الصفحة 56

النظريّة الدينيّة السياسية الإلهيّة، وبين النظريّة الديمقراطيّة العرفية، وهذا ما أدّى إلى أنّ البعض فصّل بين زمن حضور المعصوم سواء كان نبيّاً أو وصيّاً، وبين زمن غيبته وعدم وجوده، فقال بالمشروع الديمقراطي في الثاني، ولم يقله في الأول، وذلك نتيجة لهذا التنافر الموجود بين محور وأساس الديمقراطيّة، ومحور وأساس النظريّة الدينيّة، فما هو رأيكم؟


الشيخ السند: في اعتقادي أنّ في النظريّة الإماميّة رقابة الناس ووصاية الناس على مسير الحكم والحاكم موجودة، فإذا كان أصل نبوّة النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وأصل إمامة الإمام عليه السلام وإن كانت هي بجعل من اللّه عزّ وجلّ، إلاّ أنّ للناس بل اللازم على الناس أن يتثبّتوا من معرفة وجود هذه الصفة في النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ومعرفة هذه الصفة في الإمام عليه السلام، فكيف بنوّاب الإمام المعصوم وهم الفقهاء؟! فلعلّ من أروع التزاوج بين تحكيم الواقعيات، وما يقال من الأُسس العقليّة البديهيّة أو السماويّة الإلهية الرفيعة، مع المشاركة للناس نجدها في النظريّة الإماميّة.

ففي النظريّة الغربيّة جُعل للناس المشاركة، لكن تذبذبوا في أنّ مشاركة الناس وآراءهم هل تحدّ أو لا تحدّ، تحد بما يحدّده العقل، وليست تحدّ بالمتغلّب، ولكن عندهم إنّها تحدّ بالحدود العقليّة، والسبب في ذلك ماذا؟


الصفحة 57
لأنّ العقل يدرك مصالح لابدّ منها في النظام الاجتماعي وما شابه ذلك، فمن غير المنطقي أو المعقول أن يفسح المجال للناس أن يؤدّوا نظامهم المدني بأيديهم نتيجة نزوة شهويّة، فلابدّ أن يحدّد ويهذّب هذا السلوك الاجتماعي العامّ بالحدود العقليّة.

وكذلك الحال في الأُسس الشرعيّة السماويّة الإلهيّة الرفيعة المسلمة، هي أيضاً مكمّلة لهذه الفطرة العقليّة البشريّة، فمن ثمّ هي محكّمة كسكة جادة ليسيروا المسار الاجتماعي عليها.

غاية الأُمور، أنّ الذي يراقب المسار الاجتماعي، أو مسار الحكم ونظام الحكم على هذه الجادة، التي هي جادة العقل والشرع، الذي يراقب أنّ هذه العجلة الاجتماعيّة لا تنحرف يمنةً ويسرة، يجب أن يكون من مسؤوليّة الأُمّة، كما هي طبعاً من مسؤوليّة الإمام المعصوم عليه السلام في أيّ ظرف من الظروف، سواء كان في حالة إزواء من قبل الظالمين، أو في حالة تمكّن وقدرة، في كلّ الحالات هو عليه السلام من مسؤوليّته الإلهيّة أن يحافظ على مسار الأُمّة والبشريّة.

كذلك الأُمّة هي مسؤليتها أيضاً من باب {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِّرِ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالعُدْوَانِ}(1)، {وَتَوَاصَوْا بِالحَّقِ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}(2)، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيضاً من

____________

1- المائدة (5): 2.

2- العصر (103): 3.


الصفحة 58
مسؤولية الأُمّة، بأن تلاحظ أنّ مسيرة النظام ومسيرة الحكم والحاكم على طريق وجادة الشرع، فالجادة إذن لمسيرة سلوك النظام الاجتماعي ليست هي بحسب أهواء الناس وآرائهم، بل هي لابدّ أن تكون بحسب وصاية العقل والشرع، نعم في الجانب التطبيقي لهذا المسار هنا تكون من مسؤوليّة الأُمّة.

فإذاً في النظريّة الإماميّة نشاهد أروع المزاوجة بين هذين الدورين، يعني لا إطلاق العنان لدور الأُمّة، أو لدور الناس، أو لدور البشر في أن يتّخذوا مسارات غابيّة أو حيوانيّة أو ما شابه ذلك، تنزلق بهم إلى الهاوية، بل لابدَّ حينئذ من أن يحكّم وصاية العقل والشرع.

