كما أنّ جملة {يقولون آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}(1) المجعولة صفة للراسخين في العلم على تقدير الواو عاطفة، أو خبر على تقدير كون الواو استئنافية، فإنّ الجملة الدالّة على علم الراسخين بالعلم بالتأويل حيث إنّ الضمير عائد إلى التأويل، وتعلّق الإيمان به يستلزم العلم به بنحو ما، لا سيما وأنّه قد وصف بإضافته إلى أنّه من عند الله، والتوصيف يستلزم التعيين، كما أنّ وصفهم بالراسخين بالعلم أيضاً مشعرٌ بذلك، وكذا إرداف ذكرهم للمستثنى وهو الباري تعالى، وكذا قولهم بعدم مخالفة المتشابه للمحكم ; لأنّ كلّ منهما من عند الله تعالى، أي وحدتهما في ذلك دالّ على معرفتهم بكيفية رجوع المتشابه إلى المحكم، أي تأويله به.
مضافاً إلى أنّه لو لم يكن ثلّة من هذه الأُمّة بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) تعلم متشابه القرآن وكيفية تأويله بالمحكم، لكان يلزم منه تعطيل الكتاب بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله). وهذا هو مفاد حديث الثقلين.
وبذلك تدلّ الآية على اختصاص علم الكتاب بهم بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، دون غيرهم من الأُمّة.
ثمّ إنّ مقتضى إحاطتهم بعلم الكتاب هو إحاطتهم بناسخه ومنسوخه، وعامّه وخاصّه، ومطلقه ومقيده، وموارد نزوله، وعزائمه، من رخصه، ومغايرة متشابهه
____________
1- سورة آل عمران 3: 7.
مضافاً إلى وجوه التشاهد الآتية بين هذه الآية وبقية آيات الثقلين الدالّة على إحاطة الراسخين في العلم في هذه الأُمّة بالكتاب كلّه.
الطائفة الثانية: من عندهم بيان تبيان الكتاب لكلّ شيء
وهم كما في قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّة شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاَءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}(1).
وقوله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ * وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ}(2).
و {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الاَْلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْء مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْء}(3)
و {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْء وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ}(4).
أما الآية الأولى الدالّة على الثقل الأوّل بل الثقلين معاً ـ فقد فُسّر (تبياناً لكلّ شيء) بأنّه تبيان لكلّ أُمور الدين، أي العلوم الدينية. والتفسير الآخر أنّ فيه تبياناً لكلّ شيء من أُمور الدين وغيره، فيشمل العلوم الدينية وغير الدينية، لا سيما أنّ معارف الدين محيطة بكلّ الحقائق الكونية.
وتقريب الاستدلال في الآية يتمّ على كِلا القولين، وقد وقع المفسّرون من العامّة في حيص وبيص في تفسير معنى الآية فلاحظ كلماتهم، وإن كان الثاني هو الصحيح ; لما في قوله تعالى: {وَمَا مِنْ غَائِبَة فِي السَّمَاءِ وَالاَْرْضِ إِلاَّ فِي كِتَاب
____________
1- سورة النحل 16: 89.
2- سورة العنكبوت 29: 49 ـ 50.
3- سورة الأعراف 7: 145.
4- سورة الأنعام: 154.
ثمّ إنّ شمولية الكتاب أوسع من التوراة، كما دلّت عليه الآيات في سورة الأعراف، وهي قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الاَْلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْء مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْء فَخُذْهَا بِقُوَّة وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُورِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ}(5).
وهذا هو الثقل الأوّل، بل في الآية إشارة إلى الثقل الثاني أيضاً، حيث تُبيِّن وجود شاهد في كلّ أُمّة، والأُمّة الجيل من الناس أو القرن، أي وجود شاهد في كلّ قرن يشهد على الناس أعمالهم، ويكون هذا الشاهد من نفس أُمّة ذلك القرن، ويكون الرسول شاهداً على هؤلاء.
قال الفخر الرازي في ذيل الآية: اعلم أنّ هذا نوع آخر من التهديدات المانعة للمكلّفين عن المعاصي، واعلم أنّ الأُمّة عبارة عن القرن والجماعة، إذا ثبت هذا فنقول: في الآية قولان: الأوّل: إنّ المراد أنّ كلّ نبيّ شاهد على أُمّته. والثاني: إنّ كلّ جمع وقرن يحصل في الدنيا فلابدّ وأن يحصل فيهم واحد يكون شاهداً عليهم، أمّا الشهيد على الذين كانوا في عصر رسول الله صلّى الله عليهم وآله وسلّم، فهو الرسول ; بدليل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ
____________
1- سورة النمل 27: 75.
