الصفحة 169

الدعاء والعبادة عند أهل البيت (عليهم السلام)

دعا يدعو دعاء، والدعاء هو النداء لغة، أما شرعا فهو مخاطبة الخالق سبحانه وتعالى، ومناجاته في الصلاة، وفي سائر العبادات.

وقد أمر الله سبحانه وتعالى عبيده بالإنابة إليه والدعاء بين يديه بإخلاص وتكفل بالإجابة فقال: { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } (1)، وقال جلّ من قائل أيضاً: { وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ } (2)، وقال كذلك: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } (3).

ولما كان الدعاء هو السبيل الوحيد إلى مخاطبة الخالق لتعاليه واستعلائه على مخلوقاته، لم تجز مخاطبته كما يتخاطب الناس فيما بينهم ولا محادثته؛ لأنّ المخاطبة والمحادثة لا يفيدان في طلب شيء من الذات الإلهية، كأن تقول خاطبت أو حادثت مستشعرا فيهما التساوي والندية، في حين أنك إذا قلت دعوت، أو ناجيت، أو توسلت، أو تضرعت، فهي لائقة بالمقام الإلهي ومنصرفة إليه.

وقد جاء في الحديث: " الدعاء مخ العبادة "(4).

____________

(1) غافر: 60.

(2) البقرة: 186.

(3) الأعراف: 55.

(4) الوسائل للحر العاملي 7: 27، ح8615، فتح الباري لابن حجر 11: 79، كشف الخفاء للعجلوني 1: 403.


الصفحة 170

لأنّ عبادة العبد من دون لجوء وتوجه إلى الله تعالى، ودعاء مرفوع منه إلى خالقه كي يستجيب له فيما يحتاجه في دنياه وآخرته؛ تعب وعناء بلا فائدة، واستخفاف بروح العبودية التي جعلها الباري تعالى عنوان كُلّ عاقل أدرك حقيقة العبودية لله تعالى.

والدعاء لب العبادة وجوهرها، فإذا كانت العبادة صَدَفة فالدعاء لؤلؤها، وإذا كانت جسداً فهو روحها، وإذا ما نزعت اللؤلؤة من موضعها صارت الصَدَفة بلا قيمة، كالجسد الذي إذا فارقته روحه صار بلا حركة وعرضة للتغّير والتحلّل والاندثار، كذلك فإنّ الصلاة التي هي معراج المؤمن إلى ربِّه، إذا كانت خالية من لغة الوصال والقرب، عجفاء من الدعاء فإنّها لا تحقق العروج المؤمل، ولا القرب المراد ولا الزلفى المرتجاة، وقد تترك نتيجة عكسية. والحديث الذي جاء مشبها للدعاء بالمخ دالٌ في مضمونه على قيمة ذلك التوجه وأهميته في البناء العبادي، فلا تستقيم صلاة بلا دعاء، وحال المصلي الذي لا يتجه في صلاته بالدعاء إلى خالقه حال المستكبر الذي لا يعي من مقام العبودية غير حركات القراءة والركوع والتسبيح والسجود والتشهد دون الالتفات إلى العلة من الصلاة والعبادة.

وقد جاء عن الإمام أبي جعفر محمّد بن علي الباقر خامس أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ } قال: " هو الدعاء وأفضل العبادة الدعاء "(1).

و قال في قوله تعالى: { إِنَّ إِبْراهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } (2) الاوّاه هو الدّعّاء.

____________

(1) الكافي للكليني 2: 466، ح1.

(2) المصدر السابق 2: 466، ح1.


الصفحة 171

وسئل (عليه السلام) : أي العبادة أفضل؟

فقال: " ما من شيء أفضل عند الله من أن يسأل ويطلب ما عنده "(1).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: " أحبّ الإعمال إلى الله تعالى في الأرض الدعاء ، وكان (عليه السلام) رجلا دعّاء "(2).

وإذا أمعنت النظر في حال المسلمين اليوم على الاختلاف مشاربهم وفرقهم تلاحظ عزوفاً عند معظمهم عن دعاء القنوت في أغلب الصلوات المفروضة، وكُلّ الصلوات المسنونة، لتنكبهم عن مورده الأساسي وجهلهم به كلغة تخاطب مع الخالق تعالى.

أمّا عن تنكبهم عن مورده، وجهلهم به فإنّ الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، شأنه في ذلك شأن بقية المرسلين (عليهم السلام) ، لم يتركوا أمراً من أمور الدين إلاّ بيّنوه، ولم يألوا أقوامهم نصيحة، فادوا ما عليهم، وتركوا آثارهم وشرائعهم للهداة والمستحفظين من آلهم (عليهم السلام) ، كذلك فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع أمته ونصح لهم بما لم ينصحه أحد من قبله، والنصوص النقلية والعقلية التي بين أيدي المسلمين اليوم لا تدع مجالاً للشك في ذلك، كقوله (صلى الله عليه وآله): " إنّي أوشك أن أدعى فأجيب وإنّي تارك فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي وأنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما "(3) والعترة الطاهرة التي أذهب الله سبحانه وتعالى عنها الرجس وطهرها تطهيراً، لأجل تأهيلها لحمل عبء الشريعة، وحفظاً وتطبيقاً، دون أن يتطرق شك من حملتها، ولا تحريف في أدائها.

____________

(1) المصدر السابق 2: 466، ح2.

(2) المصدر السابق 2: 467، ح8.

(3) حديث الثقلين من الأحاديث المتواترة ، وقد تقدم تخريجه .


الصفحة 172

وقوله (صلى الله عليه وآله): " إنّما مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق "(1). وهو من الأحاديث الواضحة في دلالتها على مقام الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) من الأمّة، وتشبيههم بسفينة نوح يؤكد على وجوب اللجوء إليهم نجاة من طوفان التحريف والنفاق، وأن المتخلف عنهم غارق لا محالة في ظلمات بعضها فوق بعض.

وتخلف الأمّة عن هداتها وأدلائها ومستحفظيها، واستعاضتها عنهم بالغاصبين لحقهم الإلهي، ومن قلب بعد ذلك ظهر المجنّ للدين كُلّه، جعلها عوض أن تتقدم في فهم شعائرها ومعتقداتها على الوجه الذي جاء به الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، تتولى متقهقرة عن مراجعها حتى تباعدت الشقة بينها وبينهم، فنسوا حظاً مما ذُكّروا به، وأسلموا أنفسهم لمجهولي الحال وقليلي العلم، يسوقونهم إلى سلاطين الجور وأئمة الضلال سوق النعاج، يحلون لهم اتباعهم ويحرمون الخروج عليهم وخلافهم، وكان فيما كان منهم أن نزعوا عنهم لُبّ عبادتهم وجوهرها، لكي لا يصل شيء منها إلى الله تعالى فيردون مواردهم.

قال تعالى: { وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ } (2) ولو كان في هؤلاء المنتسبين إلى الإسلام من يعقل لرجع إلى أعظم الآيات القرآنية بدل نبذها وتركها، والغريب والعجيب أنك تسمعهم لا يبسملون (بسم الله الرّحمان الرّحيم) في الفرائض الخمس بدعوى أنها مكروهة، ويبسملون في نوافل شهر رمضان، بدعوى أنها من السنة!! أفيكون في كلام الله تعالى

____________

(1) المستدرك للحاكم 2: 343 وقال: " هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، 3: 151، مجمع الزوائد للهيثمي 9: 168، إمتاع الأسماع للمقريزي 11: 178، سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي 1: 490.

(2) الأحزاب: 67.