ومن جانب ثاني ليس هناك إلغاء مطلق لدور الناس، لكي يأتي مخادع على رقاب الأُمّة ويستغلّ مقدّرات الأُمّة ويدّعي أنّ هذا المسير شرعة العقل، كما حدث في حقب عديدة من التاريخ الإسلامي وباسم الشرع والعقل، بل لالتزام الجادة العقليّة والشرعيّة لابدّ أن تكون الأُمّة هي المراقبة لمسيرها، طبعاً تحت هداية الإمام المعصوم عليه السلام، وتحت هداية الفطرة العقليّة الموجودة في ذوات البشر {فِطْرَت اللّهِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ}(1).

____________

1- الروم (30): 30.


الصفحة 59
وأمّا التفرقة بين حقبة ظهور المعصوم عليه السلام وغيبته في نظرية الحكم في النظريّة الإماميّة، فهذا خلاف ماهو متسالم عليه عند علماء الإماميّة قديماً وإلى ما قبل الآونة الأخيرة، إنّه متسالم لديهم أنّ الحكومة هي حكومة نيابيّة عن المعصوم عليه السلام في شرعيّتها، وأنّ الولاية بالفعل هي للإمام الثاني عشر عجّل اللّه فرجه الشريف، وأنّ كلّ صلاحيّة أو ولاية يمكن أن تقرّر لابدّ أن تنشعّب منه.

نعم قلنا: إنّه هو عجّل اللّه فرجه الشريف شأنه شأن آبائه الطاهرين، قد فوّضوا نسبيّاً إلى الأُمة إحراز صاحب المواصفات في الحاكم النيابي عنه في هذه الحقبة في عصر الغيبة، وكذلك في حقبة عهد الصادق عليه السلام، حيث كان سلام اللّه عليه حُجب عن سدّة القدرة المعلنة، وإنّما كان يدير نظام الطائفة الشيعيّة، بل النظام الإسلامى والبشري بشكل خفي، فأوكل لمن ينوب عنه في الأصقاع المختلفة الشيعيّة النائية عن المدينة عدّة من علماء الإماميّة ذوي مواصفات معيّنة، وفي كثير من المواطن لم يعيّنهم بأسمائهم الخاصّة، وفوّضوا نسبيّاً للأُمّة إحراز مصاديق أُولئك النوّاب بمواصفات خاصّة.

نعم، هناك للأُمّة التخويل في احراز المواصفات ابتداءً وبقاءً، وهذا نوع من التقارب بين النظريّة الإماميّة والنظريّة الديمقراطيّة، لكن على بعض الأقوال في النظريّة الديمقراطيّة أنّ المذهب العقلي يحكّم، يعني

الصفحة 60
في حين يعطي للأُمّة وللشعب ولأفراد المجتمع الدور في انتخاب الحاكم وعزله وما شابه ذلك، إلاّ أنّ المذهب العقلي عندهم يحدّد مسار الانتخاب، بأن يكون المنتخب واجداً للصفات والشرائط التي يحكم بها العقل، كذلك نحن في النظريّة الإماميّة نقول بجانب الشروط التي يحكم بها العقل البديهيّة، هناك شروط شرعيّة يحكم بها الشرع، وبعبارة أُخرى الشرع المتمثّل في الإمام المعصوم عليه السلام قد أعطى الصلاحيّة إلى نطاق خاصّ معيّن، فمن ثمّ هم يستكشفون.

أمّا المفارقة بين عهد الغيبة وعهد الظهور، فكأنّما القائل بها في غفلة كبيرة جدّاً عن أنّ الولاية الفعليّة هي للإمام المعصوم عجّل اللّه فرجه الشريف، وهو ليس غائباً غياب وجود، وإنّما هو غائب غياب هويّة، يعني هويّته غائبة عن شعورنا ومعرفتنا به، يعني معرفتنا له غائبة، لا أنّه هو غائب، وإلاّ هو فى ساحة كبد الحدث وبين أيدينا في كمال النشاط، وبذل الجهد في هداية الأُمّة ومسير الأُمّة بالشكل الخافي علينا.


