الصفحة 233
قال: إذا كثرت جهّالكم وقلّت علماؤكم، وكثرت خطباؤكم وقلّت فقهاؤكم، وكثرت أُمراؤكم وقلّت أُمناؤكم، وتفقّه لغير الدين والتمست الدنيا بعمل الآخـرة(1).

هذا كلّه مع أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عن سُباب المسلم وقتاله وقال ـ كما جاء في صحيح البخاري ـ: " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر "(2).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) بخصوص عليّ (عليه السلام) بالذات: " مَن سبّ عليّاً فقد سبّني، ومَن سبّني فقد سـبّ الله، ومَن سـبّ الله أكبّه الله على منخريه في نار جهنّم "(3).

وفي ختام ملاحظتنا:

أود أن ألفت نظر القارئ الكريم إلى أنّه بمعرفتنا أنّ العام الّذي انتصرت فيه القوّة الأُموية الغاشمة، المتمثّلة بمعاوية، على حكومة أهل البيت (عليهم السلام)، المتمثّلة بالإمام الحسن (عليه السلام)، سُمّي بـ: " عام الجماعة ".

____________

1- كنز العمّال 11 / 254 يرويه عن: ابن أبي شيبة، وابن حمّاد في الفتن.

2- صحيح البخاري 1 / 17 كتاب الإيمان، باب: اتّباع الجنائز من الإيمان.

3- الرياض النضرة 3 / 122، مسند أحمد 6 / 323، المستدرك على الصحيحين 3 / 130 وصحّحه، وافقه الذهبي كما في تلخيص المستدرك، مجمع الزوائد 9 / 130 ; قال الهيثمي: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح، غير أبي عبـد الله الجدلي ; وهو ثقة، الجامع الصغير 2 / 608، كنز العمّال 11 / 573 و 602 ; يرويه عن ابن عساكر وابن النجار.

وقد ورد في رواية الحاكم ما هذا لفظه: دخلت على أُمّ سلمة ـ رضي الله عنها ـ فقالت لي أيسـبُّ رسول الله فيكم؟ فقال: معاذ الله! ـ أو سبحان الله ـ. فقالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " مَن سـبّ عليّاً فقد سبّني " ; قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد.


الصفحة 234
ومن ملاحظتنا السابقة بأنّ الأُمويين جعلوا سـبّ عليّ (عليه السلام) سُنّة يشبُّ عليها الصغير ويهرم عليها الكبير، حتّى إنّهم كانوا يتصايحون بوجه أميرهم الّذي ينزل من المنبر ولم يسـبّ عليّاً (عليه السلام) ويقولون له: السُـنّة السُـنّة! تركت السُـنّة..

من ذلك كلّه نعلم أنّ الأُمويّين هم المقصودون بتسمية: " أهل السُـنّة والجماعة "، أي أنّهم أهل سُـنّة سـبّ عليّ (عليه السلام)، والاجتماع على بغضـه ومعاداته، ومعاداة أوليائه وشـيعته.

ولم نجـد إلى الآن أصلا صحيحاً قامت عليه هذه التسمية، سوى أنّها خرجت من بين أحضان الأُمويّين واشتهرت بين أتباعهم، حتّى جعلها الجوزجاني الشامي قاعدة عنده في بيان الملتزم بالسُـنّة من التارك لها، كما مرّ ذكره قبل قليل، وإن كان الكثير من إخواننا العامّة يجهل أصل هذه التسمية والمراد منها.

بل إنّك لتجد رجال الجرح والتعديل في علم الحديث عند القوم لم يطلقوا صفة الصلابة في السُـنّة إلاّ على مَن ثبت عندهم أنّه كان عثمانياً، أي ممّن عُرف ببُغض عليّ (عليه السلام) ولعنه، والبراءة منه، واتّهامه بقتل عثمان بن عفّان..

فهذا ابن حجر يذكر في كتابه تهذيب التهذيب: أنّ عبـد الله بن إدريس الأزدي كان صاحب " سُـنّة وجماعة "، وكان صلباً في السُنّة مرضياً، وكان عثمانياً(1).

____________

1- راجع: تهذيب التهذيب 5 / 127 ; والمعروف أنّ العثمانيّين يلعنون عليّاً ويتّهمونه بقتل عثمان بن عفّان.


الصفحة 235
وينقل في توثيقه لعبـد الله بن عوف البصري: إنّه موثّق، وله عبادة وصلابة في السُـنّة وشـدّة على البدع ; قال ابن سعد: كان عثمانياً(1).

أمّا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني ـ المارّ ذكره ـ فقد قال عنه: إنّه كان حريزي المذهب ـ أي: على مذهب حريز بن عثمان الدمشقي(2)، المعروف بالنصب والعداء لأهل البيت (عليهم السلام) ـ وقال ابن حبّان: إنّه كان صلباً في السُـنّة(3).

