تضاهي القوّة الغضبية الرادعة عند الإنسان ، ووزارات التربية والتعليم تضاهي الإدراك عند الإنسان ، فأصبح جهاز الدولة كإنسان كبير متطوّر وأعمال الصرافة التي تطوّرت حتّى أصبح البنك بحدّ ذاته كدولة مستقلة ، وهذا ما ينطبق على التطوّر الزراعي والصناعي وغيرهما .
الشبهة التي يطرحونها
كيف يبقى الدين ثابتاً مع كلّ هذا التطوّر الذي جرى على البشرية؟ ولو لاحظنا نسخ شريعة موسى بشريعة عيسى جاء في فترة لم تكن فيها قفزة تطوّرية في نظم الحياة ، وهكذا بالنسبة لنوح وإبراهيم ومحمّد(صلى الله عليه وآله) ، وإنّما حدثت القفزات والتطوّرات الهائلة في العصور المتأخرة والأزمنة المعاصرة ، فكيف يبقى الدين ثابتاً مع هذا التطوّر العلمي؟
فمن باب أولى أن يحدث النسخ في الزمان الحاضر لحدوث التطوّر الهائل فإنّ المجتمع لم يعد مجتمع قبائل وعشائر ، بل تحوّل النظام إلى وطن وجنسية ومواطنة وبطاقة سكّانية وجواز وإثبات هوية وغيرها
وأنا أطرح هذه الإثارات بكلّ صراحة ; لأنّ ديننا دين خالد ، ويستطيع أن يستوعب كلّ الأُمور ، عنده قابلية الردّ على كلّ الإشكالات ، بل إنّه يمتلك قدرة تلبية العطش البشري ، ونحن لا نعيش في ذلك الزمان الذي ينغلق فيه كلّ قوم على أنفسهم ، وإنّما نحن في زمان أصبح فيه العقل البشري كلّه على طاولة واحدة ، ولا يمكن إخفاء أيّ شيء .
ومن إشكالاتهم أنّ النبي قد بعث في مجتمع يغلب عليه البداوة ، ولم يكن في مجتمع حضاري كالفرس والروم ، وهذا الأمر يدلّ على عظمة محمّد(صلى الله عليه وآله) الذي استطاع أن يحوّل هذا المجتمع البدوي إلى مجتمع يحكم العالم ويسيطر عليه ،
وهذا محلّ إعجاب الباحثين والعلماء ، فهم يقولون مع هذا الإعجاب والانبهار بالدور الذي قام به محمّد(صلى الله عليه وآله) إلاّ أنّ المجتمع الذي كان يعيش فيه كان مجتمعاً بدوياً ، ولا يمكن أن نبقى على أحكامه في ظلّ التطوّر العصري الهائل ، فلا يمكن الاعتماد على البيّنة والشاهد كما يطرحه الفقه الإسلامي ; لأنّ ملف القضاء في الزمان المعاصر قائم على التحقيقات والاستخبارات القضائية ، وفي باب المرور يأتي المختصّون في هذا الاختصاص ليفصلوا الخصومة.
نحن قلنا : إنّ مدرسة العلمانية "السكولارزم" مدرسة فلسفية ، وهي لا تناقش قدرة النبي محمّد(صلى الله عليه وآله) الفردية كما هو الحال في التعددية "البلوري ألسم" ، وإنّما تناقش مسألة المنهج والقانون والدين ، وهم يناقشون البحوث المختلفة في البحوث القضائية والأُسرية والمصرفية ، وفي بحوث الديات والقصاص والحدود ، فهم مثلا : يعترضون على قطع اليد والجلد وغيرها من العقوبات الإسلامية ، ويعتبرونها غير مناسبة للعصر الحاضر ، وينبغي ـ حسب رأيهم ـ التفكير في أساليب رادعة أُخرى لمحاربة الجرائم والجنايات ، وأنّ العقاب الإسلامي قد أكل الدهر عليه وشرب ، ولا يناسب النظام النفسي والسيكولوجي والاجتماعي الحديث .
والمدرسة الإمامية حاولت عبر عقود عديدة ، ورجالاتها في الحقل العلمي ناقشوا هذه القضايا في جوّ علمي هاديء بعيد عن التعصّب .
الجواب الأوّل :
أوّل ما يثار على هذه التساؤلات هو ، هل كلّ ما هو في البيئة التي تحيط بالإنسان بكلّ أنواعها وأشكالها متغيّرة أم ثابتة؟
نحن نطرح هذا التساؤل ; لأنّ مدرسة العلمانية "السكولارزم" تريد أن تفصل
الدين عن الحياة بكلّ أطيافها بحجّة أنّ البيئة تتغيّر دون أن تراعي أنّ هناك ثوابت إلى جانب المتغيّرات .
ونحن نطرح سؤالا آخر ، وهو ما هي نسبة الثابت والمتغيّر في حياة الإنسان ؟
الإنسان منذ آدم وحتّى زماننا هذا هو الإنسان لم يتغيّر من الناحية الخلقة والبدنية والنفسية والفسلجيّة ، فالجهاز الهضمي والعصبي ، والدورة الدموية والأعضاء البدنية وغيرها هذه كلّها ثابتة.