  سماحة الشيخ، من المشاكل الفكريّة التي سبّبتها النظريّة الديمقراطيّة، هو في كيفيّة الجمع بين الدين وبين الديمقراطيّة، فكلّ ذهب إلى مسلك خاصّ في هذا المجال. وهناك من حاول أن يجمع بينهما على حساب الدين، مثلاً يفرّقون بين الحقوق ويقولون: إنّ هناك حقوقاً طبيعيّة فطريّة للإنسان، وحقوقاً وضعيّة، وهذه الحقوق الطبيعيّة



الصفحة 61

والفطريّة لا يمكن أن تتعلّق للجعل الشرعي أو العقلي، فحقّ تعيين الحاكم وتعيين من يدبر أُمور الناس ويسوسهم هي من الحقوق الطبيعيّة الفطريّة، ومتقدّمة على الدين، ولا يمكن أن تتعلّق بالجعل الشرعي أو العقلي، فما هو تقييمكم لهذه النظريّة؟


الشيخ السند: أصل كون نشأة جملة من الحقوق من الطبيعيّة أمر ثابت، وإن كان بعض الباحثين الإسلاميين، من الوسط الحوزوي لدينا ربما يتنكّر لمصدريّة الطبيعة للحقوق بما فيها الطبيعة الإنسانيّة، بدليل أنّ إضفاء الطبيعة للحقوق وتوليد الحقوق ليس له حدّ منضبط، ومن أنكر استند إلى هذا الوجه، لكن هذا الوجه لو نقيّمه لا ينفي منشأيّة الطبيعة للحقوق، ولا ينفي ما ذهب إليه علماء القانون وعلماء الحقوق من أنّ أحد مصادر الحقوق هو الطبيعة، غاية الأمر أنّه لا يمكن جعل الأمر مطلق العنان.

فكون أحد مناشئ الحقّ من الطبيعة مسلّم، لكن في تحديده وتأطيره قد يكون هناك إبهام وغموض، وحيث يكون هناك إبهام وغموض وغيوم يجب أن لا يجعل حينئذ الحقّ بشكل سائب مطلق، لابدّ أن يقتصر لا أقل على قدر متيقّن، أو يمزج بضوابط أُخرى، أو يكون تحت التشريع الإلهي باعتبار أنّ العقل لا يصل إلى تمام الحدود والصلاحيّات التي تنشأها الطبيعة للحقوق، فلابدّ أن يكون تحت هداية شرعيّة، لا أنّه يتنكّر أو ينكر أصل نشوء الحقوق من الطبيعة.


الصفحة 62
ولكن لا يخفى أنّه ليست الحقوق مصدرها الوحيد الطبيعة، باعتراف حتى القانونيين الوضعيّين وعلماء الحقوق المحدثين الآن، بل لها مصادرها الاُخرى: الغايات الكماليّة، نظام المصلحة الاجتماعيّة، وصاية السماء بسبب الخالقيّة والربوبيّة كما هي في الملل والشرائع السماويّة الإلهيّة، وغيرها من المناشئ الأُخرى.

فحينئذ يجب أن يكون هناك توفيق بين هذه المناشئ المختلفة، وإذا كان هناك نوع من التوفيق بين المناشى المختلفة، سواء بسبب التزاحم، أو بسبب تضارب الجهات، أو ليس تزاحماً وإنّما هو نوع من التهذيب والتكميل، فمن الخطأ إذاً أن ننظر من منطلق ومنشأ معيّن، هذه نقطة أُولى تؤاخذ على هذه المقولة.

والنقطة الثانية التي تؤاخذ على هذه المقولة، هي كما ذكرنا أنّ الطبيعة عندما تكون منشأ للحقّ، غالباً لا ترسم حدّ وإطار ودرجة معيّنة للحقّ، وإنّما تكون منشأ الحقّ بشكل مبهم غائم، لابدّ من ضبط هذا الحدّ للحقّ الناشئ من الطبيعة وصياغته. وهذه الصياغة إمّا تكون بالوضع، أو التجربة، أو بوصاية السماء لمن يدين بالتوحيد.

فصرف كون الحقّ ناشئاً من أمر طبيعي، وهو وجود تكويني لا يقبل الجعل الشرعي، فيه هذه المغالطة، حيث إنّ الجعل الشرعي ليس بمعنى نسف ذا الحقّ الطبيعي وإلغائه، بل بمعنى تأطيره وتحديده والكشف عن حدوده التي لا يتوصّل إليها العقل البشري المحدود، ولا تتوصّل إليها التجربة بمرور الزمان، بل لابدّ من وصاية السماء في الكشف عن حدود ودرجات تلك الحقوق التي تنشأ من الطبيعة.


