الطائفة الخامسة: وراثة الكتاب والعصمة في التدبير
قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الاَْمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الاَْمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً}(1).
وقوله تعالى: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ * ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}(2)، وقوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ}(3).
من الواضح أنّ الكتاب في الآية الثانية هو القرآن الكريم بحسب السياق، كما أنّ هذا التوريث المشار إليه في الآية ليس توريثاً مادّياً بالأسباب المتعارفة، نظير ما ورد في قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الاَْدْنَى}(4)، و{وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكّ مِنْهُ مُرِيب}(5)، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ}(6)، فالتوريث هذا توريث إلهي من سنخ الملكوت والعلم اللدني ; بقرينة تخصيص هذه الوراثة للكتاب بـ (المصطفين)، والاصطفاء بالاصطلاح القرآني قد خُصّ بالأنبياء والرسل والملائكة ونحوهم من المعصومين والمطهّرين.
____________
1- سورة النساء 4: 83.
2- سورة فاطر 35: 31 ـ 32.
3- سورة النمل 27: 59.
4- سورة الأعراف 7: 169.
5- سورة الشورى 42: 14.
6- سورة غافر 40: 53.
محصّل مفاد الآية(2): إنّ السابق هو الذي اصطُفي من العباد، والعباد ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: ظالم ومقتصد وسابق بالخيرات.
أما الآية الأولى(3) فهي دالّة على أنّ المفزع والمصدر في الأُمور هو الرسول وأُولي الأمر، وأنّ الواجب على المسلمين إذا انتابهم أمر يمسّ حياتهم الاجتماعية الرجوع والردّ إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) وأولي الأمر للبتّ في شأنه ; وذلك لإحاطة تلك الثلّة باستنباط واستخراج ما هو الحقّ في تدبير ما ألمّ بهم من أمر.
فالآية دالّة على أنّ تدبير الرسول (صلى الله عليه وآله) وأُولي الأمر ليس اجتهادياً ولا ظنّياً كما
____________
1- سورة المطففين 83: 18 ـ 21.
2- وهي قوله تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير).
3- سورة النساء 4: 83.
نعم، قد يوهم إسناده إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) وأُولي الأمر من ناحيتين:
الأُولى: إنّ الجهاز الحاكم في حكومة الرسول وأُولي الأمر غير معصوم، وقد يرتكب الأخطاء أو المعاصي، فينسب ذلك بعضهم إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) وأُولي الأمر، على أنّ هذا الإسناد ليس في حقيقته متّصل بالرسول (صلى الله عليه وآله)، بل يُنسب إلى أعضاء حكومته (صلى الله عليه وآله)، نظير ما صنعه خالد بن الوليد في فتح مكّة حيث غدر ببني الأجلح فتبرّأ النبيّ (صلى الله عليه وآله) من فعله بقوله: "اللهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا فعله خالد"(1) وكان معيّناً من قبل النبيّ (صلى الله عليه وآله) على إحدى الفرق العسكرية المرسلة، ثمّ انتدب رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليّاً (عليه السلام) ليسترضيهم ويعطي الدية لمن قُتل منهم.
وكذا ما صنعه أُسامة بن زيد حينما قتل مَن أظهر الإسلام شبهةً وظنّاً منه أنّ إظهار الشهادتين لا يحقن الدم مع الريبة.
الثانية: إنّ الميزان الظاهري الشرعي الموظّف العمل به أن يكون ظاهرياً، أي قد يخطئ وقد يصيب، نظير البيّنة والحلف في القضاء كما في قوله (صلى الله عليه وآله): "إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان، وبعضكم ألحن بحجّته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فكأنّما قطعت له قطعة من النار"(2).
____________
1- المسترشد لمحمد بن جرير الطبري: 492.
2- الوسائل (آل البيت) 27 / 232.
ثمّ إنّ هذه الآية(1) دالّة على وجود ثلّة هم ولاة الأمر مقرونة ولايتهم بولاية الرسول (صلى الله عليه وآله)، وأنّ لهم عصمة في التدبير وهي متقوّمة بالعصمة العلمية والعملية، وأنّ هذه الثلّة باقية ما بقيت الأُمّة وما بقي القرآن الكريم ; لأنّ هذه الآية خطابٌ إلى كلّ المكلّفين إلى يوم القيامة، وأنّ الواجب عليهم ردّ وإيكال ما يعتريهم في أُمورهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وغير ذلك بايكاله وردّه إلى أُولي الأمر العالمين بحكمه من خلال قدرتهم على استنباط واستخراج الحقّ والواقع فيه.