الحاجات الإنسانية لم تتغيّر ، فالإنسان في زمن آدم لديه حاجات جنسية ، ويحتاج إلى نظام الزواج ، والإنسان في زماننا هذا كذلك ، وهو في ذلك الزمان يحتاج إلى الرعي والزراعة من أجل تأمين الجانب الغذائي ، وفي زماننا هذا كذلك ، والبيئة والصيف والشتاء والحرارة والبرودة ، والقوى الشهوية والغضبية والإحساسات والعواطف والقوى الروحية كلّ هذه الأُمور ثابتة وليست متغيّرة.
الإنسان صاحب عواطف وأحاسيس ، ولا يمكن تهميش هذا الجانب المهم في حياة الإنسان ، كما تنطلق بعض الدعوات التي تدعو لذلك ، فالإنسان يحبّ ويكره ، وينقبض وينبسط ، ويحزن ويفرح ، وهذا هو الجانب الحيوي في الإنسان ، ولا يمكن أن نفرض الجانب الفكري ، والجانب التربوي يعتمد على الجانب العاطفي والوجداني بدرجة كبيرة ، ولا يمكن بحال من الأحوال الاستغناء عنه ، ولا يمكن إخضاعه للفكر بصورة مطلقة .
نحن ذكرنا في المحاضرات الأُولى أنّ الدين هو الدين لا يتغيّر بين نبي وآخر ، وأنّ الذي يتغيّر هو أحكام الشريعة ، فالتوحيد الذي يحتاج اليه الإنسان في الغابة والكهف هو التوحيد الذي يحتاج إليه الإنسان في عصر المعلومات وغزو الفضاء .
التشريع الإسلامي يعالج الجوانب الثابتة في حياة الإنسان ، كما أنّ التشريع يحارب الرذيلة ، والرذيلة وإن تطوّرت في أساليبها وأشكالها إلاّ أنّها هي الرذيلة
التي يجب أن نحاربها ونجتثّها من المجتمع .
وعندما نردّ على نظرية مّا لا يعني أنّنا ننسف النظرية التي نردّ عليها ردّاً نسفياً ينسفها من الأساس ، وقد تكون فيها جوانب إيجابية ، ونحن نرحّب بالنوازع الفطرية التي أصابها بعض الانحراف ، ونحاول أن نهذّب الانحراف فيها ، وأن نرجعها إلى أُصولها الفطرية النقيّة ، وأهل البيت(عليهم السلام) قد علّمونا أن ننفتح على جميع الآراء .
كما نرى أنّ الإمام الصادق(عليه السلام) يناقش عبد الكريم بن أبي العوجاء وغيره من المنحرفين فكرياً(1) ، أمّا بقية أئمة المذاهب الأُخرى لو دخل عليهم داخل وأثار إثارات وإشكالات غامضة فإنّهم يطردونه ويتّهمونه بالزندقة ، كما ينقل أبو نعيم الإصفهاني في ترجمة مالك(2)بينما الإمام الصادق(عليه السلام) كان لا يستعمل معهم هذا الأُسلوب ، وهذه الإثارات قد تفتح ذهن الإنسان على حقّانية الدين .
الجواب الثاني :
الباحث العلمي في شتّى حقول المعرفة يبحث عن الحقائق والمعادلات الثابتة ، وليست النتائج المتغيّرة ، فالفيزيائي عندما يبحث عن قانون لحساب السرعة في مجال معيّن ، هل يبحث عن قانون يتبدّل أم قانون ثابت؟ طبعاً قانون ثابت .
نحن لا ننكر وجود الجانب المتغيّر ، ولكن نقول : إنّ الباحث في شتّى المجالات لا يستطيع أن يتنكّر للجانب الثابت في حياة الإنسان ، وهذه الجوانب الثابتة هي المهيمنة على كلّ المتغيّرات
____________
1- الاحتجاج 2: 200 . 2- حلية الأولياء 6: 355 ، رقم الترجمة 386 .
المحاضرة السادسة
الإمام هو الذي يطبّق الشريعة على المتغيّرات
محاور المحاضرة :
أوّلا : وجود مجهولات في علم ما لا يعدّ نقصاً في العلم ، وإنّما يعدّ نقصاً في من يستنبط العلم .
ثانياً : الإمام هو الذي يعرف تأويل الكتاب وتفاصيل الشريعة.
ثالثاً : الغيبة مقابل الظهور ، وليس الغيبة مقابل الحضور .
رابعاً : العالم يدار من قبل الأجهزة السرية.
خامساً : ليس من الضروري أن يكون الشخص المؤثّر ظاهراً ومعلنا .
قلنا: إنّ الله قد أهّل محمّداً(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحمل رسالة تحتوي على أُصول التشريع ، وهي أُصول كلية وقواعد عامّة كشف عنها التشريع الإسلامي بواسطة محمّد(صلى الله عليه وآله) ، والله هوالذي يعلم ما خلق وهو اللطيف الخبير ، أمّا المتغيّرات فهي موجودة ، وقد تطوّرات بشكل أكبر ممّا هي عليه من تطوّر بين الرسالات السابقة التي نسخت بعضها ، وهي رسالات عيسى وموسى وإبراهيم ونوح ، وأنّ منطقة الثبات في الدين هي منطقة أُصول الدين وأركان الفروع ، أمّا التفاصيل التشريعية والعبادية والنظام السياسي والقضائي فخاضعة إلى التغيير ، والأُصول التشريعية جامعة وثابتة .
