الصفحة 7

مقدمّة المركز


يلاحظ أنّ العقود الأخيرة من حياتنا المعاصرة ـ الأربعين سنة الأخيرة ـ شهدت في أُروبا تيارات ثقافيّة متنوّعة، يَسِمها طابع التمرّد والتشكيك والتحوّل من تيار إلى آخر ..

بيد أنّ ما يُطلق عليه مصطلح (التيار التفكيكي) يظلّ هو التيار الأشدّ حضوراً في السنوات المعاصرة، بالرغم من انحساره نسبياً، وظهور تيارات أُخرى، كـ (التاريخانية) وما سواها من التيارات اليسارية الجديدة ..

إنّ التيار المذكور مع بعض أجنحته ، كـ (تيار الاستجابة والتلقّي) ونحوهما، يتميّز عن سواه بكونه ينطلق من خلفية فلسفية هي (التشكيك) في المعرفة والكينونة و ... ، حتّى إنّه أُطلق على العصر الذي شهد هذا التيار بـ (عصر الشكّ)، وكانت انطلاقته من فرنسا ـ البلد الذي ينفرد بإحداث الموضات الجديدة في الصعيد الثقافي بعامّة ..

وقد واكب هذه الفلسفة التشكيكيّة تطوير الدراسات اللغوية التي بدأت مع العقد الثالث من القرن العشرين ، حيث استثمر التيار التفكيكي أو التشكيكي معطيات هذه التيارات (الألسنيّة)، ووظّفها لصالح تفكيكيّته أو تشكيكيّته، وذلك


الصفحة 8

بأن فصل بين (دوال اللغة) و(مدلولاتها) ، فحذف الأخير وجعلها غائبة، ليشير بذلك إلى عدم وجود مركز معرفي ثابت بقدر ما يخضع الأمر لقراءات استمراريّة لا نهائية، أي جعل استخلاص الدلالة المعرفية لا نهاية أو لا ثبات لها، وهو أمر يتساوق ويتناغم مع الفلسفة التشكيكيّة التي لا تجنح إلى يقين معرفي أو المعرفة اليقينيّة، ومن ثمّ يظلّ (المعنى) أو (الدلالة) أو (القيم) لا ثبات ولا استقرار لمفهوماتها ..

ومن الطبيعي حينما ينسحب هذا التشكيك على الظواهر جميعاً ، فإنّ النتيجة تظلّ تشكيكاً بكلّ شيء، وفي مقدّمة ذلك: التشكيك أساساً بما وراء الوجود (المبدع) وإرسالات السماء، وكلّ ما هو (مقدّس) بحسب تعبير الموضة المشار إليها ..

وإذ كان المناخ الأُوربي يسمح بولادة أمثلة هذه التيارات ، نظراً ـ من جانب ـ إلى اليأس الذي طبع مجتمعات الغرب من حضارتها المادية الصرفة، خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية ..

وإذا كان المناخ المذكور ـ من جانب آخر ـ طبعه الترف الفكري أو التخمة الثقافية، بحيث تقتاده إلى توليد جديد للفكر حتّى لو لم تسمح به الضرورة ..

ثمّ ـ من جانب ثالث ـ إذا أخذنا بنظر الاعتبار (وهذا أهم الأسباب بطبيعة الحال) عزلة المجتع الأُروبي عن السماء ومبادئها:

حينئذ، فإنّ ولادة التيارات التفكيكيّة والتشكيكيّة والمتمرّدة والفوضوية وبالإضافة إلى عودة بعض التيارات المنتسبة إلى اليسار الجديد .. أُولئك جميعاً تفسّر لنا ولادة التيارات المذكورة في مجتمع أُوربي له أرضيّته الخاصّة .

إلاّ أنّ من المؤسف كثيراً أن نجد انعكاسات التيارات المذكورة على (الشرق)، وفي مقدّمتها: المجتمعان العربي والإسلامي، حيث هرع أفراد كثيرون


الصفحة 9

إلى معانقة هذه التيارات المتعاقبة (المتداخلة والمتضادة أيضاً) ، مع أنّها (غريبة) تماماً على المناخ العربي والإسلامي!

إلاّ أنّ (نزعة التغريب) التي تطبّع عليها هؤلاء الأفراد تفسّر لنا تبنّيهم الفكر الغربي، وتخلّيهم عن قيم الوحي ومبادئ الإسلام العليا ..

