3 ـ إن أي فعل له جهات ثلاثة أحدها ماهية الفعل وكيفية ادائه وشرائطه. والثانية الذي يقوم بالفعل، والثالث الذي يقع عليه الفعل (القابل).
والأدلة التي تذكر في بيان أداء وظيفة أو فعل ما، تكون في صدد بيان احدى هذه الجهات ولا يمكن الاستفادة منها في بيان الجهة الاخرى فقوله (عليه السلام): نهى النبي (صلى الله عليه وآله) عن بيع الغرر، لبيان الجهة الاولى ولا يمكن الاستفادة منها لمعرفة شرائط المتعاقدين، وما ذكر من الايات في صدد بيان الجهة الاولى وهي ما هي الأمور التي يجب تنفيذها في المجتمع الاسلامي. أما مَن هو الذي يقوم بهذا العمل فإن الآيات غير متعرضة له. فهذه وظائف خاصة واجبة على عامة المجتمع بنحو الوجوب الكفائي وهو لا ينافي كونه واجباً عينياً على الزعيم والمدير والرئيس وهو نظير تجهيز الميت إذ أنه واجب كفائي على عامة المسلمينولاينافيه كونه واجباًعينياً على الولي او الوصي، وهذا النحو من الوجوب مشترك بين نظرية النص والشورى.
4 ـ ورد في ذيل آية سورة الحديد: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}، فالآية الكريمة فيها دلالة واضحة أن الأمر في الواقع بيد الرسل والمبلغين عن الله وأن وظيفة الناس هي المناصرة والطاعة وليميز الله الخبيث من الطيب.
5 ـ إن المستدل استدل بظاهر هذه الايات وأن هذه الاوامر عامة للناس لكن غفل عن آيات اخرى كان المخاطب فيها الرسول (صلى الله عليه وآله) وحده {جَاهِدِ الْكُفَّارَ ـ فَاحْكُم بَيْنَهُم بالعَدْلِ}.
وهذا يعني انه لا يمكن الاغفال عن هذه الايات، ووضعها بجانب تلك الايات
خامساً: آيات الاستخلاف
{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَايَشَاءُ..}(1){وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الارْضِ.. }(2){أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ}(3). {إِنَّا عَرَضْنَا الامَانَةَ عَلَى السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ}(4). {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ..}(5).
وتقريب الاستدلال بها بأن بني البشر قد وُلوا عمارة الارض من قبل الله جل وعلا ومن بين الأمور التي تقتضيها الخلافة هو تولي احدهم وتأميره واعطاء الولاية له.
وهذا الفهم للآية يقابله فهم آخر طبقاً لنظرية النص أن هذه الآيات هي اذن عام بالاستفادة من خيرات الارض وإعمارها فى قبال بقية الكائنات التي ليست لها هذه القابلية ولم يفوض لهم تكويناً ذلك. اما الولاية الخاصة والتأمير فهو أمر آخر لا
____________
1- الانعام 6: 133.
2- الانعام 6: 165.
3- النحل 27: 62.
4- الاحزاب 33: 72.
5- فاطر 35: 39.
وههنا ملاحظات حول هذه الطائفة:
1 ـ ان غاية تقريب هذه الطائفة لا يفوق ما ذكر من الآيات والوجوه السابقة من تكليف الامة بالوظائف العامة فيرد عليها ما أوردناه هناك والوظيفة التي تظهرها هذه الآيات هي أن وظيفتهم اعمار الارض والاستفادة من مواردها الطبيعية في قبال الافساد والاهمال.
2 ـ يصرح كثير من المفسرين ان هناك نوعين من الاستخلاف احدهما عام يشمل جميع البشر والاخر خاص وهو الذي يتعرض فيه للولاية وهو خاص بمن يصطفيه الله تعالى (البقرة: 30 ـ 35)، وخص من اصطفاه بخصوصيات منع منها الاخرين كالعلم اللدني واسجاد الملائكة له. وكذلك راجع سورة ص اية 26 والنور آية 25.
والآيات المذكورة في هذا الوجه هو في الاستخلاف العام وهو غير ناظر للولاية.
