الصفحة 300
فيتبعه الآخرون. فماهية الامة يستحيل أن تتخلف عن وجود الامام فيها.

يبقى اشكال على هذه الصياغة: بأن القران الكريم أطلق الامة على عدد آخر من الأمم بل بعضها منحرف وتتبع إمام الضلال؟

والجواب: أن القرآن أطلق على هذه الأمة أنها الملة الحقة والأمة الحقة، وهي التي لديها هدف حقيقي يوصل إلى الكمال الواقعي أما الامم الأخرى فاطلاق الامة عليها لا يكون بلحاظ قصد الكمال الحق فهم لا يؤمّون إليه لأن سيرها لا ينتهي إلى الكمال المطلق.

تقييم الدليل الثاني:

أن هذا الدليل يثبت ما ذكره العلامة الطباطبائي من جنبة الهداية الايصالية في مقام الامامة وفيها جنبة الهداية الارائية،وهو ما ذكرناه من الاشكال والجواب ومدى الحاجة إلى الهداية التفصيلية ليحصل الاطمئنان في اتباع هذا الهادي.

الدليل الثالث: برهان الغاية

ويسمى برهان الغاية، وله عدة مقدمات:

1 ـ أن كل انسان عندما يتكامل لا بد أن يجعل له غاية يريد الوصول إليها وهذا أمر ثابت في جميع مدارس المعارف البشرية القديمة والحديثة.

2 ـ أن الموحدين يجعلون هدفهم هو الله عز وجل أي التخلق بأخلاق الله.

3 ـ ثبت لدى أصحاب المعارف أن الفطرة لا يستحثها الكمال فقط بل ما يدفعها نحو السعي هو خوف الضرر والهلاك أيضا، وعليه فالايمان بالتوحيد والنبوة يوفر الجانب الأول وهو كونه غاية وهدف، أما الجانب الآخر فيوفره الايمان بالمعاد والعقاب الأخروي، وأن الانسان لا يعيش عالم الدنيا فقط وإنما يوجد هناك عوالم أخرى يحياها الانسان، وهذه الرابطة بين المعاد والتوحيد يقرها كثير من علماء

الصفحة 301
النفس والاجتماع.

4 ـ أن الكمالات التي يسعى الانسان إلى تحصيلها لا تقتصر على كمالات عالم الدنيا بل هي كمالات في عوالم لاحقة لهذه الدنيا فهناك عوالم آتية فيها كمالات و دركات ومفاسد، وأعمال الانسان في هذه الدنيا تهيئ الارضية لنيل المكانة في تلك العوالم وهذا هو معنى المعاد.

فالنتيجة: أن هذا السير يقتضي وجود الهادي والمعصوم الذي يسير بالامة نحو المعاد الحقيقي واحراز الكمالات العالية في العوالم اللاحقة، وهذه المقدمات تثبت ضرورة تحلي الامام الهادي بـ:

أ - الهداية الايصالية وأن يكون له تصرف في النفوس تصرفا غير إلجائي أي تتكامل النفوس باختيار الانسان.

ب - الهداية الارائية التفصيلية.

ج - الزعامة الاعتبارية في الانسان المجموعي وهو المجتمع.

فهذا الدليل يثبت ضرورة الامامة حسب تعريف العلامة مع التكملة التي أضفناها.

كذلك يبين الدليل الارتباط بين المعاد ومعرفة الامام ومن هنا نفهم قوله تعالى {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاس بِإِمَامِهِمْ} فالدعوة والحشر والمعاد يكون بتوسط الامام لأنه هو الهادي لهم نحو الكمالات التي تظهر في العوالم اللاحقة، والآثار التي تظهر في المعاد إنما هي بتوسط الامام حيث يكون مرتبطا بالغيب، ويعلم بلوازم الافعال الدنيوية وحقائقها وما يضر وما ينفع.

