57- وصف من يتصدى للقضاء بين الأمة وليس أهل لذلك
كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يذم العمل بالرأي, ويذم من يتصدى للحكم والقضاء بين الأمة وهو يجهل الكتاب والسنة, لابتلائه عليه السلام بمن وضع أسس القضاء بالرأي والظن, وكثرة من سار في ركبهم ونسج على منوالهم, فأراد عليه السلام تنبيه الغافل وتحذير الجاهل, وأن يصحح للأمة أسس وركائز الحكم والقضاء بإرجاعها للكتاب والسنة حتى لا يظلموا أو يجورا على أحد ولا يتعدوا حدود ما شرعه الله عز وجل... قال عليه السلام في أحد خطبه الخالدة: إن أبغض الخلائق إلى الله رجلان: رجل وكله الله إلى نفسه فهو جائر عن قصد السبيل, مشغوف بكلام بدعة, ودعاء ضلالة, فهو فتنة لمن افتتن به, ضال عن هدى من كان قبله, مضل لمن اقتدى به في حياته وبعد وفاته, حمال خطايا غيره, رهن بخطيئته, ورجل قمش جهلا موضع في جهلا الأمة عاد في أغباش الفتنة, عم بما في عقد الهدنة قد سماه أشباه الناس عالما وليس به, بكر فاستكثر من جمع ما قل منه خير مما كثر حتى إذا ارتوى من آجن, وأكتنز من غير طائل, جلس بين الناس قاضيا ضامنا لتخليص ما التبس على غيره, فإن نزلت به إحد المبهمات هيأ لها حشوا رثا من رأيه, ثم قطع به, فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت: لا يدري أصاب أم أنخطأ: فإن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ, وإن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب, جاهل خباط جهالات. عاش ركاب عشوات لم يعض على العلم بضرس قاطع يذري الروايات إذراء الريح الهشيم لا مليء والله بإصدار ما ورد عليه, ولا هو أهل لما فوض إليه لا يحسب العلم في شيء مما أنكره, ولا يرى أن من وراء ما بلغ مذهبا لغيره, وإن أظلم أمر اكتتم به لما يعلم من جهل
نفسه, تصرخ من جور قضائه الدماء, وتعج منه المواريث إلى الله أشكو من معشر يعيشون جهالا ويموتون ضلالا ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته ولا سلعة أنفق بيعا ولا أغلى ثمنا من الكتاب إذا حرف عن مواضعه , ولا عندهم أنكر من المعروف, ولا أعرف من المنكر(1).
نعم تصرخ من جور قضائه الدماء المسفوكة بغير حق, وتعج م نجزر قضائه المواريث المسلوبة والمغتصبة, تعج من جور قضائه أموال اليتامى, المساكين, وهذا ما ابتليت به الأمة من أول يوم انتقل فيه نبي الإسلام صلى الله عليه سلم إلى الرفيق الأعلى وإلى يوم الناس هذا, عندما أزاحوا أهل بيت النبوة والعصمة والطهارة عليهم السلام عن مركز القيادة والسياسة, وعن موقعهم الطبيعي في الأمة, وجلسوا مكانهم , ولم يكتفوا بذلك بل ابتزوا حقوقهم المشروعة بأحكامهم الجائر.
58- بيت القصيد
والآن وبعد أن ثبت بالدليل الشرعي, والبرهان العقلي, استحالة أن يترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهل بيته الأطهار عليهم السلام يجهلون أحكام الإرث , خاصة ما كان فيه إبلائهم, لأن عصمته الواجبة, وحكمه البالغة, ونبوته الخاتمة توجب عليه ذلك, وأن ابنته فاطمة الزهراء عليها السلام صادقة في قولها وفعلها, بشهادة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم لها بالطهارة من الرجس, ومن كل آفة, وأنها احتجت على أبي بكر بآيات محكمات من الذكر الحكيم فأدحضت حجته, وثبت أنها أعلم منه, وأن بعلها أمير المؤمنين عليه السلام أعلم أمة أبيها
____________
(1)نهج البلاغة ج:1 ص47 الخطبة:16, شرح الشيخ والأستاذ محمد عبده مفتي الديار المصرية سابقا.
بالسنن والفرائض, وأقضاها بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأن الصحابة قد رجعوا إليه, ولم يرجع إليهم قط, وأنه قد اعترض عليهم في كثير من القضايا وأوقفهم على الحق, وأنه لم يخطأ في لا في حكم ولا في قضاء حكم به أو قضاه, وأنه كان محقا وصادقا في دفاعه عن سيدة النساء عليها السلام, وثبت جهل أبي بكر وعمر بأحكام الفرائض, وبأبسط قضايا الإرث, وثبت خطأهم وتناقضهم مرات لا مرة, وتراجعهم في كثير من الفتاوى إلى غير ذلك.
وبناءا على ما قدمناه: فإنه لا يبقى مجالا أو أدنى شبهة من أن أبا بكر قد أخطأ في حق فاطمة وبعلها وبنيها عليهم السلام, كما أخطأ في غيرها من الأحكام والقضايا, وأن دوافعه السياسية يومئذ هي التي أجبرته على الإفترى, لأن فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وآله سلم قد ألزمته الحجة , وضيقت عليه الخناق, ولم تترك له أي منفذ للفرار من الحق, بحججها الدامغة, وبييناتها الجالية, وبراهينها الساطعة... (وأطيعوا الله والرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين).
رواية أبي بكر المستمسك الوحيد عند الخصم
59- مناقشة لرواية أبي بكر التي انفرد بنقلها
لنضع رواية أبي بكر (نحن معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة) على طاولة البحث, لنناقشها من وجوه عدة. الوجه الأول: زعمت المدرسة السنية بأن رواية الخليفة الأول (لا نورث) تدل على أعلميته على جميع الأمة وغير ذلك!!
ونحن لا نريد أن نناقش مظاهر علم الرجل, وجهله بمعنى قول الله تعالى: (وفاكهة وأبا), لا نريد أن نتحدث عن نسيج العناكب في مهب الرياح, لأن ذلك يحتاج إلى تخصيص بحث مستقل, ولكن نقول: لمن نفخوا في أبواق هذه الدعاية, أيهما نصدق؟؟!! أنصدق الخبر المجمع على صحته بين الأمة, بأنه لم يروي حديث (إنا معشر الأنبياء لا نورث...) أحد غير أبي بكر, وانه قد انفرد بسماعة لوحده؟؟ أم نصدق ما زعمه البعض من علماء أهل السنة والجماعة: بأنه قد رواها غير أبي بكر عن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم (وضعوا أخبارا مفتعلة في سبيل الدفاع عن رواية أبي بكر), فلا يبقى حينئذ معنى للمدح, ويتم نقض كل ما نسجوه.
