الصفحة 93
ادراك ـ المقدمات العناد ـ وهي عدم انسياق العقل العملي لمدركات العقل النظري مع العلم بصحتها - الوسوسة ـ الاضطراب.

فهذه الامراض التي تمنع من حصول اذعان النفس بمدركات العقل النظري.

وهذه الامراض هي التي تصيب قوى الإنسان في ادراكاته الحصولية، وهناك امراض تصيب درجات اداركه الحضورية، حيث تمنعه من الترقي الوجودي وتمنعه من الوصول بل ومن الاتصال بالصقع الربوبي، فيبتعد اكثر عن ساحة الحق ويصير بينه وبين الحقائق حاجبا وساترا لا يزول إلا بالتقوى والعمل الصالح ولقد قال عز من قائل {اتَّقُوا اللهَ يُعَلِّمُكُمُ اللهُ}(1).

ومن هذه المقدمات الاربعة تنتقل إلى ما نريد التوصل اليه وهو إنه مع وجود هذه المراحل في ادراك الإنسان، ووجود مثل تلك الموانع والعوائق التي تؤثر في صدور القرار الصحيح والفعل النافع، كيف يمكن تقليده صلاحية التقنين والتشريع، فيجب ان يمتلك زمام التشريع والتقنين من يكون جهازه الادراكي في مأمن من تلك العوائق والموانع ويكون محلا لافاضة العلوم عليها من العوالم العلوية وتنزلها في مأمن من تشويش ومشاغبة قوى النفس الدنيا.

هذا أذ أرادنا تشريعا يكون مظهرا للحقائق الواقعية ومطابقا وصحيحا.

وهذا الإنسان الذي يمتلك تلك القابلية هو الذي يكون مظهرا للرضا الالهي وللغضب الالهي وللعزائم الالهية وذلك لا يكون الا بأن تتساوى كل حركاته وسكناته بلحاظ التأثر بالعوالم العلوية.

ومن لا يمتلك تلك المكانة والقابلية فلن يكون تشريعه سالما وصحيحا ومن هنا قلنا بأن الولاية التشريعية تابعة للمقام التكويني الخاص.

والمقام الأكمل الذي يصل اليه المشرع والمسن للقوانين هو مقام العصمة، وهي كما لا يخفى على درجات فبعضهم أصحاب شرائع، وبعضهم اولوا عزم،

____________

1- البقرة 282.


الصفحة 94
وبعضهم شرائعهم دائمة وأبدية وهكذا تختلف درجاتهم العصموية بالاختلاف درجات قربهم من الصقع الربوبي. وتتنزل درجات العصمة حتى تصل إلى العصمة في الإنسان العادي وتتمثل في حدود البديهيات الموجودة في العقل البشري حيث ان عدم وجودها يؤدي إلى نوع من الاضطراب والخلل حيث لا يوجد حينئذ ما يتكأ عليها الفكر البشري.

الوجه الثالث:

السنن التكويني والسنن التشريعي.

ذكرنا فيما سبق ان الإنسان يركز ويستند في علومه إلى نوع محدود من العصمة وذلك من خلال البديهيات الموجودة في العقل البشري والتي ينتهي اليها في كل قضية، وبدونها يحل الاضطراب في الفكر البشري، كما اشرنا فيما سبق إلى ان مدركات العقل العملي والنظري هي الكليات الفوقانية، ولمحدودية العقل البشري احتاج إلى التقنين والاعتبار لضبط الجزئيات الخارجية وان التفكير البشري في تنزل العلوم الكلية إلى الجزئيات يمر بمراحل متعددة وبجملة من البراهين التي يستعين بها لاحراز التفكير الصحيح. وهما البرهان النظري ورأس ماله العلوم البديهية او البرهان العياني الذي يتصل بالجزئيات، ويضمن اختيار الفعل الاصلح عن طريق قوة الفطنة والتروي التي تستلم من العقل العملي والبرهان النظري النتائج الصادقة الحقيقية. وتستخدم قوة الفطنة القوى الادراكية الجزئية والقوى العمالة السفلية حيث الغضب الرافع للموانع والشهوة المولدة للشوق وبهذا الشكل يصدر الفعل الجزئي صحيحاً غير خاطئ.


