وفي مسند أحمد: عن أبي ذرّ، قال: خرج إلينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)فقال: " أتدرون أي الأعمال أحـبّ إلى الله عزّ وجلّ؟ قال قائل: الصلاة والزكاة. وقال قائل: الجهاد. قال: إنّ أحـبّ الأعمال إلى الله عزّ وجلّ: الحبّ في الله والبغض في الله "(3).
وبلحاظ ما تقدّم نقول: إنّ أمير المؤمنين الإمام عليّ (عليه السلام) ـ حسب هذه المنزلة الّتي عرفناها عنه ـ لا يمكن أن يحيد عن هذه الشريعة، ولا عن منهجها في الحبّ والمودّة..
وها هو التاريخ أمامك تصفّحه بكلّ تجرّد وموضـوعية ; فأينما رأيت مواضـع طاعة الله ورسـوله عند الخلفاء الثلاثة الّذين سبقوه (عليه السلام) بالحكم،
____________
1- سورة آل عمران: الآية 31.
2- سورة المجادلة: الآية 22 ; ومَن حادّ الله ورسوله، أي: مَن خالف الله ورسوله.
3- مسند أحمد بن حنبل 5 / 146.
أمّا قضية تزويج أُمّ كلثوم ابنة أمير المؤمنين (عليه السلام) من عمر فهي ممّا لم يتسـنَّ للمؤرّخـين إثباتها أو التصديق بها..
قال الشيخ المفيد في المسائل السـرويّة: إنّ الخبر الوارد بتزويج أمير المؤمنين ابنته من عمر غير ثابت، وطريقه من الزبير بن بكّار، وهو لم يكن موثوقاً به في النقل، وكان متّهماً في ما يذكره، وكان يبغض أمير المؤمنين (عليه السلام)، وغير مأمون في ما يدّعيه على بني هاشـم(1).
وإنّما نشر الحديث إثبات أبي محمّـد الحسن بن يحيى(2) ـ صاحب النسب ـ ذلك في كتابه، فظنّ كثير من الناس أنّه حقّ لرواية رجل علوي له، وهو إنّما رواه الزبير بن بكّار.
____________
1- قال ابن الأثير: إنّ الزبير بن بكّار كان ينال من العلويّين، فتهدّدوه، فهرب منهم، وقدم على عمّه مصعب بن عبـد الله بن الزبير، وشكا إليه حاله، وخوّفه من العلويّـين، وسأله إنهاء حاله إلى المعتصم، فلم يجد عنده ما أراد، وأنكر عليه حاله، ولامه. الكامل في التاريخ 6 / 526.
2- أبو محمّـد الحسن بن محمّـد بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبـد الله بن الحسين بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (عليهم السلام)، المعروف بـ: " ابن أخي طاهر "، النسّابة: له مصنّفات كثيرة، توفّي في شهر ربيع الأوّل سنة 358 هـ، ودفن في منزله بسوق العطش.
قال فيه النجاشي: روى عن المجاهيل أحاديث منكرة، رأيت أصحابنا يضعّفونه، وقال السـيّد الخوئي: لا ينبغي الريب في ضعف الرجل وإن روى عنه غير واحد من الأصحاب.
رجال النجاشي: 64، معجم رجال الحديث 6 / 143.
ثمّ إنّ بعض الرواة يذكر أنّ عمر أولدها ولداً أسماه: زيداً، وبعضهم يقول: إنّه قُتل قبل دخوله بها، وبعضهم يقول: إنّ لزيد بن عمر عقباً، ومنهم مَن يقول: إنّه قُتل ولا عقب له، ومنهم مَن يقول: إنّه وأُمّه قُتلا، ومنهم مَن يقول: إنّ أُمّه بقيت بعده، ومنهم مَن يقول: إنّ عمر أمهر أُمّ كلثوم أربعين ألف درهم، ومنهم مَن يقول: أمهرها أربعة آلاف درهم، ومنهم مَن يقول: كان مهرها خمسمائة درهم.
قال الشيخ المفيد: وبدو هذا الاختلاف فيه يبطل الحديث ; فلا يكون له تأثير على حال(1).