والأعجب من ذلك استرسالهم في كل مخترعات أبي بكر, ونحتهم له منها وسام الأعلمية على جميع الأمة!! انظر على سبيل المثال إلى ما رووه عن عائشة أنها قالت: لما فوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشرأب النفاق, أي رفع رأسه, وارتدت العرب, وانحازت الأنصار, فلو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبي لهاضها, أي فتتها, فما اختلفوا في لفظة إلا طار أبي بعبئها وفصلها, قالوا: أين ندفن رسول الله؟ فما وجدنا عند أحد في ذلك علما فقال أبو بكر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من نبي يقبض إلا دفن تحت مضجعه الذي مات فيه. وأختلفوا في ميراثه فما وجدنا عند أحد في ذلك علما فقال أبو بكر: سمعت رسول لله صلى الله عليه وسلم يقول: إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة(1).
قلت: هذا الطنين والرنين (كسراب بقيعة يحسبه الظمئان مآء حتى إذا جآءه لم يجده شيئا) هذا الطنين لا يمكنه الصمود أمام أي بحث علمي.
____________
(1)الطبقات الكبرى لابن سعد ج:2 ص292 ذكر موضع قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم, وتاريخ مدينة دمشق ج:30 ص311 تحقيق: علي شيري, الطبع: 1415هجرية, الطابع والناشر دار: الفكر, وكنز العمال للمتقي الهندي ج:12 ص488 باب: في فضائل الأنبياء.
بالله عليكم, فهل يمكم الجمع بين المتناقضات؟! تدبروا في قول عائشة بنت الخليفة الأول: ما وجدنا عند أحد في ذلك علما... وأنظروا إلى ما أخرجه البخاري مسلم وأصحاب الصحاح والمسانيد وغيرهم, عن كل من جابر بن عبد الله, وسعد بن أبي وقاص, وعبد الله بن عامر, وأبي سعيد الخدري, وأبي هريرة, وعبد الله بن زيد المازني, من أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة. وفي لفظ: ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: من سره أن يصلي في روضة من رياض الجنة فليصل بن قبري ومنبري(1).
قال ابن أبي الحديد المعتزلي: قلت: كيف اختلفوا في موضع دفنه وقد قال لهم: ضعوني على سريري في بيتي هذا على شفير قبري, وهذا تصريح بأنه يدفن في البيت الذي جمعهم فيه, وهو بيت عائشة, فإما أن يكون ذلك الخبر غير صحيح, أو يكون الحديث الذي تضمن أنهم اختلفوا في موضع دفنه, وأن أبا بكر روى لهم أنه قال: (الأنبياء يدفنون حيث يموتون) غير صحيح, لأن الجمع بين هذين الخبرين لا يمكن. وأيضا, فهذا الخبر ينافي ما ورد في موت جماعة من
____________
(1)صحيح البخاري ج:2 ص57 كتاب: العيدين, باب: فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة, وأخرجه أيضا في ص:225 كتاب: الحج, باب: حرم المدينة, وأخرجه أيضا في ج:7 ص209 كتاب: الرقاق, وأخرجه أيضا في ج:8 ص154 كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة, وفي صحيح مسلم ج:4 ص 123 كتاب: الحج, باب: ما بين القبر والمنبر روضة من رياض الجنة, وموطأ الإمام مالك ج:1 ص197 كتاب: القبلة, باب: ما جاء في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم, ومسند الإمام أحمد بن حنبل ج:2 ص236 و376 و397 و401 و412 و438 و466 533 و434 مسند أبي هريرة, وأيضا في ج:3 ص4 و64 و390 مسند أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه, وأيضا ج:4 ص39 و41 و42 حديث عبد الله بن زيد بن عاصم المازني رضي الله عنه, والمصنف لعبد الرزاق الصنعاني ج:3 ص182 و183 ح5241 وح5242 وح5243 وح5244 وح5245 كتاب: الجمعة, باب: منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم , ومسند أبي بكر عبد الله بن الزبير الحميدي ج:1 ص139 تحقيق: حبيب الرحمن العظمى الطبعة الأولى:1409 هجرية, دار الكتب: العلمية, ومسند أبي يعلى الموصلي ج:109 ح118 وج:2 ص496 ح1341 وج:3 ص319 ح1784 وص: 462 ح1964 وج:11 ص27 ح6166, وصحيح ابن حبان ج:9 ص65 كتاب: الحج , فضل الدعاء عند منبر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك المصادر الكثيرة جدا التي لا يمكن استعراضها.
الأنبياء نقلوا من موضع موتهم إلى مواضع أخر, وقد ذكر الطبري بعضهم في أخبار أنبياء بني إسرائيل(1).
قلت: فقولهم: أين ندفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فما وجدنا عند أحد في ذلك علما فقال أبو بكر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم... غير صحيح, ويمكن أن يكون موضوع على لسان عائشة لرفع منزلة أبيها, فلماذا لم يذكروا لنا بين من ومن وقع ذلك الاختلاف؟! فهل وقع بين أهل البيت عليهم السلام وغيرهم؟؟ أم هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أحد بأن يقوم بتجهيزه من تغسيل وتكفين وصلاة ودفن غير سيد عترته أمير المؤمنين علي وأهل بيته عليهم السلام؟؟ وهل جهزه ودفنه غيرهم؟؟ وهل حضر أحد من قريش غير بني هاشم تجهيز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟؟ وهل حضرا أبو بكر وعمر أو أي أحد من عصابة قريش مراسم الدفن أم كانوا منشغلين بالاستيلاء على الخلافة, وتوطيد سلطانهم؟؟ وقد استغلوا انشغال أمير المؤمنين عليه السلام بتجهيز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - وهو مسجى بين يديه وقد أغلق دونه الباب أهله, وخلى أصحابه بينه وبين أهله فولوا إجنانه, ومكث صلى الله عليه وآله وسلم يومين أو ثلاثة أيام لا يدفن, وقد دفنه أهله ولم يليه أحد غير أقاربه.
فقد روى ابن أبي شيبة الكوفي بإسناده عن هشام بن عروة عن أبيه أن أبا بكر وعمر لم يشهدا دفن النبي صلى الله عليه وسلم كانا في الأنصار فدفن قبل أن يرجعا(2).
____________
(1)شرح نهج البلاغة ج:13 ص39 ذكر طرف من سيرة النبي عليه السلام عند موته. (2)المصنف ج:8 ص572 كتاب: التاريخ, ما جاء في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم, وأخرجه صاحب كنز العمال ج:5 ص652 ح14139.
وقد دفن رسول الله صلى ع?يه وآله وسلم ليلا, دفنه أمير المؤمنين علي عليه السلام ساعده ثلاث أنفار يزيدون أو ينقصون من بني هاشم, ولم يعلم غيرهم بدفنه إلا في يوم الأربعاء عندما أصبح أمير المؤمنين عليه السلام في بيته, وفي الأخبار أن بعض نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمعن صوت المساحي من جوف الليل فعلمن آنذاك بدفنه.
روى الإمام أحمد بإسناده عن عائشة أنها قالت: ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعت صوت المساحي من آخر الليل ليلة الأربعاء.
وروى عبد الرزاق الصنعاني بإسناده عن عائشة قالت: ما شعرنا بدفن النبي صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المساحي من آخر الليل(1).