وأيضاً جاء في التهذيب في شأن حمّاد بن زيد، قال ابن مهدي فيه: لم أرَ أحداً قط أعلم بالسُـنّة ولا بالحديث الّذي يدخل فيه السُـنّة من حمّاد ابن زيد... وحمّاد هذا قال ابن سعد فيه: كان عثمانياً، وكان ثقة ثبتاً

____________

1- تهذيب التهذيب 5 / 305.

2- عدّه الذهبي في تذكرة الحفّاظ 1 / 176، وسير أعلام النبلاء 7 / 76، والسيوطي في طبقات الحفّاظ: 78، وابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب 1 / 257 من حفّاظ الحديث، وهو ناصبي معروف، روى له البخاري والأربعة، سئل عنه أحمد ابن حنبل؟ فقال: ثقة ثقة. وقال: ليس بالشام أثبت من حريز. وثّقه ابن معين ودحيم وأحمد بن يحيى المفضّـل بن غسّان والعجلي وأبو حاتم وابن عدي والقطّان..

قال ابن المديني: لم يزل مَن أدركناه من أصحابنا يوثّقونه، كان يلعن أمير المؤمنين (عليه السلام) وينتقصـه وينال منه، قال ابن حبّان: كان يلعن عليّاً بالغداة سبعين مرّة وبالعشـية سبعين مرّة.

راجع: تهذيب التهذيب 2 / 207، ميزان الاعتدال 1 / 475، تهذيب الكمال ـ ليوسف المزي ـ 5 / 568، وسير أعلام النبلاء 7 / 79، وتاريخ بغداد 8 / 265... وفي شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 4 / 70: عن محمّـد بن عاصم، صاحب الخانات: قال لنا حريز بن عثمان: أنتم يا أهل العراق! تحبّون عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ونحن نبغضـه. قالوا: لِمَ؟! قال: لأنّه قتل أجدادي. انتهى.

3- تهذيب التهذيب 1 / 159.


الصفحة 236
حجّـة(1).

ولا نريد الخوض في هذا الباب، أي باب توثيق حفّاظ أهل السُـنّة للرواة المُبغضـين والمعادين لأمير المؤمنين (عليه السلام) ; إذ له مواضعه الخاصّة، بل الإشارة إلى أنّ هذه الوثاقة لا تستقيم مع شهادة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لمبغضـي عليّ (عليه السلام) بالنفاق ; إذ أنّ في كلمات بعضهم عبارات أكثر تصريحاً في توثيق هؤلاء الرواة مع التصريح بتحاملهم وبغضـهم لعليّ (عليه السلام) في آن واحد..

فهذا عبـد الله بن شقيق ـ مثلا ـ يقول أحمد بن حنبل عنه: ثقة، وكان يحمل على عليّ. ويقول ابن خرّاش فيه: كان ثقة، وكان يبغض عليّاً. أمّا ابن معين فقد قال في حقّه: ثقة من خيار المسلمين(2).

مع أنّ أهل السُـنّة قد ذكروا في أوثق كتبهم ـ صحيح مسلم ـ أنّ عليّاً (عليه السلام) قال: " إنّه لعهد النبيّ الأُمّي إليَّ أنّه لا يحبّني إلاّ مؤمن ولا يبغضني إلاّ منافق "(3).

وأيضاً ثبت عن غير واحد من الصحابة قوله: ما كنّا نعرف المنافقين إلاّ ببُغض عليّ بن أبي طالب(4).

وهذا في الواقع إشكال نطرحه على المسلمين الّذين يأتمنون هؤلاء الحـفّاظ والأئمّـة على دينـهم ويأخـذونه عنهم، وهـو: كيف استقام الأمر لأُولئك النواصـب عند أئمّة الحديث هؤلاء، واطمئنّوا لأخـذ الرواية عنهم

____________

1- تهذيب التهذيب 3 / 10.

2- تهذيب التهذيب 5 / 254.

3- صحيح مسلم 1 / 61.

4- الرياض النضرة 3 / 190، المستدرك على الصحيحين 3 / 139 وصحّحه، المعجم الأوسط 2 / 328، كنز العمّال 13 / 106 عن الخطيب في المتّفق، تفسير القرطبي 1 / 267، الدرّ المنثور 6 / 66.


الصفحة 237
مع شهادة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهم بالنفاق، خاصّة إذا عُلم أنّ إحدى صفات المنافقين أنّهم: إذا حدّثوا كذبوا؟!!

وهذا الفعل من هؤلاء الأئمّة يؤكّد تماماً ما نذهب إليه بشأن حقيقة التسمّي بهذه التسمية السابقة والمراد الحقيقي منها، وهو يعد مصداقاً لقوله تعالى: { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِى }(1)، ولله مصائر العباد!!

