وقال تعالى: {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْء حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا}(1).
وفي هذه الواقعة التي سردها لنا القرآن الكريم تنبيه على منهجية وضابطة في طبيعة الإنسان بل وكلّ موجود مدرك ـ أنّ الأُمور التي يصعب عليه معرفتها بالتفصيل وتبهم لديه وتجمل حقيقتها عن أفق إدراكه، تحصل لديه النفرة والجموح عن الإذعان بها، فيبادر إلى الإذعان بنفيها، وكأنّه توصّل إلى أنّ نفيها هو الحقّ، مع أنّ فرض الحال أنّ الأمر مبهم ومجمل عليه، وأنّ إبائه ونفرته منه هو لأجل ذلك، لكن يحصل لديه الخلط بين ذلك وبين أن يحسبه أنّه من قبيل ما يعلم ببطلانه وبعدمه في الواقع، وهذا الخلط في كيفية الاستنتاج يربك على الإنسان طريقة الاستنتاج الصحيحة ; فإنّ المطلوب منطقياً ومنهجياً في الحالة الأُولى هو التوقّف عن النفي أو الإثبات وعن الإنكار أو القبول تفصيلاً، والقيام بعملية الفحص العلمي، لا المبادرة باستنتاج النفي ومن ثمّ الإنكار والجحود.
وهذا المنهج جاري في كلّ مسألة صعبة ومعقّدة في أي علم من العلوم، كعلم الرياضيات والفيزياء والكيمياء، وغيرها من العلوم التجريبية أو العلوم الإنسانية أو علوم المعارف الإلهية، كما قد يحصل خلط لدى الإنسان بين حالة الفحص والبحث والتنقيب وحالة التشكيك ; فإنّ حالة التشكيك في ظاهر صورتها أنّها عملية تسائل وتنقيب، إلاّ أنّ في طياتها استنتاج عجول للنفي ومبادرة سريعة للإنكار غير مبنية على أُسس الفحص العلمي، والتمييز بين الحالتين غامضة تدقُّ
____________
1- سورة الكهف 18: 67 ـ 70.
ويذكر القرآن الكريم لنا مثالاً آخر في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الاَْرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الاَْسْمآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}(1). ففي المثال يضرب تعالى عبرة لنا بالملائكة مع قدسيتهم ومكانتهم، إلاّ أنّه لاحتجابهم عن علم الغيب الإلهي بدر منهم استنكار ما جهلوه ومسارعة إلى التنديد به مع كونه الحقّ.
ويشير إلى النموذج الثاني الإمام أبو عبدالله (عليه السلام) في قوله: "إنّما مثل علي (عليه السلام) ومثلنا من بعده من هذه الأُمّة كمثل موسى (عليه السلام) والعالم حين لقيه واستنطقه وسأله الصحبة، فكان من أمرهما ما اقتصّه الله لنبيه (صلى الله عليه وآله) في كتابه، وذلك أنّ الله قال لموسى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}(2)، ثمّ قال: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الاَْلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْء مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْء}(3)، وقد كان عند العالِم علم لم يُكتب لموسى في الألواح، وكان موسى يظنّ أنّ جميع الأشياء التي يحتاج إليها في تابوته وجميع العلم قد كُتب له في الألواح، كما يظنّ هؤلاء الذين يدّعون أنّهم فقهاء وعلماء، وأنّهم قد أثبتوا جميع العلم والفقه في الدين ممّا تحتاج هذه الأُمّة إليه وصحّ لهم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلموه وحفظوه.
____________
1- سورة البقرة 2: 30 ـ 33.
2- سورة الأعراف 7: 144.
3- سورة الأعراف 7: 145.