2- سورة الأنعام 6: 59.
3- سورة الأنعام 6: 38.
4- سورة الرعد 13: 39.
5- سورة الأعراف 7: 145.
وثبت أيضاً أنّه لابدّ في كلّ زمان بعد زمان الرسول من الشهيد.
فتحصل من هذا أنّ عصراً من الأعصار لا يخلو من شهيد على الناس، وذلك الشهيد لابدّ وأن يكون غير جائز الخطأ ; وإلاّ لافتقر إلى شهيد آخر، ويمتدّ ذلك إلى غير نهاية، وذلك باطل، فثبت أنّه لابدّ في كلّ عصر من أقوام تقوم الحجّة بقولهم، وذلك يقتضي أن يكون إجماع الأُمّة حجّة.(2)
أقول: ما تبيّن من دلالة الآية هو الحقّ من لزوم شاهد غير جائز الخطأ، ولكن تطبيق ذلك على إجماع الأُمّة واهي غايته ; فإنّ الأُمّة منقسمة في أكثر أمرها، فأين الشاهد في ما اختلفت فيه.
وحيث أنّ الشاهد لابدّ أن يكون عالماً بأعمال العباد، كما يشير إليه قوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(3)، فيرى أعمال العباد حين صدورها.
ومن الواضح أنّ علم كلّ ذلك كان لدى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إذ ما كان ينزل عليه شيء إلاّ كان يعلمه ويعلّمه غيره، لكن لا يحيط بكلّ تعليمه إلاّ الأُذن الواعية، كما قال تعالى: {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}(4)، وهي أُذن عليّ (عليه السلام) كما جاء في أحاديث الفريقين.(5)
____________
1- سورة البقرة 2: 143.
2- الفخر الرازي 20 / 99 في ذيل الآية.
3- سورة التوبة 9: 105.
4- سورة الحاقّة 69: 12.
5- روى ذلك الطبري في تفسيره، وأبو نعيم في حلية الأولياء، والواحدي النيسابوري في أسباب النزول، والثعلبي في تفسيره، والرازي في تفسيره، والمتّقي الهندي في كنز العمّال، والقرطبي في تفسيره، والسيوطي في الدرّ المنثور، وابن كثير في تفسيره. لاحظ بقية المصادر: إحقاق الحقّ 3 / 147 و14 / 220 - 241 و20 / 92 - 97.
وكيف يبيّن ما لم يعلمه، وكيف يفرض أنّ علمه عند غير رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ مع أنّ بيانه على عهدة ووظيفة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، بيان كلّ الكتاب.
ثمّ إنّ عملية إنزال حقائق الكتاب لتبيان ما فيه لم ينقطع ويرتفع بموت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ; إذ هو باق لتنزّله كلّ عام ليلة القدر إلى يوم القيامة، فعلمه في كلّ الكتاب لابدّ أن يكون باقياً في ثلّة من هذه الأُمّة، وهو الثقل الثاني، وهو الذي تشير إليه الآية الثانية من قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُواْ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَاب وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ}(4)، و(بل) للإضراب إمّا عمّا سبق في الآيات عليها، أو عن كون علم الكتاب أي كون الآيات بينات في صدور من عدا الذين أوتوا العلم. وعلى كلا التقديرين تدلّ على حصر علم وبيان ما في الكتاب بالذين أُوتوا العلم، والضمير (هو) عائد إلى الكتاب المجيد، بمقتضى السياق ومقتضى توصيفه بالآيات.
ثمّ إن الذين أُوتوا العلم قد ذُكروا في آيات أُخر، كقوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}(5)، وقوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم}(6)، وقوله تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ
____________
1- سورة النحل 16: 44.
2- سورة النحل 16: 64.
3- سورة القيامة 75: 17 ـ 19.
4- سورة العنكبوت 29: 48 ـ 49.
5- سورة سبأ 34: 6.
6- سورة الحج 27: 54.
وهذه الآيات تصفهم بصفات التحلي بالعلم اللدني والعلم بالكتاب كما في قولهم: {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ}(6)، حيث بمقتضى علمهم بالكتاب المحيط بالنشأتين لا يجهلون كيفية أحكام النشأة الأخرى.