ولكن الأسى الأشدّ مرارة أن نلحظ (الإسلاميين) بدورهم ، قد بهرَتهم زينة الحياة المنعزلة عن السماء في المناخ الأُوربي، فهرعوا بدورهم إلى محاورة (الانحراف) المذكور، وبدأوا ينشرون دراساتهم التفكيكيّة والتشكيكيّة حول مختلف ضروب المعرفة، وفي مقدّمتها التعامل مع النصّ القرآني الكريم، بدءاً بالوحي، وانتهاءً بـ (التفسير بالرأي)، بحسب ما تلقّوه من التيار الأُوربي الذي أطلق العنان لمفهوم (القراءة) أو السلطة للقارئ يعبث ما يشاء بدوال النصّ، حافراً ومنقبّاً ومهدّماً، تقليداً لأسياده المنعزلين عن السماء ومبادئها ..

وإذا أضفنا ـ أخيراً ـ إلى ما تقدّم ، ظاهرة (العولمة) في سنواتنا المعاصرة، وما تستهدفه من السيطرة على الإيديولوجيات جميعاً; حينئذ نجد أنّ الضرورة الإسلامية تفرض علينا أن نتّجه إلى (تأصيل) ما هو ضرورة في حياتنا المعاصرة، ومن ثمّ (الردّ) على الانحرافات المذكورة ..

بصفة أنّ التزامنا بمبادئ الدين، وإدركنا لمهمّة خلافة الإنسان، أي إدراكنا للوظيفة التي أوكلها اللّه تعالى إلينا، وهي مقولة: {وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ}(1)، أولئك جميعاً تفرض علينا:

أوّلا: أن نتعامل مع الظواهر وفقاً لما يفرضه القانون العقلي ويتلاءم مع التصوّر الإسلامي حيالها، وفي مقدمة ذلك (اليقين المعرفي)، وليس (التشكيك).

____________

1- الذاريات (51): 56 .


الصفحة 10

ومن ثمّ القيام بمهمّة (تأصيل) ما يتّفق مع مبادئنا، و(الردّ) على الانحرافات التي طبعت سلوك ما يسمّى بـ (الإسلاميين) المنشطرين بين مَن (يشكّك) وبين (يساريّ) إسلامي يستعين حتّى بالمبادئ المنتسبة إلى الإلحاد ..

وفي ضوء الحقائق المتقدمة، وتلبية للتوجيهات الصادرة من سماحة المرجع الديني الأعلى آية اللّه العظمى السيّد علي الحسيني السيستاني "دام ظلّه الوارف" بضرورة التصدّي لأفكار العلمانية وردّ شبهاتها، قرّر مركزنا أن يضطلع بالمهمّة المشار إليها، داعياً الأقلام الإسلامية الراصدة لما يجري في الساحة بأن يجعلوا من أولويات اهتماماتهم كتابة البحوث المناسبة للموضوع، أي المتسقة مع مشكلات حياتنا المعاصرة .

وفعلاً فقد باشرنا بإصدار سلسلة "دراسات في الفكر الإسلامي المعاصر في ضوء مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)"، فصدر الكتاب الأوّل من هذه السلسلة "الديمقراطية على ضوء نظرية الإمامة والشورى" للعلاّمة الشيخ محمّد السند .

وصدر الكتاب الثاني منها "أوضاع المرأة المسلمة ودورها الاجتماعي في منظور إسلامي" للعلاّمة الأُستاذ الشيخ حسن الجواهري .

وهذا الكتاب ـ الذي بين أيديكم ـ هو الإصدار الثالث من هذه السلسلة، وهو للعلاّمة الشيخ محمّد السند ، وهو عبارة عن مجموعة محاضرات ألقاها المولّف في مدينة المنامة البحرانية، في أيام شهر محرّم الحرام خلال أربع سنوات ابتداءً بسنة 1423هـ .

وقد قام السيّد هاشم الموسوي باختصار هذه المحاضرات ونقلها من الأشرطة المسجلة ، فجزاه اللّه خير الجزاء.

وقام المركز بمراجعة هذه الأوراق وتصحيحها واستخراج كلّ ما يحتاج إلى استخراج ، وطبعها في مجلّد واحد تعميماً للفائدة، وهي تحتوي على أربع رسائل:


الصفحة 11

(1) إثارات العلمانيّة الغربيّة حول الإسلام .

(2) النهضة الحسينيّة ومفهوم الإرهاب والسلام .

(3) عاشوراء ومفهوم العولمة .

(4) العدالة الاجتماعية .

وفي الختام نتقدّم بجزيل شكرنا وتقديرنا لكافّة الإخوة الأعزاء الذين ساهموا في إخراج هذا الكتاب ، ونخصّ بالذكر فضيلة الشيخ عبد اللّه الخزرجي الذي قام بمراجعته وتصحيح واستخراج ما يحتاج إلى استخراج، فللّه درهم وعليه أجرهم ، والحمد للّه ربّ العالمين .


محمّد الحسّون
مركز الأبحاث العقائدية
3 جمادى الأُولى 1428هـ
http://site.aqaed.com/Mohammad
Muhammad@aqaed.com