الصفحة 63
ثمّ إنّ التزاحم والتوفيق بين تلك الحقوق الطبيعيّة والحقوق الأُخرى كيف ترسم؟ صرف دعوى أنّ الطبيعة منشأ الحقّ ولتكن صحيحة، ولكن كيف يوفّق بينها وبين بقيّة الحقوق الطبيعيّة نفسها، أو بين الحقوق الطبيعيّة والحقوق التي لها منشأ آخر؟ فإذاً هذا المنطق في القانون الوضعي نفسه مرفوض، بأن نقول: إنّ الحقوق الطبيعيّة غير قابلة للجعل والتقنين المنظّم.

النقطة الثالثة: أنّه في القوانين الوضعيّة نجد أنّ هذه الحقوق الطبيعيّة من مشاركة الناس، قد اختلفت صياغات القانونيّين الوضعيّين وإلى يومنا هذا فيها، ولِمَ جعلت لها صياغة مجعولة تقنينيّة؟ ذلك لأجل أن يؤطّروها ويهذّبوها ويبرمجوا كيفيّة تولّد الحقّ من هذا المنشأ الطبيعي.

فحينئذ كون الحقّ متولّداً من الطبيعة، لا يعني استغناءه عن الجعل والتشريع، وتأطيره وتحديده وتهذيبه وملائمته مع حقوق أُخرى، هذا فضلاً عن أنّ في النظام الاجتماعي لا نسلّم بأنّ التدبير والإدارة كلّها لها طابع تكويني، لو كان كلّها لها طابع تكويني طبيعي لما كان هناك مجال لمنطقة التقنين وما يسمّى بالاعتبار القانوني، بينما يرى أىّ حقوقي وأىّ قانوني أنّ الاعتبار القانوني أو الإنشائي أمر مفروغ عنه وضروري في تدبير النظام الاجتماعي.

فمّما يدلّل على أنّه هناك مساحات أُخرى لا تملأ إلاّ بالاعتبار القانوني، كما عبّر العلاّمة الطباطبائي رحمة اللّه عليه في رسالة

الصفحة 64
الاعتبار: أنّ الاعتبار يتوسّط تكوينياً المنشأ الطبيعي التكويني، ثمّ اعتبار، ثمّ الأفعال التكوينيّة الأُخرى فيكون الاعتبار متوسّطاً بين ظاهرتين تكوينيتين، لكي يرسم انتظام هذا النظام الاجتماعي السياسي.

بل يترفّع العلاّمة الطباطبائي وهو الصحيح، فيقول: بل لو فرضنا أنّ الإنسان لا يعيش نظاماً اجتماعيّاً، بل يعيش حقبة الكهوف، لابدّ من توسّط الاعتبار القانوني في أفعال الإنسان، يعني يحدّد لنفسه واجبات ومحرّمات، مثلاً يحدّد لنفسه واجب معناه الغذاء، أصل الحاجة هي طبيعيّة، لكن مع ذلك لابدّ أن ينظّمها بشكل اعتبار قانوني متى يجب أن يأكل، متى يجب أن لا يأكل، متى يحرم عليه، متى كذا، فإذاً الطبيعة لابدّ أن تهذّب والتكوين للطبيعة لكي ينجم عنها أغراض وغايات تكوينية أُخرى لابدّ أن يتوسّط الاعتبار القانوني حتى في الممارسة الفرديّة لفعل الإنسان، وإلاّ فأصل منشأ الطبيعة للحقّ غائم مبهم.

فهذه مؤاخذة رابعة على هذه المقولة، وهي أنّ الاعتبار القانوني باعتراف كلّ القانونيين الوضعيين لابدّ في النظام الاجتماعي، بل وبعبارة أُخرى حتى في نظام الأفعال الفرديّة التي لا تمسّ الإنسان نفسه، ولا ترتبط بشريكه الآخر فضلاً عن بقية أفراد المجتمع، مع ذلك يحتاج الإنسان في تدبير ونظم هذا إلى التدبير الاجتماعي.


الصفحة 65
وهذا يطلعنا على نقطة خامسة، هي أنّ الاعتبارات القانونيّة، سواء كانت الشرعيّة أو الوضعية، هي تنطلق ليست في المصادمة مع كمالات الطبيعة، بل لأجل هداية الكمالات الطبيعيّة إلى طرقها المنشودة وغاياتها المبتغات.