وروى محمد بن سعد بإسناده عن الزهري عن أبيه عن صالح بن كيسان عن بن شهاب قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين زاغت الشمس يوم الاثنين فشغل الناس عن دفنه بشبان الأنصار فلم يدفن حتى كانت العتمة ولم يله إلا أقاربه ولقد سمعت بنو غنم صريف المساحي حين حفر لرسول الله صلى الله عليه وآله وإنهم لفي بيوتهم.
وروى بإسناده عن مالك بن أنس أنه بلغه أن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقول: ما صدقت بموت النبي صلى الله عليه وسلم حتى سمعت بوقع الكرازين(2).
____________
(1)مسند أحمد ج:6 ص62 حديث السيدة عائشة, المصنف ج:3 ص 520 ح6551 باب: الدفن بالليل, والمصنف لابن أبي شيبة الكوفي ج:3 ص227 ح16 كتاب: الجنائز, ما جاء في الدفن بالليل, وشرح معاني الآثار لأحمد بن محمد بن سلمة ج:1 ص 514 كتاب: الجنائز, باب: الدفن بالليل, وتاريخ الطبري ج:2 ص452 السنة الحادية عشرة من الهجرة, حديث السقيفة, والبداية والنهاية لابن كثير ج:5 ص291 السنة الحادية عشر من الهجرة, متى وقع دفنه عليه الصلاة والسلام, والمغني لعبد الله بن قامة ج:2 ص417 فصل في الصلاة على الميت, صلاة الجنازة ودفنها في الأوقات المكروهة, والشرح الكبير لعبد الرحمن بن قامة ج:2 ص418 فصل في الصلاة على الميت, صلاة الجنازة ودفنها في الأوقات المكروها, إلى غير ذلك من المصادر الكثيرة. (2)الطبقات الكبرى ج:2 ص304 ذكر دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن أبي الحديد المعتزلي: قال أبو جعفر: وقد روت عمرة بنت عبد الرحمن بن اسعد بن زرارة, عن عائشة قالت: ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه آله حتى سمعنا صوت المساحي في جوف الليل ليلة الأربعاء. وقال: فمن العجب كون عائشة, وهو في بيتها لا تعلم بدفنه حتى سمعت صوت المساحي, أتراها أين كانت وقد سألت عن هذا جماعة , فقالوا لعلها كانت في بيت يجاور بيتها عندها نساء كما جرت عادة أهل الميت, وتكون قد اعتزلت بيتها وسكنت ذلك البيت, لأن بيتها مملوء بالرجال من أهل رسول الله صلى الله عليه وآله وغيرهم من الصحابة, وهذا قريب, ويحتمل أن يكون(1).
روى ابن أبي شيبة الكوفي بإسناده عن الزهري عن سعيد أن الذي ولي دفن النبي صلى الله عليه وسلم وأكفانه أربعة نفر دون الناس على والعباس والفضل وصالح مولى النبي صلى الله عليه وسلم(2).
قلت: ولو لا انشغال أمير المؤمنين عليه السلام وأقاربه بسيد الكائنات صلوات الله عليه وآله وسلم لما تمكنوا من الاستيلاء على الخلافة, وأي مزية لأبي بعد إخبار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمته بمكان دفنه؟!
وهل يبقى معنى لاختلافهم؟! لكنهم في الحقيقة أرادوا أن يسندوا رواية الإرث من الانهيار وغير ذلك, فجعلوا لها نظائر من القصص.
وهل يبقى وثوق بمن يستسيغ مثل هذه الأكاذيب المفضوحة على سيد الكائنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وعلى أصحابه الكرام رضي الله تعالى عنهم؟! وقد رووا عن عائشة قالت: ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل ليلة الأربعاء كما استعرضنا ذلك.
____________
(1)شرح نهج البلاغة ج:13 ص 40. (2)المصنف ج:3 ص205 كتاب: الجنائز, في اللحد للميت من أقر به وكره اشق.
60- الوجه الثاني لروايته
أن آخرها يناقض أولها , فالقسم الأول: نحن معشر الأنبياء لا نورث ذهبا ولا فضة ولا دارا ولا عقارا..., فهذا نفي لوراثة الملك والمال, وأما القسم الثاني: ولكن نورث الإيمان والحكمة والعلم والسنة, وفي لفظ آخر: وإنما نورث الكتاب والعلم والنبوة, وهذا يثبت وراثة الإيمان, والسنة, والكتاب, والحكمة, والعلم, والنبوة. وبدون شك فإن أهل البيت عليهم السلام قد ورثوا الكتاب والسنة وعلم النبوة , فكيف خرجت هذه الرواية التي تخصص أحكام الإرث وهي من السنة فلم يرثوها؟؟!!
أم غاب عنهم فهم الكتاب وهم ورثته ؟؟!!
أليس هذا تناقض لا يرضيه جاهل, ألا تعني رواية أبي بأن أهل البيت عليهم السلام قد ورثوا الإيمان والحكمة والعلم والكتاب والسنة, ولم يرثوا أحكام الإرث وهي من الكتاب والسنة ؟؟!!
هل هناك تناقض مكشوف أكثر من هذا ؟؟ وبأي لفظ كانت , فلا يمكنهم إنكار الوارثة لأهل البيت عليهم السلام. لأنهم ورثة الكتاب والسنة بنص حديث الثقلين, وحديث السفينة, وحديث الدار والمنزلة, وقد أصفت الأمة على أن سيد العترة أمير المؤمنين عليه السلام هو الوارث لعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم, فيه: قال علي: وما أرث منك يا نبي الله؟! قال: ما ورث الأنبياء من قبلي. قال: وما ورث الأنبياء من قبلك؟! قال: كتاب الله وسنة نبيهم...
وقد تقدم هذا الحديث في علم علي أمير المؤمنين عليه السلام, وفي ذيل حديث وراثته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم دون عمه العباس رضي الله تعالى عنه, قال الحاكم: لا خلاف بين أهل العلم أن ابن العم لا يرث مع العم, فقد ظهر بهذا
الإجماع أن عليا ورث العلم من النبي (صلى الله عليه وآله) دونهم, وقد كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: والله إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارث علمه, فمن أحق به منين؟!(1)
61- الوجه الثالث لروايته
إن روايته (لا نورث) صريحة في وراثة النبوة دون الأموال, وهذا الوجه ظاهر البطلان, لأنه يخالف ما ورد في كتاب الله عز وجل, وما نصت عليه آيات كثيرة, من أن النبوة لا تكون إلا بالاصطفاء, والجعل, والاختيار قال الله سبحانه وتعالى: (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين), وقال عز وجل: (قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالتي وبكلامي فخذ ما أتيتك وكن من الشاكرين), وقال عز قائلا لنبيه موسى عليه السلام (وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى), وقال جل جلاله فيه أيضا: (واصطنعتك لنفي), وقال سبحانه: (الله أعلم حيث يجعل رسالته), وقال تعالى في أنبياء بني إسرائيل: (ولقد اخترناهم على علم على العالمين), وقال عز وجل حكاية عن عيسى ابن مريم: (قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا). فلو كانت النبوة بالوراثة النسبية, لكان كل أولاد آدم عليه السلام ذكرانا وإناثا أنبياء!! ولكان كل نبي أولاده أنبياء أيضا!! بينما نراها تنقطع مرة, وتظهر أخرى, وتكون في قوم دون قوم, وفي بعض الآباء دون الأبناء أو بالعكس, وقد تجعل في أخوين كهارون وموسى عليهما السلام, والنبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء ووارثهم لكن بعد الاصطفاء والاختيار الإلهي.