3 ـ ان آيات الخلافة العامة مدلولها هو تفويض اعمار الارض للبشر تكويناً، اما تشريعاً فانه لم يفرضها لمطلق البشر بل لمن توفرت فيه شرائط من قبيل التوحيد والعمل بأحكام الله وطاعته، وأن الله لا يريد صرف ومجرد الاعمار البشري المادي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ}(1). وهذا وجه التعبير بالفيئ على ما استولى عليه الرسول (صلى الله عليه وآله) من أموال يهود خيبر ونواحيها، وكل مال للكفار لم
____________
1- التوبة 38.
سادساً: آية الامانة
قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}(1).
يوجد للآية تقريبان:
الاول: ان يكون المراد من الامانة هنا هو خصوص الحكم بين الناس بقرينة التفريع {وَإِذَا حَكَمْتُم} بمعنى ان الحكم بين الناس امانة، وأن من يملك تدبير هذا الحكم هو الناس حيث أنهم المخاطبون بذلك، فاذا وُلي بعضهم على بعض يجب أن يحكموا بين الناس بالعدل.
الثاني: ان الامانة وهي الحكم بين الناس بالاصالة، وعند وجود المعصوم فان الولاية تكون له بموجب النص، وعند عدمه فإنها تعود للامة.
وقوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}(2).
وقد فسرت الامانة تارة بالتكاليف وأخرى بالأحكام وعلى كليهما ينفع في المقام، اذ تفيد شمولها للتكاليف الولائية وأنشطة الدولة التي هي نوع من التكاليف الكفائية في المجتمع المدني، فالامانة بيد الأمة اما بالاصالة مطلقة أي في عرض النص أو انها في طول النص.
والجواب عن هذا كله:
____________
1- النساء 4: 58.
2- الاحزاب: 72.
وفي الثانية خطاب الى عامة الناس لطاعة أولي الأمر. وقد ورد في ذيلها رواية عن الباقر (عليه السلام): "إن احدى الآيتين لنا والاخرى لكم" وقد ذهب بعض الكتّاب إلى تفسير الرواية ان الآية الاولى هي للناس والثانية للأئمة. وهذا عجيب إذ أن الخطاب في الثانية بـ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وهو خطاب عام، والآية الاولى وان كان الخطاب فيها عاماً إلا انه لا يعقل توجيهه لكل الناس لأنه ليس وظيفتهم حكم كل الناس، وواضح أن المخاطب فيها هم الحكّام.
وعلى فرض التنزل وان المخاطب في الآية الاولى هم عامة الناس فهي أصرح على نظرية النص حيث يكونون مطالبين بأن يولّوا عمليا ويمكنوا من هو أهل لذلك وهم الواجب طاعتهم.
أما بقية الآيات فهي بصدد بيان الأمانة العامة ومطلق التكاليف الفردية منها والاجتماعية، وليست في صدد التعرض الى ولاية الامر بالخصوص.
وبعبارة أخرى أن ذيل الآية من لزوم طاعة أولي الأمر المقرونة طاعتهم بطاعة الله وطاعة رسوله ـ مما يدلل على أنها متفرعة منهما لا من تنصيب الناس ـ شاهد على أن الأمانة والحكم بين الناس ليس من صلاحية الناس وتنصيبهم لان اللازم على الناس المتابعة والانقياد، ومن بيده النصب لا يكون تابعاً منقاداً، فالأمانة عهد الله الذي لا يناله الظالمين كما في سورة البقرة لا العهد من الناس.
سابعاً: آيات تدل على نفي مسؤولية الرسول عن الامة.
{مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً}(1)، {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيل}(2). {وَلَوْ شَاءَ اللّهُ مَاأَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل}(3)، {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ}(4)، {فَإِن أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلَنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ}(5)، وغيرها من الآيات ق 45، النحل 125، الغاشية 21، يونس 99.
وتقريب الاستدلال أن هذه الايات تحصر مهمة الرسول في التبليغ وهداية الناس ونفي مسؤوليته عن تولي زمام الامة وانه ليس مسؤولاً عنهم اذا اختاروا طريقاً آخر، فهي تدل على انه ليس من مهام الرسول الولاية في الاصل.