كما أنّ الآيات آنفة الذكر أثبتت لهم رؤية ومعاينة الذي أُنزل إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) من الوحي.
ويُستفاد من سورة النحل أنّ الذين أُوتوا العلم هم المعصومون ; إذ أُبعد عنهم مطلق الخزي، كما أنّ إثبات التكلّم في مواطن من يوم القيامة والبعث دالّ على رفعتهم ومكانتهم وكونهم ذوي صلاحيات من المقام المحمود، وأنّهم لا تأخذهم أهوال يوم القيامة ولا أهوال البعث، وقد وصف الله تعالى مشاهد ذلك اليوم بقوله: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفًّا لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا}(7).
____________
1- سورة النحل 16: 27.
2- سورة الروم 30: 56.
3- سورة القصص 28: 80.
4- سورة محمّد 47: 16.
5- سورة المجادلة 58: 11.
6- سورة الروم 30: 56.
7- سورة النبأ 78: 38.
ويتحصّل حينئذ: إنّ القرآن الكريم يشتمل على جميع مسائل علوم الدين والعلوم الأُخرى، وهذا يعزّز عموم مفاد الطائفة الثانية من أنّ في الكتاب تبيان كلّ شيء، ويدعم ذلك أنّ القرآن قد وصِف أنّه مهيمن على الكتب السابقة، كما في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}(3)، والهيمنة هي الإحاطة، مع أنّه قد وصفت بعض الكتب السماوية المتقدّمة باحتوائها على غير علوم الدين، كقوله تعالى: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي}(4)، فإنّ المجيء بعرش بلقيس بقدرة علم من الكتاب ليس ممّا يرتبط بالأحكام، وكذا قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الاَْرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الاَْمْرُ جَمِيعًا}(5)، فقوله تعالى: {يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}(6) دالّ على أنّ حقيقة القرآن تشمل وتحوي المشيئات الإلهية،
____________
1- سورة القصص 28: 1 ـ 2.
2- سورة الزخرف 43: 2، القمر 54: 52 ـ 53، الشعراء 26: 2، يوسف 12: 1.
3- سورة المائدة 5: 48.
4- سورة النمل 27: 40.
5- سورة الرعد 13: 31.
6- سورة الرعد 13: 39.
كما أنّ في الكتاب علم بكافة الكائنات والمخلوقات الأرضية والسماوية، بمقتضى قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَة إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّة فِي ظُلُمَاتِ الاَْرْضِ وَلاَ رَطْب وَلاَ يَابِس إِلاَّ فِي كِتَاب مُبِين}(1)، وقوله تعالى: {وَمَا مِنْ غَائِبَة فِي السَّمَاءِ وَالاَْرْضِ إِلاَّ فِى كِتَاب مُبِين}(2)، وقوله تعالى: {عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الاَْرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَاب مُبِين}(3)، هذا كلّه في الثقل الأوّل وهو الكتاب الكريم.
أمّا الثقل الثاني، فمضافاً إلى الآيات في الطائفتين السابقتين حيث بيّنت أنّ تأويل كلّ الكتاب والإحاطة بمحكماته هو عند الراسخين في العلم، وأنّ مجموع القرآن الكريم آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم، وهم الراسخون في العلم المشار إليهم، وهم المطهرون في آية التطهير الذين يمسّون الكتاب المكنون، كما في قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَاب مَكْنُون * لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}(4).
وهم المعبّر عنهم بمن عنده علم الكتاب في قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}(5)، وهذه الآية آخر سورة الرعد المكّية نزولاً، ولم يكن قد أسلم يومئذ في مكّة من أهل الكتاب أحد، فالمراد بها هو أحد المسلمين التابعين لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ممّن شرّف بهذا العلم.
فقد ذكرت أقوال في المراد من الآيتين المتقدمتين.
____________
1- سورة الأنعام 6: 59.
2- سورة النمل 27: 75.
3- سورة سبأ 34: 3.
4- سورة الواقعة 56: 77 ـ 79.
5- سورة الرعد 13: 43.