وأقـول:
هذا الاستدلال الّذي ذكره الشيخ المفيد (رحمه الله) هنا في نفي هذا الزواج أوْلى أن يرضى به الدليمي، أو غيره ممّن يحاولون الاستشهاد بوجود مثل هذا الزواج لغرض إظهار العلاقة الحميمة بين عليّ (عليه السلام) وعمر ; إذ أنّ بقية الموارد والطرق الّتي تُشـير إلى وجوده لا يخلو أمرها من تعريض بشخص عمر وسـوء تصرّفه مع الإمام (عليه السلام) وابنته أُم كلثوم، كالرواية الّتي يقدح سبط ابن الجوزي في إمكان قبولها..
____________
1- المسائل السـروية: 86.
وهناك أيضاً جملة روايات في هذا الموضوع في كتب أهل السُـنّة تتبّعها السـيّد العلاّمة ناصـر حسين النقوي في كتابه إفحام الخصوم في نفي تزويج أُم كلثوم وفنّدها واحدة واحدة.
وقد يقول قائل: ولكن أيضاً هناك روايات وردت بخصوص هذا الزواج في كتب الحديث عند الشيعة.
نقول: إنّ هذه الروايات لا تنفع الدليمي أو غيره للاستدلال بها على العلاقة الحميمة بين عليّ (عليه السلام) وعمر ; لأنّها جميعاً تدلّ على وقوع التهديد من عمر في هذه المسألة(2)، وهي محل تأمّل كبير عند جملة من محقّقي علماء الإمامية في أصل وقوع مثل هذا الزواج.
والحاصل: إنّ الروايات الواردة في هذا الموضوع عند السُـنّة والشيعة لا يخلو أمرها من تعارض واضطراب وتأمّل، ممّا لا يمكن الجزم معه بوقوع مثل هذا الزواج.
بل لنا هنا أن نسأل الدليمي وغيره: رويتم ـ كما في صحيح مسلم ـ أنّ عمر قال لعليّ (عليه السلام) أنّه يراه: ـ أي: عليّ (عليه السلام) يرى عمر ـ كاذباً آثماً غادراً خائناً ; فهل يصـحّ من رجل أن يزوّج ابنته طواعية لشخص يراه:
____________
1- تذكرة خواصّ الأُمّة: 221.
2- انظر: الكافي 5 / 346 باب: تزويج أُم كلثوم.
فإن كان هذا الفعل يصـحّ أن يقع طواعية من الدليمي في حقّ ابنته، فنحن نسلّم بوقوعه من أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام)، وإلاّ فالمسألة لا تخلو من أحـد أمرين:
إمّا أنّ هذا الزواج قد حصل بالوعيد والإكراه، كما تشير إليه روايات الإمامية(1)، أو أنّ القضية مدسوسـة موضوعة على البيت النبوي الطاهر، كحال الكثير من الأُمور التي قصدت هذا البيت بالدسّ والإساءة!
والرأي الثاني هو الذي يميل إليه جملة ممّن كتب في الموضوع من الفريقـين..
قال الشيخ محمّـد انشاء الله الحنفي المحمّدي الحبشي، وهو من أهل السُـنّة، في كتابه السرّ المختوم في ردّ زواج أُمّ كلثوم، ص 21: أيّها الناظرون! هذه فضوليات الراوي الأوّل، بل الأصل أنّ المفتري الزبير بن بكّار الكذّاب الوضّاع اتّهم سيّدنا عمر وكذّب على عليّ واختلق رواية زواج أُمّ كلثوم من عند نفسـه ولا حقيقة لها(2).
وأمّا الزبير بن بكّار فبالإضافة إلى ما ذكره الشيخ المفيد، فقد قال
____________
1- وإن ثبت هذا الفرض فهو يكشف عن سوء خلق الخليفة، وتجبّره بحقّ أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) والبيت النبوي عموماً، وأنّ الإمام (عليه السلام) استجاب له ضرورة أو تقية خشية وقوع الفتنة أمام تجبّره وإصراره، كما تشير إليه تلك الروايات، ومن المعلوم شرعاً أنّ الضرورات تبيح المحظورات، وقد كان الإمام (عليه السلام) يتّقي التصادم مع التيار الذي أفرزته " السقيفة " ; حفاظاً على بيضـة الإسلام، كما سيأتي بيانه.