الصفحة 95

التنبيه الخامس:

العلاقة بين العقل العملي والعقل النظري


نلاحظ بعض الظواهر التي يتحد فيها حكم العقلين وان اختلف طريقهما من امثلة ذلك قاعدة اللطف الكلامية المعروفة ومدركها العقل العملي، وقاعدة العناية الفلسفية ومدركها العقل النظري وهما قاعدتان ينتجان نتائج متشابهة بنحو كبير.

وهكذا في بحث العقوبة الاخروية بمقتضى المعاد الجسماني وكون القبح والحسن عقليين، فان العقل العملي يحكم بالعقوبة الاخروية حيث ان مدح الله ثوابه وذمه عقابه أو أن مدح الفعل بالكمال المنتهي إليه وذم الفعل بالنقص، والعقل النظري يحكم به بالعقوبة الاخروية بتوسط نظرية تجسم الأعمال وهكذا سوف نجد موازاة بين قواعد أخرى يحكم بها العقلان. فهذا الارتباط بينهما ليس ارتباطاً عفويا وصدفة وانما له منشأ تكويني.

بيان ذلك: أن ضابطة مدركات العقل العملي هو ما ينبغي فعله وما لا ينبغي فعله، وما ينبغي فعله هو الحب التكويني الفطري والانجذاب نحو الكمال فلذا هو يطلبه طلبا تكوينيا ويبتغيه كغاية، وما لا ينبغي فعله هو خلافه أي ما تنفر منه تكوينا.

والكمال هو الخير والوجود والنقص هو الشر والعدم، وضابطة مدركات العقل النظري هي الوجود ونفي الوجود، فمباحث الحكمة النظرية مرتبطة بالكمال والوجود، ومباحثه تؤثر في العقل العملي الذي ينجذب تكويناً نحو الكمال الذى

الصفحة 96
يحكم به العقل النظري وقد ذكرنا فيما سبق ان محمولات العقل العملي هي الحسن والقبح بمعنى المدح والذم، والمدح هو الحكاية عما يختزنه الفعل من الكمال والذم هو الحكاية عما يكنزه من النقص.

وهكذا نلاحظ الارتباط الحاصل بين العقلين والاندماج بين مدركاتهما بحيث يفتح بابا جديداً في الاستدلال الحكمي البرهاني والمعرفة العقلية ويمكن استخدام الادلة الكلامية في المباحث الفلسفية حيث تكون كاشفا كشفا إنيا وكذلك العكس واستخدام الادلة الفلسفية في المباحث الكلامية.


الصفحة 97

المبحث الرابع

حجية المعارف القلبية


والبحث فيها من جهات:-

الجهة الأولى:

في بيان المراد من المعارف القلبية.

ان الحديث عن المعارف القلبية متشعب وطويل وسوف نتناول منه ما يهمنا في بحثنا وعن المقدار الذي يكون فيه حجة متميزة عن غير الحجة.

يتفق الفلاسفة على أن هناك نحوين من الادراكات التي يتوصل بها الإنسان لمعرفة الحقائق الأول هي الادراكات العقلية والثاني هو الادراكات القلبية، وضابطة التفصيل بينهما يعتمد على كيفية الادراك فالأول يتم عن طريق الصور الحصولية للأشياء والثاني يتم عن طريق الادراكات الحضورية وهو الارتباط بالشيء ارتباطاً ما.

توضيح ذلك: ان الادراكات العقلية تعتمد على الصور ويختلف مدى ارتباط هذه الصور بالمادة حسب المراتب.

ففي الصورة الحسية فان نفس الصورة وان كانت مجردة عن الخارج إلا ان لها ثلاثة تعلقات:

1 ـ من جهة الابعاد الطول والعرض والعمق.

2 ـ من جهة المشخصات والالوان.

3 ـ لابد من محاذات وجود خارجي محسوس، ففيها تجرد عن نفس المادة ولها ثلاث تعلقات من لوازم المادة.


الصفحة 98
اما الصورة الخيالية ففيها شيء من اللطافة اذ يضاف اليها تجرد عن المحاذات لشيء محسوس لكن مع تعلق من جهة الابعاد ومن جهة العوارض المشخصة.

اما الصورة الوهمية فيضاف اليها تجرد عن الابعاد الثلاثة وعن العوارض لكن تبقى لها تعلق باعتبار وجوب اضافتها إلى الجزئي الحقيقي كحب زيد وبغض عمر وهكذا.

