفيه أحلامهم وعيب آلهتهم، وفي ما تأخّر من قتله إيّاهم في غزوة بدر وغيرها، قد ستر الله جميعها بذلكم الصلح الذي أنتج كلّ تلكم الفتوح، وإنّ

____________

1- نقلته بايجاز من مغازي الواقدي 1 : 606-607.


الصفحة 72
قوله تعالى في هذه السورة: (مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ )كقوله تعالى في حكاية قول الكليم موسى بن عمران (عليه السلام) في سورة الشعراء: (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونَ) (الآية14).

وبناءً على ما ذكرناه يكون ذنب الرسول في مقابل قومه كذنب موسى (عليه السلام) في مقابل الأقباط بمصر.

* * *

نكتفي بهذا المقدار من بيان تأويل الآيات بحسب معناها اللغوي، ونورد في ما يأتي بحوله تعالى تأويل الآيات من الروايات:

تأويل الآيات في روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام)

روى الصدوق أنّ المأمون العباسي جمع للإمام عليّ ابن موسى الرضا (عليه السلام) أهل المقالات من أهل الإسلام والديانات من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين، وكان فيهم عليّ بن الجهم من أهل المقالات الإسلاميين، فسأل الرضا (عليه السلام) وقال له: يا ابن رسول الله! أتقول بعصمة

الصفحة 73
الأنبياء! قال: "بلى"، قال: فما تعمل في قول الله عزّ وجلّ: (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى)؟ وقوله عزّ وجلّ: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ)؟ وقوله في يوسف: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا)؟ وقوله عزّ وجلّ في داود: (وَظَنَّ دَاوُد أَنَّمَا فَتَنَّاهُ)؟ وقوله في نبيّه محمد (ص): (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ)؟

فقال مولانا الرضا (عليه السلام): "ويحك يا عليّ! إتّق الله ولا تنسب إلى أنبياء الله الفواحش، ولا تتأوَّل كتاب الله برأْيك، فإنّ الله عزّ وجلّ يقول: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ).

أمّا قوله عزّ وجلّ في آدم (عليه السلام): (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى)، فإنّ الله عزّ وجلّ خلق آدم حجّة في أرضه، وخليفته في بلاده، لم يخلقه للجنّة، وكانت المعصيةُ من آدم في الجنّة لا في الأرض، لتتمَّ مقادير أمر الله عزّ وجلّ، فلمّا أُهبط الى الأرض وجُعل حُجّة وخليفة عُصِمَ بقوله عزّ وجلّ: (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ

الصفحة 74
عَلَى الْعَالَمِينَ).

وأمّا قوله عزّ وجلّ: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ)، إنّما ظنّ أنّ الله عزّ وجلّ لا يُضيِّق عليه رزقه، ألا تسمع قول الله عزّوجلّ: (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ)؟ أي ضيّق عليه، ولو ظنّ أنّ الله لا يَقْدِرُ عليه لكان قد كفر.

وأمّا قوله عزّ وجلّ في يوسف: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا)، فإنّها همّت بالمعصية، وهمّ يوسف بقتلها إن أجبرتهُ لعظم ما داخله، فصرف الله عنه قتلها والفاحشة، وهو قوله: (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ) يعني القتل، (وَالْفَحْشَاءَ)يعني الزنا.

وأمّا داود فما يقول من قبلكم فيه؟

فقال عليّ بن الجهم: يقولون: إنّ داود كان في محرابه يصلّي إذ تصوّر له إبليس على صورة طير أحسن ما يكون من الطّيور، فقطع صلاته وقام ليأخذ الطّير، فخرج الى الدار، فخرج في أثره، فطار الطير إلى السطح، فصعد في طلبه، فسقط الطّير في دار أُوريا بن حنّان، فاطّلع داود في

الصفحة 75
أثر الطّير، فإذا بامرأة أُوريا تغتسل، فلمّا نظر إليها هواها، وكان أُوريا قد أخرجه في بعض غزواته، فكتب إلى صاحبه أن قدّم أُوريا أمام الحرب، فقدّم، فظفر أُوريا بالمشركين، فصعب ذلك على داود، فكتب الثانية أن قدّمه أمام التّابوت، فقتل أُوريا رحمه الله، وتزوّج داود بامرأته.