____________
(1)مستدرك الصحيحين ج:3 ص226.
62- الوجه الرابع رواية
إن روايته (لا نورث) تنفي وبصراحة وعلى نحو الإطلاق توارث ما تركه الأنبياء عليهم السلام من الأموال, وهذا الوجه معارض لمحكم الكتاب, وقد ذكرنا فيما سبق وجه المعارضة عند مناقشة خبر الآحاد, وقد احتج أصحاب الكساء عليهم السلام بآيات الإرث الدالة على توارث الأنبياء عليهم السلام, وقد حاول علماء أهل السنة الدفاع عن رواية أبي بكر بحجج واهية, لكنهم فشلوا في ذلك, ولو رجعوا للحق لكان خير لهم. وإلا فهل كانوا أفقه من أصحاب الكساء عليهم السلام؟! أو من الصحابة رضي الله تعالى عنهم, وأعرف من أبي بكر وعمر بأساليب اللغة والبيان؟! أم أن أبا بكر يومئذ لم يتمكن من الدفاع عن نفسه, عندما احتجت عليه فاطمة الزهراء عليها السلام بآيات الإرث؟! وغاب عن الشيخين ما ظهر لهؤلاء الذين جاءوا من بعدهم؟! فعندما حاجته فاطمة الزهراء عليها السلام كان حاله, كحال الغريق, يتعلق بكل حشيشة وغير ذلك.
ولو كان قوله الله تعالى: (وورث سليمان داود), وقوله عز وجل: (فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب) لا يدلان على وراثة المال, ما كانت الزهراء عليها السلام لتحاججه بذلك, وما كان ليسكت, وسكوته أكبر دليل على تسليمه لما ذهبت إليه بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وأبو بكر يومئذ لم يقل إن الآيتين لا تدلان على الوراثة المالية, لأنه لا يوجد فيهما ما ينفي ذلك بل ظاهر آيات الإرث تدل على توارث الأموال وعلى نحو العموم, وإنما أدعى التخصيص بما رواه, لو لا أن ظاهر آيات الإرث تدل على وراثة الأموال لما بقي أي معنى رواية التي حاول أن يخص بها أحكام الإرث
العامة, ولم يدعي أكثر من دعوى التخصيص, وقد رفض أهل البيت عليهم السلام تخصيص الخليفة لأحكام الإرث العامة رفضا قاطعا.
ومن هنا نعلم بطلان تفسير علماء أهل السنة للآتين, وإدعائهم بأن سليمان عليهم السلام ورث من داود عليه السلام النبوة لا المال, وأن زكريا عليه السلام كان يدعو ربه ليرزقه وليا يرثه النبوة.
فلو سلمنا جدلا بأن النبوة لا تكون إلا بالوراثة, وأنها قد انتقلت من داود إلى سليمان عليهما السلام بالوراثة, ولم تنتقل إليهما بالاختيار والاصطفاء, وأن زكريا عليه السلام كان يسأل من الله وليا يرث منه النبوة, ولم تم كل ذلك فهل هناك ما يدل على التنافي بين وراثة المال, ووراثة النبوة؟؟!!
فمن أين علموا وجه التنافي بينهما يا ثرى؟؟ (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى).
فلفظ إرث في اللغة تستعمل حقيقة في وراثة المال وهو المتبادر, أما في غير ذلك , كالعلم , الحكم, والنبوة. لا تكون إلا على نحو المجاز, وتحتاج إلى قرينة (إما لفظية, أو حالية, أو معنوية) ولا يتأتى ذلك إلا بالعناية بنحو من الأنحاء.
فمن أين علموا نفي الوراثة المالية إذا؟؟!! فهل هناك غير روية أبي بكر التي انفرد بها؟؟ ولهذا كان بحثنا منصبا على رواته, ونحن نسال منه ومن هو على رأيه , إذا كان الأنبياء عليهم السلام لا يورثون المال, وما تركوه كان صدقة, والصدقة قد حرمت على آل الرسول صلى الله عليه وآله, وأن أكل الحرام من الكبائر كما هو معلوم, فكيف جاز لأهل بيت المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أن يجتهدوا في طلب شيء قد حرم عليهم أكله, والتصرف فيه على نحو التمليك.
ألا يقتضي الاحتياط في الدين أن يتركوا ذلك ويتعففوا خشية الوقوع في الحرام , وهم الأتقياء الأنقياء الطاهرين؟؟ وقد قال سيد العترة أمير المؤمنين عليه
السلام لبعض عماله: كيف تسيغ شرابا وطعاما, وأنت تعلم أنك تأكل حراما وتشرب حراما(1)...
وزهد أهل البيت عليهم السلام ليس له مثيل ولا نظير وحالهم فيه ملحق بالبديهيات عند المسلمين , ولو كان عندهم أدنى شك أو شبهة في كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يورث, ولم يكون على يقين تام مائة بالمائة أن من حقهم وراثة ما تركته النبي صلى الله عليه وآله وسلم, كما يرث المسلمين أباهم وقرابتهم لما اجتهدوا في طلبه بالمحاجة والمخاصمة مرات ومات حتى ماتت فاطمة عليها السلام وهي غاضة على الشيخين وأوليائهما.
63- جعلوا حق آل الرسول صلى الله عليه وآله في الكراع والسلاح
قد تناقلت الأخبار بأن أبا بكر بعدما استولى على تركة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما وهبه لأهل بيته عليهم السلام وحقهم في الخمس وسهم ذي القربى, قد جعله أبو بكر في الكراع والسلاح لحرب الردة.
فعن ابن عباس قال: جعل سهم الله وسهم رسوله واحدا ولذي القربى فجعل هذا السهمان في الخيل والسلاح , وجعل سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل لا يعطى غيرهم. وعن قتادة لما سئل عن سهم ذي القربى, قال: كان طعمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلما توفي حمل عليه أبو بكر وعمر في سبيل الله. وفي لفظ آخر: فلما قبض الله رسوله رد أب بكر نصيب القرابة في المسلمين فجعل يحمل به في سبيل الله. وقال جبير بن مطعم: لم يكن (أبو بكر) يعطي قربى رسول
____________
(1)نهج البلاغة كتاب رقم:280.
الله صلى الله عليه وسلم ما كان النبي يعطيهم (وقد تقدم استعراض كل هذه الأخبار).