والجواب عن هذا الاستدلال انه يجب ملاحظة شأن نزول هذه الآيات وملاحظة ما يحيط بها من آيات تكون قرينة على بيان معناها، حيث ان الايات بصدد الإشارة الى مطلب مهم بعيد عما يشهدون بها عليه، وهو أن الايمان الذي هو مدار النجاة في الآخرة لا يمكن للرسول أن يُلجأ أو يُقسِر عليه {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، وكان الرسول (صلى الله عليه وآله) يتألم لما يرى من صدود المنافقين وهو الذي أرسل رحمة للعالمين، وما يتحلى به من رأفة وشفقة عليهم {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}{إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ}.
____________
1- النساء 4: 80.
2- الانعام 6: 66.
3- الانعام 6: 107.
4- الفرقان 25: 43.
5- الشورى 42: 48.
ثامناً:
{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} استدل البعض بهذه الآية الشريفة على ان الحكم عن طريق الشورى، وأنه يكون في طول النص حيث أن الآية ذكرت انه أنزل التوراة ليحصل بها الحكم وهو غير الهداية بل يشمل التشريع والقضاء، وهو للنبي أولاً ثم يأتي دور الربانيين وهي صيغة مبالغة، ورباني المنسوب الى الرب وهم المطيعون لله عزوجل طاعة خالصة غير مشوبة بمعصية غير المغضوب عليهم ولا الضالين وهم أوصياء كل نبي، ثم يأتي ثالثاً دور الاحبار وهم العلماء الذين عليهم مسؤولية استلام سدة
وهذا الحكم العام يستفاد من مجموعة من القرائن:
أ ـ قوله تعالى: {فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} فالمخاطب بها المسلمون وهذا يدل على جريان هذه السنة الإلهية فيهم أيضاً.
ب ـ ان القرآن ليس كتاب تاريخ أو قصص بل هو كتاب اعتبار وتشريع، فكل ما يذكره إنما يأتي به الله عزوجل من أجل العبرة، والتشريعات تكون ثابتة ما لم ينص على خلاف ذلك. فهذه السنة العامة التي ذكرها القران في بني اسرائيل غير مختصة بهم بدليل عدم ذكر القران لهذا الاختصاص، بل ان ذكرها للدلالة على ارادتها من المخاطبين.
ج ـ الايات الواردة بعد ذلك في بيان حكم أهل الانجيل إذ يعيد الحق سبحانه نفس المفاد حيث تنص على وجوب الحكم بما جاء في الانجيل {وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فَأُوْلئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ومن ثم تستمر الآيات في بيان وجوب أن يحكم الرسول (صلى الله عليه وآله) بما أنزل الله.
والخلاصة: ان الآيات تبين سنة إلهية جارية في جميع العهود والأزمان وأنه اذا انزل كتاباً سماوياً فمراده من ذلك هو أن يكون دستوراً إلهياً على الأمة أن يتخذوه في تصرفاتهم على كافة الأصعدة الفردية والاجتماعية والقضائية والتشريعية والولائية. وتظهر الآية تسلسل ترتب الحاكمية فهي للنبي ثم لوصيه ثم للأمة والاحبار اي العلماء الذين هم جزء من الأمة، مع اشتراط توفر العلم والكفاءة والأمانة وهى امور لا ريب فيها.
وفي هذا الاستدلال تأمل بـ:
1 ـ إن الآية لا تنافى نظرية النص بل تدل عليها، وذلك: لأن ايكال سدة الحكم للأحبار هل هو بالاصالة عرضا مع الربانيين ام بالنيابة عنهم؟ والآية تصلح
2 ـ أن الترتيب في الذكر الوارد في الآية ليس اعتباطياً بل هو للدلالة على نيابة المتأخر عن المتقدم بمقتضى ولاية المتقدم ذكراً على المتأخر لأن المتأخر من رعية المتقدم، فتكون ولاية المتأخر متفرعة عن المتقدم، وحيث ان العلماء مستقى علمهم من المعصومين فتوليهم للحكم يكون بالنيابة عن المعصوم، والدليل على تسنمهم سدة الفتيا هو آية النفر(1) فاسناد سدة الفتيا للفقهاء هو من عصر الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) غايته أنه في طول المعصوم عن الرسول، حيث أن أصل العلوم كلها هي للرسول (صلى الله عليه وآله) وهو الذي يُطْلِع المعصوم عليها، وإن كان تشريع فتياهم أي الفقهاء هو من قبل الله عزوجل لكنها عن المعصوم (عليه السلام) عن الرسول (صلى الله عليه وآله).