2- انظر: مرقد العقيلة زينب (عليها السلام) ـ لمؤلّفه البحّاثة الشيخ محمّـد حسنين السابقي ـ: 165 ; وقد ذكر الشيخ السابقي في كتابه هذا جملة من الكتب والمخطوطات التي أُلّفت في نفي هذا الزواج.
ولسوء أهوائه ونصبه الظاهر قرّبـه المتوكّل العبّاسـي ودرّ عليه المعاش، والمتوكّل معروف بعداوته لأمير المؤمنين (عليه السلام)، وببوائقه الشنيعة الّتي ارتكبها لإهانة الإمام (عليه السلام) ; اقرأ ما فصّله ابن الوردي وأبو الفرج الأصفهاني من جرائمه الّتي لا يحتمل القلم نقلها(3).
واشتدّت أواصر الولاء بينه وبين المتوكّل حتّى ولاّه مكّة، وعيّنه مؤدّباً لأولاده، وأمر له بعشـرة آلاف درهم، وعشـرة تخوت من الثياب، وعشـرة أبغل تحمل له رَحله إلى سـرّ مَن رأى(4).
فلا عجب من هذا الرجل أن يروي اجتماع الشعراء الماجنين عند سكينة بنت الحسين (عليه السلام)(5)!!
____________
1- قال السمعاني في الأنساب 3 / 286: السُليماني بضمّ السين وفتح اللام وسكون الياء المنقوطة باثنتين من تحتها وفي آخرها النون، هذه النسبة إلى: سليمان، وهو اسم بعض أجداد المنتسب...
كانت له رحلة إلى الآفاق، وعُرف بالكثرة والحفظ والإتقان، ولم يكن له نظيرٌ في زمانه إسناداً وحفظاً ودراية بالحديث وضبطاً وإتقاناً. انتهى.
2- ميزان الاعتدال 2 / 66، الجرح والتعديل 3 / 585، تهذيب التهذيب 3 / 270.
3- تاريخ ابن الوردي 1 / 201، مقاتل الطالبيين: 38.
4- تاريخ بغداد 8 / 469.
5- نقله عن جدّه مصـعب الوضّاع، وهو الّذي اختلقه ; ليصرف الناس عن الوقيعة في ابنتهم سكينة بنت خالد بن مصعب، المولعة بالغناء والترف.
وتارة أُخرى بأنّه: طلّق العقيلة الكبرى زينب بنت فاطمة (عليها السلام)(2)... إلى آخر بوائقه.
وممّا يؤسف له أنّ الأقلام المأجورة والغافلة قد تابعت الزبير بن بكّار في نقل ترهاته هذه، ولم يكلّف أحدٌ ممّن نقل افتراءات ابن بكّار هذه نفسـه بالبحث والتدقيق في ما ينقل عنه.
فقد بقي التاريخ في فترة طويلة أسيراً بأيدي العتاة والأقلام المأجورة تجري جلباً لمرضاة الساسـة، ودعماً لمبادئهم، وترويجاً لأُمور دُبّرت بليل، وهكذا لعبت سماسرة السياسـة الوقتية دوراً خطيراً بالنواميس الإسلامية قابضين على أزمّة الأقلام، تحلّق بشخصيات إلى الكمال وتسف بآخرين إلى حضيض الوصمة والشنار، كما أنّ هنالك دواع فئوية، وأغراض شخصية، كان لها الأثر البالغ في ما غشي الناس من دور مظلم..
وقد بلغ الأمر إلى حدّ أنّ أهل حمص يرون بأنّ صلاة الجمعة لا تصلح إلاّ بلعن أبي تراب ـ أي: أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) ـ ويخيّل إلى بعض زعماء أهل الشام وذوي الرأي والعقل أنّ أبا تراب كان لصّاً من
____________
1- انظر: تفسير الخازن 3 / 338..
لكن هذه الدعوى بعيدة عن ساحـة مَن أدّبه الإمام عليّ وسبطي الرحمة الحسن والحسين (عليهم السلام)، وأخذَ علمه عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وروى أحاديثه، بل الزبير نفسه وأُسرته مولعون بالغناء، ومنهم: سكينة بنت خالد بن مصـعب، الّتي كانت تجتمع مع الشاعر الماجن عمر بن أبي ربيعة القرشـي والمغنّيات يغنّين ; الأغاني 1 / 67.