فضرب الرضا (عليه السلام) بيده على جبهته وقال: "إنّا لله وإنّا إليه راجعون، لقد نسبتم نبيّاً من أنبياء الله إلى التّهاون بصلاته حتى خرج في أثر الطّير، ثمّ بالفاحشة، ثمّ بالقتل!" فقال: يا ابن رسول الله! فما كانت خطيئته؟

فقال: "ويحك، إنّ داود إنّما ظنّ أنْ ما خلق الله عزّ وجلّ خلقاً هو أعلم منه، فبعث الله عزّ وجلّ إليه الملكين فتسوّرا المحراب فقالا: (خَصْمَانِ بَغى بَعْضُنَا عَلى بَعْض فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ)، فعجّل داود (عليه السلام) على المدّعى عليه فقال: (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ)، فلم يسأل المدّعي البيّنة على ذلك، ولم يقبل على المدّعى عليه فيقول:


الصفحة 76
ما تقول، فكان هذا خطيئة حُكمه، لا ما ذهبتم إليه، ألا تسمع قول الله عزّ وجلّ يقول: (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الاَْرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) إلى آخر الآية؟" فقلت: يا ابن رسول الله فما قصّته مع أوريا؟

فقال الرضا (عليه السلام): "إنّ المرأة في أيّام داود كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوّج بعده أبداً، وأوّل من أباح الله عزّ وجلّ له أن يتزوّج بامرأة قتل بعلها داود، فذلك الذي شقّ على أوريا ..." الحديث(1).

وفي خبر داود خاصّةً عن أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام)أنّه قال:

"ما أوتي برجل يزعم أنّ داود (عليه السلام) تزوّج بامرأة أوريا إلاّ جلدته حدَّين: حدّاً للنبوّة، وحدّاً للإسلام"(2).

والمعنى: من قال إنّ داود تزوّج بامرأة أوريا، أي: قبل

____________

1- البحار 11 : 73-74; عن أمالي الصدوق 55-57 وطبعة أُخرى : 90-92; وعيون الأخبار : 108.

2- تفسير الآية بتفسير مجمع البيان; ونور الثقلين; وتنزيه الأنبياء للشريف المرتضى : 92.


الصفحة 77
استشهاده.

وفي رواية: "من حدّث بحديثِ داود على ما يَرْويه القُصّاصُ جلدتُهُ مائة وستّين".

وفي رواية: "وهو حدّ الفرية على الأنبياء"(1).

وروى الصدوق ـ أيضاً ـ عن الإمام الصادق (عليه السلام) مثل الرواية الأُولى، وفي رواية قال: "إنّ المرأة في أيام داود (عليه السلام)كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوّج بعده أبداً، وأوّل من أباح الله عزّ وجلّ له أن يتزوّج بامرأة قتل بعلها داود (عليه السلام)، فتزوّج بامرأة أوريا لمّا قتل وانقضت عدّتها، فذلك الذي شقّ على الناس من قتل أوريا"(2).

ولو قيل: إنّ ما أوردتموه معارض بما رواه القمّي في تفسيره أنّه قال ما موجزه:

"إنّ داود (عليه السلام) كان في محرابه يصلّي، فإذا بطائر قد وقع

____________

1- تفسير الآية بتفسير الخازن 4 : 35; والفخر الرازي 25 : 192; ونور الثقلين 4 : 446.

2- البحار 14 : 24; وراجع تفسير نور الثقلين 4 : 446 نقلا عن عيون الأخبار.


الصفحة 78
بين يديه، فأعجبه جداً ونسي ما كان فيه، فقام ليأخذه، فطار الطائر فوقع على حائط بين داود وأوريا ـ كان داود قد بعثه في بعث ـ فصعد داود الحائط ليأخذه، فرأى امرأة جالسة تغتسل، فلمّا رأت ظلّه نشرت شعرها وغطّت به بدنها، فافتتن بها داود ورجع إلى محرابه، وكتب إلى صاحبه في ذلك البعث أن يسيروا إلى موضع كيت وكيت ويوضع التابوت بينهم وبين عدوّهم ويقدّم أُوريا بين يدي التابوت، فقدّمه فقتل ..." الحديث بطوله(1).

قلنا: إنّ هذه الرواية قد جمع فيها راويها الروايات المتعدّدة الواردة في تفسير الآيات بتفاسير مدرسة الخلفاء، وأضاف إليها من خياله بعض القول، ثمّ رواها عن الإمام الصادق (عليه السلام).

ونحن ندرس متن الرواية دون التعرّض لسندها ونقول:

ورد بخصوص خبر أوريا المذكور عن الإمام

____________

1- البحار 14 : 20-23; عن تفسير القمي : 562-565; والتتمّة في كتاب الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير : 233 ط. بيروت الأُولى.