وقد سار العبّاسـيون على الخطّ الّذي اختطّه الأُمويون من قبل، وهو خطّ العداء لآل محمّـد (عليهم السلام)، مع أنّ العبّاسـيّين جاؤوا على أشلاء الأُمويّين وللقضاء على دولتهم، بدعوى الرضا من آل البيت (عليهم السلام)، ولكن الّذي حصل أنّه ما إن استتبّت لهم الأُمور حتّى عاد خطّ النصب والعداء لأهل بيت النبوّة (عليهم السلام) كما كان من قبل، بل ازداد حـدّة وشـدّة... وهذا هو شأن المنتفعين في كلّ زمان ومكان!

ذكر ابن حجر: عن عبـد الله بن أحمد بن حنبل، قال: لمّا حدّث نصر بن عليّ بن صهبان بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذ بيد الحسن والحسين وقال: " مَن أحبّني وأحـبّ هذين وأباهما وأُمّهما كان في درجتي يوم القيامة "، أمر المتوكّل بضـربه ألف سـوط، فكلّمه فيه جعفر بن عبـد الواحد وجعل يقول له: يا أمير المؤمنين! هذا من أهل السُـنّة، فلم يزل به حتّى تركه(2).

قال الدليمي:

" ومن وصيّة له (عليه السلام) لمعسكره قبل لقاء العدوّ بصِفّين: (لا تقاتلوهم

____________

1- سورة الإسراء (بني إسرائيل): الآية 84.

2- انظر: ترجمة نصر بن علي بن صهبان في تهذيب التهذيب 10 / 384.


الصفحة 238
حتّى يبدأوكم ; فإنّكم بحـمد الله على حجّة، وترككم إيّاهم حتّى يبدأوكم حجّـة أُخرى لكم عليهم، فإذا كانت الهزيمة بإذن الله فلا تقتلوا مدبراً ولا تصـيبوا معوراً ـ العاجز عن حماية نفسه ـ ولا تجهزوا على جريح ولا تهيجوا النساء بأذىً وإن شتمْن أعراضكم وسببْن أُمراءكم ; فإنّهنّ ضعيفات القوى والأنفس والعقول، إن كنّا لنؤمَر بالكفّ عنهنّ وإنّهنّ لمشركات). ج 3 ص 14 ـ 15.

ـ قال: ـ وهكذا يعاملهم بوصفهم مسلمين، ويطبّق عليهم أحكام الطائفتين المؤمنتـين، فينهى عن اتّباع مُدبِرهم، وقتل عاجزهم، والإجهاز على جريحهم، وإلاّ فإنّ الكفّار يتبع مدبرهم ويقتل جريحهم. وقوله (رضي الله عنه)عن النساء: (إن كنّا لنؤمر بالكفّ عنهنّ وإنّهنّ لمشركات)، أي: فكيف لا نكفّ عنهنّ وإنّهنّ لمسلمات؟! "(1).

أقول:

قد ذكرنا سابقاً أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعليّ (عليه السلام): إنّ القوم سيُفتنون بأموالهم، ويمنّون بدينهم على ربّهم، ويتمنّون رحمته، ويأمنون سطوته ويستحلّون حرامه بالشبهات الكاذبة والأهواء الساهية... ـ إلى قول عليّ (عليه السلام): قلت: يا رسول الله! فبأي المنازل أنزلهم عند ذلك؟ أبمنزلة ردّة، أم بمنزلة فتنة؟ فقال: بمنزلة فتنة(2).

والمراد بالفتنة بالنسبة للمسلمين هو: الاختبار والامتحان، ليعلمنّ الله الّذين صدقوا في دينهم وليعلمنّ الكاذبين، كما جاء في قوله تعالى:

____________

1- ص 20 ـ 21.

2- نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّـد عبـده ـ 2 / 50.


الصفحة 239
{ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَـذِبِينَ }(1).

والبغاة من المسلمين ـ كأهل صفّين وغيرهم من الّذين قاتلوا عليّاً (عليه السلام) ـ هم من الّذين فُتنوا، وجاروا أثر ذلك من الحقّ إلى الباطل، وقد جاء الأمر الإلهي بقتالهم كما في قوله تعالى { فَقَـتِلُواْ الَّتِى تَبْغِى }(2)، وكذلك جاء الأمر النبوي للمسلمين بقتالهم ونصـرة عليّ (عليه السلام) كما في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " يا عليّ! ستقاتلك الفئة الباغية وأنت على الحقّ فمَن لم ينصـرك يومئذ فليس منّي "(3).