ومن الأدلة النقلية التي تؤيد هذا الدليل وما هو دور الامام في المعاد:


الصفحة 302
قوله تعالى {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(1)، وهذه الآية سوف نفرد لها بحثا مستقلا في المقام الثالث، إلا أنا نريد أن نشير إلى أن الآية تنص على أن المؤمنين (وهم الائمة كما في العديد من الروايات) يشاهدون حقائق أعمال العباد في الدنيا وهذا الاطلاع اطلاع ملكوتي.

وفي روايات أخرى تشير إلى أن الاعمال إذا أريد أن تصعد إلى السماء والعرش فإن الصاعد بها هوا لامام، وروايات تشير إلى أن دور الامام يكون عند قبض الروح وفي البرزخ وعقبات الانتقال من عالم إلى عالم، وروايات تشير إلى أن الامام يُنصب له عمود من نور على كل مدينة فيطلع على أعمال العباد.

وفي تفسير {وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ...}(2) يشير العلامة إلى أنه على الاعراف رجال مشرفون على الناس من الاولين والآخرين يشاهدون كل ذي نفس منهم في مقامه الخاص به على اختلاف مقاماتهم ودرجاتهم ودركاتهم(3).

تقييم الدليل الثالث:

إن هذا الدليل يثبت مقام الهداية الايصالية والارائية والزعامة والرئاسة التي ذكرها المتكلمون.

الدليل الرابع: معرفة النفس

ويعتمد على مقدمات:

1 ـ أنه من الثابت روائيا وعقليا أن معرفة النفس من أشرف الطرق للمعرفة الربوبية وذلك لأنه طريق برهاني يؤول إلى العيان الحضوري بناء على "من عرف

____________

1- التوبة 9: 105.

2- الأعراف: 46.

3- الميزان 8: 132.


الصفحة 303
نفسه فقد عرف ربه" "أعرفكم بربه أعرفكم بنفسه".

2 ـ قد بينا في زاوية التعريف العقلي ل(ما الحقيقية) شئون النفس والرسول الباطن ودور العقل العملي والقلب واشرنا إلى صفات عشرة لدور العقل العملي وآثار القلب وسائر القوى.

3 ـ بمقتضى المطابقة بين الانسان الصغير والكبير، وأن المقصود من معرفة الرب ليس معرفة الذات الأزلية بل معرفة أفعال الذات وعالم الخلقة الذي هو عالم ربوبية الباري للخلق، والرب هو عنوان من الصفات الفعلية للباري عز وجل بل وبمقتضى المطابقة بين الانسان الكبير والمجموعي أي المجتمع وهو وأن كان اعتباريا إلا أن هذا الاعتبار ليس ناشئا من لا شيء، بل الاعتبار كما أشرنا إليه يقتنص وينتزع من التكوين، وقد مثلنا أن قوى الانسان الصغير كلها تتمثل في المجتمع فالجيش يمثل القوة الغضبية ووزارات الترفيه تمثل القوة الشهوية، والقوى المقننة تمثل العقل النظري، والقوة القضائية تمثل الوجدان والضمير وحسب تعبير القرآن {النَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} فهذه هي المطابقة بين الانسان الكبير والصغير والمجموعي.

وبمقتضى هذه المقدمات إذا كان في الانسان الصغير توجد امامة ذات هداية ايصالية ارائية فنستكشف وجود ذلك في الانسان الكبير والمجموعي وهو دور الامامة في المجتمع، وما ذكرنا في كيفية تصرف العقل العملي في بقية القوى ينطبق على الامام في الانسان المجموعي.

الدليل الخامس: برهان العناية

وهو برهان العناية، وقد تعرضنا له في الفصل الأول إلا أنا نعيده هنا ملخصا:

وهو علم الباري بالنظام الوجودي الأحسن، وعلى أكمل ما يكون عليه، وهذا

الصفحة 304
العلم مستلزم لإفاضة الوجود الإمكاني الخلقي على أحسن ما يمكن أن يكون عليه، ولو بنحو الترتيب أو التدريج في العوالم كي تستقصي كل الكمالات في عالم الامكان (وهذا التعريف مأخوذ من مدرسة الاشراق والحكمة المتعالية).