ولما طالبت سيدة النساء عليها السلام بفدك وحقها في الخمس ومجوع ما تركه أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لها أبو بكر: قد جعلنا ما حاولته في الكراع والسلاح, يقاتل بها المسلمون, ويجاهدون الكفار, ويجالدون المردة الفجار... (راجع خطبة الزهراء عليها السلام).
ونحن والله نتعجب من مراوغات أبي بكر وتصرفاته مع عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم!! فهل يجوز في شريعتنا الإسلامية الاستيلاء على أموال المسلمين؟؟ أليس أموال المسلمين ودمائهم في الحرمة على حد سواء؟؟ ألم يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه, وحسابه على الله. قال البخاري: رواه عمر وابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسل, وقد رواه أيضا عن أبي هريرة(1).
أليس الناس مسلطون على أموالهم؟؟ أكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأخذ أموال المسلمين غصبا ويجعله في الكراع والسلاح وفي سبيل الله؟؟ أم هذه من البدع التي ابتدعها الخليفة الأول!! ونحن نسأل: أكان لأهل البيت عليهم السلام حقا في ما تركه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفدك والخمس أم لم يكن لهم حق؟؟ فإن كان لهم حق, فكيف جاز لأبي بكر أن يجعله في الكراع والسلاح بدون مشورتهم وإجازة منهم أو طيب خاطر؟! وكان عليه أن يعطيهم حقهم ثم يستأذنهم في ذلك, وإن كان ولا بد أن يأخذ الأموال لضرورة قاهرة على سبيل الفرض فلماذا لم يأخذها من جميع المسلمين على حد سواء؟! ولا حتى الهبات التي
____________
(1)صحيح البخاري ج:4 ص58 ج:1 .
وهبها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه رضي الله تعالى عنهم لم يتعرض لها لا من بعيد ولا من قريب وترك لهم ذلك؟! بل حتى من ادعى من الصحابة بأن رسول الله قد وعده بأن يعطيه كذا وكذا فقد أعطاه بدون مناقشة!! وهذه سيرة رسول الله صلى الله عليه آله وسلم في أمته, في حربه وسلمه, لم يتعرض لأموالهم, ليجعلها في الكراع والسلاح, إلا ما كان يتبرعون به عن طيب خاطر , لكن الخليفة الأول لم يلتفت إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن ليتقيد بها, فأخذا حق أهل البيت عليهم السلام في الخمس وسهم ذي القربى وأغتصب أرض فدك وقد ملكوها بالهبة, أخذ كل ذلك غصبا ولم يخشى الله سبحانه وتعالى, ولم يراعي فيهم حرمة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله سلم, لم يلتفت إلى وصايا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم!! وقد روى البخاري في باب: إثم من ظلم شيئا من الأرض, قال حدثني محمد بن إبراهيم أن أبا سلمة حدثه أنه كانت بينه وبين أناس خصومة فذكر لعائشة رضي الله عنها فقالت: يا أبا سلمة اجتنب الأرض فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين. وفي لفظ آخر: من أخذا من الأرض شيئا بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين.
64- الاستيلاء على تركة النبي صلى الله عليه وآله بعنوان الصدقة
وأعجب من ذلك استيلاء الخليفة الأول على تركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي حق شرعي لآله الأطهار, تجعلها صدقة, وكأن أهل البيت عليهم السلام ليسوا من المسلمين, ولا يحق لهم أن يملكوا شيئا؟!
ألم يكن تصرف الخليفة الأول مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث روى البخاري أن الني صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن إضاعة المال فليس له أن يضيع أموال الناس بعلة الصدقة, وقال كعب قلت: يا رسول الله إن من توبتي أبن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك, قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر(1).
فالحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم كيف لم يرضى من كعب أن يتبرع بقسم كبير من ماله صدقة لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم, لأنه لا يرضى لأمته الفقر والحرمان أو الاحتياج, أما أهل بيته الكرام الأطهار عليهم السلام فإن ابن أبي قحافة قد استثناهم من هذه القاعدة, بل قد اغتصب حقوقهم الشرعية وجعلها في سبيل الله بدون رضا منهم.
65- الاجتهاد مقابل النص سنة أبي بكر وعمر
تبين أن ما قام به أبو بكر كان ضمن خطة مسبقة, محكمة التنسيق والإتقان, خطط أن يستولي على أملاك أهل البيت عليهم السلام وعلى أموالهم, لإضعافهم اقتصاديا (كما قلنا سابقا) فبعد اغتصابه للخلافة, سارع فوضع يده على كل حقوقهم الشرعية, ثم جعلها في خزينته الحربية, ليبعد عن نفسه أي اتهام قد يواجهه, فإذا طولب اعتذر إليهم قائلا: إني جعته في الكراع والسلاح, يقاتل بها المسلمون في سبيل الله!! فيكون قد تصيد مجموعة من العصافير بحجر واحد, لإظهار براءته أمام الرأي العام, وإظهار حرصه على مصلحة الأمة الإسلامية, وامتصاص غضبها, وإحراج العترة الطاهرة عليها السلام أما المسلمين, بين المطالبة بحقها, أو تركها في سبيل الله, مع ذلك هو مسلح بسلاح الاجتهاد, فإن
____________
(1)صحيح البخاري ج:2 ص138 باب: لا صدقة إلا عن ظهر غنى.
أصاب له أجران, وإن أخطاء فله أجرا واحدا, حتى قيل في ذلك: إن الشيخين جعلا سهم الله ورسوله وذي القربى يحملان به في سبيل الله!!
وقال بعضهم في منع عمر أهل البيت عليهم السلام خمسهم من الغنائم: (إنه من باب الإجهاد وأن عمر لم يخرج بما حكم عن طريقة الاجتهاد ومن قدح في ذلك فإنما يقدح في الاجتهاد الذي هو ريق الصحابة) وقالوا في جوابه: (إنه من مخالفة المجتهد لغيره في المسائل الاجتهادية)(1).
فالصحابي معذور حتى لو خالف الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم, وأراق الدماء المحرمة, ونهب أموال المسلمين, وأحرق بيوت المؤمنين, وعطل حدود الله عز وجل, وابتدع في الدين, وغير أحكام الشريعة وغير ذلك.
لماذا؟؟
لأنه من باب الاجتهاد, ومن قدح في ذلك فإنما يقدح في الاجتهاد !!
وبهذا الميزان تنتهك الشريعة الإسلامية تهتك أعراض المسلمين, وتحفظ كرامة الصحابي, فإن لله وإنا إليه راجعون.
سيرة أهل البيت عليهم السلام تبطل ما تعلل به المبطلون هل كان الخليفة الأول يخشى من أهل البيت عليهم السلام أن يبخلوا بتلك الثروة التي تركها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيحتكرونها, ولا يساعدوه في حربه ضد المرتدين؟! أم كان يخشى عليهم إتلافها بالتبذير والإسراف؟! أم كان أعرف بأمهات الأمور وأولويات المصالح من باب مدينة علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟؟ أم هو أحرص من أهل البيت وسيد العترة عليهم السلام على الإنفاق في سبيل على الفقراء والمساكين وابن السبيل؟! أم هو أحرص من سيد المجاهدين أمير المؤمنين عليه السلام على مجاهدة أعداء الدين, والدفاع عن المسلمين, وعن بيضة
____________
(1)أنظر: معالم المدرستين للسيد مرتضى العسكري ج:2 ص234.