وقد فرّق الإمام عليّ (عليه السلام) في حروبه ـ كما هو الثابت تاريخياً ـ في الإجهاز على الجريح واتّباع المُدبِر وقتل الأسير بين مَن كان له فئة يرجع إليها، ومَن لم يكن كذلك..

فأمّا الّذين كانت لهم فئة يرجعون إليها فقد قاتلهم مُقبلين ومُدبرين، كأهل صِفّين، وأمّا مَن لم يكن لهم فئة يرجعون إليها فقد قاتلهم مقبلين وتركهم مُدبرين، ولم يجهز على جريحهم، كأهل الجمل.

قال الشيخ عبـد الله الهرري الشافعي، مفتي الصومال، في كتابه المقالات السنية: وقد اتّفق العلماء على أنّ عليّاً (عليه السلام) هو أوّل مَن قاتل البغاة فشـغل بهم عن قتال الكفّار المعلنين، كاليهود والنصارى وغيرهم، حتّى

____________

1- سورة العنكبوت: الآيتان 2 و 3.

2- سورة الحجرات: الآية 9.

3- تاريخ دمشق 12 / 473، كنز العمّال 11 / 351 و 613، سبل الهدى والرشاد 11 / 296.


الصفحة 240
قال الإمام الشافعي (رضي الله عنه): أخذنا أحكام البغاة من سير عليّ(1).

وقد جاء عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) في جواب مسائل يحيى بن أكثم:

" وأمّا قولك: إنّ عليّاً (عليه السلام) قتل أهل صِفّين مقبلين ومدبرين، وأجهز على جريحهم، وأنّه يوم الجمل لم يتبع موليّاً، ولم يجهز على جريح، ومَن ألقى سلاحه أمنه، ومَن دخل داره أمنه ; فإنّ أهل الجمل قُتل إمامهم ولم يكن لهم فئة يرجعون إليها، وإنّما رجع القوم إلى منازلهم غير محاربين ولا مخالفين ولا منابذين، ورضـوا بالكفّ عنهم، فكان الحكم فيهم رفع السيف عنهم، والكفّ عن أذاهم إذ لم يطلبوا عليه أعواناً.

وأهل صِفّين كانوا يرجعون إلى فئة مستعدّة، وإمام يجمع لهم السلاح والدروع والرماح والسيوف، ويسني لهم العطاء، ويهيّئ لهم الانزال، ويعود مريضهم، ويجبر كسيرهم، ويداوي جريحهم، ويحمل راجلهم، ويكسو حاسرهم، ويردّهم فيرجعون إلى محاربتهم وقتالهم.

فلم يساوِ بين الفريقين في الحكم، لِما عرف من الحكم من قاتل أهل التوحيد، لكنّه شرح ذلك لهم، فمَن رغب عرض على السيف أو يتوب عن ذلك "(2).

والأوامر في الخطبة الّتي ذكرها الكاتب عن الإمام (عليه السلام) لجيشه، إنّما كانت قبل لقاء العدوّ بصِـفّين، وكان تنفيذها يتمّ في حال هزيمة العدوّ وانكساره، كما هو الظاهر من الخطبة نفسها، فيكون التصرّف حينئذ كالّذي

____________

1- المقالات السنية: 204.

2- وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة 15 / 75.


الصفحة 241
كان من سيرته (عليه السلام) مع أهل الجمل، وقد مرّ بيانه.

ثمّ قال الدليمي عند ذكره لكراهة الإمام (عليه السلام) القتال، ودعاؤه بصلاح أمر الأُمّة وجمع شملها:

" من كلام له (عليه السلام) في التحكيم: (ولعلّ الله أن يصلح في هذه الهدنة أمر هذه الأُمّة). ج 1 ص 5.

وقوله (عليه السلام): (اللّهمّ احقن دماءنا ودماءهم واصلح ذات بيننا وبينهم). ج 2 ص 185 ـ 186.

ـ قال: ـ ولقد استجاب الله دعاؤه بولده الحسن (عليه السلام) الّذي صدقت فيه نبوءة جدّه (صلى الله عليه وسلم)، قال: (إنّ ابني هذا سـيّد، وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المؤمنين). رواه البخاري ومسلم(1). ولو لم يكن معاوية مسلماً لما جاز للحسـن (رضي الله عنه) أن يبايعه ويسلّم له أُمرة المؤمنين وخلافة المسلمين "(2).

أقول:

من الثابت تاريخياً أنّ الإمام الحسن (عليه السلام) بعد أن رأى تقاعس أصحابه

____________

1- ورد الحديث في صحيح البخاري 4 / 74 ـ كما في باب فضائل الحسن والحسين (عليهما السلام) وفي مواضـع أُخرى ـ هكذا: قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): " ابني هذا سيّد، ولعلّ الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين "..