2- انظر: مرقد العقيلة زينب (عليها السلام): 163 ـ 164.
قال الإمام الأوزاعي ـ فقيه الشام الكبير ـ ما أخذنا العطاء حتّى شهدنا على عليّ بالنفاق وتبرّأنا منه، وأُخذ علينا بذلك الطلاق والعتاق وأيمان البيعة، فلمّا عقلت أمري سألت مكحولا ويحيى بن أبي كثير وعطاء بن أبي رباح وعبـد الله بن عبيد بن عمير فقالوا: ليس عليك شيء إنّما أنت مكره، فلم تقرّ عيني حتّى فارقت نسائي، وأعتقت رقيقي، وخرجت من مالي، وكفّرت أيماني...(2).
وهكذا دُسّت في تاريخنا الضخم سفاسف ودسائس هي من لدات أفكار السماسرة ; طمعاً بالشهرة والنهمة، فلنكن على حذر منها، ولا نعتمد عليها إلاّ بعد الفحص والتنقيب عن الرواة ونزعاتهم وميولهم، ولا سيّما مثل ابن بكّار، الطامع في زبارج المتوكّل الناصـبي والكذّاب الأشـر.
أمّا كون الإمام (عليه السلام) قد سمّى ثلاثة من أبنائه باسم عمر وولدين باسم أبي بكر وعثمان، فالثابت أنّ للإمام (عليه السلام) ولداً واحداً اسمه عمر وأُمّه الصهباء ويقال لها: أُمّ حبيب التغلبية، كما نصّ على ذلك الشيخ المفيد في إرشاده، والمحبّ الطبري في ذخائـره(3).
أمّا أبو بكر: فهو كنية وليس اسماً، تَكنّى بها أحد أولاد الإمام واسمه: محمّـد الأصـغر، وأُمّه: ليلى بنت مسعود الدارمية.
____________
1- انظر: مروج الذهب 3 / 42.
2- انظر: سير أعلام النبلاء 7 / 130..
والحال أنّ بغض عليّ (عليه السلام) قد جعله النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) علامة النفاق، كما هو المعروف من الحديث الصحيح الّذي رواه مسلم 1 / 61 عن عليّ (عليه السلام): " إنّه لعهد النبيّ الأُمّي إلَيّ لا يحبّني إلاّ مؤمن ولا يبغضـني إلاّ منافق ". انتهى.
3- الإرشاد: 67، ذخائر العقبى: 117.
وبعد هذا، لم يثبت أنّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) كان قد سمّى أبناءه المذكورين بهذه الأسماء تعبيراً عن المودّة أو الحبّ لأحد ما، فلم نعثر في ذلك على أي تصريح أو دليل يثبته(2)، والإنسان قد يطلق اسماً ما على شخص من دون ملاحظة لمناسبة معينة، كما هو شأن الأسماء المرتجلة ـ وهو حال اسم العَلم ـ في الغالب...
كما أنّ التسمّي بهذه الأسماء والتكنّي بهذه الكنى كان شائعاً في ذلك الزمان، ولم يكن مختصّاً بالمذكورين كي تصحّ الدعوى في هذا الجانب...
وأيضاً أنّ الأسماء المذكورة لم يكن لها حينذاك من المعنى الرمزي والتميّز الاعتباري الّذي لها الآن بحيث يكون إطلاقها على شخص ما ذا معنىً مقصود، فهذا ممّا يحتاج إلى فترة تاريخية، وعوامل مساعدة لتحقيقه، وهو الأمر الّذي حصل بعد ذلك! فلا يعدّ ما ذكره الكاتب دليلا في المطلوب!
____________
1- ذخائر العقبى ـ للمحبّ الطبري الشافعي ـ: 133.
2- نعم وردت رواية مرسلة في بحار الأنوار 31 / 307 تدلّ على أنّ الإمام (عليه السلام) سمّى ولده عثمان على اسم: عثمان بن مظعون، الصحابي الجليل الّذي توفّي في حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمشهود له بالفضل والفضيلة ; فراجع ثمّة!
نترك الإجابة للكاتب نفسه!