الصفحة 173

ما هو مكروه حتى ينعتون البسملة بذلك النعت، أم إن أسمائه تعالى الثلاثة (الله الرّحمان الرّحيم) هي مكروهة عندهم؟! ومن أكبر جحوداً ممن يستهين بكلام الله تعالى وينعته بالكراهة تطاولاً عليه. قال الله تعالى: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمالاً ? الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } (1).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " بسم الله الرّحمان الرّحيم أقرب إلى اسم الله الأعظم من بياض العين لسوادها "(2).

أما الحقيقة التي خفيت عن كثير من المسلمين، والعلّة التي تسبّبت في جريان ذلك المجرى التعيس في عبادتهم، فهي أن معاوية بن أبي سفيان وحزبه كانوا شديدي العداء لعلي بن أبي طالب وأهل بيته (عليهم السلام) ، فسعوا إلى إبطال كُلّ ما هو متصل به حتى إنّه أزال البسملة التي كان أمير المؤمنين يجهر بها في كُلّ صلاة حتى السرّية منها، قد أعماه الحقد عن ثابتة أن صلاة علي هي عينها صلاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان ممّن أخرج هذا المعنى النيسابوري في هامش تفسير الطبري حيث قال: " وكان مذهبه الجهر بها يعني البسملة ومن اقتدى به لن يضل قال (صلى الله عليه وآله): اللهم أدر الحق معه حيث دار...

فلمّا وصلت دولة بني أمية بالغوا في المنع من الجهر سعياً في إبطال آثار علي (عليه السلام) فلعل أنسا خاف منهم، فلهذا اضطربت أقواله فيه "(3).

ثُمّ يعمد هؤلاء أيضاً إلى دعاء القنوت في الصلاة فيزيلونه منها تبعا لما ورثوه، دون التفات أو تساؤل عن سبب استثناء صلاة الصبح من ذلك،

____________

(1) الكهف: 103- 104.

(2) الأمالي للشيخ الصدوق: 740.

(3) تفسير الفخر الرازي 1: 206.


الصفحة 174

والرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) يقول: " أفضل الصلاة طول القنوت "(1) من غير مفاضلة لصلاة على أخرى.

وقد ورد عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ، كثير من الأحاديث التي تؤكد على القيمة الروحية للدعاء، ودوره في البناء العقائدي، نورد منها الآتي:

- الدعاء هو العبادة، الدعاء سلاح المؤمن، ليس شيء أكرم على الله من الدعاء(2).

- لا يردّ البلاء إلا الدعاء، أعدّوا للبلاء الدعاء، الدعاء عماد الدين(3).

- الدعاء مفاتيح النجاح، ومقاليد الفلاح، وخير الدعاء ما صدر عن صدر تقي، وقلب نقي وفي المناجاة سبب النجاة، وبالإخلاص يكون الخلاص، وإذا اشتد الفزع فإلى الله المفزع(4).

والدعاء واجب لا تستقيم الصلاة إلاّ به، ولا تعرج من دونه، وكان من سنن سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله)، ومتعهد لباب الدعاء الذي فتحه المولى سبحانه وتعالى بينه وبين خلقه، حاثاً لأمّته على الطلب منه، والرجاء لديه، ولم يؤثر عنه أنّه صلّى صلاة واحدة من دون قنوت.

وما أرى الذين تنكبوا عن القنوت في الصلاة، إلا اتباعاً لمن زين لهم إهمال ذلك الباب، واستهانة بقيمته العباديّة، ومن فقد الدعاء، حرم الإجابة، وكانت صلاته كأنها مكاء وتصدية، عوض أن تكون تخشعاً وقنوتاً، كما

____________

(1) بحار الأنوار للمجلسي 74: 70، ح1، مسند أحمد بن حنبل 3: 314، صحيح مسلم 2: 175، كتاب الأدعية، باب الترغيب في الدعاء والذكر .

(2) الوسائل للحر العاملي 7: 27 ح8615، الكافي للكليني 2: 468، ح1، بحار الأنوار للمجلسي 90: 300، ح37.

(3) عيون الحكم للليثي: 141، بحار الأنوار 90: 300، ح37.

(4) المصباح للكفعمي : 368.


الصفحة 175

يقول تعالى: { وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ } (1).

ومن أراد إحصاء الأحاديث والروايات التي تتحدث عن قنوت رسول الله (صلى الله عليه وآله) في جميع الصلوات المفروضة والمسنونة فليراجع كتب الحديث والسنن عند من تسموا بسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ففيها ما يقيم الدليل على أنّ سيد المرسلين كان يقنت في كُلّ صلواته، لعله إذا فعل ذلك يتقيد بسنة الرسول (صلى الله عليه وآله) التي نسب لها مذهبه قولاً، وخرج منها فعلاً وعملاً، إلى تحريف وبدع ما انزل الله بها من سلطان، كبتر الصلاة عليه، واستثناء آله الأطهار، اتباعاً لآثار بني أمية ومن حذا حذوهم، وفي بتر الصلاة على النبيّ (صلى الله عليه وآله) دليل على تأصل جذور الحقد الأموي في أمة الإسلام، وبقاء هذا التحريف دليلاً على جرائم حكام بني أمية في حق الإسلام وأهله، فلماذا الإصرار على التمادي في مسالك أئمة الظلم والجور، والله تعالى دعانا إلى منابذتهم واتباع سبيل أوليائه الذين اصطفاهم على بقية مخلوقاته، فرضي بهم عبيداً خلصا له، ورضوا به رباً عظيماً ليس كمثله شيء، فأقر طريقهم، وبارك نهجهم، وجعله السبيل الوحيد إليه.

وإقامة صلاة التراويح في المسجد جماعة، ونسبة ذلك الفعل له، رغم شدة غضبه عليه، والتعبير عنه بقوله (صلى الله عليه وآله): " ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أنه سيكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم، فإنّ خير صلاة المرء في بيته إلاّ صلاة المكتوبة "(2)، واعترف مالك بن أنس في موطّأه، وروايته له عن عمر بن الخطاب أنه هو الذي جمع الناس في المسجد على قارئ واحدٍ، بعد أن

____________

(1) البقرة: 238.

(2) صحيح البخاري 7: 99، كتاب الأدب، صحيح مسلم 2: 188، كتاب الصلاة باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره .


الصفحة 176

وجدهم يصلّون أوزاعاً متفرقون، ولم يصلّ معهم، وإنّما مرّ عليهم بعد أن أمر أبي بن كعب أن يصلّي بهم، وقال: "نعمت البدعة هذه، والتي تنامون عنها أفضل من التي تقومون"(1).

وعمر شأنه شأن غيره من المسلمين، مكلف بتطبيق الشريعة، كما جاء بها رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ليس من حقه أن يدخل شيئاً فيها؛ لأنّ ذلك من مختصّات الوحي والنبوّة.

ولم تقم بدعة صلاة التراويح جماعة إلا في فترة من خلافته، وفي الحديث الذي يقول إنّه (صلى الله عليه وآله) كان يرغّب في قيام رمضان من دون أن يأمرهم بعزيمة، فيقول: " من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه "، فتوفي رسول الله(صلى الله عليه وآله) والأمر على ذلك النحو، ولم يتجرّأ الخليفة الأول أن يرى برأيه فيها(2).

ولما قام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بأعباء الإمامة مكرها بعدما انفرط عقدها، وألجأه الناس إليها إلجاء، أرسل ابنه الحسن إلى المسجد لإخراج الناس منه، وإبطال تلك البدعة. وبعد استشهاد علي (عليه السلام) ، واستتباب الأمر لمعاوية بالمكر والخديعة، أحيا كُلّ بدعة أماتها سيد الأوصياء، وأمات كُلّ سنة أقامها.