مجهولات العلوم وحلولها
ولكن هنا يطرح إشكال وهو : من يضمن سلامة وإتقان استنباط القضايا التفصيلية من الأُصول والقواعد الكلية بنحو يرتبط بدقّة بالشريعة الإسلاميّة؟
وعلى سبيل المثال : علم الرياضيات والهندسة والجبر والحساب ، والتي تعدّ من العلوم البديهية تقريباً إلاّ أنّ المجهولات الهندسية والجبرية والرياضية والميكانيكية إلى الآن لم يستطع علماء الرياضيات أن يجدوا حلولا لها ، مع أنّ حلولها توجد في الأُسس الأولية لعلم الرياضيات من عمليات الطرح والجمع والضرب والقسمة ، وعلم الرياضيات علم معصوم ، وإذا حدث خطأ ما فالخطأ في الشخص الذي استعمل الرياضيات بصورة خاطئة لا في علم الرياضيات نفسه ، وقد استمعت للعديد من المقابلات مع نجوم علوم الرياضيات ، وقد قالوا : إنّ علم الرياضيات الموجود بصورته الحالية يرجع إلى تسع معادلات ـ حسب كلامهم ـ وبعضهم قال: إنّها ست معادلات إلاّ أنّ العقل البشري لا يستطيع استيعاب الأُسس التي قامت عليها هذه المعادلات ، ولا يعرف ما وراءها ، وقد أكّد لي أحد حاملي شهادة الدكتوراه هذه الحقيقة .
وهم يقولون : إنّنا لو استطعنا معرفة الأسرار التي تقف وراء هذه المعادلات لاستطعنا أن نكتشف العديد من الأسرار المذهلة في الكون ، وهذا العجز البشري في معرفة هذه الأسرار لا يعني عجز علم الرياضيات في نفسه ، وإنّما النقص في من يستنبط هذه النتائج من هذا العلم ، وهذا لا يقتصر على علم الرياضيات ، وإنّما ينطبق على باقي العلوم .
الإمام عنده علم تأويل الكتاب
من الذي يستطيع من بعد محمّد(صلى الله عليه وآله) أن يحفظ شريعة محمّد(صلى الله عليه وآله) التي تغطّي كلّ
المتغيّرات؟ وهذا السؤال لا يجد جواباً إلاّ عند مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) ، بحيث تعتقد أنّ الإمام عند علم الكتاب كلّه ، ومن هنا نحن نقول : إنّ هذا المقام يعدل مقام أُولي العزم من الأنبياء السابقين(عليهم السلام) ، وإن كنت لست في مقام إثبات هذا الأمر إلاّ أنّها إشارة معترضة; لأنّ الذي يحيط بأُسس شريعة وأُصول عامّة تغطّي المتغيّرات لملايين البشر حتّى يوم القيامة ، هوالذي يستطيع الإحاطة بعلم الكتاب كلّه ، وهذا علمه يزيد على علم الأنبياء السابقين ، والفترة التي كانت فيها شرائع الأنبياء السابقين شرائع محدودة بفترة معيّنة قد تطول أو تقصر ، وكلّها نسخت بشريعة النبي ، فالذي يقوم مقام النبي في خلافته ـ باستثناء النبوّة ـ في تغطية حاجيات البشر من خلال المتغيّرات التي تطرأ على البشر ، فهو الحافظ للشريعة ، كما يعرّفه الإمامية بهذا التعريف باعتباره القادر على تغطية الشريعة للمتغيّرات.
التأويل لا يعلمه إلاّ الله والراسخون في العلم ، وللتأويل معان عديدة ، منها : تطبيق الأُسس على المتغيّرات ، كما حدث بين موسى(عليه السلام) والخضر في قضية السفينة والغلام والجدار التي يذكرها القرآن في سورة الكهف ، بحيث يكون الانطباق بين الشريعة والمتغيّرات انطباقاً يقينياً يؤثّر في مستقبل القضية ، فبقاء الجدار وعدمه ، وبقاء الغلام وعدمه ، وخرق السفينة وعدمها ، يترتب عليه أُمور عديدة ونتائج مختلفة ، ولو بقي هذا الغلام لانقطع نسل سبعين نبياً ، كما ورد في بعض الروايات التي يرويها الفريقان(1) ، أي : سيحدث منعطف خطير في حياة البشرية لو قدّر لهذا الغلام أن يبقى .
____________
1- تفسير نور الثقلين 3: 286 ، ذيل سورة الكهف ، الحديث 171 ـ 174 . روح المعاني 8: 334 ، ذيل الآية 81 من سورة الكهف .
أين يوجد الإمام المهدي؟
المشكّكون في وجود المهدي يطرحون إشكالا مفاده: أنّه أين يوجد المهدي ، وما هي نشاطاته؟
النشاط المهم في الدولة هو النشاط السري والاستخباري ، والقوّة تكمن في الخفاء وليس الغياب عن ميدان العمل الذي يعني تلاشي التأثير والفاعلية.