وبعبارة أُخرى: كلّ اعتبار قانوني لا ينشأ من مصالح تكوينيّة فهو لاغي; لأنّ بناءً على العدليّة في قبال الأشعريّة، الاعتبارات القانونيّة تنطلق من مصالح ومفاسد، فكونها تنطلق من مصالح ومفاسد لا يعني إلغاء دور الاعتبار القانوني.

فملخّص النقطة الخامسة: أنّ الاعتبار القانوني هو نفسه ينطلق من مناشيء طبيعية، لكن إنّما هو ينظّمها ويدبّرها ويهذّبها وما شابه ذلك، فليس المفروض في الاعتبار القانوني أنّه يكون خلوّ من الملاكات الطبيعيّة، أو أنّه مصادم للملاكات الطبيعيّة، وكأنّما في هذه المقولة إغفال لهذا الجانب.

النقطة السادسة: أنّ هذه الطبيعة ليست هي المنبع الأول والأخير حتى الطبيعة الإنسانية، هذه الطبيعة ليست إلاّ سنن إلهيّة وتكوينيّة، بل السنن التشريعيّة هي مكمّلة لسننه التكوينيّة; لأنّه إذا سارت الطبيعة التكوينيّة الماديّة تحت مسار مافوق الطبيعة من أمر غيبي إلهيّ، يكون هناك النجاح في الوصول إلى كمالات الإنسان.

مع أنّ سنن الطبيعة التكوينيّة لا يحيط به العقل التجريبي البشري

الصفحة 66
بنحو تام ولا بنحو متوازن، إلاّ بهداية الشريعة السماوية {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}(1).


  مع قطع النظر عن مناقشة هذه المقولة، هل يمكن أن نقول: إنّ أصل تعيين الحاكم هو حقّ طبيعي وفطري للإنسان، وتعلّق الجعل الشرعي على طول هذا الحقّ، أو نقول: إنّ أصل تعيين الحاكم ليس حقّاً طبيعياً للإنسان؟


الشيخ السند: ذكرنا أنّ التعيين والانتخاب عند علماء القانون والحقوق قد اختلف في ماهيّته، التعيين بمعنى الاستكشاف، هذا حقّ طبيعي; لأنّ الإنسان لابدّ أن يلتفت إلى من يتابع أو من يحكم ومن يقيم، وهذا لم تتنكر له النظريّة الإماميّة، ولا النظريّة الدينيّة في الحكم، بل حتى في أصل معرفة النبوّة والإمامة كما ذكرنا، وحتى في أصل الاعتقاد والاتباع للإمام المعصوم عليه السلام، لابدّ أنّ الإنسان يستكشف أنّ هذا الإمام إمام، أو هذا النبي نبي كي يتابعه، فالانتخاب بمعنى الاستكشاف قد أُقرّ في الشريعة الإسلاميّة، وفي المذهب الإمامي بشكل واسع النطاق، كما مرّ علينا.

وأمّا الانتخاب والتعيين بمعنى التولية، فكون منشأها طبيعي، فهذا أول الكلام، كيف وأنّ الخالق القادر العالم الإله البصير بكلّ الاُمور هو له الملكيّة التكوينيّة على ذلك، غاية الأمر قد أقدر الإنسان على أُمور

____________

1- سورة الملك (67): 14.


الصفحة 67
اختياريّة معيّنة لفسح باب الامتحان، لكن ذلك لا يعني نفي الوصاية الشرعيّة من رأس ولا نفي الحقّ الشرعيّ والقيمومة على مسار الإنسان.

مثلاً الإنسان عنده قدرة على المحرّمات، هل نقول: لأنّ الباري تعالى غرّز في الإنسان القدرة على ارتكاب المحرّمات، فليس من الصحيح والمعقول أن يشرع تحريم تلك الأُمور والأفعال، إقدار اللّه عزّ وجلّ للإنسان على أُمور معيّنة لا يعني تخويل تلك الأُمور للإنسان أصلاً، بل لابدّ حينئذ أن تأتي الشريعة وتكشف للإنسان موارد الخير وموارد الشر التي لا يدركها بعقله، فمن ثمّ يكون للشارع أو للباري تعالى الخالق الوصاية والقيمومة في أن يحدّد هذا الأمر ويظلّ دور مساهم للارادة الإنسانية في القيام والإشراف على معرفة ذلك وتنفيذه.