وثانيها: إنّ المراد به أهل الكتاب، منهم: عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الداري، كما نسب إلى ابن عبّاس وعبد الملك بن عمير وجندب، وغيرهم.(2)
ومقتضى ذلك أن تكون مدنية، كما عن ابن مردويه وابن الزبير والكلبي ومقاتل. وكلا القولين كما ترى في الضعف والسقوط ; فإنّ ظاهر الآية اثنينية الشهادة والشاهدين، والسورة كلّ آياتها مكّية، والآية الأخيرة مذكورة في سياق نتيجة للآيات السابقة، فكيف يفكّك النزول بينها فتكون سابقتها مكّية وهي خاصّة مدنية؟ وليس هذا إلاّ تعصّب وعناد ممجوج، وسيأتي بسط الحديث في ذلك أكثر بعد الطائفة الثالثة.
ثم إنّه يستفاد من الطائفة الثانية أُمور:
الأمر الأوّل: إنّ هذه الطائفة بمجموع الآيتين دالّة على لزوم الرجوع إلى ثلّة معصومة في مقام التمسّك بالكتاب العزيز، وعند إرادة تبيّن الأحكام الشرعية والمعارف من الكتاب العزيز، نظير ما تقدّم في الطائفة الأُولى.
الأمر الثاني: تدلّ أيضاً على استمرار بقاء تلك الثلّة ببقاء القرآن وبقاء هذا الدين، حيث إن هذه الملحمة القرآنية في الآية الأُولى ـ وهي دعوى بيان حكم وعلم كلّ شيء في القرآن ـ على مرّ الأزمان والعصور محتاجة إلى من يبيّن ذلك من القرآن.
____________
1- فتح القدير للشوكاني 3 / 90 دار إحيار التراث العربي.
2- المصدر السابق 3 / 89.
أمّا العصمة العلمية ; فلأنّ الآية الثانية تدلّ على أنّ مجموع القرآن هو بيّن في صدورهم، والمفروض أنّ القرآن فيه تبيان لكلّ شيء، مضافاً إلى أنّه مع فرض الجهل العلمي في تلك الثلّة يستلزم حصول العجز لكافة الأُمّة عن الوصول إلى كلّ ما يحتاجونه من أحكام الكتاب ومعارفه.
وأمّا في صورة عدم العصمة العملية ; فلأنّه سوف تُفقد الأمانة والوثوق في الرجوع إلى أقوالهم.
الأمر الرابع: إنّ هذه الطائفة تعضد الاستثناء في الطائفة الأُولى من أنّ الذي يعلم متشابه القرآن إنّما هو الله والراسخون في العلم حيث ; إنّ في هذه الطائفة دلالة على أنّ آيات القرآن بيّنة عندهم غير متشابهة.
الأمر الخامس: إنّ العلم الذي بتوسّطه صار مجموع القرآن بيّن لهم، هذا العلم إيتائي وهبي عطائي من الله تعالى، لا تسبيبي (كسبي)، أي أنّه علم لدني. وقد أشار إليه القرآن الكريم في آيات عديدة، كما في سورة الكهف حيث قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}(1)، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(2)، وقوله تعالى: {قَالَ الَّذِي
____________
1- سورة الكهف 18: 65.
2- سورة البقرة 2: 247.
الأمر السادس: إنّ علمهم لدنيّ، علمٌ تالي لعلم النبيّ (صلى الله عليه وآله) وتابع للنبوّة ; حيث إنّ ذلك العلم متعلّق ببيان كلّ الكتاب، كما في آية العنكبوت المتقدّمة، أو تأويل كلّ الكتاب، كما في قوله تعالى في آل عمران: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}(3)، وهو تأويل الكتاب المنزّل على النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فعلمهم متأخر رتبة عمّا أُنزل على النبيّ (صلى الله عليه وآله)، ومن ثمّ أُطلق على علمهم أنّه وراثة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وليست هذه الوراثة هي وراثة معهودة بل هي وراثة نورانية، أي أنّ تلقّيها لدنيّ من الله تعالى وبوساطة نبويّة.
الطائفة الثالثة: الذين يحيطون بالكتاب المبين
قوله تعالى: {وَمَا مِنْ غَائِبَة فِي السَّمَاءِ وَالاَْرْضِ إِلاَّ فِى كِتَاب مُبِين}(4)، وقوله تعالى: {عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الاَْرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَاب مُبِين}(5)، وقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّة فِي الاَْرْضِ وَلاَ طَائِر يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء}(6)، وقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ..}(7)، وقوله
____________
1- سورة النمل 27: 40.
2- سورة لقمان 31: 12.
3- سورة آل عمران 3: 7.
4- سورة النمل 27: 75.
5- سورة سبأ 34: 3.
6- سورة الأنعام 6: 38.
7- سورة الأنعام 6: 59.