الغيبة مقابل الظهور ، وليس مقابل الحضور
هناك غيبة مقابل الظهور ، وهناك غيبة مقابل الحضور ، وغيبة الإمام المهدي هي من نوع الغيبة مقابل الظهور وليس الغيبة مقابل الحضور ; لأنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) حاضر، ونحن نعبّر عن عصره بعصر الظهور ، ونتكلّم عن علامات الظهور ، ولا نعبّر عنه بعصر الحضور ، وعلامات الحضور ، وعصر الظهور هو العصر الذي تنكشف فيه هوية الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) للملأ ، والإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) موجود ونشط .
اختلاف أنماط الحكومات ، وأهمية الأجهزة السرية
الآن أنماط الحكومة تختلف حتّى القبيلة هي نمط من أنماط الحكومة ، والعشيرة والطائفة التي تمتلك مواردها الخاصة وقوانينها الخاصة وقدراتها الخاصة وروافدها الثقافية الخاصة .
إذاً المجتمع مجموعة قوى كلّ قوّة لها إمكانياتها الخاصة ، ولذلك الأدبيات السياسية التي تحلّل المرجعية الشيعية تقول: إنّها حكومة ، ولكن حكومة شبه رسمية أو نصف رسمية ، حيث إنّ المرجعية الشيعية لها وزارة ثقافة تتصدّي للغزو الثقافي والوضع الفكري المنحرف وتنشر الوعي ، ووزارة دفاع تتمثّل في فتاوى الجهاد ، ووزارة مالية تتمثّل في جمع الضرائب والأخماس وغيرها ، وهذه
الوزارات ليست وزارات لها مباني ، وإنّما هي وزارات لها نفوذ اجتماعي ، والحكومات ليست هي الحكومات الرسمية فقط ، وإنّما الحكومات هي القوى التي تمتلك النفوذ الاجتماعي سواءً كانت رسمية أو غير رسمية ، وهناك أجهزة تدير العالم في زماننا هذا في الحقل المالي ، وحقل التسلّح العسكري والمصرف والإعلام ، هذه كلّها أجهزة سرية تدير العالم ، ولا نعرف من يقف وراءها ، فليس معنى النفوذ والنشاط أن يكون هذا النشاط معلناً ومن يقف وراءه معلناً ، ولا يوجد رابط بين القدرة على الحكم وبين إعلان الحاكم ، بل حتّى الحكومات المعلنة تقف وراءها أجهزة سرية .
الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) حاضر وموجود ونشط في مختلف القضايا ، ولو تأمّلنا في هذه الآية من سورة الكهف {فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً}(1) . لوجدنا أنّ هذه القصّة تشير إلى مجموعة من العباد الذين آتاهم الله رحمة من عنده وعلماً لدنّياً يقومون بأدوار خفيّة على طبق البرنامج والأوامر الإلهية في إدارة المجتمعات .
يقول الإمام الباقر(عليه السلام):
"إنّ علياً(عليه السلام) كان محدّثاً... يحدّثه ملك. قلت: تقول: إنّه نبي؟ ]قال[ فحرّك يده هكذا: أو كصاحب سليمان ، أو كصاحب موسى..."(2).
ولولا علم التأويل لم يقتنع موسى(عليه السلام) بما فعله الخضر(عليه السلام) ، {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً}(3) ، عندما عرف التأويل اقتنع ورضي بما فعله الخضر على ضوء أُسس شريعته التي تغطّي هذه المتغيّرات ، والنبي موسى لم يكن عنده هذا
____________
1- الكهف (18): 65 . 2- تفسير كنز الرقائق 8: 105 . 3- الكهف (18): 82 .
التأويل ، مع أنّه كان من أنبياء أُولي العزم بنص سورة الكهف ، بل كان عند غيره ، والله تعالى لم يصف الخضر بأنّه نبي من الأنبياء أو رسول من الرسل ، وإنّما وصفه بأنّه عبد من عباد الله ، وقال تعالى آتيناه علماً لدنّياً حينما عبر بـ {من لدنا} ، والعلم اللدنّي هو السبب المتصل بين الأرض والسماء .
وقال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : "أنا أقاتل على التنزيل ، وعلي يقاتل على التأويل"(1) ، والعلم الذي عند الإمام علي(عليه السلام) هو من عند رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وهو القائل "علّمني رسول الله(صلى الله عليه وآله) ألف باب يفتح كلّ باب ألف باب"(2) .
إذاً سورة الكهف تثبت بأنّ الإنسان الذي يمتلك العلم اللدنّي يستطيع أن يغطّي كلّ المتغيّرات حتّى ولولم يكن نبياً ، فهو باعتباره يمتلك العلم اللدنّي من عند الله فهو لا يخطىء ، وهو يستطيع أن يربط بين هذه الحلقة في هذا الزمن بحلقات أُخرى في أزمنة قادمة ، وهذا عمل جبّار ، فلا يستطيع أحدنا أن يخطّط لعمل اجتماعي لخمسين سنة قادمة ، مع معرفة كلّ العوائق والسلبيات التي ستعترضه في هذا المجال ، فجميع التخطيط البشري يتبيّن فشله أو فشل أجزاء منه بنسب مختلفة بسبب قصور الفكر البشري عن استيعاب كلّ الجوانب ، فبعد إتمام المشروع تتبيّن النواقص التي فيه.