وهذا الحديث لم يثبت عند الشيعة الإمامية ; بل عدّوه موضوعاً لتضليل الأُمّة عن الأحاديث المتواترة الواردة في قتال الفئة الباغية، مع ملاحظة أنّ معاوية قد جنّد لهذا الغرض أُناساً، وجعل لهم جعلا يرغب فيه أمثال أبي هريرة، وسمرة بن جندب ; انظر: الشيعة والحاكمون ـ للشيخ مغنية ـ: 63 الطبعة الثانية.

2- ص 22.


الصفحة 242
عن القتال، وتثاقلهم عن الجهاد، صالح معاوية بن أبي سفيان حقناً لدماء المسلمين، واحتفاظاً بالبقية الباقية من المؤمنين، وإخماداً لشـدّة الفتنة الّتي أوقعهم بها معاوية " الطليق "(1)، الّذي كان من المؤلّفة قلوبهم(2)..

فقد افتتن به أهل الشام افتتاناً كبيراً إلى درجة أنّه كان يقول لهم أنّه من أهل البيت الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً وكانوا يصدّقونه، وقد بلغ من افتتانهم به أن صلّى بهم صلاة الجمعة يوم الأربعاء ولم يعترضوا عليه.

قال المسعودي في مروج الذهب: إنّ رجلا من أهل الكوفة دخل على بعير له إلى دمشـق في حال منصرفهم عن صِـفّين فتعلّق به رجلٌ من دمشـق فقال: هذه ناقتي، أُخذت منّي بصِـفّين.

فارتفع أمرهما إلى معاوية وأقام الدمشقي خمسين رجلا بيّنة يشهدون أنّها ناقته، فقضى معاوية على الكوفي وأمر بتسليم البعير إليه.

فقال الكوفي: أصلحك الله! إنّه جمل وليس بناقة.

فقال معاوية: هذا حكم قد مضى.

____________

1- معاوية بن أبي سفيان من الّذين ظفر بهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد فتح مكّة وأطلقهم، وقال لهم: " اذهبوا فأنتم الطلقاء ". والطلقاء لم يُسلموا إلاّ كارهين، أي بعد أن أُحـيط بهم من كلّ جانـب، فهم ممّن يصـحّ أن يقال بحقّهم: إنّهم لم يُسلموا ولكن استسلموا..

وهذا المعنى قد أشار إليه الإمام عليّ (عليه السلام) في إحدى كلماته الّتي ذكرناها سابقاً فقد كان (عليه السلام) يقول لأصحابه عند الحرب: " فو الّذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أسلموا ولكن استسلموا، وأسـرُّوا الكفر، فلمّا وجدوا أعواناً عليه أظهروه ".

نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّـد عبـده ـ 3 / 16 ; وانظر: تاريخ الطبري 6 / 4 في كيفيّة دخول معاوية وأبيه في الإسلام كارهَين.

2- تاريخ الخلفاء: 221.


الصفحة 243
ودسّ إلى الكوفي بعد تفرّقهم فأحضـره وسأله عن ثمن بعيره، فدفع إليه ضِـعفه، وبرّه وأحسـن إليه، وقال له: أبلغ عليّاً أنّي أُقابله بمائة ألف ما فيهم مَن يُفرّق بين الناقة والجمل.

ثمّ قال المسعودي: ولقد بلغ من أمرهم في طاعتهم له أنّه صلّى بهم عند مسيرهم إلى صِفّين الجمعة يوم الأربعاء، وأعاروه رؤوسهم عند القتال وحملوه بها، وركنوا إلى قول عمرو بن العاص: أنّ عليّاً هو الّذي قتل عمّار ابن ياسر حين أخرجه لنصـرته، ثمّ ارتقى بهم الأمر في طاعته إلى أن جعلوا لعن عليّ سُـنّة ينشأ عليها الصغير ويهلك عليها الكبير(1).

والصلح الّذي تمّ بين الإمام الحسن (عليه السلام) ومعاوية، إنّما كان على شروط اشترطها الإمام الحسن (عليه السلام) وقبلها معاوية، منها: أن ترجع الخلافة بـعد وفاة معاوية إلى الحسـن أو إلى أخيه الحسين (عليه السلام) في حال وفاة الحسن (عليه السلام) قبل معاوية(2)، ولكن معاوية الطليق لم يفِ بما تعاهد عليه مع الإمام الحسن (عليه السلام)، ولم يتورّع عن إعلان ذلك أمام الملأ أجمعين.

قال معاوية لمّا دخل النخيلة قبل أن يصل إلى الكوفة: والله إنّي ما قاتلتكم لتصـلّوا ولا لتصـوموا ولا لتحجّـوا ولا لتزكّوا، إنّكم لتفعلون ذلك، إنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم(3)، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون. انتهى.