وقد أشرنا إلى أن قاعدة العناية الفلسفية هي بعينها قاعدة اللطف لدى المتكلمين حيث أن الاخيرة تعني أن كل فعل موجب لقرب المكلف من كماله المنشود، فإن الباري يحسن ويلطف تهيئته وايجاده ويقبح عدم ايجاده، فمن حيث اللب القاعدتان تعبران عن مفهوم واحد وأمر واحد، إلا أن الفلاسفة في منهجهم يعتمدون على العقل النظري في اثبات القاعدة، أما المتكلمون فيعتمدون على العقل العملي في اثبات القاعدة.

  أن أعلام الامامية استنادا إلى الروايات المختلفة ذهبوا إلى أن موقع الامام في الانسان المجموعي (موقع الرئاسة والزعامة) هو لطف فلذا يحسن عن الله نصبه وتعيينه واللطف هو أكمل ما يمكن أن يكون عليه الوجود، فإذا كان أكمل ما يمكن أن يكون عليه الانسان المجموعي هو بوجود الامام فبمقتضى قاعدة العناية يجب عن الحق تعالى ايجاده.

  أن الحفظ للدين و تدبير الدنيا تستلزمان أن تتوفر في الامام الهداية الايصالية والارائية التفصيلية، وذلك أن الامام لا يكون حافظا للدين إلا إذا أمّنت جنبة المقام الغيبي، ويكون على اتصال بالغيب فلا تصدر منه زلة علمية في تبيان مدارج الاحكام الشرعية، وبما أن الغاية هو تكامل الافراد إلى الكمالات المنشودة وهو نوع من الهداية الايصالية.

تقييم الدليل:

أن المتكلمين اقتصروا في اثبات الامامة في الانسان المجموعي على قاعدة اللطف ولم يتناولوا جانب الهداية الايصالية مع انها لطف أيضا، وقد قمنا بتوسعة

الصفحة 305
الدليل ليشمل هذا الجانب أيضا حيث أن العناية صفة من صفات الباري وأنه لطيف خبير {إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ}.

ملاحظة عامة:

إلى هنا نلاحظ الارتباط بين الإمامة وبقية أصول الدين ففي الدليل الأول بينّا كيف الارتباط بين الامامة والنبوة، وفي الدليل الثاني بينا الارتباط بين الامامة وفطرة التوحيد وأن بوابة التوحيد هو الامامة، وفي الدليل الثالث بينا الارتباط بين الامامة والمعاد ودور الامام في عوالم ما بعد نشأة الدنيا، وفي الدليل الرابع انتقلنا من معرفة النفس إلى الامامة، وفي الدليل الخامس ننتقل من صفات الباري وإنها تستلزم الامامة.

وبتعبير آخر أن هذه الادلة ليست أدلة خطابية بل هي برهانية عرفانية في آن واحد أي ان ادراكها يحتاج إلى مقدمات فكرية من المعاني الحصولية وإلى ذائقة قلبية كي يدرك كنه تلك الأدلة الخمسة، ففيها مطالب علمية ممتزجة من العلم الحصولي والعلم الحضوري، والنكتة التي أردنا الاشارة إليها أن هذه الادلة الخمسة اللمية تدلل على أن أصول الدين تقود إلى الامامة.

الدليل السادس: الأدلة الإنيّة

وهو من الأدلة الإنية التي اعتمدها المتكلمون والتي تنطلق من احتياج الكل إليه وغناؤه عن الكل دليل على إمامته، وعبر البعض عنه انه اجتمعت فيهم من الفضائل كلها، فهم احق بالامر بحكم العقل العملي، وبتعبير ثالث أنهم (عليهم السلام) المشار إليهم باشخاصهم وأسمائهم بحسب الجرد التاريخي وباعتراف كل الفرق والملل قد فاقوا نوابغ كل صفة في كمال تلك الصفة.