وبعبارة أُخري: إذا كان التكوين والطبيعة منشأ الحقوق، فالتكوين أيضاً منشأ لحقوق اللّه; لأنّ اللّه أيضاً بمنطق الخالقيّة والمخلوقيّة تكويناً قادر على كلّ شيء، وقادر على ما أقدرنا عليه، ليست القدرة التي خوّلت من الباري للإنسان توجب عزل قدرة الباري عن قدرة الإنسان، إذاً بحكم منطق التكوين للباري حقّ هو الحقّ الأوفر والأول والأخير، في حين عدم إلغاء دور الفرد البشري وإرادته.


  سماحة الشيخ، بقي سؤال آخر وإشكال لابدّ من الانتباه إليه، وهو أنّه قد يحصل تعارض بين بعض الأُصول الديمقراطيّة والأُصول



الصفحة 68

الإسلاميّة والدينيّة، من قبيل مثلاً المساواة الذي تتبنّاه اُصول الديمقراطيّة بين المسلم والكافر والذمّي وكلّ المواطنين، يعني لا يوجد فرق بين أبناء الشعب من أىّ دين وأىّ مذهب وأىّ مسلك كانوا، ولكن نرى أنّ الأُصول الدينيّة والأحكام الشرعيّة تفرّق مثلاً بين الذمّي والمسلم، فهل يمكن حلّ هذا التعارض؟ والتقدّم يكون مع أيهما؟


الشيخ السند: في الواقع نظام الحكم، كما يقال في المواد الدستوريّة الأساسية، هو دائماً ينطلق من أهداف معيّنة، ويصبو هذا النظام الاجتماعي إلى تحقيق أهداف معيّنة، وتلك الأهداف والمنطلقات التي ينطلق منها دستور نظام الحكم الاجتماعي، تلّون ذلك النظام الاجتماعي وتسبب تسميته باسم ذلك الهدف أو ذلك المنطلق.

مثلاً ترى الحكومات القوميّة أو الوطنيّة المعيّنة تنطلق من حفظ التراب والعرق المعيّن، أو في الحكومات الملكيّة مثلاً من العائلة الحاكمة الكذائيّة، فتجد القوانين التي تنشعب أو المواد الدستوريّة الأُخرى التي تنشعب من هذه المادة الأولى والمواد الأولى، تكون في ظلّ تلك المواد، ورعاية المساواة والحقوق أيضاً في ظلّ تلك المواد الأُولى.

في النظام الديني ليست المادة الأُولى هي التراب والوطن وما شابه ذلك، وإن كان تلبية الضرورات المعيشيّة أو الرفاه المعيشي للفرد البشري القاطن في تربة معيّنة، أو في جغرافية معيّنة، أو في مجموعة

الصفحة 69
بشريّة معيّنة عرقيّة أو قومية معيّنة، هي من أهداف التشريع الإسلامي أو النظام الإسلامي.

ولكن ليس تأمين الرفاه المعيشي والسعادة المعيشيّة في دار الدنيا هي الهدف الوحيد للمشرع الديني، وهو اللّه عزّ وجلّ ورسوله وأوصياؤه، بل ليس هدف المشرّع الإسلامي فقط هو حصر السعادة المعيشيّة الدنيويّة في ظلّ تربة وجغرافية معيّنة، بل هدف المشرّع الإسلامي أولاً هو رفاه وسعادة البشر أجمع، لا الاقتصار على بقعة جغرافيّة محدّدة ولا تربة معيّنة.

أضف إلى ذلك أنّ هدفه أيضاً السعادة الأُخروية; لأنّ المشرّع الإسلامي يفترض أنّ الإنسان ليس وجوده محصوراً بهذه النشأة في المادة الغليظة، بل هو سينقل إلى مواد ألطف ونشآت وعوالم قد يعبّر عنها في الفيزياء الحديثة أثيرية أُخرى، تلك العوالم الألطف والأصفى متأثّرة سلباً وإيجاباً بممارسة وسلوك الإنسان في هذه العالم.