الصفحة 79
الصادق (عليه السلام) أنّه عندما سئل عنه وقال له الراوي:

ما تقول في ما يقول الناس في داود وامرأة أوريا؟

فقال: "ذلك شيء تقوله العامّة"(1).

في هذا الحديث صرّح الإمام الصادق (عليه السلام) بأنّ منشأ قول الناس في داود وأرملة أوريا هم العامّة، أي أتباع مدرسة الخلفاء.

إذاً! فقد انتشر منهم هذا القول إلى مصادر الدراسات بمدرسة أهل البيت، وقد سمّينا هذا النوع من الروايات بالروايات المنتقلة، أي المنتقلة من مدرسة الخلفاء الى مدرسة أهل البيت(2).

وإذا بحثنا عن مصدر هذه الرواية بكتب التاريخ والتفسير بمدرسة الخلفاء(3) وجدنا أنّ رواة هذه الرواية لم يرووها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يقولوا أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال

____________

1- البحار 14 : 200.

2- راجع بحث الروايات المنتقلة في: القرآن الكريم و روايات المدرستين ج2.

3- راجع تفسير الآية في تفسير الطبري، والقرطبي وابن كثير والسيوطي.


الصفحة 80
ذلك، ما عدا رواية واحدة رواها السيوطي في تفسير الآية عن يزيد الرقاشي عن أنس، وقد بيّنّا في هذا البحث زيفها في ما سبق.

* * *

في قصّة زيد وزينب: كسر الرسول (صلى الله عليه وآله) بتزويجه زينب من زيد قانون التكافؤ في النسب من أعراف الجاهلية واستبدله بقانون التكافؤ في الإسلام، وبعد هذا الإنجاز العظيم أمره الله تعالى أن يكسر ـ بزواجه من مطلّقة زيد ـ قانون التبنّي من أعراف الجاهلية، وفي عمله هذا شابه عمل النبيّ داود (عليه السلام) في زواجه بأرملة أوريا وتبديله بذلك قانوناً جاهلياً بقانون إسلامي، وكذلك يفعل الأنبياء في إجراء الأحكام الإسلامية، وهكذا فعل الرسول (صلى الله عليه وآله)ـ أيضاً ـ في إبطاله قانون الرّبا وقانون أخذ الثأر الجاهِليَّين في حجّة الوداع بإبطال ربا عمِّه العباس واهدار دم ابن عمّه(1).

* * *

____________

1- في سيرة ابن هشام 4 : 275 ط. مصر عام 1356 أنّ رسول الله (ص) قال في خطبته في حجّة الوداع: "... وإنّ كلّ رباً موضوع، ولكنْ لكُم رؤوسُ أموالكم لا تَظْلمُون ولا تُظلَمون، قضى الله أنّه لا رباً، وإنّ ربا عبّاس بن عبد المطّلب موضوعٌ كلّه، وإنّ كلّ دم كان في الجاهلية موضوع، وإنّ أوّل دمائكم أضعُ دمُ ابن ربيعة بن الحرثِ بن عبد المطّلب، وكان مسترضعاً في بني ليث فقتلهُ هُذيل، فهو أوّل ما أبدأ به من دماء الجاهلية".


الصفحة 81
هذه هي الحقيقة في أمر زواج النبي داود (عليه السلام) بأرملة أُوريا وزواج خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) بمطلّقة ابنه المتبنّى زيد، غير أنّ انتشار الروايات الإسرائيلية في تأويل قصص الأنبياء السابقين، والروايات المختلقة في تأويل ما عداها في بعض كتب التفسير وبعض مصادر الدراسات الإسلاميّة الأُخرى حجبت رؤية الحقّ عن الباحثين، وجعلت من الباطل حقّاً ومن الحقّ باطلا، واشتهرت تلك الروايات وراجت في الأوساط الإسلاميّة لما كان فيها من تبرير لتورّط بعض أفراد السلطان الحاكمة في قضايا شهوة الجنس، كما أنّ صدور المعاصي من أمثال يزيد بن معاوية وأشباهه من خلفاء بني مروان بعده ونظائرهم هو الداعي لعامّة ما نسب إلى الأنبياء والرسل ـ صلوات الله عليهم ـ من المعاصي ونفي العصمة عنهم، وتأويلهم الآيات في حقّهم بما يدفع النقد عن بعض الخلفاء.