ان قلت: ظاهر الاية ان ولاية الاحبار ليست نيابة وذلك لأن الله عزوجل اسند الحكم اليهم فالتخويل هو من قبل الله.
قلت: إن لهذا نظائر كما في طاعة الله وطاعة الرسول، وولاية الله ولاية الرسول، فان المزاوجة بين الولايتين لا يدل على انهما فى عرض واحد بل انها جعلت للمعصوم بتخويل من الله عزوجل استخلافا. ومن نظائرها ما ذكر في موارد الخمس والزكاة وأصنافها فان الولاية على الأموال هي للرسول والمعصوم لا للاصناف، فالفقراء ليست لهم الولاية على اموال الزكاة.
ان قلت: هل تتصور ـ بناء على نظرية النص ـ ولاية الرسول (صلى الله عليه وآله) على المعصومين بعد وفاته (صلى الله عليه وآله).
قلت: إن ولاية الرسول (صلى الله عليه وآله) باقية على مَن بعده حتى بعد وفاته وذلك لان الرسول الاكرم هو الطريق لوصول العلوم اليهم (عليهم السلام) ويذكر مضافاً الى نفوذ
____________
1- راجع في تفصيل ذلك كتابنا دعوى السفارة في عصر الغيبة.
3 ـ قوله تعالى: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} فإن هذه العبارة في الآية ليست متعلقة بالأحبار بل متعلقة بالنبيين والربانيين وذلك:
ـ ان مادة الحفظ واردة في القرآن غالبا بمعنى الايكال العهدي الخاص الشبيه بالتكويني من الله عزوجل الى الملائكة المسمون (بالحفظة)، ولفظة (استحفظوا) لم ترد الا في هذا المورد وهذا يدل على أن المراد منه هو العهد الخاص، ويقابل الاستحفاظ لفظ (التحميل) حيث ورد وصفاً لعلماء بني إسرائيل في سورة الجمعة {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} فالتعبير بالحمل هو بمعنى ا لتكليف وهو غير الاستحفاظ والثاني ورد في علمائهم لا الأول.
ـ ورد عن الصادق (عليه السلام) في ذيل الآية: "الربانيون هم الأئمة دون الأنبياء الذي يربّون الناس بعلمهم، والأحبار هم العلماء دون الربانيين". قال: "ثم أخبر عنهم فقال: بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء ولم يقل بما حملوا منه ـ تفسير الصافي 2: 38.
وهذا أيضاً يدل على أن المراد من الاستحفاظ هو عهد خاص من الله عزوجل.
ـ وقد يتساءل عن السر في تأخير (بما استحفظوا) وايرادها بعد الاحبار وكان الانسب ذكرها بعد الربانيين.
والجواب عن ذلك:
أ ـ مثل هذا التعبير وارد في مواضع اخرى في القران مثلا في سورة
ب ـ ان هذا التعليل بين ان المحورية والمركزية في الحكم للنبي والربانيين وذلك لأن لهم العهد الخاص من قبل الله عزوجل، ويكون موضع الاحبار هو النيابة عنهم، وبمنزلة الايدي والاعوان ولا يكونون مستقلين بالحكم والأمر بل يصدر الأمر عنهم، نعم يكون لهم نوع من الاستقلالية في ما لم يُنط بهم كما في ولاية الإمام (عليه السلام) لمالك الاشتر فقد زوده بالخطوط العامة للحكم وعليه التصرف ضمن تلك الحدود ولا يرجع في كل صغيرة للإمام، وهذا مقام لا يعطى لكل أحد بل لمن يمتلك الكفاءة العلمية والأمانة ولذا عبر عنهم بالأحبار، فعدم الاستقلال بالولاية يرجع الى عدم توفر التعليل فيهم حيث ان منحصر فى النبيين والربانيين.