الإسلام؟! وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: وليس رجل - فأعلم- أحرص على أمة محمد صلى الله عليه وآله سلم وألفتها مني أبتغي بذلك حسن الثواب وكرم المآب, وسأفي بالذي وأيت على نفسي(1).
وقال عليه السلام: لن يسرع أحد قبلي إلى دعوة حق , وصلة رحم, وعادة كرم(2).
فأهل البيت عليهم السلام قد ضربوا المثل الأعلى في الزهد والسخاء والجود والكرم, والجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم (والسابقون السابقون, أولئك المقربون) كانوا ينفقون كل ما وقع تحت أيديهم ولا يؤخرونه لغدهم, وأعظم شهادة هي شهادة الله لهم بذلك قال تعالى: (يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهو راكعون) وقوله سبحانه: (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية) وقوله عز جل: (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا, إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا). قال سيد العترة أمير المؤمنين عليه السلام: ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذر وإسراف, وهو يرفع صاحبه في الدنيا, ويضعه في الآخرة, ويكرمه في الناس, ويهينه عند الله(3).
وقد اشتهر عن أمير المؤمنين عليه السلام طلاقه للدنيا ثلاثا بائنا لا رجعيا, قال عليه السلام: هيهات! غري غيري, لا حاجة لي فيك. قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها...(4).
وقال عليه السلام: أنا يعسوب المؤمنين, والمال يعسوب الفجار(5).
____________
(1)نهج البلاغة ج:3 ص150 أحد رسائله لأبي موسى الأشعري جوابا في أمر التحكم. (2)نهج البلاغة ج:2 ص31 خطبة: 135 شرح الشيخ محمد عبده المصري. (3)شرح نهج البلاغة ج:2 ص10 خطبة رقم:122 شرح الشيخ محمد عبده المصري. (4)نهج البلاغة الخطبة رقم:77. (5)نهج البلاغة حديث316, لبيب بيضون ص:392.
أما الجهاد في سبيل الله فليس له نظير ولا مثيل بعد النبي صلى الله عليه وسلم, وبجهاده تضرب الأمثال, وقد نزل فيه قوله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد). وقد قال عليه السلام: إن أكرم الموت القتل والذي نفس ابن أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف أهون علي من ميتة على الفراش, في غير طاعة الله(1).
وقال عليه السلام: فوالله ما أبالي دخلت إلى الموت أو خرج الموت إلي(2).
وقال عليه السلام: لله أبوهم! وهل أحد منهم أشد لها مراسا, وأقدم فيها مقاما مني! لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين, وها أنذا قد ذرفت على الستين! ولكن لا رأي لمن لا يطاع!(3)
وقال عليه السلام: إن أفضل ما توسل به المتوسلون إلى الله سبحانه وتعالى: الإيمان به وبرسوله, والجهاد في سبيليه, فإنه ذروة الإسلام(4).
وقال عليه السلام: الله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم, في سبيل الله(5).
وقال عليه السلام: أيها الناس, إني والله ما أحثكم على طاعة إلا وأسبقكم إليها, ولا أنهاكم عن معصية إلا وأتناهى قبلكم عنا(6).
وقال عليه السلام: وأنا من رسول الله كالصنو من الصنو والذراع من العضد... قال الشيخ محمد عبده: الصنوان: النخلتان يجمعهما أصل واحد, فهو من جرثومة الرسول يكون في حاله, كما كان شديد البأس
____________
(1)نهج البلاغة ج:2 ص3 خطبة119 شرح الشيخ محمد عبده المصري. (2)نهج البلاغة ج:1 ص99 خطبة54 شرح الشيخ محمد عبده المصري. (3)نهج البلاغة ج:1 ص63 خطبة26 شرح الشيخ محمد عبده المصري. (4)نهج البلاغة ج:1 ص215 خطبة106 شرح الشيخ محمد عبده المصري. (5)نهج البلاغة خطبة 286, لبيب بيضون ص:300. (6)نهج البلاغة ج:2 ص108 خطبة170 شرح الشيخ محمد عبده المصري.
وإن كان خشن المعيشة(1).
فقول أبي بكر: إني جعلته في الكراع والسلاح, يقاتل بها المسلمون..., إنما قال ذلك ذريعة للاستيلاء على حقوقهم الشرعية, وليس فيه معنى غير التظليل والتمويه, وطلبا للنصر بالجور, وقد دلت طول شكاية أهل البيت عليهم السلام وتظلمهم بأن أبا بكر وأوليائه قد ظلمهم وتعدى حدود الله عز وجل.
66- دوافع الاستيلاء على حقوق أهل البيت عليهم السلام
لقد نالت عصابة قريش برئاسة أبي بكر بن أبي قحافة وعمر بن الخطاب مبتغاها بعد حادثة السقيفة باستيلائها على الخلافة الإسلامية, والخلافة هي منصب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بأمر من الله عز وجل, وتنصيب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, فتم باغتصابهم للخلافة خرق المنظومة الشرعية وتحويل البناء عن رص أساسه, لأن الخطة الإلهية تقتضي أن يستلم أمير المؤمنين عليه السلام مقاليد السلطة بعد رحيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة لاستمرار الحكومة الإلهية على الأرض.
فنظام الحكم في الشريعة الإسلامية متكاملا, لا يوجد فيه خلل ولا نقصان, قد أحكم الله عز وجل بنيانه بإتقان (صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون), ومن المعلوم ضرورة أنه لا يمكن لأي حكومة أن تستمر في تطبيق منهاجها, وبسط نفوذها, ما لم يخصص لها قسطا كبيرا من المال لإدارة شؤونها, وقد جعل الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم الأنفال, وخمس الغنائم, والفيء والصفا يا وغير ذلك لينفق منها على شؤون دولته وعلى نوائبه وما يعوزه وغير ذلك.
____________
(1)نهج البلاغة ج:3 ص81 من كتاب له عليه السلام إلى عثمان بن حنيف الأنصاري.
وقد جعل الله عز وجل ذلك لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم تكريما وتشريفا له ورحمة لألا يمن عليه أحد (ولكن الله يمن على من يشاء من عباده).
وقد انتقلت تلك الميزانية الضخمة والثروة الهائلة المتمثلة في تركة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم إلى أولياء الأمر من بعده وهم أئمة أهل البيت عليهم السلام, انتقلت إليهم عن طريقين: بموجب الولاية, وبموجب الوراثة.