لقد أكد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وآله الأطهار (عليهم السلام) على أن نتعهّد بيوتنا بالصلاة، خاصة المسنونة منها كنوافل الصلوات اليومية، ونوافل شهر رمضان بقوله: " لا تجعلوا بيوتكم قبورا "(3)، أي لا تصلون فيها، ومن وطن نفسه على

____________

(1) موطأ الإمام مالك 1: 115.

(2) مسند أحمد 2: 281، صحيح البخاري 1: 14، كتاب الإيمان ، باب تطوع قيام رمضان، صحيح مسلم 2: 176، كتاب الصلاة ، باب الترغيب في قيام رمضان.

(3) مسند أحمد بن حنبل 2: 367، سنن ابن ماجة 1: 438، ح1377، فتح الباري لابن حجر 4: 234.


الصفحة 177

أداء نوافل الصلاة في المسجد فقد جعل بيته قبراً، وخالف أمر نبيّه (صلى الله عليه وآله)، وتجنب نصيحته.

واعطف على تلك صلاة ما أنزل الله بها من سلطان سمّوها صلاة الضحى، قالوا: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) صلاّها، واليك روايتها المتناقضة المتناثرة والتي تدل على عكس ما ذهبوا إليه:

عن عائشة أنها سئلت هل كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يصلي الضحى؟ قالت: " لا، إلاّ أن يجيء من مغيبه "(1) فتبين من الحديث أنه (صلى الله عليه وآله) لم يكن يصلي الضحى، والاستثناء الذي جاء لا يمكن أن يلغي النفي الثابت، لأنّ السفر حالة شاذة، وصلاته (صلى الله عليه وآله) عند قدومه لا تتفق دوماً مع التوقيت الذي وضعوه، وإنّما هي صلاة شكر على سلامة السفر، أو هي تحية للمسجد لأنّها ركعتان فقط.

وقد سئلت عائشة عن صلاة الضحى فقالت: " ما رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يصلّي سبحة الضحى قط "(2).

وعن عبد الرحمان بن أبي ليلى قال: " ما أخبرني أحد أنّه رأى النبيّ (صلى الله عليه وآله) يصلّي الضحى إلاّ أُمّ هانئ فإنّها حدّثت أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) دخل بيتها يوم فتح مكّة فصلى ثماني ركعات"(3).

وبما أنّه (صلى الله عليه وآله) لم يصلّ تلك الصلاة إلا يوم فتح مكة، فإنّها منصرفة إلى تفسير واحد يقول، إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) صلّى شكراً لله على فتح مكّة

____________

(1) مسند أحمد بن حنبل 6: 171، صحيح مسلم 2: 156، كتاب الصلاة ، باب استحباب صلاة الضحى.

(2) موطأ الإمام مالك 1: 152، نيل الأوطار للشوكاني 3: 79.

(3) مسند أحمد بن حنبل 6: 342، صحيح مسلم 2: 157 كتاب الصلاة، باب استحباب صلاة الضحى، صحيح ابن خزيمة 2: 234.


الصفحة 178

تلك الصلاة الخاصّة به.

ولم يأمر أمّ هانئ مثلا بأدائها، ولا فاطمة الزّهراء (عليها السلام) التي سترته في غسله، ولا أمر المسلمين بالقيام بها بعد أن أداها، ولا تسالم المسلمون على تلك الصلاة حتى وفاته، لذلك فإنّ تلك الصلاة بدعة ظاهرها طاعة، وباطنها خمول وتواكل، وكيف تستقيم صلاة في ذلك الوقت الحسّاس من بداية يوم والناس أصحاب معائش؟ ولماذا أصر الناس على أداء شعيرة لم يفعلها رسول الله (صلى الله عليه وآله) على النحو المعمول به عند السواد من اليوم، ولم يسمها بتلك التسمية ولا أمر بأدائها على ذلك الوجه؟ وحتى لو تأكد لدى هؤلاء المبتدعة خطأ ما هم فيه فإنهم سيعتذرون بأعذار لا تستقيم مع النصوص الصريحة { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شيئاً } (1).

لقد جاءت كثير من الآثار والروايات لتحدثنا عن عبادة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين وتبين لنا معالمها وأسرارها لنقتبس من هديها ونستنير بأنوارها امتثالا لأمر الله تعالى إذ يقول جل من قائل: { أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ } (2).

لأنه تعالى قد أوكل مهمة بيان عبادته وتفصيل أركانها وسننها وحركاتها وآدابها لرسوله (صلى الله عليه وآله) والمستحفظين من آله (عليهم السلام) . وعلى كُلّ مسلم امتثالاً لأمر الله أن يقتفي أثر الهداة الأبرار في تعبدهم، ولا يلتفت إلى من انحرف عن نهجهم القويم وصراطهم المستقيم، وخرج للناس بآثار وسنن مبتدعة في الشكل خاوية من المضمون، لم تزد قلوبهم وأرواحهم من الله إلا بعداً.

____________

(1) النجم: 28.

(2) الأنعام : 90.


الصفحة 179

وأنت أيّها المؤمن عندما تقيم شعائرك وتبني عبادتك، فإنّك ترجو القرب والزلفى من الله تعالى خالق الحياة ومنشئ الكائنات، وإذا لم يتم ذلك المؤمّل فالبحث عن الخلل من عدم نشوء تلك العلاقة، وتمتنها كالسّاقي الذي أرسل دلوه مع الدّلاء فعادت إليه فارغة.

ولمّا علمت أنّ الخالق تعالى عندما أمرنا بعبادته ودعائه، تكفّل بالقبول والإجابة، تبين بعد طول المدة وفقدان النتيجة، أنّ العلّة تكمن في نفسك وزادها، أمّا النفس فهي متمرّدة على مقام العبوديّة جموحة ميّالة إلى عاجل الدنيا، فإذا لم توطّنها في مقامها وتسلك بها طريق الآخرة شردت بك إلى المهالك. وأما الزاد فهو على أربعة أقسام:

الأوّل:

تحقيق معرفة الخالق والتيقن منه حتى تكون وجهتك في العبادة والدعاء والطلب معروفة ومعلومة.

الثاني:

موالاة أوليائه والبراءة من أعدائه لأن الدين جوهره الولاية والبراءة

الثالث:

تحقيق عبودية النفس بتوطينها على النفور من الإِنية والاعتداد

الرابع:

لغة التواصل والمناجاة، لأن التقرب إلى الله لا يكون إلا بالطيبات.

و من المفارقات أن ترى شخصا ظفر بمقابلة سلطان، كيف هيّأ نفسه، وطهر بدنه، ولبس أحسن ثيابه، وتعطر بأحسن عطر، وجهز من مديح الكلام،


الصفحة 180

ما يظن استيفاءه للقبول وقضاء الحاجة، تراه هو بعينه لا يبدي استعداداً، ولا يولي أهمية للقاء خالقه وخالق ذلك السلطان.