ومن البيّن أنّ هذا الاستنباط الموصّل إلى العلم بحقائق الأُمور، مستقى من الكتاب الكريم لا بلحاظ ما فيه من تشريع فقط ; فإنّ ذلك لا يؤمِّن بمفرده العصمة في التطبيق والتدبير، بالإضافة إلى ذلك ما في الكتاب من استطارَ كلّ شيء فيه من غائبة في الأرض أو في السماء أو رطب أو يابس، في رتبة حقائقه العالية من الكتاب المكنون الذي هو الكتاب المبين والذي لا يمسّه إلاّ المطهّرون، وهو وصف أُولي الأمر المعصومين، الأمر الذي يتنزّل عليهم في ليلة القدر بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، هذا الأمر الذي فيه يفرق ويقدّر كلّ شيء إلى العام القابل، ويفصّل مقادير
____________
1- وهو قوله تعالى: (ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم..).
ويستحصل من هذه الطائفة أُمور:
الأوّل: إنّ توريث الكتاب بالاصطفاء ليس من نمط الوراثة البشرية المعتادة، وإنّما هو عبر اصطفاء الشخص المورّث للمقام الغيبي والمنصب الإلهي اللدني، أي أن الوراثة من سنخ ملكوتي لا ملكي مادّي نظير ما تشير إليه الطوائف السابقة من كون آيات الكتاب كلّها بينات في صدور الذين أوتوا العلم وهو علم الكتاب، وهم الراسخون الذين يعلمون تأويل متشابهه الذين يمسّون الكتاب المكنون.
ويشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيَْمانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْء إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ}(1)، فإنّه كالعطف التفسيري لبيان أنّ هذه الوراثة لدنية وهبية إلهية، كما هو الحال في علم منطق الطير وأسباب القدرة التي أوتيت لداود وسليمان، وإن لم تنحصر الوراثة في الآية بالوراثة التكوينية وشملت الوراثة الاعتبارية القانونية، أو أنّ شمولها للاعتبارية بالأولوية القطعية، ولذلك أحتجّت بالآية الصدّيقةُ الزهراء (عليها السلام) للمطالبة بإرثها من فدك، ويتم احتجاجها (عليها السلام) بكلا المعنيين كما يتبين بالتدبّر.
الثاني: إنّ تدبير الرسول (صلى الله عليه وآله) للحكم وشؤونه السياسية والعسكرية وغيرها وأُولي الأمر الذين تقدّم وصفهم في الأمر الأوّل، هو تدبير بعلم معصوم عن الخطأ، وهذا يخالف ما ذهب إليه أهل سنّة الجماعة من حصر عصمته (صلى الله عليه وآله) في تبليغه الأحكام.
الثالث: الآية دالّة على أن لا اعتصام للمسلمين في نظامهم الاجتماعي
____________
1- سورة النمل 27: 16.
الرابع: إنّ هذه الطائفة دالّة على أنّه ما دام للمسلمين حوزة واجتماع، وما داموا مكلّفين بكتاب الله وأحكامه، فإنّ هناك ثلّة مصطفاة في الأُمّة الإسلامية باقية وهم ولاة الأمر، ولهم وراثة الكتاب اللدنية، وأنّهم معصومون علماً وعملاً، ومن ثمّ كان تدبيرهم للحكم بصواب وعلم لا يخالطه جهل ; إذ لو كان استنباطهم للأمر في التدبير العام بموازين ظنّية، لما صدق إطلاق الجزاء (لعلمه) بإطلاق الشرط (لو ردّوه) في الجملة الشرطية لمخالطة الجهل.