والإمام هو صاحب العلم اللدنّي ، وهذا العلم اللدنّي يؤهّله أن يخبر عن الله ، ولكن ليس بمعنى أن يكون نبياً أو يكون صاحب شريعة جديدة ، وهذا تماماً ما حدث للخضر الذي حاور موسى بنفس الأُسس الشرعية في شريعته هو ، فسورة الكهف تخبرنا عن مقام إلهي تحتاج إليه البشرية ، وهذا المقام يستوجب الاطلاع
____________
1- الفصول المهمة في أُصول الأئمة 1: 569، الحديث 859 . 2- الفصول المهمة في أصول الأئمة 1: 565، الحديث 848 .
على إرادة الله ، كما ورد في الآية {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً}(1).
ولو تأمّلنا في الآية لوجدنا أنّ الخضر مطّلع على إرادة الله من خلال قوله {فأراد ربك}، وهذا القول لا يعني أنّ الخضر قد أتى بشريعة جديدة من عند الله ، وإنّما هو تطبيق للشريعة بأُسسها العامّة التي تغطّي كلّ المتغيّرات
المتغيّرات كثيرة ، ولكن الشريعة تغطّيها
إذاً نحن نتّفق مع مدرسة العلمانية "السكولارزم" بأنّ المتغيّرات كثيرة وكبيرة ، ولكن الأُسس الدينية قادرة على التغطية والاستيعاب لكلّ هذه المتغيّرات ، كما أنّ الأُسس العامّة للرياضيات تغطّي جميع المجهولات الرياضية.
لا يمكن الاكتفاء بظاهر اللفظ القرآني
الذي يدّعي أنّ الشريعة مقتصرة على ظواهر القرآن يجني على الشريعة ، والقرآن يقول: إنّه تبيان لكل شيء(2) ، ويقول: إنّ الراسخين في العلم يعلمون تأويل القرآن(3) ، والآيات المحكمات والمتشابهات هي في القرآن المنزل وفي ظواهر القرآن ، أمّا الكتاب المبين في لوح محفوظ في كتاب مكنون(4) في عوالم الغيب ذلك موجود فيه كلّ شيء وهو تبيان لكل شيء ، أمّا ظواهر القرآن فهي ليست تبياناً لكلّ شيء في التشريع ـ فضلا عن العلوم الأُخرى ـ وإلاّ فكيف نجمع
____________
1- الكهف (18): 82 . 2- النحل (16): 89 . 3- آل عمران (3): 7. 4- الواقعة (56): 78 .
بين وجود المحكمات والمتشابهات وبين قوله تعالى {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}(1) ، وهذه الآية تقول: إنّ هذه الآيات البيّنات في صدور الذين أوتوا العلم ، ولم تقل: إنّه في المصحف.
هل يمكن أن يوجد كتاب في الرياضيات يحتوي على حلّ جميع المجهولات الرياضية؟ طبعاً لا يوجد .
العالمون بالتأويل، وأصحاب العلم اللدنّي موجودون في أُمّة محمّد، وهم الأئمة(عليهم السلام)
إذا كان القرآن يحدّثنا عن وجود التأويل عند الذين أوتوا العلم اللدنّي في زمن موسى ، فهل هذا الموقع شاغر في أُمّة محمّة(صلى الله عليه وآله) أم أنّ هناك من لديه العلم اللدنّي في أُمّة محمّة(صلى الله عليه وآله) ؟
إذا كانت شريعة محمّد(صلى الله عليه وآله) سيدة الشرائع ، وهي الشريعة الخالدة ، فلا بدّ من وجود هذا الموقع ، وينبغي الإشارة إلى أنّ المسلمين مجمعون على الخضر ، قال الإمام الصادق (عليه السلام): "... إنّ الله تعالى لمّا كان في سابق علمه أن يقدِّر من عمر القائم(عليه السلام) في أيّام غيبته ما يقدّره ، وعلم ما يكون من إنكار عباده بمقدار ذلك العمر في الطول، طوّل عمر العبد الصالح من غير سبب أوجب ذلك ألا لعلة الاستدلال به على عمر القائم(عليه السلام)..."(2) .
الله تعالى يقول: إنّ في هذه الأُمّة يوجد راسخون في العلم يعلمون التأويل ، والكتاب كلّه بيّن {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}(3) ، الآيات
____________
1- العنكبوت (29): 49 . 2- كتاب الغيبة: 172، الحديث 129 . 3- العنكبوت (29) : 49 .
عندهم كلّها بيّنة ليس بعضها محكم والآخر متشابه في صدور أولئك الذين أوتوا العلم .
فمدرسة العلمانية "السكولارزم" تثبت ـ من حيث لا تشعر ـ ضرورة وجود من يحيط بالمتغيّرات في الشريعة ، وهذا ما تجيب عليه المدرسة الإمامية التي تعتقد بوجود الأئمة(عليهم السلام) بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وتعطيهم منصب الإحاطة بالشريعة والمتغيّرات التي توجد حلولها في هذه الشريعة ، وفي عصر الغيبة تعتقد بوجود صاحب الزمان عجّل الله فرجه ، وتعتقد باستحقاقه لهذا المقام .