واما في العقل العملي والنظري ففيه تجردات تامة لكن يبقى له تعلق بالصور.

والنفس في ادراكها لهذه الصور المختلفة لها إياب وذهاب وخلط وترتيب وربط بين هذه الصور المختلفة، فقد تغرب عن الصور الحسية اي الوهمية أو الخيالية وتحمل المعنى الوهمي على المعنى الحسي وهكذا.

وهذا ما يسمى في الاصطلاح ان النفس لها حركة تجرد وتعلق.

اما المعارف القلبية فهي أشد تجردا حيث لا تتعلق بالصور كما في الادراكات العقلية بل هو الارتباط بالشيء بنحو ما.

وللنفس أيضا اياب وذهاب في مراتب المعارف القلبية الاربعة وهي:-

1 ـ القلب وهو الارتباط بحقائق الاشياء من دون توسط الصور المادية، نعم يدرك في هذه المرحلة الصور العينية البرزخية كما في سماع انين الموتى من الصالحين وكذلك تشمل ادراكات عالم المثال، و يقال حينئذ انها تدرك صور الجوهر المثالي.

2 ـ السر وهي الادراكات التي فوق عالم البرزخ والمثال فهي اكثر سعة من مرتبة القلب واكثر احاطة وجودية.

الخفي والاخفى وهي المرتبة المتعلقة بالانوار الربوبية وادراك الاسماء الالهية.

اذا اتضح ذلك نقول:

1 ـ إنه كما ان الادراكات العقلية موجودة في كل انسان لكن قد لا يستطيع

الصفحة 99
البعض استخدامها ويعجز عن الوصول حتى إلى القوة الوهمية بل تظل نفسه محبوسة بين الحس والخيال، فهكذا المراتب القلبية فهي مراتب شأنية يستطيع كل انسان ان ينالها لكن تحتاج إلى قوة ايمانية وكمالات عالية حتى يكون للنفس سبح في هذه المراتب ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، والإنسان بعمله ومناعة نفسة يرتقي إلى هذه المراتب.

2 ـ ان التمييز بين المراتب القلبية الأربعة هو التمييز في الحدود الوجودية.

3 ـ ان مدرسة أهل البيت عليهم السلام تبنت الرؤية القلبية للذات المقدسة لا الرؤية الحصولية الوهمية ولا الخيالية ولا الحسية وأما الرؤية العقلية بتوسط المعاني المجردة فقد أثبتتها العديد من الروايات الواردة عنهم المتضمنة للتنبيه على لزوم الوحدة والبساطة في المعاني والصفات وعدم تطرق التركيب العقلي التحليلي فيها، وأنه الفارق في التوصيف العقلي للذات الواجبة عن الممكنات وهو متطابق مع ما قام عليه البرهان الحكمي.

وفي بعض الروايات(1) انه لو احيل الادراك بالمعاني العقلية لكانت المعرفة أمر لا يطاق عند عامة البشر، كما أن الروايات نبهت على أن المعبود هو المحكي بالمعاني العقلية وهو المسمى لا نفس المعاني العقلية وهي الاسم. فالذات المقدسة لا تقتنص بحس ولا بوهم ولا بخيال لعدم الحدود والمقدار فيه. فكيف يمكن اقتناصها بتلك القوى واثبات الرؤية الحسية لها، نعم الادراكات العقلية هي الحالة الوسط بين الادراكات الصورية النازلة وبين الادراكات القلبية، ولذا فهي بوابة على الغيب لكنها تبقى معان حاكية وليست هي نفس المحكي أي ليست هي نفس الواقع، وهذه الادراكات العقلية بهذا المقدار، والحاكية عن أقصى غيب

____________

1- أصول الكافي: 1 / 83 ـ ح 6.


الصفحة 100
الغيوب وهو الباري جل وعلا هو المقدار المكلف به الناس. اي العبادة عبر ادراكاتهم العقلية.

4 ـ فوائد المعارف القلبية:

أ ـ ان الإنسان لم يخلق للخلود في هذا العالم بل هو مخلوق لعوالم أخرى، فهو يعيش منذ ولادته عالمه البرزخي بمعنى إنه يصنع بأعماله وعقائده عالمه البرزخي، وعندما يتكامل ويبلغ ويرشد يصنع حياته الاخروية التي هي بعد الحياة البرزخية في عين عيشه حالياً للحياة الدنيوية، والمراتب القلبية تجعله مشرفاً على تلكم العوالم.