4 ـ واخيراً يرد على المستدل بهذه الآية الكريمة للجمع بين الشورى والنص وانه مع انتفاء النص تصل النوبة للشورى، ان ذلك يتنافى مع ما هو مقرر في العقيدة الشيعية من أن الارض لا تخلو من حجة ظاهرة أو باطنة وان الولاية مع وجود المنصوص عليه تكون فعلية وليست اقتضائية ولا تقديرية، وهذا يعني ان موضوع النص لا ينتفي اصلاً حتى يمكن أن نفرض الشورى عند انتفاء النص، ولا يمكن اعتبار عدم تسلم الامام لسدة الحكم لجور الامة وضلالها لا يعني انتفاء النص فهو كما في تصريح الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله): الحسن والحسين امامان إن قاما وان قعدا.
وكذلك غيبة المعصوم لا تعني انتفاء النص لأنه موجود ومؤثر بتسديده للامة
منها: قوله (عليه السلام): اني لازلت راع لكم ولست بغافل عما يدور حولكم. فضرورة المذهب السائدة ان الفقهاء هم نواب الامام وشرعيتهم من شرعية الامام، لا أن لهم ذلك بالاصالة مع اختلافهم في مساحة تلك النيابة سعة وضيقاً، وهذه النيابة للفقهاء بالنصب العام لا الخاص لجماعة واشخاص بخصوصهم، نعم أوكل أمر تعيين هذا المصداق النائب للأمة، فهو نوع من التخويل سواء كان هذا الانتخاب بنحو مفرد أو لمجموعة واجدة لشرائط النيابة، وهذا نظير صلاحية القاضي فإنها استنابة عنه (عليه السلام) إلا أنه جعل تعين المصداق بيد المتخاصمين.
وهذا المعنى ليس ايكالاً للأمة باختيار القائد بمعنى ان الامة تختار من ينوب عنها، بل هو تفويض للامة في تعيين المصداق من بين هؤلاء العلماء. فما يذكره بعض المتأخرين من ان للفقهاء الولاية بالاصالة في عصر الغيبة مخالف لضرورة من ضروريات المذهب.
تاسعاً: سيرة الأئمة (عليهم السلام)
وقد ذكرت وجوه اخرى للدلالة على الشورى بعضها قد مضى في تضاعيف الاستدلال بالآيات السابقة.
1 ـ الاستدلال بالسيرة: ان الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) والامام (عليه السلام) جرت سيرتم وعملهم على عدم استلام سدة الحكم إلا بعد حصول البيعة ورجوع الناس اليهم وإن الامام نقل عنه انه يكون وزيراً ومرشداً أفضل من أن يكون اميراً. وأن حكومة الرسول (صلى الله عليه وآله) هي حكومة معنوية أقرب منها أن تكون حكومة سياسية. ولذا قيل ان الموروث من الرسول (صلى الله عليه وآله) ليس بذاك الحجم الذي يمكن أن يؤسس به دستور لدولة سواء في الجانب القضائي او التشريعي او التنفيذي.
2 ـ ان السياسة وتدبير الامور ليست جزءاً من الدين والشريعة، بل هي امور عامة ترجع الى تقدير الناس وحسن رويتهم فالحكومة تستمد مشروعيتها من الامة والمجمتع.
3 ـ ان المعصومين مبشرون ومبلغون وهداة، والنص على امامتهم يعني وجوب الرجوع اليهم في معرفة أحكام الدين أصولاً وفروعاً، وان الحكومة ليست تكليفاً الهياً وليس من مراتبه ومقاماته الحكومة واوضح مثال على ذلك انبياء بني اسرائيل اذ لم يكونوا يديرون شؤون الناس.
4 ـ ان الكتاب الكريم لم يحتوي الا على جزء قليل من أحكام الدولة.
5 ـ ان مفهوم النبوة والامامة يعتمد على العلم الخاص وليس فيه دلالة او ايماء الى الحكم والولاية.
والجواب عن هذه الوجوه:
أولاً: قد ذكرنا سابقاً الجواب عن السيرة ونكرره هنا:
ـ ان الآيات التي تأمر النبي بإقامة القسط والعدل والقضاء والجهاد والنشاط العسكري والدفاع عن المجتمع الاسلامي كثيرة وهذه خطابات لا تصلح إلا للحاكم والوالي، واما البيعة فقد ذكرنا نكتها وأنه لا يكفي مجرد التكليف من دون حصول
ـ وهكذا فى سيرة الامام علي (عليه السلام) فإنه في كثير من كلماته يشير الى احقيته بالخلافة والحكومة، وأن مماطلته في استلام الخلافة بعد مقتل عثمان لحكمة تتضح لمن له أقل تتبع في التاريخ، حيث أنه أراد قطع العذر لمن يشق عصا المسلمين والطاعة عليه وحتى لا يكون هناك مجالاً لمن أراد أن ينكث البيعة.