ولذلك استعملوا الرأي والقياس في دين الله، وتركوا الآثار ودانوا الله بالبدع، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): كلّ بدعة ضلالة، فلو أنّهم إذا سُئلوا عن شيء من دين الله فلم يكن عندهم منه أثر عن رسول الله ردّوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أُولي الأمر منهم، لَعلِمهُ الذين يستنبطونه منهم من آل محمّد (عليهم السلام)، والذي منعهم من طلب العلم منّا العداوة والحسد لنا، لا والله ما حسد موسى (عليه السلام) العالِم، وموسى نبيّ الله يُوحي الله إليه، حيث لقيه واستنطقه وعرّفه بالعلم ولم يحسد كما حسدتنا هذه الأُمّة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) على ما عَلِمنا وما ورثنا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولم يرغبوا إلينا في عِلمنا كما رَغب موسى (عليه السلام) إلى العالِم وسأله الصحبة ليتعلّم منه ويرشده، فلمّا أن سأل العالِمَ ذلك عَلِم العالِمُ أنّ موسى (عليه السلام) لا يستطيع صحبته ولا يحتمل علمَه ولا يصبر معه، فعند ذلك قال العالِم: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا}(1)، فقال موسى (عليه السلام) له وهو خاضع له يستعطفه على نفسه كي يقبله: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}(2).
وقد كان العالم يعلم أنّ موسى (عليه السلام) لا يصبر على علمه، فكذلك ـ والله يا إسحاق بن عمّار ـ حال قضاة هؤلاء وفقهائهم وجماعتهم اليوم، لا يحتملون والله ـ علمنا ولا يقبلونه ولا يطيقونه ولا يأخذون به ولا يصبرون عليه، كما لم يصبر موسى (عليه السلام) على علم العالِم حين صحبه ورأى ما رأى من علمه، وكان ذلك عند موسى (عليه السلام) مكروهاً، وكان عند
____________
1- سورة الكهف 18: 68.
2- سورة الكهف 18: 69.
وفي هذه الرواية العديد من الوجوه على ضرورة موقعية الإمام في القيمومة على الشريعة، وسيأتي بيانها مفصّلاً، إلاّ أنّنا نقتصر في المقام على نبذة مجملة منها، وهي أنّ النبيّ موسى (عليه السلام) مع كونه نبيّاً مرسلاً من أولي العزم يتنزل عليه الوحي، أي إنّه محيط بالأحكام الشرعية وتشريعات الله على ما هي عليه في الواقع، أي بالأحكام الواقعية، إلاّ أنّ ذلك لم يغنه عن العلم اللدني الذي أعطاه الله للخضر، وهو الشريعة في نظامها الكوني والإرادات الإلهية التكوينية. وهذا العلم اللدني غير النبوّة، وهو حقيقة الإمامة، والذي كان مجتمعاً بشكله الأكمل والأتمّ في خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله)، فلا تُغني الإحاطة بالأحكام الواقعية لكلّ تفاصيل ظاهر الشريعة عن شريعة الإرادات الإلهية الكونية وتأويلها، فضلاً عن إحاطة الفقهاء القاصرة عن الإلمام بكلّ الأحكام الواقعية لظاهر الشريعة.
بل الفقهاء كما ذكر المحقّق النائيني في بحث الإجزاء ـ لا يحيطون بجميع الأحكام الظاهرية التي دورها إحراز الأحكام الواقعية لظاهر الشريعة ; فإنّ جملة من الأحكام التي يستنبطها هي أحكام تخيّلية التي ينكشف له عدم كون استنباطها على الموازين من الأدلّة.
وبعبارة أُخرى: إنّ الفارق بين علم النبيّ موسى وعلم الفقهاء، إنّ علم النبيّ موسى ليس منبعه نقلي، بل هو منبع وحياني، بينما منبع علم الفقهاء ليس إلاّ ظنون معتبرة، فضلاً عمّا لو كانت ظنون تخيّلية يتوهّم أنّها معتبرة، ومع كلّ ذلك فلم يُغن علم النبيّ موسى وهو صاحب الشريعة ـ عن علم التأويل الذي زوّده الله تعالى للخضر لدنيّا، فكيف يفرض إستغناء الفقهاء في أحكام الشريعة عن دوام الرجوع إلى المعصوم؟
____________
1- تفسير البرهان ص 651 ـ 652.