ولما علمنا أن باب معرفة الله سبحانه وتعالى هو اتباع رسوله، وتولي أهل بيته الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، فهم العارفون له والأدلاء عليه، والموصلون إلى حبه ورضوانه، فاتباعهم اتباعه، وحبهم حبه؛ اتجه الأخذ عنهم معالم الدين، والتسنن بسننهم في العبادة والدعاء، لأن ما جاؤوا به إلى الناس - ليس إلاّ ذلك الزاد، وتلك التربية والعلم الذي علمهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولقد نظرت نظر المتفحص في ما جاءنا من مأثور العبادة والدعاء، فلم أجد فيضا من الأسرار الإلهية والأنوار القدسية كفيض أهل البيت (عليهم السلام) في الدعاء والعبادة، لان استعدادهم للطاعة والعبادة كاستعداد سيدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولا وجه لمقارنة صفوة الخلق ببقيته، وقد جاء في حديث أخرجه مسلم النيسابوري قوله (صلى الله عليه وآله): " أيّها الناس عليكم من الأعمال ما تطيقون فإنّ الله لا يملّ حتى تملون، إنّ أحبّ الأعمال عند الله ما دووم عليه وان قلّ وكان آل محمّد (صلى الله عليه وآله) إذا عملوا عملاً أثبتوه "(1) إنّ المولى سبحانه وتعالى لا ينظر إلى أشكالنا ولا ألواننا، ولكنّه ينظر إلى أفئدتنا، فإنّ فيها مستقر اليقين، وبصائر الأخلاق في العبادة والدين، وكُلّ علم لم يكن متبوعاً بالعمل يخلف النفاق والافتراق عن الخالق تعالى.

وقد جاء عن الصادق (عليه السلام) قوله: " الخوف رقيب القلب، والرجاء شفيع النفس، ومن كان بالله عارفاً كان من الله خائفاً، وإليه راجياً، وهما جناحا الإيمان يطير بهما العبد المحقق إلى رضوان الله، وعينا عقله يبصر بهما وعد الله

____________

(1) صحيح مسلم 2: 188، كتاب الصلاة ، باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره .


الصفحة 181

ووعيده، والخوف طالع عدل الله باتقاء وعيده، والرجاء داعي فضل الله، وهو يحيي القلب والخوف يميت النفس "(1). عنه (عليه السلام) أيضاً أنه قرأ { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهَُ } ، فسئل: ما لنا ندعو فلا يستجيب لنا؟

فقال: " لأنّكم تدعون من لا تعرفون، وتسألون ما لا تفهمون "(2).

فالعبادة والدعاء مقامات القرب من الله تعالى، وملاذات اللجوء إليه في الأمن كما في الخوف وفي الرخاء كما في الشدة وفي الصحة كما في المرض، وإذا استقامت عبادة المرء ودعاؤه في أمنه، فإنها ستستقيم في خوفه، كذلك في باقي الحالات، ومن لم يستشعر في كُلّ صلاة ازدياد خوفه، وكثرة رجائه، وتضاؤل نفسه وتناهيها أمام عظمة الخالق وجلاله، فإنّه لم يحقق من عبادته ما يترجاه لنفسه، وما هو مطلوب منها، فهو كالمسافر الذي أخطأ الطريق، ولم يصب من سفره غير التعب والضيق، وعليه أن يراجع نفسه، ويتدارك ما بقي له حتى تكون مطيته موصلة إلى الغاية والمبتغى.

ولقد أدرك الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) من شدّة خوفه ورجائه أعلى درجات المحبة والأنس، فكان ينزوي عن الناس في غار حراء قبل البعثة، ليختلي بربه فيعبده ويناجيه ويدعوه، وبعد كفالته لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) من عمّه صار يصطحبه معه، ليقتبس من هديه فنون العبادة والمناجاة والذكر والتأمل، وفي ذلك يقول الإمام علي (عليه السلام) : " صلّيت قبل الناس بسبع سنين "(3)، وفي حديث عن محمّد بن علي الباقر خامس أئمة أهل البيت (عليهم السلام) قال: " هكذا صلّى

____________

(1) بحار الأنوار للمجلسي 67: 390، ح58.

(2) التوحيد للشيخ الصدوق: 289.

(3) سنن ابن ماجة 1: 44، المستدرك للحاكم 3: 112، المصنف لابن أبي شيبة 7: 498، كتاب السنة لابن أبي عاصم: 584، ح1324، ميزان الاعتدال للذهبي 3: 102.


الصفحة 182

أمير المؤمنين صلوات الله عليه بالناس الصبح بالعراق فلمّا انصرف وعظهم فبكى وأبكاهم من خوف الله ثُمّ قال: والله لقد عهدت أقواماً على عهد خليلي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وإنّهم ليصبحون ويمسون شعثاً غبراً خمصاً، بين أعينهم كركب المعزى، يبيتون لربهم سجداً وقياماً، يراوحون بين أقدامهم وجباههم، يناجون ربهم ويسألونه فكاك رقابهم من النار، والله لقد رايتهم مع ذلك وهم خائفون مشفقون "(1).

أمّا أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ، فقد قال في إحدى خطبه يوصي فيها أصحابه: " تعاهدوا أمر الصلاة، وحافظوا عليها، واستكثروا منها وتقربوا بها، فإنّها كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً، ألا تسمعون إلى جواب أهل النار حين سئلوا: { ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ . . }، وإنّها لتحتّ الذنوب حتّ الورق، وتطلقها إطلاق الربق، وشبهها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالحمة، تكون على باب الرجل، فهو يغتسل منها في اليوم والليلة خمس مرات، فما عسى أن يبقى عليه من الدرن. وقد عرف حقها رجال من المؤمنين، الذين لا تشغلهم عنها زينة متاع، ولا قرة عين من ولد ولا مال، يقول سبحانه: { رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ } ، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) نصباً بالصلاة بعد التبشير له بالجنّة، يقول الله سبحانه: { وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها } فكان يأمر أهله ويصبر عليها "(2).

وقد سأله ذعلب اليماني: " هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين؟

فقال (عليه السلام) : أفأعبد ما لا أرى؟

____________

(1) الكافي للكليني 2: 236، الأمالي للطوسي : 102.

(2) نهج البلاغة 2: 178، خطبة 199.


الصفحة 183

فقال: وكيف تراه؟

فقال: لا تراه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان، قريب من الأشياء غير ملامس، بعيد عنها غير مباين، متكلم لا بروية، مريد لا بهمّة، صانع لا بجارحة، لطيف لا يوصف بالخفاء، كبير لا يوصف بالجفاء، بصير لا يوصف بالحاسّة، رحيم لا يوصف بالرّقة، تعنوا الوجوه لعظمته، وتجيب القلوب من مخافته "(1).

لقد كان أمير المؤمنين - عليه السلام وآله - كما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) دائم الفكرة، طويل الحزن، كثير التوجه والدعاء، عرف الله حق معرفته، فملك قلبه واستولى على عرى فؤاده، حلّ الأنس بنفسه حلول المقيم، فتمسّكت به تمسّك الغريق، ولولاه لطارت روحه من بدنه شوقاً إلى الله تعالى.

عن جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) في حديث له عن جدّه وآله الكرام يقول: " والله ما أكل علي بن أبي طالب من الدنيا حراماً قط حتى مضى لسبيله، وما عرض له أمران قط هما لله رضا، إلاّ أخذ بأشدهما عليه في دينه، وما نزلت برسول الله (صلى الله عليه وآله) نازلة قط إلا دعاه ثقة به، ما أطاق أحد عمل رسول الله (صلى الله عليه وآله) من هذه الأمّة غيره، وان كان ليعمل عمل رجل كان وجهه بين الجنة والنار، يرجو ثواب هذه، ويخاف عقاب هذه، ولقد أعتق من ماله ألف مملوك في طلب وجه الله عزّ وجلّ، والنجاة من النار مما كدّ بيديه، ورشح منه جبينه وإنه كان ليقوت أهله بالزيت والخل والعجوة، وما كان لباسه إلا الكرابيس، إذا فضل شيء عن يده من كمه دعا بالجلم فقصه، وما أشبهه من ولده ولا أهل بيته أحد أقرب شبهاً به في لباسه وفقهه من علي بن الحسين (عليه السلام) ، ولقد دخل ابنه

____________

(1) نهج البلاغة 2: 99، خطبة 179.