وقد يظن البعض أن هذا نوع من الخيال وتسطير الكلمات فما الحاجة إلى الاشراف على هذه العوالم وهو لم يعشها بمعنى لم يحن ظرفها الزماني فنقول:- خير مثال على ذلك الطفل الذي يعيش في بطن امه يكون له اذن وانف وفم ولسان وشفتين وكل شيء فَلِمَ كل هذه الاجهزة هل هى حتى يستعين بها في حياته داخل رحم أمه؟ بالطبع لا، من الواضح ان هذه الاجهزة لأجل ان يعيش بها في عالم آخر غير عالم الرحم. وهو عالم الدنيا. وهكذا الإنسان في مراحله القلبية فالانسان لا يحتاج اليها في ادارة شئون عالم الدنيا إلا إنه محتاج لها في عالم الاخرة.

ب ـ ان المراتب القلبية هي السبيل لمعرفة الغيب فكلّ يستطيع ادراك الغيب وكلا يعيش الغيب ولو مرتبة ضامرة.

ج ـ الفائدة الجليلة والعظيمة في الادراكات القلبية هي رؤية أشرف مرئي وهو نور واجب الوجود.

5 ـ ان الإنسان اذا أدرك بلحاظ المراتب القلبية حقيقة من الحقائق وأراد لها ان تنزل إلى الادراك العقلي النظري فلابد ان تتنزل بمعناها لا بوجودها وحقيقتها، فالارتباط بين المراتب القلبية والعقل النظري هي بوحدة المعنى وبوحدة المفهوم،

الصفحة 101
فالمراتب القلبية تدرك الشيء بوجوده العيني وهويته العينية اما القوة العقلية فهي اكثر لاصطياد المدرك بمعناه ومفهومه ويمكن التمثيل للفرق بين الادراكين بمن يدرك الشيء المقابل للمرآة تارة ويدرك تارة أخرى صورته في المرآة.

والمرآة هي القوى الادراكية الحصولية العقلية.

6 ـ ان الادراكات العقلية يتصور فيها التصور والشك والترديد والجزم، اما في المدركات القلبية فهي صحيحة دوماً على صواب أبدً لا مكان للشك فيها حال المعاينة القلبية. والسر في ذلك إنه في الادراكات العقلية يكون المدرك هو صورة الشيء، والحاكي عن الشيء، فيرد التساؤل عن مدى مطابقته للواقع أو عدم مطابقته، (وقد ذكرنا في نهاية التنبيه الأول مشكلة الخطأ في الفكر البشري وكيفية معالجته وان تحصيل اليقين في الامور النظرية من الأمور الصعبة) بخلاف ما اذا كان نفس الشيء وعينه حاضرا فإنه يكون يقينا لا لبس فيه ولا ترديد، ومن هنا نجد ان الكثير من روّاد علم المعارف الإلهية اشار إلى ندرة الحصول على اليقين بل كلها ظنون متاخمة لليقين، وتطرق إلى ذلك السيد الصدر في بحثه عن الاستقراء {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ}.

ومن هنا نعرف السر في حث كثير من العلماء على تنزيه النفس وتربيتها لنيل تلك العلوم اليقينية، وألاّ يقتصر على تحصيل العلوم التي لا تتجاوز الصور. إذ الادراكات القلبية أشرف من العلوم الحصولية وإن كانت هي البوابة المأمونة لها.

7 ـ ان مراتب الادراكات القلبية تتفاوت شدة وضعفا حيث أن الوصول إلى الحقائق تتبع سعة ظرفية الواصل (المدرِك)، فقد يصل الانسان إلى هذه المراتب بنحو العرض، وقد يصل إلى تلك المراتب وتكون بالنسبة اليه كفصل جوهري حيث يكون قد حصل لذاته تكامل ورقي وجودي أوصله إلى تلك المرحلة فيتصفح حيث ما شاء في العالم الغيبي.


الصفحة 102
فالذي يدرك الغيب لا يعنى إنه ادرك كل الغيب، فالله عز وجل لا تحيطه الابصار والقلوب بل عرفته القلوب بحقائق الايمان.