ـ وقد يشكل بما روي عن الامام الحسين (عليه السلام) من أنه في ليلة العاشر من المحرم قال لأصحابه: وإني قد اذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حل ليس عليكم مني ذمام وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً.
وجوابه: أن الامام الحسين واجب النصرة لأنه مظلوم فضلاً عن كونه إماماً مفترض الطاعة، فنصرته لم تجب بالبيعة فقط بل بدونها نصرته واجبة. وقد ذكروا وجوها لهذه المقالة منها انه أراد امتحان أصحابه ليعلم الثابت منهم عن غيره.
ومنها: أنه يكون إذن خاص منه (عليه السلام) حيث علم أن سوف يستشهد.
ومنها: ان اصحابه ليسوا كلهم على درجة واحدة من الثبات، فلذا تنقل بعض الروايات انه قد ذهب بعض منهم ـ ولكن يسير جداً ـ فهؤلاء لم يلزمهم بالبقاء.
ومنها: ان الاستشهاد معه (عليه السلام) مرتبة لا ينالها إلا من اُتي نصيباً وافراً من المعرفة الحقيقية بمقامهم (عليهم السلام) ولذا كان هذا التحليل هو لذوي النفوس الضعيفة التي ليس من مقامها الاستشهاد معه (عليه السلام). وهؤلاء كانوا يظنون ان بقاءهم معه (عليه السلام) مرتبط ببيعتهم له فعاملهم الامام (عليه السلام) على اعتقادهم.
ـ اما بالنسبة للامام الصادق (عليه السلام) فلقد عرض عليه ابومسلم الخراساني البيعة ولكن الإمام رفض ذلك وسره واضح لأن ابامسلم لم يرد تحكيم وتولية الامام، وانما اراد التستر والاستفادة من شخصية الامام (عليه السلام) لأنه يعلم أن التغيير غير ممكن إلا إذا كانت
ـ اما بالنسبة للرضا (عليه السلام) فأولاً عندما امتنع عن قبول الولاية حقق هدفاً مهماً وهو اتضاح أن المأمون ولايته لا أساس شرعي لها. وثانياً عندما قبل الولاية تحت الإجبار والإكراه مع شرط عدم التدخل في أمور السلطة فانه يتجنب امضاء مشروعية افعال السلطة الحاكمة حيث يتضح أن المأمون لا شرعية لسلطته حتى يوليه ولاية العهد. وبهذا يكون قد خلص من الهدف الذي توخاه المأمون من استغلال مكانة الامام الدينية في دعم شرعية سلطته.
ـ أما ما استشكله البعض من انصراف الأئمة (عليهم السلام) عن الجانب السياسي وعدم سعيهم لإقامة الدولة والحكم فجوابه يتضح من خلال النقاط التالية:
أ ـ ان الأئمة (عليهم السلام) انصرفوا الى اعمال تعتبر أهم ملاكا من إقامة الحكم عند التزاحم وهى بيان أحكام الدين ومعارفه، أي تدبير الجهة العقلية والمعرفية عند الناس وهي مقدمة على تدبير الابدان، واضح أن نشر الدين وبيان الاحكام تعم منفعته جميع المسلمين في كافة الازمنة، بينما تدبير الحكم وإقامة الدولة يفيد الاجيال المعاصرة لتلك الحقبة فقط فإذا دار الأمر بين النفع والفائدة الاطول زمانا مع آخر ذي فائدة اقصر زمانا فالتقديم للأول.
ب ـ ان المجمتع الاسلامي قد توسع بشكل كبير فى القرنين الاول والثاني وانفتح على حضارات مختلفة واختلط بأمم متعددة مما اثار جملة كبيرة من الاسئلة والاستفسارات والشبهات التي احتاجب الى اجوبة شافية دامغة لكل ما يمس الدين الحنيف، وقد عجزت الاذهان العادية التي تنهل من العلوم الكسبية عن الاجابة عليها واحتاجت الى من يكون له علم لدني يجيب عنها، خصوصاً ان