الفصل الرابع
موقف الإمام (عليه السلام)
من الشورى والنصّ
" هذه نصوص جلية من نهج البلاغة كلّها تثبت أنّ سيّدنا عليّاً (رضي الله عنه)كان يرى أنّ الخلافة تثبت بالشورى، وأنّ أهل الشأن هم المرجع في ذلك، فإن اختاروا رجلا وسمّوه إماماً، وجب على الجميع التسليم له بالأمر، والإيفاء بالميثاق، وإن كان فيهم من يرى نفسه أحقّ بها من غيره.
بل فيها التنصيص على صحّة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، وأنّها مرضية لله تعالى ; لأنّها تمّت بإجماع المهاجرين والأنصار ومشورتهم، وهي الطريقة الشرعية الّتي لا يجوز لأحد أن يردّ عليها أو الخروج عنها، ولا يوجد ـ في الكتاب كلّه ـ نصّ واحد صريح أو خفي يشير إلى أنّه يرى الخلافة حقّ إلهي خاصّ به دون غيره، وإليك بعض من هذه النصوص:
1 ـ من كتاب له (عليه السلام) إلى معاوية: أنّه بايعني القوم الّذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يردّ، وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضاً، فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردّوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتّباعه غير سبيل المؤمنين وولاّه الله ما تولّى. ج 3 ص 7.
ـ قال الدليمي ـ: في هذا النصّ جملة أُمور، منها:
(2) وهذا يعني أنّ النصّ ليس شرطاً فيها.
(3) إنّ الشورى للمهاجرين والأنصار.
(4) إنّ إجماع المهاجرين والأنصار حجّة شرعية لا يجوز مخالفتها.
(5) استدلاله بهذا الإجماع على رضا الله وأنّهم إذا أجمعوا على أمر (كان ذلك لله رضاً).
(6) ولذلك فإنّ خلافة الأئمّة الثلاثة قبله شرعية ومرضية لله تعالى.
(7) استدلاله على صحّة بيعته بصحّة بيعة الخلفاء الّذين سبقوه، إذ إنّها تمّت على النحو الّذي تمّت به البيعات السابقة.
(8) إنّ مثل هذه البيعة لا يعتبر فيها قول من خالف وشذّ ممّن حضر أو غاب.
(9) إنّ الطاعن بخلافتهم متّبع غير سبيل المؤمنين، وخارج عن أمر المسلمين، يُردّ إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على ذلك، وولاّه الله ما تولّى "(1).
أقـول:
ذكرنا سابقاً في بداية الكتاب: أنّ ممّا يؤاخذ على الكاتب في كتيّبه هذا هو أنّه قد يكون قرأ كتاب نهج البلاغة قراءة ناقصة، أو أنّه قرأ النهج كلّه لكنّه أخذ منه ما يسند مدّعاه أو ما يوافق آراء مذهبه ـ حسبما يتصوّر ـ فقط، وإلاّ كيف يفوته الاطّلاع على تلك النصوص الواضحة والجلية في مطالبة الإمام (عليه السلام) بحقّه في الخلافة، وتظلّمه من ذلك في أكثر من مورد من
____________
1- ص 12 ـ 13.
أمّا الكتاب الّذي بعثه الامام (عليه السلام) إلى معاوية، والمشار إليه سابقاً، فقد تحدّث فيه الإمام (عليه السلام) وفق قاعدة الإلزام، وهي القاعدة الّتي تستعمل في مقام الاحتجاج على الخصوم وإلزامهم بما ألزموا به أنفسهم من قبل..
بمعنى: إن كان معاوية يرى صحّة خلافة الّذين سبقوا الإمام (عليه السلام) وأنّ المسلمين قد بايعوهم، فما يكون لمعاوية بعد هذا إلاّ الانصياع للأمر الّذي ألزم به نفسه ويبايع للإمام (عليه السلام) ; لأنّه قد بايع الإمام (عليه السلام) القوم الّذين بايعوا السابقين عليه، وإلاّ فيكون ممّن اتّبع هواه فتردّى، الأمر الّذي أشار إليه الإمام (عليه السلام) في نهاية رسالته إليه: ولعمري يا معاوية! لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ الناس من دم عثمان، ولتعلمنّ أنّي كنت في عزلة عنه إلاّ أن تتجنّى ; فتجـنَّ ما بدا لك(1)!