الصفحة 306

تفصيل ذلك:

  أن التاريخ يذكر أنهم قد وضعوا الحلول الناجعة لكثير من المعضلات الفكرية التي ابتليت بها الامة الاسلامية; كما في اشكالية صفات الباري حيث قالوا: "لا تعطيل ولا تشبيه وإنما أمر بين أمرين"، فلا يجوز تعطيل الصفات والقول أننا لا ندرك شيئا من صفاته تعالى، كما لا يجوز التشبيه والقول أننا ندركه كما ندرك المحسوسات، وكذا نفي التجسيم ولوازمه عن ذات الباري، فقد كانت الاذهان عالقة بهذا الوهم. ونفي الجبر والتفويض وإثبات الاختيار في الافعال.

وهكذا في معالجتهم للمشاكل الفكرية التي انتقلت إلى الامة الاسلامية من الحضارات الأخرى فتراهم يجعلون لها الحلول بنحو لا يصطدم مع الاسلام وضرورياته، وموارد هذا شتى من التوحيد وصفات الحق تعالى، والعدل والمعاد والقضاء والقدر وما ورد من الشبهات حول نبوة الأنبياء (عليهم السلام)، وبقول ابن أبي الحديد في ذيل إحدى الخطب "لم تنتشر المعارف الالهية من غير هذا الرجل ولم يكن في الصحابة من تصور أو صور شيئا طفيفا من المعارف"، ونضيف على مقولته تلك أن عباراتهم وحلولهم وحكمهم ظلت حتى يومنا هذا مدار بحث وتشييد لأنها تفوق ما توصل إليه السابقون من الفلسفة اليونانية ويستنير بهديها المتأخر ون من الفلاسفة.

  المرحوم الشاه أبادي يذكر: أنه في الصحيفة السجادية لفتات وحلول لمعضلات في عالم المعنى والعرفان، بنحو لم يكن مطروحا في العرفان الهندي الذي هو من أقوى وأقدم المدارس العرفانية لدى البشرية، ويشير إلى أنه في الادعية الأولى بحوث عديدة وغريبة ودقيقة في السير والسلوك أو في مقامات الهادي، أو مقامات الخلقة والتكامل الانساني ويعبّر عن ادعيتهم (عليهم السلام) أنها بمثابة القرآن الصاعد لما تحتويه من أسرار المعرف الالهية.


الصفحة 307
فمثلا المتقدمون يجعلون الظاهر في قبال الباطن والأول في قبال الآخر، بينما الامام (عليه السلام) جعل الذات المقدسة هو الظاهر والباطن والاول والآخر، "فهو وحدة واحدة يستوي فيها الظاهر والباطن والأول والآخر"، وفي كتاب التوحيد في ما ذكره الامام الصادق (عليه السلام) تبيان إلى كيفية الدلالة على ذلك.

  أن خضوعهم وعبوديتهم المطلقة لله عز وجل لا تجد لها مثيلا عند من عاصرهم أو تأخر عنهم.

  أن معجزة السماء الخالدة القرآن الكريم لم ولا يوجد في الساحة الاسلامية ترجمان له - بحيث يثبت للبشرية أن القران الكريم يغطي كل احتياجاتها وكل تساؤل يطرح على وجه الأرض لم يتمكن احد من الاجابة عليه - سوى الامام مما يوضح وجود رابطة بينهم وبين القران، وهو ما سوف نثبته في المرحلة الثالثة في فقه الآيات.