فهذه الطائفة دالّة على أنّ هناك اصطفاء لثلّة من الأُمّة الإسلامية، كما أنّ الطوائف السابقة دالّة على أنّ هناك ثلّة مطهّرة في المسلمين. وقد استُخدم لفظ الاصطفاء والتطهير في آيات الكتاب العزيز في الأنبياء وأولياء الله الحجج، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْض}(1)، فمن هذه الأُمّة الإسلامية من يجتبيه الله عزّوجلّ ويطهّره من النقائص العلمية والعملية، وهي المعبّر عنها بالعصمة، فقد وقع الاصطفاء من بين هذه الأُمّة كما قد وقع التطهير، ووقع إيتاء العلم علم الكتاب لأُولئك المعنيين من بين هذه الأُمّة.
الخامسة: إنّ في ذيل هذه الآيات وصف توريث الكتاب للمصطفين وسبقهم للخيرات بإذن الله، إنّه فضل كبير كما يصفه تعالى، ليس بلحاظ النعم والعطاءات في دار الدنيا، بل مطلقاً، أي أخروياً أيضاً ; إذ لم يصف الله بهذا الوصف إلاّ في حقّ الرسول (صلى الله عليه وآله) كقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ
____________
1- سورة آل عمران 3: 33 ـ 34.
وكذا قوله تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً * إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا}(2)، حيث أطلق الفضل الكبير على وحي الكتاب بتمام حقائقه ومعرفة بطونه، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ}(3)، فهو اطلاق على عطاء دار الآخرة لا عطاء دار الدنيا، مضافاً إلى أنّ السياق يشهد بإرادة ذوي القربى.
وفي مقابل ذلك لم ينصّ القرآن على إعطاء فضل كبير وعظيم لأحد من الأنبياء غير الرسل، كقوله تعالى حكاية عن سليمان: {وَوَرِثَ سُلَيَْمانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَىْء إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ}(4)، فأطلق عليه أنّه فضل مبيّن، أي ظاهر غير خفي، ولم يصفه بالعظمة وكونه كبيراً.
وكذا قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْض وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا}(5)، وقوله تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ}(6)، وقوله تعالى على لسان داود وسليمان (عليهما السلام): {وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ
____________
1- سورة النساء 4: 113.
2- سورة الإسراء 17: 86 ـ 87.
3- سورة الشورى 42: 22 ـ 23.
4- سورة النمل 27: 16.
5- سورة الإسراء 17: 55.
6- سورة الأنعام 6: 86.
ذكر الله تعالى الفضل بصورة التنكير ; للدلالة على أنّه نوع من الفضل، ولم يوصف بالعظمة والكِبر. فمجموع هذه الشواهد دالّ على أنّ توريث الكتاب للمصطفين من هذه الأُمّة هو توريث من سنخ الوحي بالقرآن، أي لدنياً وإن لم يكن نبوّة، وأنّ هذا الفضل قد خصّ بصيغة الكِبر والعظمة بخلاف الفضل الذي اُعطي لبقية النبيين والمرسلين فانه لم يوصف بذلك. ونظير الدلالة على هذا الامتياز ما تقدّم في سورة الواقعة أنّهم في هذه الأُمّة، وهم أهل البيت (عليهم السلام) بنصّ آية التطهير، وهم الذين يمسّون القرآن المحفوظ في كِنْ(3) الكتاب المحفوظ، والمتنزّل من ذلك المقام الغيبي وهو المصحف الشريف الذي بين الدفّتين.
السادسة: إنّ في تقييد وصفهم (السابقون للخيرات) بإذن الله، يتوافق ويتشاهد مع قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاة وَإِيتَاءَ الزَّكَوةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}(4)، الدالّة على أنّ فعلهم وسبقهم للخيرات هو بإذن من الله، والمراد بالإذن الإيحاء الذي هو أعمّ من الوحي الاصطلاحي كالوحي التسديدي والإلهامي أي هو العلم اللدني لا الوحي النبوي.
____________
1- سورة النمل 27: 15.
2- سورة سبأ 34: 10.
3- أي حفظ.
4- سورة الأنبياء 21: 73.
قراءات جديدة
في آيات وحديث الغدير
القراءة الأُولى
(النبيّ وأهل بيته أولياء لدين الله)
إنّ مفهوم الولاية قد انطبع في الأعصار الأخيرة بحدود ضيّقة تقتصر على صلاحية الحكم السياسي بمصطلحاته الثلاثة: القضائية والتنفيذية والتشريعية، وكذلك الحال في مفهوم حقّ الطاعة. بينما مفهوم الولاية في أصل الوضع اللغوي والاستعمال القرآني والروائي أعمّ من ذلك، أي هو في معنى يساوي الدين والديانة، كما يقتضيه التدبّر في الشواهد الآتية.