قاعدة آلية
لنفي الغلوّ والتقصير
وهي ما روي عنهم مستفيضاً من قاعدة: "نزّلونا عن الربوبية، وقولوا فينا ما شئتم ولن تبلغوا". فأمّا الروايات الواردة في ذلك فهي:
الأُولى: ما رواه الصدوق في الخصال من حديث الأربعمائة المعروف، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "إيّاكم والغلوّ فينا، قولوا إنّا عبيد مربوبون، وقولوا في فضلنا ما شئتم".(1)
____________
1- الخصال: 614 ط قم، والبحار 10 / 92.
وطريق الرواية الصدوق، عن أبيه، عن سعد، عن اليقطيني، عن القاسم بن يحيى، عن جدّه الحسن بن راشد، عن أبي بصير ومحمّد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وليس فيه من يتوقّف فيه سوى القاسم بن يحيى وجدّه الحسن بن راشد، وهما وإن لم يوثّقا إلاّ أنّ كلاًّ منهما صاحب كتاب ذكره في المشيخة، وطريق الصدوق والشيخ صحيح إلى القاسم بن يحيى، ويروى كتابه أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري وإبراهيم بن هاشم وكذلك اليقطيني، وقد حكم الصدوق بصحّة ما رواه في زيارة الحسين (عليه السلام) عن الحسن بن راشد، وفي طريقه إليه القاسم بن يحيى، وقال: إنّ هذه الزيارة أصحّ الزيارات عنده رواية، الفقيه، حديث 1614 و1615.
الثالثة: ما رواه الصفّار بسنده عن كامل التمّار، قال: "كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) ذات يوم فقال لي: ياكامل، اجعل لنا ربّاً نؤوب إليه، وقولوا فينا ما شئتم قال: قلت: نجعل لكم ربّاً تؤوبون إليه ونقول فيكم ما شئنا؟ قال: فاستوى جالساً ثمّ قال: وعسى أن نقول ما خرج إليكم من علمنا إلاّ ألف غير معطوفة.
والمراد من الألف غير المعطوفة كناية عن نهاية القلّة"(2).
الرابعة: روى في كشف الغمّة من كتاب الدلائل للحميري عن مالك الجهني، قال: "كنّا بالمدينة حين أُجلبت الشيعة وصاروا فرقاً، فتنحينا عن المدينة ناحية، ثمّ خلونا فجعلنا نذكر فضائلهم وما قالت الشيعة، إلى أن خطر ببالنا الربوبية، فما شعرنا بشيء ; إذا نحن بأبي عبد الله (عليه السلام) واقف على حمار، فلم ندرِ من أين جاء، فقال:
يامالك وياخالد، متى أحدثتما الكلام في الربوبية؟ فقلنا: ما خطر ببالنا إلاّ الساعة. فقال: إعلما، أنّ لنا ربّاً يكلأنا بالليل والنهار نعبده، يامالك وياخالد، قولوا فينا ما شئتم، واجعلونا مخلوقين. فكرّرها علينا مراراً وهو واقف على حماره"(3).
الخامسة: وروي في البحار في باب معرفتهم بالنورانية (أي إنّ مبدأ خلقهم هو خلق أنوارهم)، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: "يا سلمان ويا جندب. قالا: لبيك صلوات الله عليك. قال (عليه السلام): أنا أمير كلّ مؤمن ومؤمنة ممّن مضى وممّن بقي، وايّدتُ بروح العظمة، وإنّم أنا عبدٌ من عبيد الله، لا تسمّونا أرباباً وقولوا في فضلنا ما شئتم،
____________
1- بصائر الدرجات: 64 ـ 65.
2- بصائر الدرجات: 149، والبحار 25 / 283 ح 30.
3- كشف الغمّة عن معرفة الأئمة 2 / 197.
السادسة: ما رواه الراوندي في خرائجه عن خالد بن نجيع، قال: "دخلت على أبي عبدالله (عليه السلام) وعنده خلق، فجلست ناحية وقلت في نفسي: ما أغفلهم، عند من يتكلّمون! فناداني: إنّا والله عبادٌ مخلوقون، لي ربّ أعبده ; إن لم أعبده عذّبني بالنار. قلت: لا أقول فيك إلاّ قولك في نفسك.