  يضاف إلى تلك الادلة مقدمة مشتركة لا بد منها وذلك لأن الاقتصار عليها يثبت أن الائمة هم أليق الناس وافضلهم لادارة شئون الامة، لكن لا يثبت بها وجود مقامات أخرى في حين اننا يمكن أن نستفيد من تلك الادلة لما هو أوسع من ذلك باضافة هذه المقدمة وحاصلها:

أن توافر هذه الصفات بهذا النحو في هؤلاء الاثنى عشر إما أن يكون من باب الصدفة والاتفاق أو يكون بسبب وعلة.

اما الأول فباطل وذلك لأن القول به هو نفي لوجود الله وذلك لأن الطفرة هي صدور شيء من شيء من دون سبب وعلة والاتفاق عبارة أخرى عن نفي السببية، وأن حيازة هؤلاء على الريادة في الصفات الكمالية إن كان اتفاقا يعني أن يد الله مغلولة، وأنه ترك الخلق كما خلقهم من دون هدايتهم والاتصال بهم.

فيبقى الثاني وأن وجود تلك الصفات فيهم لم يكن من باب الصدفة والاتفاق

الصفحة 308
بل أن هذا يدل على عناية الهية وافاضة ربانية جعلت هؤلاء متصفين بتلك الصفات طيلة تلك السنين المتعاقبة والتي شهدت منافسين عدة حاولوا النيل منهم بشتى الطرق والوسائل، فتوجد في البين إفاضة ربانية للكمالات العلمية والعملية، وإن الوراثة بينهم ليست وراثة نسبية بل وراثة نورية تكوينية جعلت تلك الحقيقة الغيبية مستمرة بهم.

وبهذه المقدمة تكون تلك الادلة الإنية مثبتة للمقام الغيبي الذي نتوخاه في الامامة والذي يكون به عدل النبوة وسفارة إلهية.


الصفحة 309

المبحث الثالث

الامامة في القران الكريم


إن الهدف الذي نتوخاه من هذه الدراسة هو فهم حقيقة الامامة ودورها في عالم الغيب بعد ان استوفى الباحثون حقيقتها في عالم الشهادة، ونعتمد في ذلك على الآيات الكريمة التي تحمل معان نورانية لنستوحي منها معاني تلك القناة المعصومة المرتبطة بالغيب.

وهاهنا ملاحظة مهمة: أنه يجب الالتفات إلى أن القرآن الكريم قد صدر من الحكيم العالم بخفايا الامور، والعارف بأساليب اللغة ومفرداتها، فالالفاظ المستخدمة في القرآن ليست قوالب لفظية شعرية وأدبية بغرض ابراز الجمال الادبي، بل إن وراء استخدام ألفاظ دون أخرى أو صياغات معينة دون غيرها غاية وهدف ومعنى يرمي إليه القران، وعدم فهم كلام الباري بهذا النحو يكون ابتذالا وتوهيناً للمعاني القرآنية وتزييفا لمعارفه ويخالف قوله تعالى {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْء } فليس المراد أن القرآن فيه تبيان للحقائق التشريعية فقط، بل أن القرآن فيه بيان للحقائق التكوينية أيضا، كما يظهر من كثير من الآيات التي تذكر خلق العالم وسنن التكوين، وأن هذا القران الحامل لسبعين بطنا لا يجوز لنا أن نقف أمام الظاهر فقط بل يجب الغوص في حقائق معانيه وما تحمله الالفاظ من معارف، بل نجد أن البعض يقدس القرآن ويسلّم بعظمته لكنه عندما نلاحظ فهمه لآياته نجده يبتذل

الصفحة 310
معانيه ويقف عند حاق اللفظ والظاهر فقط جاهلا أن الالفاظ ليست هي الهدف والغاية، بل هي قنطرة للوصول إلى المعنى المراد فيجب تجاوز منطق الادب وعلومه، فتنفتح أمام الانسان حينئذ تلك المعاني العالية الدقيقة التي تحتاج إلى موازين العقل والمنطق. وهذه نقطة نفترق بها عن العامة الذين حجبوا عن أعينهم تلك الأمور.