وعندما اغتصب أبو بكر الخلافة وجد نفسه خليفة وحاكما يشرف على دولة ليس تحت يديه مالا ولا عقارا, وجد الأموال التي كان ينفق منها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على شؤون الدولة الإسلامية قد انتقلت بصورة شرعية وتلقائية لأهل بيته الأطهار عليهم السلام, فقام عندئذ بالاستيلاء عليها بدون تردد, وتمادى في التعدي على الحقوق وارتكاب المحارم, لأن الخطة الإلهية اقتضت أن تكون المنظومة الشرعية محكمتا البناء والتنسيق, وغير قابلة للتفكيك أو التجزئة, فخرقها أو تفكيكها يوجب صدعها وانقلاب الظالم عن أحكام الشريعة, وهذا ما وقع بالفعل, وذلك عندما أقدموا على اغتصاب الخلافة والتركة وغير ذلك من الأفاعيل.
وقد أشار أمير المؤمنين عليه السلام إلى هذا المعنى بقوله: حتى إذا قبض الله رسوله صلى الله وآله, رجع قوم على الأعقاب, وغالتهم السبل, واتكلوا على الولائج, ووصلوا غير الرحم, وهجروا السبب الذي أمرا بمودته, ونقلوا البناء عن رص أساسه. فاستتبع اغتصاب الخلافة اغتصاب تركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي حق لأهل البيت عليهم السلام, والله سبحانه قد فرغ من قسمة الأموال, ولم يجعل لمن يغتصب منصب أئمة أهل البيت عليهم السلام نصيب. معادن
كل خطيئة , وأبواب كل ضارب في غمرة, قد ماروا في الحيرة, وذلوا في السكرة, على سنة من آل فرعون, من منقطع إلى الدنيا راكن, أو مفارق للدين مباين(1).
روى أبو داود السجستاني بإسناده عن عبد الرحمن بن زياد, أنه سمع زياد بن نعيم الحضرمي, أنه سمع زياد بن الحارث الصدائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته, فذكر حديثا طويلا قال: فأتاه رجل فقال: أعطني من الصدقة, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء, فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك(2).
وقال أمير المؤمنين علي عليه السلام لعمر بن الخاطب: إن القرآن أنزل على النبي صلى الله عليه وآله والأموال أربعة: أموال المسلمين فقسمها بين الورثة في الفرائض, والفيء فقسمه على مستحقيه, والخمس فوضع الله حيث وضعه, والصدقات فجعلها الله حيث جعلها(3)...
فالله سبحانه وتعالى قد جعل لرسوله الفيء الذي لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب خالصا , وخمس الغنائم, والصفايا يتصرف فيها كيف شاء على شؤون دولته كيف شاء, وقد بينا فيما سبق حق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الفيء والخمس الغنائم غير ذلك عند بحثنا فيما تركه.
قلت: وبعد اغتصاب الخلافة, والاستيلاء على ما تركه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, شن أبو بكر بن أبي قحافة على المسلمين حربا لا هوادة فيها, بقيادة خالد بن الوليد, على الرغم من معارضة كل الصحابة له. وقد ألبس مانعي
____________
(1)شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد المعتزلي ج:9 ص132. (2)سنن أبي داود ج:1 ص368 ح1630 كتاب: الزكاة ووجوبها, باب: الزكاة هل تحمل من بلد, والسنن الكبرى للبيهقي ج:7 ص6 كتاب: قسم الصدقات, وتفسير القرآن العظيم ابن كثير ج:2 ص378 تفسير سورة التوبة, النهي عن الصلاة على من مات من الكفار, والدر المنثوور لجلال الدين السيوطي ج:3 ص250 سورة التوبة. (3)شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد ج:19 ص158 خطبة:276.
الزكاة ثوب الردة, من أجل جمع الأموال لملء خزينته وبسط سلطانه وما إلى ذلك. وقد توالت التجاوزات, والتعدي على أحكام الشريعة, وتعطيل الحدود, وانتهاك الحرمات, والابتداع في الدين, وقد جعلوا الاجتهاد في مقابل النص ذريعة لتبرير أعمالهم السياسية وغيرها, وكأن الاجتهاد بالرأي والهوى حاكم على الكتاب والسنة, فإن لله وإنا إليه راجعون (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه بئس الشارب وساءت مرتفقا).
67- تنبيه
لقد أتممنا ما أردناه بعون الله سبحانه وتعالى من إظهار الحق فيما يتعلق بتركة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم, وما فعله حزب السقيفة حزب قريش في حق أهل البيت عليهم السلام من الظلم والجور والأذية والتعدي على حقوقهم الشرعية, وقد تبين مما استعرضنا بما لا يدع مجالا للشك أنهم لم يراعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يحفظوه في ولده وعترة الطاهرة سلام عليهم, حتى مضت سيد نساء العالمين وسيدة نساء أهل الجنة فاطمة الزهراء سلام الله عليها وعلى روحها الطاهرة إلى سبيل ربها وهي واجدة وغاضبة على أبي بكر وصاحبه عمر وعلى أوليائهم الذين ساعدوهما على ظلمها والتعدي على حقها وحق بعلها وبنيها صلوات الله عليهم, ولم يكن غضبها حبا في المال كما نبهنا على ذلك من قبل, أو لشيء من حطام الدنيا الفانية, فإن الدنيا بأكملها عند فاطمة سلام الله عليها لا تساوي جناح بعوضة, فهي وريثة أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبضعته الطاهرة, قد تربت في حجره وتقلبت في بيته, ونهلت من معينه الصافي حتى ارتوت, وقد عرضت الدنيا على أبيها صلى الله عليه وآله وسلم فرفضها, وقد
عاش صلوات الله عليه وآله وسلم زاهدا يطوي أيامه خميص البطن حتى ارتحل, ومنه تعلمت ابنته الزهد, وعند بلغوها اختار لها أحب خلق الله إليه, فزوجها من أمير المؤمنين وسيد الوصيين عليه السلام, فلم تخرج فاطمة سلام الله عليها من بيت الزهد والعبادة, فإن بيت فاطمة وعلي هو بيت النبي صلى الله وآله وسلم.
فعن الإمام علي عليه السلام أنه قال لرجل من بني سعد: ألا أحدثك عني وعن فاطمة؟ إنها كانت عندي وكانت من أحب أهله إليه (أي أهل رسول الله صلى الله وسلم) وأنها استقت بالقربة حتى أثر في صدرها, وطحنت بالرحى حتى مجلت يداها, وكسحت البت حتى اغبرت ثيابها, وأوقدت النار تحت القدر حتى دكنت ثيابها (أي اسود من الدخان), فأصابها من ذلك ضرر شديد, فقلت لها: لو أتيت أباك فسألتيه خادما يكفيك حر ما أنت فيه من هذا العمل... والرواية طويلة(1).