قال: اجعلونا عبيداً مربوبين وقولوا فينا ما شئتم إلاّ النبوّة"(2).
ورواه في بصائر الدرجات بطريقين.
السابعة: ما رواه في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام)، قال: "قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا تتجاوزوا بنا العبودية ثمّ قولوا ما شئتم ولا تغلوا، وإيّاكم والغلوّ كغلوّ النصارى ; فإنّي بري من الغالين"(3).
ورواه في الاحتجاج عن تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): "قال الرضا (عليه السلام): من تجاوز بأمير المؤمنين (عليه السلام) حدّ العبودية فهو من المغضوب عليهم والضالين.
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا تتجاوزوا بنا العبودية ثمّ قولوا ما شئتم ولن تبلغوا، وإيّاكم والغلوّ كغلوّ النصارى ; فإنّي بري من الغالين...
إلى أن قال بعد شرح غلوّ النصارى: فكذلك هؤلاء، وجدوا أمير المؤمنين عبداً أكرمه الله ليبيّن فضله ويقيم حجّته، فصغر عندهم خالقهم أن يكون جعل عليّاً له عبداً، وأكبروا عليّاً عن أن يكون الله عزّوجلّ له ربّاً، فسمّوه بغير اسمه، فنهاهم هو وأتباعه من أهل ملّته وشيعته، وقالوا لهم: يا هؤلاء! إنّ عليّاً وولده عبادٌ مكرمون مخلوقون مدبرون، لا يقدرون إلاّ على ما أقدرهم عليه الله ربّ العالمين، ولا يملكون إلاّ ما
____________
1- البحار 26 / 6.
2- بصائر الدرجات 241 / 65، واثبات الهداة للحرّ العاملي 7 / 477 حديث 68 و ج 5 ص 417 حديث 154.
3- البحار 4 / 303 ح 31.
الثامنة: ما في غرر الحكم: "قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إيّاكم والغلوّ فينا، قولوا إنّا مربوبون واعتقدوا في فضلنا ما شئتم"(2).
التاسعة: ما رواه الكليني عن عبد العزيز بن مسلم، قال: "كنّا مع الرضا (عليه السلام)... ثم ساق حديثاً طويلاً عنه في الإمامة، وفيها: إنّ الإمامة أجلّ قدراً وأعظم شأناً وأعلى مكاناً وأمنع جانباً وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بعقولهم أو ينالوها بآرائهم... الإمام كالشمس الطالعة المجلّلة بنورها للعالم، وهي في الأُفق بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار... فمن الذي يعرف معرفة الإمام أو يمكنه اختياره؟ هيهات هيهات، ضلّت العقول وتاهت الحلوم وحارت الألباب وخسئت العيون وتصاغرت العظماء وتحيّرت الحكماء وتقاصرت الحلماء وحصرت الخطباء وجهلت الألبّاء وكلّت الشعراء وعجزت الأدباء وعييت البلغاء، عن وصف شأن من شأنه أو فضيلة من فضائله، وأقرّت بالعجز والتقصير، وكيف يوصف بكله أو ينعت بكنه أو يفهم شيء من أمره أو يوجد من يقوم مقامه ويغني غناه، لا، كيف وأنّى؟ وهو بُعد النجم عن يد المتناولين ووصف الواصفين، فأين الاختيار من هذا، وأين العقول عن هذا"(3).
وروى في المنتخب من بصائر الدرجات لسعد بن عبد الله الأشعري، عن ابن عيسى بإسناده إلى المفضّل، قال: "قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما جاءكم منّا ممّا يجوز أن يكون في المخلوقين ولم تعلموه ولم تفهموه، فلا تجحدوه، وردّوه إلينا، وما جاءكم عنّا ممّا لا يجوز أن يكون في المخلوقين، فاجحدوه ولا تردّوه إلينا(4).