الصفحة 184

أبو جعفر (عليه السلام) عليه، فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد، فرآه قد اصفر لونه من السهر, ورمضت عيناه من البكاء، ودبرت جبهته، وانخرم أنفه من السجود، وورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة، قال أبو جعفر (عليه السلام) : فلم أملك حين رأيته بتلك الحال من البكاء، فبكيت رحمة له، وإذا هو يفكر، فالتفت إلي بعد هنيهة من دخولي وقال: يا بني أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة علي بن أبي طالب (عليه السلام) . فأعطيته فقرأ منها شيئاً يسيرا ثُمّ تركها من يده متضجرا وقال: من يقوى على عبادة علي بن أبي طالب (عليه السلام) " (1) وما أقر به أعيان تلك العصور من العارفين والمتعلمين من أهل البيت (عليهم السلام) في العبادة، وتطاولهم لها فاستطالوا عليها، حتى أصبحوا زينة لها، واستوثقوا منها أجنحة القبول، فطارت بهم إلى أعلى درجات المخلوقين، فهم كما قال فيهم سيد الوصيين، ونفس رسول ربِّ العالمين (عليه السلام) : " هم قوم هجم بهم العلم على حقائق الأمور، فباشروا روح اليقين، واستلانوا بما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى، أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه "(2).

ذلك حال الأئمة الأطهار من أهل بيت النبوّة، ومنزل الوحي، ومختلف الملائكة، استنسخوا الدين عن جدهم استنساخا، وأشرب في أفئدتهم وقلوبهم إشراباً، قبل أن يلبسوه جلباباً، ففاض من قممهم الشامخة علوماً إلهية، وهداية ربانية. لم يستفزهم سلطان حتى يرشدوا الناس إلى حضرته، غير سلطان الحضرة القدسية، ولم يدعو إلى بابهم متهم حتى يكونوا إلى التهمة أقرب، بل

____________

(1) الإرشاد للشيخ المفيد 2: 142، مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب 1: 390.

(2) الأمالي للشيخ المفيد : 250، نهج السعادة للمحمودي 1: 496.


الصفحة 185

كانت سيرتهم في الناس بيضاء ناصعة للقاصي والداني، ومن حيث ما تناولت منها وجدت ضالتك، وأدركت حاجتك، بمنأى عن فقهاء السلاطين، ودعاة الجبابرة والظالمين، فبذلوا دماءهم ومهجهم من أجل أن تبقى شريعة الإسلام طاهرة نقية في بيوتهم ومقصد هديها، وأعطوا من أنفسهم ما لم يعط غيرهم، ليس من فراغ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، بل عن علم وعمل ودراية، وما أخرجه ابن حجر في صواعقه تتمة لحديث الثقلين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوله: " فلا تقدموهم فتهلكوا ولا تقصروا عنهم فتهلكوا ولا تعلموهم فإنّهم أعلم منكم "(1) إلا دليل على مقامه العالي عن استطالة الناس واستشرافهم له، ومكانكم الداني من الله تعالى دنو قاب قوسين أو أدنى، كرهوا لأنفسهم وشيعتهم ما كرهه الله تعالى لهم، وأحبوا لأنفسهم وشيعتهم ما أحبه الله تعالى لهم، فجرى ذلك المجرى من العلاقة على كامل أوجه الحياة، ولم يبق شيء متعلّق بدين أو دنيا إلا بيّنوه وأظهروه، وأمروا مواليهم بالعمل به أو الامتناع عنه.

للدعاء نصيب من الإيضاح والبيان عند أهل البيت (عليهم السلام) ليس على سبيل التأليف والكتابة، وإنّما على سبيل التطبيق والممارسة، وقد ظهرت آثاره عليهم من وقوفهم بين يدي الباري تعالى، وممّا علّموه مواليهم وتلامذتهم من أفعال وأقوال، تسوق المتعبد إلى المعرفة والقرب والحب، فهذا أبو عبد الله جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) يعلمنا أدب الدعاء فيقول: " احفظ أدب الدعاء وأنظر من تدعو، وحقق عظمة الله وكبريائه، وعاين بقلبك علمه بما في ضميرك، وإطلاعه على سرك، وما يكن فيه من الحق والباطل، وأعرف طريق

____________

(1) ورد هذا في ذيل حديث الثقلين الذي تقدم تواتره وراجع: المسترشد لابن جرير الطبري الشيعي: 467، بحار الأنوار للمجلسي 28: 219.


الصفحة 186

نجاتك وهلاكك، كي لا تدعو الله بشيء فيه هلاكك، وأنت تظن إن فيه نجاتك، قال الله تعالى: { وَيَدْعُ الإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الإِنْسانُ عَجُولاً } . وتفكر ماذا تسأل؟ ولماذا تسأل؟ والدعاء استجابة الكل منك للحق، وتذويب المهجة في مشاهدة الرب، وترك الاختيار جميعاً، وتسليم الأمور كُلّها ظاهرها وباطنها إلى الله، فإنّ لم تأت بشرط الدعاء، فلا تنتظر الإجابة, إنّه يعلم السر وأخفى، فلعلك تدعوه بشيء قد علم نيتك بخلاف ذلك، واعلم أنه لو لم يكن أمرنا الله بالدعاء، لكنا إذا أخلصنا الدعاء تفضل علينا بالإجابة، فكيف وقد تضمن ذلك لمن أتى بشرائط الدعاء، قال: فإذا أتيت بما ذكرت لك من شرائط الدعاء، وأخلصت سرك لوجهه، فأبشر بإحدى ثلاث، إما يعجل لك بما سالت، أو يدخر لك ما هو أعظم منه، وإما يصرف عنك من البلاء ما إن أرسله عليك لهلكت".(1)

والمتأمل في حال الصلاة وكيفيتها، والمتبصر لمعانيها وأسرارها، لا يراها إلا مقدمة لدعائه وندائه تعالى، وغلافا لقربه ورجائه، حتى يحقق القرب كُلّه، ويستأثر العبد بأغلب التوجه إلى الله تعالى.

جاء عنهم (عليهم السلام) في مقدمة الصلاة، وآداب التهيؤ لتحصيل التوجه والخشوع والانقطاع إليه تعالى الإتيان بسبع تكبيرات كالآتي:

تكبر ثلاثا وتقول: " اللهم أنت الملك الحق المبين، لا اله إلا أنت سبحانك وبحمدك، ظلمت نفسي فاغفر لي ذنبي، إنّه لا يغفر الذنوب إلا أنت ".

ثُمّ تكبر اثنتين وتقول: " لبيك وسعديك الخير بين يديك والشر ليس إليك المهدي من هديت عبدك ابن عبديك ذليل بين يديك منك وبك ولك واليك

____________

(1) مستدرك الوسائل للشيخ النوري 5: 272.


الصفحة 187

لا ملجأ ولا منجى ولا مفر منك إلا إليك سبحانك وحنانيك تباركت وتعاليت سبحانك ربِّ البيت الحرام ".

ثُمّ تكبر اثنتين وتقول: " وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين إنّ صلاتي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين ". ثُمّ تدخل في صلاتك بالاستعاذة ثُمّ القراءة.

ويكون دعاء القنوت في الركعة الثانية من الصلاة بعد القراءة، بأن يرفع يديه حيال وجهه فيدعو الله بمطالبه، ويستحب من الدعاء فيها بما جاء في الكتاب العزيز، وما نطق به المعصوم، لأنه الأقرب إلى الله تعالى، وإحدى الوسائل إليه.