المحاضرة السابعة
مناقشة مدرسة الهرمونطيقية
محاور المحاضرة:
أوّلا : تطوّر النقد الأدبي وظهور تعدّد القراءات .
ثانياً : تطوّر علم الفقه .
ثالثاً : تأويل النص الديني يوازي التعمّق في التحليل الأدبي .
رابعاً : أهل البيت(عليهم السلام) هم الذين ينطبق عليهم قوله تعالى {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}(1) .
تمّ بشكل إجمالي مناقشة المدرستين العلمانية والتعددية "السكولارزم والبلوري ألسم" ، واستعراض بعض أفكارهما والردّ عليها بصورة سريعة ، وحيث إنّني قد عرضت بعض الإشكالات التي طرحوها فمن اللازم أن أردّ عليها .
إشكالٌ: إنّ القضاء الإسلامي يعتمد على البيّنة والحلف ، مع أنّ القضاء تجاوز بتطوّر هذه المرحلة
الرد: إنّ القضاء الإسلامي لا يعتمد على البيّنة والحلف كحلّ منحصر ، وإنّما يعتمد الحلف والبيّنة إذا لم يكن هناك طريق لعلم القاضي ، أمّا إذا أمكن القاضي أن يعلم عن طريق البراهين والأدلة والتحقيق القضائي ، فإنّه يحكم به ، فإذا لم يتوفّر
____________
1- الفاتحة (1): 7 .
أي من هذه الأدلة والبراهين ، فحينئذ يعتمد القاضي على الشهود والحلف ، وهذا لا يقتصر على القضاء الإسلامي ، بل هو العرف القانوني عند غير المسلمين ، فإذا انسدّت الأبواب في التحقيقات القانونية والقضائية تصل النوبة حينئذ للحف ، فكلّ بلد يحلف بالرمز المقدّس الذي يعتقد به سواءً كان هذا الرمز دينياً عند من يؤمنون بالدين أو رمزاً وطنياً مقدّساً عند من يؤمنون به ، ولو راجعنا قضاء أمير المؤمنين علي (عليه السلام) لوجدناه يبحث ويحقّق عن أسباب النزاع والأدلة والبراهين القضائية التي توصله إلى الحقيقة ، بل إنّ أكثر قضاء أمير المؤمنين(عليه السلام) كان بهذه الطريقة ، وليس بالاعتماد على الحلف والشهود ، والذين أثاروا هذا الإشكال لم يطّلعوا على القضاء الإسلامي بصورة عميقة.
الإشكال الثاني: لماذا تطالب القبيلة والعصبة بدفع الدية؟
الدين الإسلامي يدعو للمحافظة على الأُسرة وعلى وشائج القربى ، بل هو يحافظ على لحمة السبب بالإضافة إلى لحمة النسب ، فنحن نلاحظ أنّ بعض الأشخاص عندما يخرج من بلده إلى بيئة أُخرى بعيدة عن الرقابة الاجتماعية ينحرف سلوكه ، بينما كان محافظاً على سلوكه عندما كان يعيش في البيئة المحافظة ، ولذلك من المفيد الحفاظ على الأعراف التي لا تتعارض مع الدين ، ولذلك لم يقطع النبي أوصال شبكة القبائل الموجودة في ذلك الزمان مع أنّ الإسلام قد عانى من هذه القبائل ، ووجّهت له ضربات قاسية ، كما حدث ذلك في معركة الأحزاب حينما تحزّبت القبائل لمواجهة النبي(صلى الله عليه وآله) ودين الإسلام ، مع ذلك حافظ النبي على بناء القبيلة لما فيه من إيجابيات ، منها: أنّها نوع من النظام الاجتماعي الذي يحفظ الإنسان ـ من خلال الانتماء إليه ـ عن حالة الانفلات والخروج عن الرقابة الاجتماعية .
المدرسة الهرمونطيقية "قراءة النص"
هذه المدرسة تحمل في طيّاتها فكرة التعدّدية التي تحمله البلوري ألسم ، وهي مدرسة الألسنيات التي تهتم بقراءة النص ، فالنقد الأدبي أخذ يتوسّع بصورة كبيرة ، وعلوم اللغة آخذة في التوسّع في كلّ اللغات ، بشكل علوم متعدّدة ، فعلى سبيل المثال: كانت اللغة العربية مقتصرة على علم المفردات اللغوية وعلم النحو والصرف ثم البلاغة، ومن الجدير بالذكر أنّ مؤسس علم النحو هو أمير المؤمنين علي(عليه السلام) ، كما ذكر السيد حسن الصدر في كتابه الشريف "تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام"(1) ، أمّا الآن فعلوم اللغة قد توسّعت فأصبحت تضمّ فقه اللغة والاشتقاق وهو علم غير علم الصرف والنحو والنقد ، وغيرها .
وعلم البلاغة ليس مقتصراً على علم اللغة العربية وهو موجود في اللغات الأُخرى ، مثل: اللغة الإنجليزية ، مع أنّ الإنجليزية تنتمي إلى أُسرة لغوية تختلف عن الأُسرة اللغوية التي تنتمي إليها اللغة العربية ، والمعاني في اللغات واحدة ، وإنّما الألفاظ مختلفة ، فلفظة "ماء" في العربية و"آب" في الفارسية و"واتر" في الإنجلزية جميعها تدل على حقيقة واحدة لهذا السائل المعروف .