فبيّن (عليه السلام) أنّ الضابطة في صحّة إسناد النعوت والأوصاف لهم (عليهم السلام) والمدار في
____________
1- البحار 25 / 274 ـ 278، والاحتجاج 2 / 233.
2- غرر الحكم: 159.
3- أصول الكافي 1 / 198 ـ 201.
4- البحار 25 / 364، ومستدرك سفينة البحار 1 / 199.
قاعدة آلية أُخرى
وهي معرفتهم بالخلقة النورية
وهي أنّه تعالى أوّل ما بدأ بخلق نورهم، ثمّ خَلَق جميع الأشياء بعد ذلك. وهذه القاعدة في المعرفة متطابقة المعنى مع الإطار السابق: نزلونا عن الربوبية وقولوا فينا ما شئتم. من الكرامة الوجودية التي حباها الله تعالى لهم ولن تبلغوا كنه ذلك. وبسبب تطابق المعنى بين الإطارين فهما قاعدة واحدة، ذُكِرا في الرواية الخامسة المتقدّمة ـ في لسان الإطار الأوّل.
فأمّا لفظ الحديث من بعض طرقنا، ما روي في الكافي:
"أحمد بن إدريس، عن الحسين بن عبد الله، عن محمّد بن عيسى ومحمّد بن عبد الله، عن علي بن حديد، عن مرازم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال الله تبارك وتعالى: يا محمّد، إنّي خلقتك وعليّاً نوراً، يعني روحاً بلا بدن، قبل أن أخلق سماواتي وأرضي وعرشي وبحري، فلم تزل تهلّلني وتمجّدني، ثمّ جمعت روحيكما فجعلتهما واحدة، فكانت تمجّدني وتقدّسني وتهلّلني، ثمّ قسّمتها ثنتين، وقسّمت الثنتين ثنتين فصارت أربعة: محمّد واحد، وعليّ واحد، والحسن والحسين ثنتان، ثمّ خلق الله فاطمة من نور إبتدأها روحاً بلا بدن، ثمّ مسحنا بيمينه فأفضى نوره فينا"(1).
وكذلك ما رواه الكافي في نفس الباب: "الحسين بن محمّد الأشعري، عن معلى بن محمّد، عن أبي الفضل عبد الله بن إدريس، عن محمّد بن سنان، قال: كنت عند أبي جعفر الثاني (عليه السلام)، فأجريت اختلاف الشيعة، فقال: يا محمّد، إنّ الله تبارك وتعالى لم يزل متفرّداً بوحدانيته، ثمّ خلق محمّداً وعليّاً وفاطمة، فمكثوا ألف دهر، ثمّ خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها، وأجرى طاعتهم عليها، وفوّض أمورها إليهم، فهم يحلّون ما
____________
1- الكافي 1/440 كتاب الحجّة ح3، وكذلك في البحار 15 ح18، وأورد كذلك فيج54 ص193 ح14، ونقلها الصدوق في كتابه التوحيد باب15 تفسير آية النور ص155.
ثمّ قال: يا محمّد، هذه الديانة التي من تقدّمها مرق ومن تخلّف عنها محق ومن لزمها لحق، خذها إليك يا محمّد"(1).
وذكر المجلسي في ضمن شرحه للرواية: فأشهدهم خلقها، أي خَلَقها بحضرتهم وبعلمهم، وهم كانوا مطّلعين على أطوار الخلق وأسراره، فلذا صاروا مستحقّين للإمامة ; لعلمهم الكامل بالشرائع والأحكام وعلل الخلق وأسرار الغيوب، وأئمّة الإمامية كلّهم موصوفون بتلك الصفات دون سائر الفرق فيه، فيبطل مذهبهم، فيستقيم الجواب على الوجه الثاني أيضاً.