8 ـ مما ذكرنا يتضح السر في أن المسلمين قد صرفوا النظر عن العلوم الحصولية والعلوم المادية، واوغلوا في بحوث الاعتقادات وفقه الأحكام من اجل تحصيل ذلك اليقين ونيل المراتب القلبية وذلك مع تهذيب النفس وانشغالها بالعبادة، حتى تتهيأ النفس لتصفح انوار الملكوت وتقوى الادراكات القلبية، فمنهم من وصل إلى المراد وهو المتبع لطريقة أهل البيت (عليهم السلام) ومنهم من ضل الطريق وأضل غيره.

9 ـ ان معرفة الإنسان لنفسه هي بوابة المعرفة الربوبية، وذلك لأن كل مخلوق هو آية لخالقه، وكل كامل نازل هو آية للكمال الصاعد فيقال ان كل غيب نازل له حكاية تكوينية لغيب صاعد، وهذه الحكاية ليست على نسق حكاية الصور الحصولية، بل هي حكاية الرقيقة عن الحقيقة، كما عبر بذلك الفلاسفة، او حكاية المظهر عن الظاهر كما عبر العرفانيون. لكن هذه الحكاية وان كانت غير قابلة للخطأ والصواب بل هي صواب دائم إلا انها ليست حكاية احاطة لأن الرقيقة لا تمثل كل كمالات الحقيقة.

10 - من الأمور التي تدلل على أهمية الادراكات القلبية هو رجوع جميع الادراكات العقلية اليها بيان ذلك:-

إنه قد ثبت في محله رجوع جميع التصورات والتصديقات النظرية إلى البديهيات التصورية والتصديقية وهي رأس مال الإنسان في تحصيل علومه، وحينما نقوم بتحليل هذه البديهيات نرى انها في تكونها محتاجة إلى الادراكات القلبية فعندما نقول إنه صادق فيعني عدم احتمال اللامطابقة والسر في ذلك ان النفس تدرك ذاتها ووجودها والصورة نفسها مدركة لديها بالعلم الحضوري فالمحكي والحاكي كلاهما موجود لدى النفس فلا يحتمل اللانطباق، وهذا ببركة

الصفحة 103
العلم الحضوري.

ونفس الشيء يقال في أول البديهيات التصديقية وهو استحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما فموضوع القضية اجتماع النقضين ومحمولها هو الامتناع. حيث تقيس النفس بين مفهوم الوجود ونفي الوجود وحيث إن للوجود محكياً، فترى ان هذا المحكي مع نفي هذا المفهوم لا يجتمعان.

من خلال هذا العرض نصل إلى حقيقة في وجود الإنسان هي إنه في اتصاله بعالم المادة يكون عبر قنطرة الصور الحصولية اما اتصاله بالغيب فهو اتصال حضوري مباشر.

الجهة الثانية:

حول ضابطة حجية المعارف القلبية.

قد يتراءى لغوية هذا البحث وذلك لما ذكرناه سابقا من ان المدرَك بالقلب هو عين ومتن الواقع فلا يحتمل الخطأ، وبالتالي فهو حجة كله، بل كل ادراكه صدق، ولكن في الواقع نحن بحاجة إلى هذا البحث وذلك لأن العرفاء انفسهم في بحث المكاشفات يشيرون إلى ان المكاشفات على اقسام وان الادراكات الحضورية على درجات، وأن بعض الاشياء العينية قد تكون من تسويل وتمثلات العيانية من الشياطين أو كون قوى النفس قد اختلقتها. فلا يمكن القول بحجية كل الادراكات القلبية، فكما ذكرنا في العلوم الحصولية قد تحصل الحجب والامراض التي تمنع عن ادراك الحقائق فهنا كذلك تحصل حجب النفس التي تحجب الواقع عن ادراكه - وقد تعرضنا تفصيلا في بحث الرؤية القلبية(1) إلى تصرف الشياطين والجن في

____________

1- انظر كتاب دعوى السفارة في الغيبة الكبرى ـ مسألة الرؤية القلبية.


الصفحة 104
قلب الكائن البشري هو تصرف تكويني وفعل حضوري ولكن ليس حضور الحقائق العالية.