أمّا كيفية التركيب والدلالة فهي مشتركة بين اللغات ، فالجملة الإسمية يمكن أن تكون في كلّ لغة من اللغات ، وهكذا الجملة الفعلية والفعل والفاعل...
نشأة النقد الأدبي
النقد الأدبي لا يقتصر على لغة معيّنة ، بل هو يشمل كلّ اللغات ، وقد كان في بداياته يعتمد على تفسير المفردات وبعض التراكيب اللغوية ، ثم أخذ النقد الأدبي بدراسة النص دراسة شاملة تحلّل كلّ حيثيات النص الأدبي ، ودراسة البيئات
____________
1- تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام: 40 .
المحيطة بقائل النص ، ومن هذا المنطلق استطاع النقد الأدبي أن يخدم العلوم الأُخرى بصورة واسعة ، واستطاع النقد الأدبي أن يكشف بعض جوانب اللاشعور عند كاتب أو قائل النص ، وهذا التحليل الأدبي شبيهٌ بالتحقيقات الجنائية التي تحاول أن تستفيد بكلّ ما يحيط بالجريمة من أجواء ، كذلك المحلّل الادبي يحاول أن يستفيد بكلّ ما يحيط بالنص من أجواء .
التعمّق في النص الأدبي يوازي التأويل في النص الديني
وهذا النقد الأدبي الذي يعتمد على أُسس وأدلة في الاستنتاجات يوازي تأويل النص الديني ، ونرى أنَّ الجميع يحترم النقد الأدبي حتّى أولئك الذين يتّهمون التشيّع بالباطنية والغنوصية والخرافات والأساطير يحترمون هذا النقد الأدبي العميق ، ونحن فتحنا باب التأويل الذي يعتمد على الموازين الصحيحة لا التأويل القائم على التخرّ صات والكذب .
تطوّر علم الفقه
إنّنا نلاحظ أنّ الفقه بدأ بصورة بدائية فبدأ بصورة بسيطة ، ثم ظهرت محاولات في تبويب الفقه ، ثم استخرج العلماء القواعد الشرعية ، ثم أبواب التضارب أو التعارض وعلاجها في النص الديني ، وتوسّعت الأبواب الفقهية والتحليلات الاستدلالية ، فلم يعد الأمر مقتصراً على الفقه ، بل تعدّاه إلى أُصول الفقه والقواعد الفقهية ، فكلّ هذه الأُمور تبحث في قراءة النص الديني ، فكم هو الفارق بين الفقه في عصوره الأُولى وما عليه الفقه في زماننا هذا ، فلو قارنّا بين كتاب فقهي من القرن الرابع وكتاب منهاج الصالحين للسيد الخوئي(رحمه الله) أو تحرير الوسيلة للإمام الخميني(رحمه الله) نجد أنّ البون واسع حتّى نمط الاستدلال بين العلماء المعاصرين وبين العلماء المتقدّمين يوجد فيه اختلاف كبير ، فسير الفتاوى وآراء الفقهاء في تحليل
القوانين كان بنمط والآن بنمط آخر ، فكان الشهيد الأوّل والشيخ جعفر كاشف الغطاء وغيرهما يحاولون قراءة النص الديني والاستفادة ممّا وراء النص الديني بعد الاستفادة من النص نفسه ، وما ذكرناه في الفقه أيضاً ينطبق على العقائد والمعارف ، ولازالت جهود الاجتهاد متواصلة .
القبول بالتعدّد ليس مطلقاً
المدرسة الهرمونطيقية تقول بتعدّد القراءات فليس لك أن تلغي قراءة من القراءات التي تفهم النص بصورة معيّنة ، وهي تدعو إلى فتح الباب على مصراعية أمام الاجتهاد في فهم النص ، ونحن نقبل بعض ما تطرحه هذه المدرسة ، كما أشرنا في المدرستين السابقتين .
وأمّا إذا كان قبول هذا التعدّد يفرض علينا أن نشكّك بما قد توصّلنا إليه من حقائق على أُسس علمية وعقلية فإنّنا نرفض قبول القراءة الأُخرى ، وهذا ما أثرناه مع مدرسة التعددية "البلوري ألسم" ، وما قلناه من أنّنا نبحث عن الحق المتوزّع عند هذا الطرف أو ذاك في تلك المدرسة ، نقوله أيضاً في الردّ على هذه المدرسة بحيث إنّنا نريد أن نجمع الحقيقة ونحصل عليها كاملة ، وهي في عقيدتنا توجد كاملة عند المعصوم الذي يستطيع قراءة النصوص الدينية بشكل صحيح ، وهو الذي يمتلك الحقيقة عندما وضعه الله في هذا المنصب ، حتّى الفقيه والمرجع مهما وصل إلى درجة عالية فإنّه يبقى دون درجة المعصوم في عقيدتنا ; لأنّ المعصوم له قنواته الخاصة التي لا يمتلكها غيره ولذلك فقد أخطأ من يعتقد أن الشيعة عندما فتحوا باب الاجتهاد فهم تنازلوا عن شرط العصمة والإمامة ، والصحيح أنّ دور الفقيه يأتي بعد وجود المعصوم ، ودور الفقيه ضروري ، وقد نص عليه القرآن الكريم بقوله :
{فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}(1) .