وكلامه (عليه السلام) هنا إنّما جرى وفق مقتضى الحال، وحسب القواعد البلاغية الّتي تلزم الإتيان للمنكِر بكلّ الوسائل الممكنة للإثبات، وقاعدة الإلزام هنا هي إحدى الوسائل النافعة في المقام، بل وجدنا مَن يذكر هذا الإلزام الّذي أشرنا إليه هنا، بصريح العبارة عنه (عليه السلام)..
قال الخوارزمي الحنفي في كتابه المناقب: ومن كتب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، قبل نهضته إلى صِـفّين، إلى معاوية ; لأخذ الحجّة عليه: أمّا بعد.. فإنّه لزمتك بيعتي بالمدينة وأنت بالشام ; لأنّه بايعني القوم الّذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوا عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يردّ... إلى قوله: ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك لَتجدني أبرأ قريش من دم عثمان، واعلم إنّك من الطلقاء الّذين
____________
1- نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّـد عبـده ـ 3 / 7.
فقوله (عليه السلام): " وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار... "، بمعنى: إن كنت يا معاوية لا ترى الخلافة بالنصّ الإلهي، وإنّها تتمّ عندك بالاختيار واجتماع أهل الحلّ والعقد، فأمرها لا يعدو المهاجرين والأنصار، فهم أهل الشـورى، وها هم قد بايعوني كما بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان من قبل، فما كان لك يا معاوية أن تردّ هذه البيعة أو تحتال عليها بأي حال.
وقوله (عليه السلام): " فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً، كان ذلك لله رضا... " يشـتمل على دلالة لطيفة، وهو أقـرب للتعريـض منه بالإقرار ; فمن المعلوم أنّه قد ناهض الخلفاء الثلاثة الّذين سبقوه (عليه السلام) جمع كبير من المهاجرين والأنصار، كما هو الثابت تاريخياً(2).
ويشير (عليه السلام) إلى أنّه الوحيد الذي اجتمع عليه المهاجرون والأنصار بأغلبية غالبة في المدينة، وقد قال (عليه السلام) يصف هذه الحال في خطبة له: فما راعني إلاّ والناس كعرف الضبع إليَّ ينثالون علَيّ من كلّ جانب حتّى لقد وطئ الحسنان، وشُـقّ عطفاي، مجتمعين حولي كربيضـة الغنم(3).
____________
1- انظر تمام كتابه (عليه السلام) في المناقب ـ للخوارزمي ـ: 202 ـ 203.
2- انظر كلّ من ذكر أخبار السقيفة، وتخلّف جماعة من الأنصار والمهاجرين ومعظم بني هاشم عن بيعة أبي بكر في حوادث سنة 11 هـ من: تاريخ الطبري 2 / 445، الكامل في التاريخ 2 / 325، البداية والنهاية 5 / 265، وغيرهم.
ولك أن تراجع أيضاً اعتراض بعض الصحابة على تنصيب أبي بكر لعمر نهاية حياته، وأيضاً معارضـة آخرين لعبـد الرحمن بن عوف عندما قرّر اختيار عثمان في قصّة الشـورى المعروفة.. فلا يوجد إجماع على الثلاثة الّذين سبقوا الإمام (عليه السلام).
3- عرف الضـبع: ما كثر من عنقها من الشعر ; وهو ثخين يضرب به المثل في الكثرة والازدحام. وينثالون: يتتابعون مزدحمين، وكان هذا الازدحام لأجل البيعة على الخلافة. وربيضة الغنم: الطائفة الرابضة من الغنم ; يصف ازدحامهم حوله وجثومهم بين يديه.
نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّـد عبـده ـ 1 / 36.
قال أبو جعفر الاسكافي المعتزلي ـ المتوفّى سنة 220 هـ ـ: فلمّا قُتل عثمان تداك الناس على عليّ بن أبي طالب بالرغبة والطلب له بعد أن أتوا مسـجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وحضـر المهاجرون والأنصار وأجمع رأيهم على عليّ بن أبي طالب بالإجماع منهم أنّه أوْلى بها من غيره، وأنّه لا نظير له في زمانه، فقاموا إليه حتّى استخرجوه من منزله، وقالوا له: أبسط يدك نبايعك. فقبضها ومدّوها، ولمّا رأى تداكهم عليه واجتماعهم، قال: لا أُبايعكم إلاّ في مسـجد النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ظاهراً، فإن كرهني قوم لم أُبايع، فأتى المسـجد وخرج الناس إلى المسـجد، ونادى مناديه.