ـ وقد ذكر القيصري نفسه في مقدمات شرح الفصوص والسيد حيدر الآملي في نص النصوص، على ان من الكشف ما هو رحماني ومنه الشيطاني ومنه النفساني...

فقالوا: إن الميزان في تمحيص المكاشفة الصحيحة عن الخاطئة هو الكتاب والسنة باعتبار ان الكتاب ارتباط بعالم الغيب وان القرآن تنزل من الصقع الربوبي.

نلاحظ مما تقدم ان العرفاء ركزوا على نكتة ان المدركات قد لا تكون من الحقائق فلذا يجب الاعتماد على الميزان المعصوم وادراك معصوم.

ويتبقى جانب آخر نشير اليه وهو تنزل المدركات القلبيه الى المدركات العقلية، حيث ان العلوم الحضورية يجب ان تنزل إلى القوة العقلية حتى يستطيع ان يستفيد منها الإنسان وتكون مؤثرة في واقعه الحياتي، وهذا التنزل يجب ان يكون مأموناً والمقصود بالأمن ان الصور الحصولية التي يلتقطها العقل يجب ان تكون متطابقة مع حقائق الاشياء التي توصل اليها بالعلم الحضوري.

فكما ذكرنا سابقا توجد امراض تمنع من تنزل ادراكات العقل النظري وتمنع من سيطرة العقل العملي على القوة السفلى، فهنا ايضاً توجد امراض واخطار تمنع من حصول الادراكات العقلية الصحيحة. فالعقل هو كالمرآة التي تنطبع عليه مدركات القلب فقد يكون المنطبِع شبح الحقيقة لا عين الحقيقة وقد تكون الصورة مشوشة.

وبتعبير أخر: ان مرآة العقل قد تصاب بسبب الاخلاق الرديئة او الأعمال السيئة تشوبها حجب فلا تنطبع فيها صور الحقائق بنحو صاف وسليم ومن هنا نحتاج إلى ضابط وميزان لتمييز الحجة من اللاحجة. حيث ليس لنا أمان من الزلل والخطأ لا في نفس المدرَك، ولا في تنزله، ويظهر من هنا الميزة

الصفحة 105
للفرد المعصوم حيث إنه لا يدرك الا ما هو حق ولا يتنزل إلا بتنزل من الحق. ومن هنا نرى ان القران يوصف بأوصاف متعددة {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} فهو مدرك حق {فِي كِتَاب مَكْنُون لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} اي المعصومون من الذنوب والخطأ {بالحَقِّ أنْزَلناهُ وَبالحَقِّ نَزَلَ} فالعصمة في صدوره لا تكفي بل عصمة في التنزل من العوالم العلوية.

فالقران الكريم سار مسيرة طولية من العوالم العلوية إلى نفس النبي الاطهر (صلى الله عليه وآله) إلى ان يصل إلى رسم الخط فيجب ان يحرز ان هذا الرسم والصوت مطابق لقوة الادراك الحسي وهي مطابقة لقوة المخيلة المطابقة لقوة العاقلة العملية المطابقة للعقل النظري المطابق للقلب ومراتبه القلبيه المطابق لما اوحي له من الله عزوجل.

لذلك نفي عن النبي (صلى الله عليه وآله) الجنون ونفي عنه الشعر ونفي عنه الكهانة فقواه العقلية تسير بالسير الفطري مطابقة المادون للاعلى وعدم تصرف الشيطان في قلبه، فكل ذلك الوارد في وصف القرآن والوارد في وصف الرسول (صلى الله عليه وآله) من اجل بيان ان هذه القناة معصومة مأمونة من الخطأ والزلل. وهذا دليل على أنه ليست كل مدركات القلب حجة و الا لما احتيج إلى كل ذلك التأكيد ودفع الشبهات.

فالضابطة الميزان في كل ذلك هو الكتاب والسنة حيث يعبران عن الوحي المعصوم وكذلك العقل البديهي والنظري فيمكن عرض التنزل على تلك البديهيات ليعلم الصحيح منها من السقيم.

وهذه النتيجة لا تعني انكار الغيب او انكار للمدركات القلبية بل هي الضابطة التي تحتاج اليها النفوس البشرية غير المعصومة. ونحن لا ننفيها بنحو مطلق بل ننفي الحجية المطلقة لها.