فالفقيه ينهل من الأُسس التي وضعها النبي(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته(عليهم السلام) ، وهم الذين عبَّر الله عنهم بأنّهم {أُوتُوا الْعِلْمَ} في قوله تعالى {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}(2) ، وهذا التعبير لا يشير إلى طلب العلم العادي عند العلماء ، وإنّما يشير إلى العلم اللدنّي الذي عند أهل البيت(عليهم السلام) .
وقوله تعالى:
{إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالاَْحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ}(3).
فالترتب عند الإمامية يكون هكذا : الأنبياء ثم الأوصياء ثم العلماء ، وهذا ما أشارت إليه هذه الآية من سورة المائدة ، فالنبيّون هم الأنبياء ، والربّانيّون هم الأوصياء ، والأحبار هم العلماء .
فكما أنّ جميع المجهولات الرياضية يمكن حلّها بالأُسس الرياضية الصحيحة ، وعدم حلّ بعض المسائل من قبل بعض الأشخاص لا يعني عدم وجود الحلّ في الأُسس ، فكذا الكلام ينطبق على تغطية الشريعة لكلّ المتغيّرات، ولذلك عندما يظهر صاحب الزمان ، وهوالذي يمتلك علم تأويل الكتاب وفهم الشريعة بصورة مطلقة ، فهو الذي لديه كنوز العلوم .
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الاِْسْلاَمَ دِيناً}(4) ،
____________
1- التوبة (9): 122 . 2- العنكبوت (29): 49 . 3- المائدة (5): 44 . 4- المائدة (5) : 3 .
القران الكريم يثبت أنّ الدين كمل وتمّت النعمة ورضي الرب به ، ولكن من يستطيع فهم النص الديني بأعمق معانية ، ويستخرج منه كلّ الحلول لكلّ القضايا .
وما تذهب إليه مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) ليس من الخرافة ، كما يتّهمنا البعض ، بل هو الحقيقة بعينها ، ويظهر الإمام الذي يستطيع أن يسدّ كلّ الثغرات العلمية التي لازالت كثيرة رغم الجهود الجبّارة التي يبذلها العلماء .
والمدارس التي ذكرناها كلّها تشير بصورة أو بأُخرى إلى ضرورة العلم الجمعي والإحاطة بالحقيقة ، وهذا هو هدف البشرية والتي ستصل إليه بواسطة الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) .
حتّى سورة الفاتحة التي نقرأها صباحاً ومساءً فيقول الله تعالى:
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}(1) .
الله تعالى أنعم عليهم بنعمة خاصة وهم أهل البيت(عليهم السلام) الذين طهّرهم دون غيرهم ، قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(2) ، {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}(3) .
وهل هناك عائلة أو أُسرة أعطاها الله ما أعطى آل محمّد(صلى الله عليه وآله) من الفضل والشرف ، وهذا ليس توارث قيصري أو توارث كسروي ، وإنّما هو توارث اصطفائي {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْض وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(4) .
____________
1- الفاتحة (1): 6 ـ 7 . 2- الأحزاب (33): 33 . 3- الشورى (42): 23 . 4- آل عمران (3) : 33 ـ 34 .
فهذه الذرية مؤهّلة لأن ترتبط بالله ، وهذه الذرية واصطفاؤها ذكرها القرآن ، فلِمَ يستنكر علينا أن نؤمن بأنّ الله اصطفى آل محمّد؟!
إذاً إنّ الذين أنعم الله عليهم دون غيرهم هم أهل البيت(عليهم السلام) ، وهم(عليهم السلام)الذين ينطبق عليهم قوله تعالى {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ، فهذا الوصف ينطبق على أهل البيت(عليهم السلام) ، وحتّى بعض الصحابة الكبار من البدريين الذين قاتلوا مع الرسول في بدر نزل فيهم قول الله تعالى {لَوْلاَ كِتَابٌ مِنْ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(1) .
فلولا أنّ الله قد أخذ على نفسه أن لا يعذّب المسلمين ورسول الله فيهم لعذّبهم {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}(2) ، فإذا كان هذا حال البدريين فما حال سائر المسلمين .
والذين كانوا مع رسول(صلى الله عليه وآله) في معركة أُحد لامهم وغضب عليهم ثمّ عفا عنهم لوجود الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بينهم ، أمّا أهل البيت(عليهم السلام) فلم يغضبوا الله تعالى ، وهذه هي العصمة العملية ، وهذا ما تثبته سورة الفاتحة لأهل البيت(عليهم السلام) ، وليس كما يتّهموننا بأنّ أفكارنا أتى بها عبد الله بن سبأ .
{وَلاَ الضَّالِّينَ} كيف نهتدي بهداة قد يضلّون عن الحق ، ويخرجون من الإيمان إلى الفسق ولو في بعض الأُمور ، وهؤلاء هم الذين لا تنطبق عليهم العصمة ، وأمّا المعصومون فهم منزّهون عن الخطأ وينطبق عليهم {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} .
____________