وكما جاء الدعاء تهيئة ومقدمة للصلاة التي هي مقدمة للقرب والمناجاة، جاءت بقية العبادات والحالات التي يتقلب فيها المؤمن بين الأمن والخوف، يتقدمها الدعاء والتوجه، وما ورد عن أهل البيت الأطهار من الأدعية، كنز لا يقدر بثمن، ومورد كاف وينبوع معرفة صاف، وكُلّ تلك النفحات رسول الله أصلها، وهم عروتها الوثقى التي لا انفصام لها، فعلمهم (عليهم السلام) علمه (صلى الله عليه وآله)، وعبادتهم عبادته، ودعاؤهم دعاؤه. أليس أبو الحسن علي بن أبي طالب (عليه السلام) باب مدينة علم رسول الله؟ فلماذا ينحرف عنه المنحرفون؟ أليس في دعائه ومناجاته وتضرعه وعبادته نفحات قدس من نفحات رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والدعاء المسمى باسم صاحبه كميل بن زياد هو من علم النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وكذلك بقية ادعيته وكلامه، وكُلّ ما خرج إلى الناس من ذلك البيت الذي أذهب الله تعالى عنه الرجس وطهره تطهيراً هو من معين النبيّ وفيضه الصافي، هم مستودعه


الصفحة 188

وحفاظه ووعاته ورعاته.

والصحيفة السجادية المنسوبة للإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) هي مهجة الدعاء وخلاصته، بين فيها الإمام (عليه السلام) معالم العقائد ومكارم الأخلاق، وآداب الدنيا والدين، وما حوته من بديع المعاني، وصفوة الكلم يغنيك عن اللجوء إلى غيرهم (عليهم السلام) في الدعاء لأنه لا وجه للمقارنة بين الثريا والثرى. وتعميماً لفائدة دعائهم (عليهم السلام) على الأمّة الإسلامية ننقل جملة منها مأخوذة من كتب الدعاء المخصوصة والمعتبرة كمصباح المتهجد، والبلد الأمين، وجمال الأسبوع، ومفاتيح الجنان، ومفتاح الجنات، وضياء الصالحين وغيرها من كتب علماء أهل البيت (عليهم السلام) .

أما اتباع الأئمة الهداة، وشيعة إسلام أهل البيت (عليهم السلام) الخلص الذين مضوا على بصيرة من أمرهم، فقد سجل التاريخ لهم صفحات عزّ ومجد، وكانوا على مداه مضرباً للمثل العليا، وعناوين كبيرة في العبادة والأخلاق والزهد والكرم والشجاعة والعلوم بأصنافها، ولو أطلقت العنان لذكر أسمائهم لما وسعني المقام، ولكني سأتشرف بذكر بعض أركانهم، ليكون حافزا لمن يبتغي المزيد لبذل الجهد في معرفة الحقيقة التي ظلت مخفية عن الكثيرين: كسلمان الفارسي، وعمار بن ياسر، والمقداد الأسود، وأبو ذر الغفاري، ومالك الأشتر، وميثم التمار، وحجر بن عدي الكندي قدس سرهم الشريف.

وإذا التفت إلى العلوم العرفانية التي هي محصل المعارف والتطبيقات العبادية الحقة وجدت أنّ الأئمة الهداة واتباعهم قد وضعوا أسسها، وشكلوا من أعماق توجهاتهم خيوط نسيجها، فبرع من أخذ عنهم، وأبحر في السلوك إلى الله تعالى من تتلمذ عليهم، والإمام الخميني - قدس سرّه الشريف - في


الصفحة 189

كتاباته الآداب المعنوية للصلاة، وبقية كتبه كمصباح الهداية وجنود العقل والجهل، والأربعون حديثاً، وكذا بقية المراجع العظام الذين كتبوا في العرفان والأخلاق، كان مرجعهم إلى الأئمة الهداة، ومدار تحقيقاتهم في ما توصلوا إليه من معين صاف، وينبئ عن جدارتهم بالإمامة وقيادتهم للأمة رغم أنوف الحاسدين، وعداوة الظالمين.

وفي الختام، أليس في هذا كُلّه أدلة تفضي إلى القول بأنّ المعين الصافي الذي بحوزة أهل البيت (عليهم السلام) من عبادة ودعاء وأخلاق هو الإسلام الحق الذي لم تشبه شائبة حكومات الظلم؟

إنّ منظومة الهداة من آل محمّد متكاملة من الجانبين النظري والتطبيقي، لا اختلاف في أحكامها، ولا تضارب في تشريعاتها، من أقبل عليها غنم دينه، ومن فارقها خسره، إذ لا سبيل إلى الله تعالى غير سبيلهم، ولا صراط ارتضاه للناس غير صراطهم المستقيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.


الصفحة 190

الصفحة 191

هذا هو الصراط المستقيم

لما كان الدين مصدره الله تعالى خالق الكون، ومبتدع الحياة حصل لدينا يقين بأنّ منشئه قد أنزله كاملاً متجانساً ومتناسقاً، لا نقص فيه ولا شك في صحة وروده، ولا غبار يحجب عن قاصده الوضوح والإبصار، قال تعالى: { ما فَرَّطنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ‏ءٍ } (1)، وقال أيضاً: { وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ } (2)، قال كذلك: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً } (3).

وعلى ذلك فإنّ كُلّ الرسالات الإلهية نزلت إلى البشر كاملة، تامة غير منقوصة، ولا محتاجة إلى من يرفدها من المخلوقات بشيء من الأشياء.

وكُلّ من قال بأنّ الدين ناقص، أو أنّه مخصوص بمجال دون آخر، أو أنّه قاصر عن مواكبة تقدم البشر والزمن، أو أنّ الحكومة ليست من تفاصيله من الناحيتين التنصيصية والشرطية؛ فقد نسب إلى الله تعالى التقصير وسوء التقدير، وهو بالتالي قد اقتحم باب الكفر والعياذ بالله.

قد يعتقد القارئ عند هذا الحد أنني بصدد الحديث عن أعداء الإسلام والمحاربين له من خارج منظومته وما يكيدون له من مؤامرات، غير أنّ هذا الاعتقاد ليس طرفا من حديثنا بقدر ما نحن بصدد تناول بعض الخطوط التي

____________

(1) الأنعام: 38.

(2) النحل: 89.

(3) المائدة: 3.


الصفحة 192

نسبت نفسها للدين الخاتم، وتبوأت داخل أسواره مكاناً مرموقاً، ما كان لها أن تتبوأه لو انتبه المسلمون إلى محتوى أطروحاتها المتصلة بالعقيدة.

فعلى سبيل المثال: عندما تتبنى تلك الخطوط فكرة فصل الدين عن الحياة، بما روجته من أنّ النبيّ لا علم له بكثير من أمور الدنيا، كقصة تأبير النخل التي زخرت بها كتب المؤسسين لفكرة الفصل والتابعين لهم عليها، أو أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) غير معصوم في ما عدا الوحي، بل قد يخطئ أحياناً أثناء تبليغه، والاستدلال بتلك الروايات المدسوسة على النبيّ (صلى الله عليه وآله)، لإنفاذ مبدأ الفصل، ندرك خطورة الموقف، وجسامة الأمر، وأن المسألة ليست في مقام الإحصاء والذكر التاريخي بقدر ما هي عقيدة تحولت من طور الوضع والدس إلى طور التبني والتجذير، وتواصل مدها بتحريك من القوى المعادية للدين الخاتم، ودعم مركز على جميع الأصعدة، وقد تكللت جهود أعداء الإسلام بالنجاح عندما أمكنها تأسيس أفكار تشبه الدين، لكنّها بعيدة عنه، ومشوهة له، وزرعها في عقول عملائها، وتقوية شوكتهم، ثُمّ فرضهم على المسلمين بالقوة، مثل: العميل البريطاني محمّد بن عبد الوهاب، صاحب المذهب الملقب به الذي كان كارثة على الحجاز والعراق، وأصبح فكره المشوه والذي اعتنقه عدد من السذج والجهلة وباءً ينخر في جسد الأمّة من أقصاها إلى أقصاها، عانت منه وتعاني باكستان وأفغانستان، وقد ظهرت فقاقيع آثاره في ما يسمى بـ(فرسان الصحابة) أو (جيش الصحابة)، و(تنظيم القاعدة)، الذين والحق يقال - إنّ ما اقترفوه في حقّ الإسلام والمسلمين والبشرية جمعاء تحت عنوان محاربة الشرك والمشركين، يؤكد أنّهم من طينة محترفي القتل المجاني والبارد، ولا علاقة لهم بالإنسانية فضلاً عن التدين، وهم إلى صنف الوحوش أقرب منهم


الصفحة 193

إلى الناس، والى العمالة لأعداء الإسلام أميل منهم إلى الدين الخاتم.