قال سعيد بن سويد: كان عبـد الرحمن بن شريك إذا حدّث بذلك

____________

1- مروج الذهب 3 / 41.

2- انظر: فتح الباري 13 / 56، تاريخ مدينة دمشق 13 / 261، البداية والنهاية 8 / 19، الإمامة والسياسة 1 / 185.

3- واعتراف معاوية هنا بالسبب الذي من أجله قاتل عليّاً (عليه السلام) يقطع عذر المعتذرين عنه بأنّه إنّما كان يقاتل للطلب بدم عثمان!


الصفحة 244
يقول: هذا والله هو التهتّك(1)..

وقال أبو إسـحاق السـبيعي: إنّ معاوية قال في خطبته في النخـيلة: ألا إنّ كلّ شـيء أعطيته الحسن بن عليّ تحت قدمي هاتين لا أفي به. قال أبو إسحاق: وكان والله غدّاراً(2).

وفِعل معاوية هذا، يدلّ على شـدّة تهاونه بالأوامر الإلهية الّتي تلزم المسلم باحترام العهود والوفاء بها، كقوله تعالى: { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهدَ كَانَ مَسْـُولا }(3)، وقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَـنِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أوْلَـبِكَ لاَ خَلَـقَ لَهُمْ فِى الاَْخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ وَلاَيُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }(4).

قال الإمام عليّ (عليه السلام) في عهده لمالك الأشـتر: " وإن عقدت بينك وبين عدوّك عـقدة، أو ألبسته منك ذمّة، فحِطْ عهدك بالوفاء، وأرعَ ذمّتك بالأمانة، واجعل نفسك جُنّة دون ما أعطيت ; فإنّه ليس من فرائض الله شيء الناس أشـدّ عليه اجتماعاً مع تفرّق أهوائهم وتشتّت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين(5) ; لِما استوبلوا من عواقب الغدر، فلا تغدرنّ بذمّتك، ولا تخيسـنّ بعهدك،

____________

1- شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 16 / 46.

2- المصنّف ـ لابن أبي شيبة ـ 7 / 251، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 16 / 46، تاريخ مدينة دمشق 59 / 150، سير أعلام النبلاء 3 / 147، البداية والنهاية 8 / 140.

3- سورة الإسراء: الآية 34.

4- سورة آل عمران: الآية 77.

5- أي رغم كونهم دون المسلمين في الأخلاق والعقائد، لكنّهم التزموا بوفاء العهود فيما بينهم، فالمسلمون أوْلى بالالتزام بذلك.


الصفحة 245
فلا تختلف عدوّك ; فإنّه لا يجترئ على الله إلاّ جاهل شقي "(1).

أمّا كون الإمام الحسن (عليه السلام) قد صالح معاوية، مسلّماً بخلافته، وكونه أمـيراً للمؤمـنين، كما يريـد الدليمي أن يوحـي للقارئ بذلك، فهذا ممّا لا يقول به عاقل فضلا عن فاضل ; فأمر معاوية في البغي والعدوان أشهر من نار على علم، أليس هو ـ بنصّ أحاديث الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ قائد الفئة الباغية وأمير القاسطين وزعيم الدعاة إلى النار؟!

وهو الملعون على لسان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في أكثر من موضع وموضع(2) ; فكيف يكون الباغي والقاسط والملعون خليفة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على المسلمين، وأميراً للمؤمنين؟!

اللّهمّ إلاّ إذا اختلّت عقول الناس فباتت ترى الحقّ باطلا والباطل حقّاً، والمنكر معروفاً والمعروف منكراً!! نسأل الله العافية.

وقد ثبت أيضاً أنّ معاوية كان يتطاول على مقام النبوّة، بل يسعى جاهداً وهو في سـدّة الحكم على القضاء على الإسلام نكاية بالنبيّ الأكرم محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم)..

ففي حديث مطرف بن المغيرة: إنّ معاوية قال للمغيرة بعد أن ذكر ملك أبي بكر، وعمر، وعثمان، وأنّهم هلكوا فهلك ذكرهم:... وإنّ أخا هاشم يصرخ في كلّ يوم خمس مرّات: " أشهد أنّ محمّـداً رسول الله "، فأيّ عمل يبقى مع هذا لا أُمّ لك؟!... والله " دفناً دفناً "(3).

____________

1- نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّـد عبـده ـ 3 / 106.

2- ستأتي تخريجاته في الصفحات اللاحقة.

3- النصائح الكافية: 124، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 5 / 129، مروج الذهب 3 / 454.


الصفحة 246
وروى أحمد بن أبي طاهر في كتابه أخبار الملوك: إنّ معاوية سمع المؤذّن يقول: " أشهد أنّ محمّـداً رسول الله " فقال: لله أبوك يا بن عبـد الله! لقد كنت عالي الهمّة، ما رضـيت لنفسك إلاّ أن يقرن اسمك باسم ربّ العالمين(1).