فيروى عن ابن عبّـاس أنّه قال: إنّي والله لمتخوّف أن يتكلّم بعض السفهاء، أو مَن قتل عليّ أباه أو أخاه في مغازي رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فيقول: لا حاجة لنا بعليّ بن أبي طالب، فيمتنع عن البيعة.
قال: فلم يتكلّم أحد إلاّ بالتسليم والرضا(3).
____________
1- سيأتي البيان عن أسباب تمنّعه (عليه السلام) من البيعة في أوّل أمره مع الناس.
2- نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّـد عبـده ـ 2 / 222.
3- انظر: المعيار والموازنة: 50.
أقـول:
ومثل هذه البيعة التي نالت هذا المستوى من التسليم والرضا عند المهاجرين والأنصار لم تتحقّق لغيره (عليه السلام)، فكانت بيعته هي البيعة الوحيدة التي لله فيها رضاً حسب النص الذي أورده الكاتب من نهج البلاغة ; فتدبّر ذلك.
أمّا الموارد الّتي تحدّث فيها الإمام (عليه السلام) عن حقّه في الخلافة، وأنكر الدليمي وجودها في النهج فنذكر منها:
1 ـ ما جاء عنه (عليه السلام) في الخطبة المعروفة بـ: " الشقشقية "(1)، حيث قال (عليه السلام): " أما والله لقد تقمّصـها(2) ابن أبي قحافة وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى، ينحدر عنّي السيل، ولا يرقى إلَيَّ الطير(3)، فسدلت دونها ثوباً، وطويت عنها كشحاً(4)، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها
____________
1- سمّيت بذلك لأنّ الإمام (عليه السلام) توقّف عن الخطبة لعارض عرض له أثناءها ثمّ طلب ابن عبّـاس بعدها من الإمام (عليه السلام) أن يطرد في خطبته من حيث أفاض، فقال له الإمام (عليه السلام): " هيهات يا ابن عبّاس! تلك شقشقة هدرت ثمّ قرّت ".
وللوقوف على صحّة هذه الخطبة ونسبتها للإمام (عليه السلام)، بل نسبة النهج كلّه اليه، راجع ـ بالإضافة لما ذكرناه في أوّل الكتاب ـ: الغدير 4 / 173.
2- تقمّصـها: أي لبسها كالقميص.
3- محلّ القطب من الرحى، ينحدر عنّي السيل، ولا يرقى إليَّ الطير: دلالة على علوّ مكانته عند الله.
4- فسدلت: كناية عن غضّ النظر عنها، وسدل الثوب: أرخى. طوى عنها كشحا: مال عنها.
أقول:
فإذا كانت الخلافة شورى، وهي الطريقة الشرعية لها، كما يقول الدليمي، وقد تمّت بالإجماع على أبي بكر، وأنّ الله راض عن هذه الخلافة ; فلِمَ يتظلّم (عليه السلام) هنا ويقول بعد انعقادها: " وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير "؟!
ثمّ يقول (عليه السلام): " فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، أرى تراثي نهباً... " إلى آخر كلامه الدالّ بكلّ وضوح على اغتصاب الخلافة منه، وأنّ القوم باختيارهم رجلا منهم قد أدخلوا المسلمين في طخية عمياء يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه، كلّ ذلك بياناً منه (عليه السلام) على شـدّة الفتنة الّتي أوقعوا المسلمين فيها.
____________
1- يكدح: يسعى سعي الجهود.
2- أحجى: ألزم، جدير، أقرب إلى العقل.
3- الشجا: ما اعترض في الحلق من عظم أو نحوه، والجملتان كناية عن شدّة ما أضـمره من الأذى. التراث: الميراث.
4- فأدلى بها: ألقى بها إليه.
5- راجع بقيّة الخطبة في شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 1 / 151 وما بعدها.