وقد قسمنا الآيات التي تتحدث عن الامامة إلى طوائف عدة نتناولها بالتفصيل.

الطائفة الأولى:

آيات استخلاف آدم، من الوقائع القرآنية العجيبة التي يحكي بها الحق تعالى بدأ الخلقة وكيفية خلق آدم (عليه السلام) وامر الملائكة بالسجود إليه، وهي من الآيات التي تحمل معان كبيرة تدللنا على موقع الامامة في الوجود الامكاني، ويمكن القول أنها تمثل البوابة لهذا البحث والعلامة الأم لهذا الموقع الإلهي. وقد تكرر ذكر هذه الواقعة أو مقاطع منها في مواضع كثيرة من القرآن في السور التالية:

1 ـ سورة البقرة 2: 30:

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْماءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوْا لآِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتَما وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ

الصفحة 311
وَمَتَاعٌ إِلَى حِين فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَات فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.

وهذه السورة تحوي جميع مقاطع الواقعة منذ إخبار الله الملائكة بخلق آدم وحتى هبوطه إلى الأرض.

2 ـ سورة الكهف: 50:

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لاِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً}.

3 ـ سورة الحجر: 28:

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَال مِّنْ حَمَإ مَّسْنُون فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ}.

4 ـ سورة الاسراء: 61:

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لاِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ ءَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً قَالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاََحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً}.

5 ـ سورة طه: 115:

{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لاِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلاَ تَضْحَى فَوَسْوَسَ إِلَّيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْك لاَّ يَبْلَى فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ...}.


الصفحة 312
6 ـ سورة الاعراف: 11 ـ 25:

{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكِةِ اسْجُدُوا لآِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِنَ السَّاجِدِينَ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَار وَخَلَقْتَهُ مِن طِين...}

7 ـ سورة ص: 71 ـ 75:

{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِين.....}

وقبل الاستعراض التفصيلي لهذه الطائفة نذكر عدة ملاحظات:

1 ـ إن هذه الواقعة العجيبة التي يذكرها الله جلّ وعلا لعباده تحتوي على معان جليلة وعظيمة وتستحق وقفة مطولة.

2 ـ إن ستة سور من التي وردت فيها القصة مكية، وسورة واحدة مدنية وهي البقرة.

3 ـ إن العنصر المشترك المتكرر في كل هذه الموارد السبعة هو أمر الملائكة بالسجود لآدم وامتناع ابليس عن ذلك.

4 ـ تمتاز سورة البقرة بورود نص الاستخلاف فيها ومناقشة الملائكة فيه، وهذا لم يتكرر في الموارد الاخرى.

5 ـ قد رتبنا السور المكية التي ورد فيها هذه القصة حسب النزول.

وسوف تكون دراسة هذه الحادثة في مقامات أربع:

أولاً: دراسة الألفاظ الواردة فيها

نبدأ بدراسة الواقعة كما وردت في سورة البقرة والتدقيق في المعاني الواردة فيها:

  الملائكة: وهو وإن كان جمع معرف باللام ويفيد العموم أي جميع الملائكة إلا أن بعض الروايات تشير إلى أنهم قسم من الملائكة لا أقل من نمط جبرئيل

الصفحة 313
وميكائيل واسرافيل وعزرائيل، لكن ادخال عنصر غيب السماوات والارض يدل على أن الملائكة في الواقعة لم يكونوا صنفا خاصا منهم بل عموم الملائكة إذ أن ما غاب عنهم هو خاف على كل السماوات والارض. كما ان الخطاب للملائكة بإخبارهم عن جعل عام وهو جعل الخليفة، ولم يخصص بآدم.

  في الارض: وفيه احتمالات ثلاث:

أ - أن تكون متعلقة بـ(خليفة).

ب ـ أن تكون متعلقة بالضمير المستتر في (خليفة) لأنها مشتق.