فهذه الأخبار شاهدة على أنّ معاوية لم يؤمن بالنبيّ محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان ينظر إليه نظرة أهل الجاهلية في التزاحم على العناوين والمناصب، بل إنّ بني أُمية شـنّوا حربهم الشعواء على الإسلام، قاصدين إيّاه بشخص النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) ; لأنّهم رأوه السبب في هدم بيوتهم، والتقليل من شأنهم.

ذكر المدائني: عن أبي زكريا العجلاني، عن أبي حازم العجلاني، عن أبي هريرة، قال: حجّ أبو بكر (رضي الله عنه) ومعه أبو سفيان بن حرب، فكلّم أبو بكر أبا سفيان فرفع صوته، فقال أبو قحافة: خفّض صوتك يا أبا بكر عن ابن حرب!

فقال أبو بكر: يا أبا قحافة! إنّ الله بنى بالإسلام بيوتاً كانت غير مبنية، وهدم به بيوتاً كانت في الجاهلية مبنية، وبيت أبي سفيان ممّا هدم(2). انتهى.

وممّا جاء في لعن معاوية على لسان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم):

أخرج الطبري في تاريخه: أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قد رأى أبا سفيان مقبلا

____________

1- شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 10 / 101.

2- النزاع والتخاصم: 59.


الصفحة 247
على حمار ومعاوية يقود به، ويزيد أبنه يسوق به، قال: " لعن الله القائد والراكب والسائق "(1).

وعن البرّاء بن عازب: أقبل أبو سفيان ومعه معاوية، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " اللّهمّ العن التابع والمتبوع، اللّهمّ عليك بالأقيعس "، فقال ابن البرّاء لأبيه: مَن الأقيعس؟ قال: معاوية(2).

وإلى هذا المعنى أشار محمّـد بن أبي بكر في رسالته إلى معاوية بقوله: وأنت اللعين ابن اللعين(3).

وفي تاريخ الطبري: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " يطلع من هذا الفجّ رجلٌ من أُمّتي يُحشـر على غير ملّتي "، فطلع معاوية(4).

وفي لفظ ابن مزاحم: " يطلع عليكم من هذا الفجّ رجلٌ يموت حين يموت على غير سُـنّتي "(5).

وأخرج نصـر بن مزاحم في كتاب صِـفّين، والطبري في تاريخه، والذهبي في سير أعلام النبلاء، من طريق أبي سعيد الخدري، وعبـد الله بن مسعود أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه "(6).

____________

1- تاريخ الطبري 8 / 185، النصائح الكافية لمَن يتولّى معاوية: 261.

2- وقعة صِـفّين: 217.

3- جمهرة رسائل العرب 1 / 475، مروج الذهب 2 / 59، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 3 / 189، أنساب الأشراف: 395، النصائح الكافية: 43.

4- تاريخ الطبري 8 / 186، النصائح الكافية: 261، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 15 / 176.

5- وقعة صِـفّين: 220.

6- وقعة صِـفّين: 216، تاريخ الطبري 8 / 186، سير أعلام النبلاء 3 / 149، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 15 / 176، تاريخ مدينة دمشق 59 / 155 و 156، النصائح الكافية: 58، الأنساب 3 / 95، تهذيب التهذيب 2 / 369.

وهذا الحديث صحيح السند ; راجع بيان صحّته من كتب أهل السُـنّة في موسـوعة الغدير 8 / 142 ـ 148.


الصفحة 248
ثمّ بعد ذلك انظر إلى خطبة الإمام الحسن (عليه السلام) أمام معاوية في الكوفة، حين طلب منه الأخير أن يقوم خطيباً، فقام الإمام (عليه السلام) وقال: " أمّا الخليفة مَن سار بكتاب الله وسُـنّة نبـيّه، وليس الخليفة مَن سار بالجَـور، ذلك رجل ملك ملكاً تمتّع به قليلا ثمّ تنخّـمه، تنقطع لذّته وتبقى تبعته، { وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين }(1) "(2).

قال ابن أبي الحديد: وانصرف الحسن إلى المدينة فأقام بها، وأراد معاوية البيعة لابنه يزيد فلم يكن عليه شيء أثقل من أمر الحسن بن عليّ، وسعد بن أبي وقّاص، فدّس إليهما سُـمّاً فماتا منه(3).

وممّا مرّ، تجـد أنّ الإمام الحسن (عليه السلام) قد عرّف الخليفة في خطبته بأنّه: " مَن سار بكتاب الله وسُـنّة نبـيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) "، لا مَن سار بالجَور، فذلك لا يعدُّ خليفة بل مَلِكاً وطالب إمارة، كما هو حال معاوية تماماً، الّذي اعترف بذلك عن نفسه في ما ذكرناه من كلامه سابقاً، ويعترف بذلك أهل السُـنّة بالإجماع..