____________
1- الكافي 1 / 441 كتاب الحجة ح 5. وقد ورد مضمون هذا الحديث بألفاظ مختلفة متواتراً ومستفيضاً، وإليك جملة من المصادر:
منها ما روي في الكافي ج 1 ص 389 باب خلقة أبدان الأئمّة وأرواحهم، وكذلك في نفس الجلد ص 194 وفيه باب أنّ الأئمّة (عليهم السلام) نور الله عزّوجلّ، وكذلك ج1 ص 442 باب مولد النبي (صلى الله عليه وآله) ووفاته، (وكتاب ترتيب الأمالي للصدوق والمفيد والطوسي) كتاب النبوّة ج 1 باب تاريخ نبينا سيّد المرسلين باب 1 بدء الخلق وفيه 12 حديثاً وكتاب توحيد الصدوق باب 15 تفسير آية النور ص 155، وفي الخصال الخصلة ألف، ومعاني الأخبار ص 306، وعلل الشرائع ج 1 ص 198، وإكمال الدين للصدوق ص 184 ـ 193، ومنتخب بصائر الدرجات، وكذلك في كتاب الأثر في النص على الأئمّة الاثني عشر ـ للخزاز القمّي، وكذلك في البحار ج 1 ص 103 أبواب تاريخ نبينا (صلى الله عليه وآله) الباب 1 بدء خلقه وما جرى له في الميثاق وبدء نوره، وكذلك في ج 15 ص 19 و141، وفي ج 57 ص 65 حديث 43، في مجلد 35 تاريخ أمير المؤمنين حديث 1 في مجلد 54 ص 195 ص 141 في مجلد 25 ص 340 ص 24 والبحار مجلد 57 كتاب السماء والعالم وهناك مصادر كثيرة اُخرى في كتب المتقدمين كالكليني والصدوق وغيرهما والمتأخرين كصاحب البحار والسيد هاشم البحراني وغيرهما وكذلك نقل النمازي صاحب مستدرك سفينة البحار ج 10 ص 163 روايات اُخرى في مادة ن و ر وفي مجمع البيان للطبرسي في ذيل تفسير آية النور وكذلك في تفسير البرهان.
قال الطبرسي (رحمه الله): قيل: معنى الآية أنّكم اتّبعتم الشياطين كما يتّبع من يكون عنده علم لا يُنال إلاّ من جهته، وأنا ما أطلعتهم على خلق السماوات والأرض ولا على خلق أنفسهم، ولم أعطهم العلم بأنّه كيف يُخلق الأشياء، فمن أين يتبعونهم؟ انتهى.
وأجرى طاعتهم عليها: أي أوجب وألزم على جميع الأشياء طاعتهم، حتّى الجمادات من السماويات والأرضيات، كشقّ القمر وإقبال الشجر وتسبيح الحصى، وأمثالها ممّا لا يحصى، وفوّض أُمورها إليهم من التحليل والتحريم والعطاء والمنع، وإن كان ظاهرها تفويض تدبيرها إليهم فهم يحلّون ما يشاؤون، ظاهره تفويض الأحكام كما سيأتي تحقيقه... الخ.(4)
وكذلك ذكر (قدس سره) في ذيل روايات أوّل ما خلق من الروحانيين العقل، وذكر له ستّة تفاسير، وقال عقب تفسير الفلاسفة:
فاعلم أنّ أكثر ما أثبتوه لهذه العقول قد ثبت لأرواح النبيّ والأئمّة (عليهم السلام) في أخبارنا المتواترة على وجه آخر، فإنّهم أثبتوا القدم للعقل، وقد ثبت التقدّم في الخلق لأرواحهم إمّا على جميع المخلوقات، أو على سائر الروحانيين في أخبار متواترة. وأيضاً أثبتوا لها التوسّط في الإيجاد أو الاشتراط في التأثير، وقد ثبت في
____________
1- سورة الكهف 18: 51.
2- سورة الكهف 18: 50.
3- الكهف 18: 51.
4- البحار 25 / 343 باب نفي الغلوّ في النبيّ والأئمّة (عليهم السلام).