ج ـ أن تكون متعلقة بـ(جاعل).

فعلى الاحتمال الاول يكون المعنى أن الخليفة مقيد في الارض، فدائرة الخلافة تكون محددة حينئذ بالأرض.

وعلى الاحتمال الثاني تكون دائرة الخلافة مطلقة غير محددة، والمستخلف مقيد بكونه أرضيا فهو انسان أرضي دائرة خلافته مطلقة غير محددة فتشمل كل عالم الخلقة.

وعلى الاحتمال الثالث فحيث أن (جاعل) تتعدى إلى مفعولين الاول (في الارض) والثاني (خليفة) فيكون المعنى اخبارا من الله عز وجل أن الذي هو في الارض قد جعلته خليفة على نحو "جعلت الآجر بيتا".

أما الاحتمال الاول فهو بعيد حيث أن من البعيد جدا تقيد الخلافة في الأرض وذلك لمجموعة من القرائن نستوحيها من الآية نفسها:

أ - أن العلم الذي يمتلكه هذا الخليفة علم خاص يفوق علم الملائكة إذ أنه علم محيط بكل الاشياء حتى التي لا ترتبط بالواقع الأرضي - كما سوف نتبين ذلك لاحقا- فلو كانت خلافته محددة بالارض فما هو الحاجة لهذا العلم ثم ما هو الداعي لاظهار تفوق علمه على علم الملائكة بخلاف ما إذا كانت دائرة الاستخلاف

الصفحة 314
غير محددة بالارض.

ب ـ إن إسجاد الملائكة لآدم يدل على الهيمنة التكوينية للمطاع بإذن الله، وهذه الطاعة وتلك الهيمنة إنما هي وليدة العلم بحيث أن الملائكة تستقي علومها منه كما سوف يأتي التدليل عليه، ومعلوم أن شؤون الملائكة ليست منحصرة بالارض بل بكل عالم الخلقة، فهذا يدل على أن دائرة الخلافة غير مقيدة بالارض بل هي تشمل كل عالم الخلقة غايتها هذا الموجود كينونة بدنه هي في الارض.

وقد يستشكل أنه لو كانت خلافته عامة لكل عالم الامكان فكيف يجعل متأخرا عن الملائكة أي كيف تتأخر خلقته عنهم؟؟ والجواب: ان خلقته غير متأخرة عنهم وأنما المتأخر هو وجوده الارضي أما أصل الخلقة فإنها لم تتأخر عنهم كما سيتضح ذلك لا حقا.

ج ـ استنكار الملائكة وتساؤلهم لم يكن دائرا حول دائرة الاستخلاف بل حول الموجود الارضي، فهي فهمت أن هناك ذاتاً في الارض سوف تكون هي الخليفة فجاء الاستنكار، وبعبارة أخرى أن مقتضى كلامهم (أتجعل فيها من...) هو تعلق (في الارض) بالجعل.

د ـ إن مقتضى تقدم الجار والمجرور على لفظة الخليفة، مع صلاحية تعلقه بالعامل المتقدم يعين تعلقه به وخلاف ذلك يحتاج إلى قرينة.

  أما بالنسبة إلى (جاعل) فإنها تأتي بمعنيين أحدهما بمعنى موجد وهو يتعدى إلى معمول واحد، والاخر يعني الصيرورة وهو يتعدى إلى معمولين، والاقرب ان يكون الوارد هنا الثاني، ومعمولاه هما (في الارض) و(خليفة) وهذا يؤدي نفس المعنى الذي نتوخاه وهو عدم تقييد وتحديد دائرة الخلافة في الارض.

إن اصل المعمولين مبتدأ وخبر فلو قدرنا المبتدأ (خليفة) والخبر (في الارض) فمقتضاه انه ليس في صدد جعل الاستخلاف بل هو أمر مفروغ منه، وأنما هو في