وقد قال الإمام عليّ (عليه السلام) في ما ذُكر له من كلماته القصار في النهج:

____________

1- سورة الأنبياء: الآية 111.

2- مقاتل الطالبيين: 47، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 16 / 49.

وفي رواية محـبّ الدين الطبري في ذخائر العقبى: 140 قال الحسن (عليه السلام): " يا معاوية! إنّ الخليفة مَن سار بسيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعمل بطاعته، وليس الخليفة مَن دان بالجَور، وعطّل السُـنن واتّخـذ الدنيا أُمّاً وأباً ".

3- شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 16 / 49 ; وانظر: كيفية قتل معاوية للحسن السبط (عليه السلام) بالسُمّ في موسـوعة الغدير 11 / 8 ـ 12.


الصفحة 249
" السلطان وزعة الله في أرضـه "، أي: إنّ الحاكم الحقّ هو مَن يمنع من مخالفة الشريعة، والألف واللام هنا في السلطان للجنس(1).

وظلم بني أُمية في حكمهم، ومعاوية بالذات، أشهر من أن يخفى أو يُبرّر، وإن شئت فارجع إلى كلمات الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة الّتي يشير فيها إلى جوْر بني أُمية وظلمهم، كقوله (عليه السلام): " والله لا يزالون حتّى لا يدعوا لله محرّماً إلاّ استحلُّوه، ولا عقداً إلاّ حلُّوه، وحتّى لا يبقى بيت مدر ولا وَبر إلاّ دخله ظلمُهم "(2).

كما روي عن الحسن (عليه السلام) قوله في بني أُمية: " إنّ بني أُمية هم الشجرة الملعونة في القرآن. قال (عليه السلام): إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رفع له ملك بني أُمية فنظر إليهم يعلون منبره واحداً واحداً فشـقّ ذلك عليه فأنزل الله تعالى في ذلك قرآناً، قال: { وَمَا جَعَلْنَا الرُّءْيَا الَّتِى أَرَيْنَـكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِى الْقُرْءَانِ }(3) " (4).

____________

1- نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّـد عبـده ـ 4 / 78.

2- نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّـد عبـده ـ 1 / 190..

وانظر: الغدير 10 / 178 وما بعدها ; لتقف على مخالفات معاوية للكتاب والسُـنّة واستهزائه بهما.

وقد أخرج الشيخ محمّـد ناصر الدين الألباني في كتابه سلسلة الأحاديث الصحيحة حديثاً للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول فيه: أوّل من يغيّر سُـنّتي رجلٌ من بني أُمية. انتهى.

3- سورة الإسراء: الآية 60.

4- شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 15 / 175 و 16 / 16، شواهد التنزيل 2 / 457، تفسير القرطبي 10 / 282 و 286، تفسسير ابن كثير 3 / 52، الدرّ المنثور 4 / 191، تاريخ الطبري 8 / 185 ; قال الطبري: ولا اختلاف بين أحد أنّه أراد بها بني أُمية.


الصفحة 250

أقول:

فكيف يكون معاوية، بعد كلّ الّذي ذكرناه عنه، خليفةً للمسلمين وأميراً للمؤمنين؟!

إنّما الرجل قاتل من أجل المُلك والإمارة، كما اعترف لأهل العراق بنفسه، وكما أقرّ الكاتب بذلك في أوّل ادّعائه بأنّ الخلاف كان سياسياً لا دينياً، أي لأجل الكرسي والمنصـب، وليس له علاقة من قريب أو بعيد بالشريعة أو المحافظة على تطبيقها..

بل لو اطّلعت على سيرة معاوية الّتي كتبها المسلمون لا تجد عنده شيئاً من خصال المؤمنين ; ودونك ما كتبناه عنه في هذا العرض الموجز، أو ما أرشدناك إليه من المصادر..

بل إنّ الناظر بتمعّن وتدقـيق يجـد أنّ صلح الإمام الحسـن (عليه السلام) مع معاوية، من حيث الأهداف والنتائج، يشـبه الصلح الّذي أقامه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)مع مشركي قريش وقائدهم أبو سفيان ـ والد معاوية ـ في الحديبية، وإن شئت الزيادة في البحث والاطّلاع بشأن صلح الإمام الحسن (عليه السلام) بشكل أكثر تفصيلا فارجع إلى كتابي العلمين: الشيخ مرتضى آل ياسين، والشيخ باقر شريف القرشي ; فإنّك ستجـد ما ينفعك في المقام إن شاء الله تعالى.


*  *  *


الصفحة 251