قلت: هذه القصة مشهورة وقد أخرجها أصحاب الصحاح والمسانيد وغيرهم, رواها البخاري عن الإمام علي عليه السلام: أن فاطمة سلام الله عليها شكت ما تلقى من أثر الرحى, فأتى النبي صلى الله عليه وسلم سبي فانطلقت فلم تجده فوجدت عائشة فأخبرتها فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته عائشة بمجيء فاطمة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلينا وقد أخذنا مضاجعنا, فذهبت لأقوم , فقال على مكانكما , فقعد بيننا, حتى وجدت برد قدميه على صدري, وقال: ألا أعلمكما خيرا مما سألتماني إذا أخذتما مضاجعكما, تكبرا أربعا وثلاثين, وتسبحا ثلاثا وثلاثين, وتحمدا ثلاثة وثلاثين, فهو خير لكما من خادم(2).
____________
(1)أنظر بحار الأنوار ج:34. (2)صحيح البخاري ج:5 ص24 باب: مناقب علي عليه السلام, وصحيح مسلم كتاب الذكر والدعاء, باب : التسبيح أول النهار وعند النوم, سنن أبي داود, باب: التسبيح عند النوم, ومسند أحمد بن حنبل ج:3 ص 150, وكنز العمال ج:6 ص295.
ومن تتبع سيرة النبي الأكرم صلوات الله عليه وآله وسلم في أهل بيته الأطهار سلام الله عليهم يجده قد هيئاهم وعبئاهم وأعدهم لتحمل أعباء الرسالة المحمدية, وقيادة الأمة الإسلامية من بعده.
فزهدهم وسخائهم قد تكفل الكتاب المجيد والسنة المقدسة ببيانه, وهو ملحق بالبديهيات, ولا يحتاج ذلك إلى دليل, فمن عرفهم حق معرفتهم, ظهر له السر في إعطائهم خمس الغنائم, وسهم ذي القربى, والأنفال, وحقهم في إرث الرسول صلى الله عليه وآله سلم, فلو أخذ أهل البيت عليهم السلام حقهم المغتصب, لشيدوا به أركان الدين, وخدموا به الإسلام والمسلمين, وما تعرى يتيم, وما جاع مسكين, وما احتاج ابن سبيل.
ولا أكل الناس من فوق رؤوسهم ومن تحت أرجلهم (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون), وقد أشارت الصدقة الطاهرة سلام عليها إلى هذه المعنى في خطبة التي ألقتها على مسامع المهاجرين والأنصار في احتجاجها على أبي بكر.
إن فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم طاهرة مطهرة بنص القرآن الكريم حبها وبغضها, ورضاها وغضبها لا يكون إلا في الله, وقد غضبت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لأنهم تركوا أباها سيد الأولين والآخرين وأحب خلق الله إليها مسجى على سريره بعد وفاته وذهبوا مسرعين ينازعون سلطانه وينتهبون مقامه (والجرح لما يندمل , والرسول لما يقبر), ثم جاءوا بصاحبهم ابن أبي قحافة إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يزفونه زف العروس.
غضبت سلام الله عليها: لأنهم نكثوا عهدهم, وخذلوا أهل الحق, واغتصبوا حق بعلها عليه السلام في الخلافة ومقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم, وأكرهوا المسلمين على بيعة أبي بكر.
غضبت سلام الله عليها: لأنهم هجموا على بيتها بالنار والسلاح, وأداروا به الحطب, وشرعوا في حرق باب دارها, ودخلوه بدون إذنها, وعصروها بين الحائط والباب حتى أملصت جنينها المحسن.
غضبت سلام الله عليها: لأنهم ضربوها بالسوط وغمد السيف, حتى أملصت جنينها محسن ميتا, وأرعبوا بنيها الحسن والحسين وزينب ومن في بيتها.
غضبت سلام الله عليها: لأنهم أخرجوا زوجها أمير المؤمنين وسيد الوصيين عليه السلام مكرها يجرونه كالجمل المخشوش, يهددونه بالقتل إن لم يبايع(1).
غضبت سلام الله عليها: لأنهم اغتصبوا منها حقها فدك, ومنعوها ارثها, وخمس الغنائم, وسهم ذي القربى, والأنفال, وخالفوا الكتاب والعترة, واستهانوا بأحكام الكتاب وبالسنة.
وقد بقيت فاطمة الزهراء سلام الله عليها إلى آخر لحظات حياتها مستمرة في دفعها عن مبادي الرسالة المحمدية, وعن ولاية أمير المؤمنين, وإرث الحسن والحسين سلام الله علهم, حتى نالت بدفاعها, وجهادها البطولي ويسام الشهادة في سبيل الله عز وجل, وبذلك تكون سيدة نساء العالمين وبنت سيد الأولين والآخرين صلوا الله عليه وآله وسلم قد أدت ما عليها ووفت, وأقامت الحجة على كافة أمة أبيها صلى الله عليه وآله وسلم.
____________
(1)من أراد الوقوف على غضب فاطمة الزهراء سلام الله فاليراجع كتابنا ( فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وآله وبين الخلافة والإرث فإننا قد بحثنا بالتفصيل الأسباب التي أغضبتها, ولقد كتبت كتب كثيرة في شأن مظلومية فاطمة سلام الله عليها وأدلتها موجودة في كتب شيعة أهل البيت عليهم السلام وفي كتب أهل السنة, من شاء الوقوف عليها فاليراجعها في مظانها.
خاتمة الكتاب
لا أدعي أنني قد استوفيت البحث من جميع جوانبه في موضوع تركة سيد الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم ووفيته حقه, بل هي محاولة جادة لإزاحة الستار عن بعض الحقائق التي تعمد إخفائها المخالفون لولاية أهل البيت عليهم السلام على مر العصور والدهور حتى كادت تنمحي معالمها ولا يتعرف عليها عشاق الحق والمعرفة لولا فضل الله عز وجل, وقد تكفل سبحانه وتعالى بنصرة دينه والدفاع عن أوليائه, بتسخير من شاء من عباده وهو على كل قدير.
والله يشهد وكفاء به شهيدا أنه ليس لنا غرض في كشف عورة أو تتبع زلة لأحد من المسلمين, وإنما غرضنا نصرة الحق ودحض الباطل خدمة للإسلام والمسلمين, وإنه لا يسلم أحدنا من الزلل أو الخطاء أو النسيان إلا برحمة من الله.
نسأل الله العلي العظيم العفو الرحيم أن يتقبل منا هذا العمل ويجعله خالصا لوجه الكريم, ويجعله ذخرا لنا (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم), وأن يجعله عملا مباركا ينتفع به إخواني المؤمنين, ونسأله سبحانه أن يرضى عنا ويرضي عنا نبيه الحبيب المصطفى سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم, وأن يجعلنا من السائرين على الصراط المستقيم, والمتمسكين بالثقل الأكبر حبل الله المتين والنور المبين, والسائرين على نهج الثقل الأصغر عترة رسول الله رب العالمين عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم, وأن يحيينا حياة مباركة طيبة, وأن يميتنا ميتة السعداء على محبتهم ومودتهم, وأن لا يحرمنا شفاعتهم في الدنيا والآخرة, وأن يحشرنا في زمرتهم مع الأبرار, واستغفره الله وأتوب إليه من كل ذنب ومن كل خطاء خطه قلمي جهلته ولم أعلمه, وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.
أبو ياسين محمد الصغير الطيب السندي