فمن ثمّ إذاً في ظلّ هذا الهدف منطق المساواة يختلف، فكلّ من يكون أوفى وأكثر وفاءً والتزاماً وأمانة لتحقيق هذه الأهداف، يكون هو ذو أولويّة أكثر، نعم في المنطق الوضعي حيث يلاحظ التربة والجغرافية ترى المساواة أو الأولويّة بلحاظ التربة أو العرق المعيّن والقوميّة المعيّنة، من ثمّ لا يلحظ الديانة طبعاً; لأنّ المفروض أنّه لاحظ التربة، ولذلك ذلك المشرع الوضعي يفارق في الأولويّة بين المنتمي لجغرافية

الصفحة 70
معيّنة وجغرافية أُخرى ولم يساو بينهما.

ولم يعترض عليه معترض بأن يقول: إنّك فرّقت بين البشر; لأنّ المفروض هو في ظلّ ذلك التقنين الذي لديه أنّ التربة هي الهدف الأول والأخير، أو العرقيّة المعيّنة هي الهدف الأخير، فالمساواة بحث نسبي ليس بحثاً مطلقاً.

بينما المشرّع الإسلامي يساوي بين أبناء جغرافيّة مختلفة، إذا كانوا بلحاظ الهدف الذي هو ينشده متساوين، ولذلك المشرّع الإسلامي قد فارق في المزايا بين المؤمنين وبين المسلمين، يعني المسلم الذين يتحلّى بصفة الإيمان له امتيازات تختلف عن المسلم الذي يتحلّى بصفة الإسلام فقط، وبين المسلم وغير المسلم فارق في المساوا ة، فالمساواة في ظلّ الهدف المعلن الذي هو مادة المواد الدستوريّة التي يقوم عليها النظام الاجتماعي السياسي قد راعاها المشرّع الإسلامي.

أمّا المساواة التي راعاها المقنّن الوضعي هي في ظلّ الهدف الآخر، ومن ثمّ فإنّ المقنّن الوضعي أيضاً لديه مساواة محدودة نسبيّة وأولويات ودرجات للمواطن، ولم يساو بينهم.

ففي الواقع إذاً لابدّ من نقاش في أصل مادة المواد أو المواد الأولى في أهداف الدستور التقنيني، بين التقنين الشرعي والتقنين الوضعي، وإلاّ بحث المساواة كبحث انشعابي فرعي من دون الملاحظة لأُصول

الصفحة 71
القانون التي ينطلق منها، بحث مخادع للصخب الإعلامي أكثر ممّا هو بحث منطقي قانوني.

هذا مع أنّ هناك مساواة في السقف الأدنى للنظام المدني في أساسيات المعيشة فى النظام الإسلامي يتمتّع الجميع فيه، وإنّما هناك امتيازات في جملة اُخرى من خصائص النظام الديني للمسلمين والمؤمنين.

هذا مع كون باب المواطنة بحسب الأدلّة الإسلاميّة والإيمانيّة مفتوح بابها غير مغلق لكلّ راغب، بخلاف المواطنة بحسب التربة والعرق والقوميّة في النظام الديمقراطي الغربي، فإنّها أمر غير اختياري.


الصفحة 72

فهرس المصادر


القرآن الكريم

(1) بحار الأنوار، العلاّمة المجلسي، تحقيق: محمد باقر البهبودي، الطبعة الثانية 1403 هـ، مؤسسة الوفاء ـ بيروت.

(2) مصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة)، الميرجهاني، 1388 هـ.

(3) الكافي، الكليني، تحقيق علي اكبر الغفاري، الطبعة الثالثة 1367 هـ ش، دار الكتب الإسلامية ـ طهران.

(4) وسائل الشيعة، الحر العاملي، تحقيق: مؤسسة آل البيت(عليهم السلام)لإحياء التراث، الطبعة الثانية 1414 هـ.

(5) روضة الواعظين، الفتال النيسابوري، تحقيق: غلامحسين، منشورات دليل المجيدي، مجتبى الفرجي، الطبعة الاولى 1423 هـ.

(6) مسند أحمد بن حنبل، تحقيق: احمد محمد شاكر، الناشر: دار الجيل ـ بيروت.

(7) كنز العمال في سنن الاقوال والافعال، للمتقي الهندي، تحقيق: محمود عمر الدمياطي، الطبعة الثانية 1424 هـ، منشورات دار الكتب العلمية ـ بيروت.

(8) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، نور الدين على الهيثمي المصري، تحقيق: محمد عبد القادر أحمد عطا، الطبعة الاولى 1422 هـ، منشورات دار الكتب العلمية ـ بيروت.