والحاصل، إنّه قد ثبت بالأخبار المستفيضة أنّهم (عليهم السلام) الوسائل بين الخلق وبين الحقّ في إفاضة جميع الرحمات والعلوم والكمالات على جميع الخلق، فكلّما يكون التوسّل بهم والإذعان بفضلهم أكثر، كان فيضان الكمالات من الله أكبر... فعلى قياس ما قالوا يمكن أن يكون المراد بالعقل نور النبيّ (صلى الله عليه وآله) الذي انشعبت منه أنوار الأئمّة (عليهم السلام)، واستنطاقه على الحقيقة. أو بجعله محلاًّ لمعارف الغير المتناهية.
والمراد بالأمر بالإقبال ترقّيه على مراتب الكمال وجذبه إلى أعلى مقام القرب والوصال، وبإدباره إمّا إنزاله إلى البدن أو الأمر بتكميل الخلق بعد غاية الكمال، فإنّه يلزمه التنزّل عن غاية مراتب القرب بسبب معاشرة الخلق، ويشير إليه قوله تعالى: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولاً}(1)، وقد بسطنا الكلام في ذلك في الفوائد الطريفة، ويحتمل أن يكون المراد بالإقبال الإقبال إلى الخلق، وبالإدبار الرجوع إلى عالم القدس بعد إتمام التبليغ ; ويؤيّده ما في بعض الأخبار من تقديم الإدبار على الإقبال وعلى التقادير.
فالمراد بقوله تعالى (ولا أكمّلك) يمكن أن يكون المراد ولا أكمّل محبّتك والارتباط بك وكونك واسطة بينه وبيني، إلاّ فيمن أحبّه، أو يكون الخطاب مع روحهم ونورهم (عليهم السلام)، والمراد بالإكمال إكماله في أبدانهم الشريفة، أي هذا النور بعد تشعّبه بأي بدن تعلّق وكمل فيه يكون ذلك الشخص أحبّ الخلق إلى الله
____________
1- سورة الطلاق 65: 10-11.
وأمّا في طرق العامّة، فقد ذكر صاحب عبقات الأنوار السيّد حامد حسين اللكهنوي عن حديث النور، قال:
الحديث الثامن: "ما رووا أنّه (صلى الله عليه وآله) قال: كنت أنا وعليّ بن أبي طالب نوراً بين يدي الله قبل أن يُخلق آدم بأربعة آلاف سنة، ولمّا خلق الله آدم قسّم ذلك النور جزئين، فجزء أنا وجزء عليّ بن أبي طالب..." الحديث.
قال صاحب العبقات: لقد نسب الدهلوي صاحب التحفة الاثني العشرية ـ رواية حديث النور إلى الإمامية فقط، وادّعى إجماع أهل السنّة على كونه موضوعاً، وعن مدى تعصّب صاحبها وعناده بذكر رواة الحديث من الصحابة والتابعين وكبار علماء أهل السنّة، ثمّ ذكر أسماء رواة حديث النور من الصحابة وعدّتهم ثمانية، كما ذكر رواة حديث النور من التابعين وعدّتهم ثمانية أيضاً، وذكر العلماء والمحدّثين والحفّاظ الذين رووا الحديث في مجاميعهم وعدّتهم واحد وأربعون، بطرقهم المختلفة. منهم: ابن حنبل، وابنه عبد الله، وابن مردويه، وأبو نعيم الأصبهاني، وابن عبد البرّ القرطبي، وابن المغازلي، والخطيب الخوارزمي المكي، وابن عساكر الدمشقي، والمحبّ الطبري، والحمويني، والگنجي الشافعي، والخطيب البغدادي، وابن حجر العسقلاني، وغيرهم.
ثمّ أخذ رضوان الله عليه ـ في إثبات تواتر الحديث، ثمّ ذكر مصادر الحديث واحداً واحد، وذكر صحّة أسانيد الحديث لديهم، ثمّ ذكر كلام الشيخ ابن عربي في تفسير الحديث بأنّه: لم يكن أقرب إلى الله تعالى في عالم الهباء وهو عالم النور ـ من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأقرب الناس إليه عليّ بن أبي طالب، أمام العالم
____________
1- البحار 1 / 103 ـ 104.