الاصطفاء الإلهي مبدأ قرآني ثابت لايتغير وسمة الصراط المستقيم الكبرى:

لقد جاء في عدد من الآيات القرآنية ما يفيد بأنّ الله تعالى بحكم علمه بمكنون سرّ خلقه وإطلاعه على بواطنهم قد اختار منهم من رأى فيه الكفاءة ليكون حجته على خلقه، فاختار الأنبياء، واصطفى منهم رسلاً وفضّل بعضهم على بعض، فجعل محمّداً (صلى الله عليه وآله) أقربهم إليه وأحبّهم لديه، فسماه حبيباً بعد أن سمّى إبراهيم (عليه السلام) خليلاً.

قال تعالى: { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ } (1).

وكان لابدّ من أن يستتبع ذلك الدور من التنزيل والبلاغ دوراً آخر يتعلق بحفظ الشريعة، وضمان استمرار أدائها في الناس، وهو متعلق قوله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} (2)، فاختار من بيوتات الأنبياء صفوة أُخرى للقيام بأمر الحفظ، وجعل دور الإمامة ردئاً للنبوّة، ومقاماً آخر من مقامات اللطف الإلهي، أجراه وراثة في الصفوة الطاهرة من عباده قال تعالى: { ثُمَّ أَوْرَثنَا الكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا } (3).

وقال أيضاً: { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً } (4).

____________

(1) البقرة: 253.

(2) الحجر: 9.

(3) فاطر: 32.

(4) النساء: 54.


الصفحة 194

ولم يكن ذلك الاختيار الإلهي بأيّ حال من الأحوال مقارناً أو موازياً لآراء البشر واختياراتهم؛ لأنّ الله تعالى أعلم بمخلوقاته، وأدرى بهم من أنفسهم، والدين دينه وهو المسؤول عن كُلّ متعلقاته، واختيار مَن يقوم مقام الإمام بعد النبيّ من مختصاته سبحانه وتعالى، إتماماً للشريعة السمحة.

والإمامة تأتي بعد النبوّة؛ لأجل الشريعة من عبث العابثين من أصحاب المصالح، وعبّاد الدنيا، وميزة اختص بها الصراط المستقيم، وكانت أثراً واضحاً، وعلامة جلية اتسم بها تراثه، وضماناً لبقاء الأحكام الإلهية في إطار الحفظ الذي هو من مشمولات الباري تعالى كالنبوة، ومقابل ذلك كان الكذب على الله ورسوله منتشراً في بقيّة الخطوط الأُخرى إلى درجة التشويه، وما عقب ذلك من نشوء عدد من الأفكار التي اختلقها أصحابها اعتماداً على تلك المفتريات.

إنّ منظومة الإسلام شأنها شأن من سبقها من ديانات، جاءت لتشكل نقطة تحول في حياة البشر، وترشدهم إلى طريق الله تعالى، بكل ما فيه من أبعاد مادية ومعنوية، روحيّة وحسيّة، اجتماعية وسياسية واقتصادية، وتصحيحاً لوجهة الناس في توجههم إلى صراط الله المستقيم.

ومن الخطأ الاعتقاد بأنّ الله تعالى قد أوكل مهمّة جمع شريعته وحفظها، وتتبع سنّة نبيّه (صلى الله عليه وآله) وتدوينها إلى الناس، من دون قيد ولا شرط، ولا سبيل إلى افتراض وقوع ذلك؛ لأنّ المانع الذي يمكن للعقلاء تقديمه هو خاتمية الرسالات والمرسلين، يؤكدان على أنّ سنن الله تعالى في التبليغ والحفظ لشرائعه لا يتغيران، منذ آدم إلى نبينا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وعلى آله الطاهرين، قال تعالى: { ما كانَ عَلَى النبيّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ


الصفحة 195

اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً }(1).

فلا يوجد خلل في منظومته تعالى كُلّها تنظيراً وتطبيقاً، وإنما طرأ الخلل من تحريف الناس وعصيانهم وارتدادهم عن دينه ومنهاج أوليائه صلواته عليهم أجمعين، وادعائهم بأنّ لهم نصيباً في القيمومة على الدين، وطرفاً في الحفظ والتبليغ، فخاضوا في دين الله تعالى أيما خوض، وضربوا عرض الحائط بكثير من أحكامه، ترصداً وسفهاً.

للصراط المستقيم الذي أشار إليه المولى تعالى في كتابه العزيز علامات تشير إليه ودلالات ترمز إليه، منها: ما هو متعلق بالمبدأ العام لذلك الصراط كالتشريع الذي طال كُلّ أوجه الحياة البشريّة، واستمراريته في الظهور والتميز من آثاره التي لا تنمحي أبداً.

ومنها: ما هو متعلق بالتفاصيل المحتوية عليه، كضرورة وجود مثال يهتدي به الناس فوق ما أعطوا على المستوى النظري؛ لأنّ المثال والنموذج يبقى الأقرب للفهم، والأقوى في الحجة، والأصوب في الهداية.

لقد كانت حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله) متعددة النشاط والاهتمام، فهو في نفس الوقت النبيّ المرسل، والقائد العسكري الفذ، والإمام القدوة، والمربي والمعلم والفرد المعطاء، المبادر إلى كُلّ خير قبل غيره، أعطى من نفسه المثل والنموذج، ومع ذلك لم يفهمه أكثر المحيطين به، فجاءت علاقاتهم معه تذروها رياح الشك والريبة وسوء التقدير.

كان على النبيّ (صلى الله عليه وآله) أن يتدبّر أمر القيادة من بعده؛ لأنّ الفراغ الذي سيتركه لا يمكن لأيّ شخص أن يملؤه، وما كان ذلك ليكون من تلقاء نفسه، كما

____________

(1) الأحزاب: 38.


الصفحة 196

تصوره كثير من الصحابة في ذلك العصر، ومنع من كتابة وصيته الهامة والمصيرية للأمة في أواخر حياته، ولقي أهل بيته (عليهم السلام) بعد وفاته ما لم يلقه أهل الذمة، فقتلوا، وشردوا، وألقي بهم في سجون رهيبة لا يخرج منها المعتقل حياً، ووضع من وضع منهم في أسطوانات وبني عليهم، فماتوا بداخلها جوعاً وعطشاً وعذاباً، وصارت لهم قبوراً(1).

كما أنّ النزعة القبلية المتأصّلة في أكثر الناس كان لها دور سلبي في اختيار من يقوم مقامه،

وبما أنّ الله سبحانه وتعالى مطّلع على سرائر مخلوقاته، فيتحتم عليه تعالى أن يسبغ لطفه على الأمّة، بزيادة إيضاح المؤهل بالدور بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وإن كان ذلك الشخص ظاهراً غير خفي في الأمّة، بما كان يقدّمه للإسلام وأهله من تضحيات وأعمال، امتدحها الله ورسوله في غير موضع.

لست في هذه البسطة من الحديث في مقام الاستدلال على أحقية أهل البيت (عليهم السلام) في إمامة الأمّة، واستعراض ما جاء في خصوصهم من آيات بيّنات وروايات بلغت حدّ التواتر في صحة ورودها عن النبيّ (صلى الله عليه وآله)، بل إنّني سارد لبعض النصوص وواضع نفسي هنا موضع المتسائل عن سبب منطقي يبرر إعراض الأمّة عن قيادتها الشرعية، واللائم على تفريط ما كان له أن يكون لولا تقصير الأغلبية في حق الأولى بقيادة الأمّة.

هذا والآيات بيّنات والدلالات الواضحة تشير إلى أنّ من أعرض عنهم بلغوا منازل الكمال، وتنسموا علياء الرفعة، ورسخت أقدامهم في علوم الدين

____________

(1) انظر مثلاً مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني، تاريخ اليعقوبي 2: 226، البداية والنهاية لابن كثير 9: 358 وغيرها من المصادر التاريخية.


الصفحة 197

والحياة، وكان لهم ما لم يتأت لغيرهم، وشهد الشهود من كُلّ جانب على أحقيتهم، وتميزهم، وعلو قدرهم، وعظم شخصياتهم التي كانت تشكل تتابع حلقات الذرية التي بعضها من بعض.

والعجب هنا في أمّة أدارت ظهرها للأحق بقيادتها، ورضيت قيادة من كانوا تحت لوائه، ولم يكن لهم من ذكر يرفع مقامهم سوى ما أغدقه عليهم حزب النفاق من أكاذيب وتآويل لا تقف مع الحق، مع علمها التام ويقينها بأنّ لا وجه للمقارنة بين من اختاره الله تعالى وأتم فيه مواصفات وخصائص القيادة، وبين من اختارته حفنة من الناس في مكان لم يكن مؤهلاً لذلك الدور.

ولم يكتف المنافقون بما حصلوا عليه من مكاسب على حساب أهل الحق من ثلة المؤمنين، بل نجحوا أيضاً في تغييب قائمة المنافقين التي كانت عند حذيفة، وقلب أصحابها فيما بعد إلى مؤمنين صالحين.

وللمعترض على ما نقول نهمس في أذنه: أين أسماء المنافقين الذين حاولوا قتل النبيّ (صلى الله عليه وآله) في العقبة؟

ولماذا لم يقع تصنيف المبغضين لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) ضمن المنافقين، وقد ثبت عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) قوله لعلي (عليه السلام) : " لا يحبّك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق "(1)، فكان مؤمنو الصحابة يعرفون المنافقين ببغضهم لعلي (عليه السلام) ؟!

لم تمر مسألة اختيار الأولى بالقيادة بعد مرحلة النبوّة، في الأمم السابقة في الخفاء، وإنّما كان لها مجال علني، وإعلام اتسم بحضور الجماهير ومواكبتها لكُلّ تفاصيل تلك الإعلانات، وفي القرآن شواهد من تلك.

____________

(1) مسند أحمد 1: 95، صحيح مسلم 1: 60، كتاب الإيمان ، باب الدليل على حبّ الأنصار وعلي (رضي الله عنه) من الإيمان وعلاماته, سنن الترمذي 5: 306، سنن النسائي 8: 116، مجمع الزوائد 9: 133، فتح الباري 1: 60 وغيرها من المصادر .


الصفحة 198

الشواهد القديمة التي تحدثت عن حقيقة التعيين الإلهي :

الشاهد الأول: قصة طالوت (عليه السلام) :

قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ? وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيم ? وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (1).

الشاهد الثاني: قصة آصف (عليه السلام) :

قال تعالى: { قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ? قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ? قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } (2).

____________

(1) البقرة: 246- 248.

(2) النمل: 38- 40.


الصفحة 199

الشاهد الأخير على التعيين الإلهي:

قال تعالى: { إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ } (1).

حادثة الغدير:

قال الله تعالى: { يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } (2).

لئن أخرج أكثر المؤرخين تفاصيل حادثة الغدير كُلّ حسب هواه وفهمه وتمذهبه، فإنّهم أجمعوا على أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قد أوقف الناس في هاجرة من النهار ليخطب فيهم، ويبلّغهم أمراً لا يستوجب التأخير في تبليغه، وهو من الجسامة والخطورة بحيث حدثت وقائعه في ذلك المكان والزمان الشديدين، فخطب فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) خطبة بليغة قال فيها من جملة ما قال: " من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه وأنصر من نصره وأخذل من خذله وأدر الحق معه حيث دار"(3).

____________

(1) المائدة: 55.

(2) المائدة: 67.

(3) حديث من كنت مولاه بلغ حدّ التواتر بل فات كل مقياس لو لم تفعل سياسة الظلم والبغي والفساد في أمّة الإسلام فعلها، اعترف بتواتره عدد من علماء العامة منهم الزبيدي والكناني ومن جملة من أخرجه: سنن الترمذي 5: 297، سنن ابن ماجة 1: 45، مسند أحمد 1: 84 و 118 و 119 و 152 و 331 ، 4: 281 و 368 و 370 و 372، 5: 347، 366 و 370 و 419، فتح الباري لابن حجر 7: 61 وقال: "حديث من كنت مولاه فعلي مولاه فقد أخرجه الترمذي والنسائي، وهو كثير الطرق جداً، استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان. وقد روينا عن الإمام أحمد قال: ما بلغنا عن أحد من الصحابة ما بلغنا عن علي بن أبي طالب".


الصفحة 200

ثُمّ أمر الناس بمبايعة علي (عليه السلام) أميراً للمؤمنين وإماماً للناس من بعده، ولا تزال كلمات عمر بن الخطاب تتردد بين صفحات كتب التاريخ والسيرة والتفسير عندما أقبل مبايعاً: " بخ بخ لك يابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كُلّ مؤمن ومؤمنة ". ولا يزال صداها يتردد في ذلك المكان، شاهداً على النكث والانقلاب والخديعة والمكر(1)، ولم تشفع كثرة الحاضرين للحادثة في انتقال ولاية الأمر إلى علي (عليه السلام) بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله)، حيث عدّ المؤرخون من كانوا معه في منصرفه من حجة الوداع ما بين ثمانين ألفاً إلى مائة وعشرين ألفاً من المسلمين (وكلّهم طبعاً من الصحابة)، لأن الترتيبات التي وضعها المتربصون بالسلطة وتعاقدهم عليها، وتحينهم لفرصة موت النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وانشغال أولياءه بتجهيزه، وأخذ البيعة لمغتصب الحكم بالقوة والإكراه، ومحاولة إخفاء جانب من الحقيقة تحت عنوان حروب الردة.

سبب الانحراف عن أمر الله تعالى:

ومن تدبّر القرآن الكريم أدرك أنّ مسألة الاختلاف في الدين منشأها الظلم والبغي بين بني البشر، حصل لديه يقين بأنّ الأصل والحقيقة يمتلكها خط واحد، وما سواه خليط من حقّ وباطل مموه.

لقد أخبرنا الله تعالى عن سبب اختلاف من كان قبلنا من أهل الكتب التي نزلت قبل القرآن.

قال تعالى: { وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ

____________

(1) تفسير الرازي 12: 5، تاريخ بغداد 8: 284، تاريخ مدينة دمشق 42: 221 وغيرها من المصادر.