وعلى ضوء ذلك، فالولاية تمتدّ بامتداد سعة دائرة الدين وأبوابه، وبعبارة أُخرى: الولاية تسنّم وتقلّد صلاحية كلّ شيء بحسبه، ومن ثمّ يقال: ولاية التنفيذ وولاية القضاء وولاية التشريع وولاية الإفتاء وولاية إبلاغ الرسالة، كما سيأتي في
وفي لسان العرب: ولي في أسماء الله تعالى ; الولي هو الناصر، وقيل: المتولّي لأُمور العالم والخلائق والقائم بها، ومن أسمائه عزّ وجلّ: الوالي، وهو مالك الأشياء جميعها المتصرّف فيها.
قال ابن الأثير: وكأنّ الولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل، وما لم يجتمع ذلك فيها لم يطلق عليها اسم الوالي... وعن ابن السكيت: الوِلاية بالكسر ـ السلطان. وقال سيبويه: الوَلاية بالفتح ـ المصدر، والوِلاية بالكسر ـ الاسم، مثل: الإمارة والنقابة ; لأنّه اسم لما تولّيته وقمْت به.
وروى ابن سلام عن يونس، قال: المولى له مواضع في كلام العرب: منها المولى في الدين وهو الوليّ، وذلك قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ}(1)، أي لا وليّ لهم، ومنه قول سيّدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله): "من كنت مولاه فعليّ مولاه" أي من كنت وليّه وروي أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال: "من تولاّني فليتولّى عليّاً"، معناه من نصرني فلينصره(2).
وقال الفرّاء في قوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الاَْرْضِ}(3)، أي تولّيتم أُمور الناس والخطاب لقريش ـ قال الزجّاج والفرّاء: إن تُوُلِّيتُم أي
____________
1- سورة محمّد 47: 11.
2- قد ذكرنا في كتاب الإمامة الإلهية ج 1 الفصل الثالث في مفاد الوليّ والولاية في حديث الغدير أنّ المعنى سواء كان القيام بالأُمور أو النصر أو الحبّ أو الحلف أو أي معنى آخر لما قد ذكروه فإنّ أيّ من تلك المعاني بقول مطلق مقتضاه الإمامة والرئاسة وولاية الأمر، فراجع.
3- سورة محمّد 47: 22.
ثمّ قال: وقد تكرّر ذكر المولى في الحديث، وهو اسم يقع على جماعة كثيرة، فهو الربّ والمالك والسيّد والمنعم والمعتق والناصر والمحبّ والتابع والجارّ وابن العم والحليف والعقيد والصهر والعبد والمُعْتَق والمنعم عليه، قال: وأكثرها قد جاءت في الحديث، فأضاف كلّ واحد لما يقتضيه الحديث الوارد فيه، وكلّ من ولي أمراً أو قام به فهو مولاه ووليه.
قالوا: وقد تختلف مصادر هذه الأسماء، فالوَلاية بالفتح في النسب والنصرة والعتق، والوِلاية بالكسر في الإمارة، والولاء في المُعتق الموالاة من والى القوم. قال ابن الأثير: وقوله (صلى الله عليه وآله): "من كنت مولاه فعليّ مولاه" يحمل على أكثر الأسماء المذكورة. وقال الشافعي: يعني بذلك ولاء الإسلام، كقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ}(2). قال: وقول عمر لعليّ: أصبحت مولى كلّ مؤمن، أي وليّ كلّ مؤمن(3).
وقال النيسابوري في وجوه القرآن: إنّ الولي على ثمانية أوجه، وذكر أنّ أحدها بمعني الآلهة، كقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ}(4)، وقوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذَوُا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ}(5).(6)
____________
1- لكن خطاب (أن تفسدوا) هو لقريش. أي إن وليكم بنو هاشم فعسى أن تفسد قريش في الأرض عناداً لولايتهم، كحرب الجمل وصفين والنهروان.
2- سورة محمّد 47: 11.
3- لسان العرب 15 / 41.
4- سورة العنكبوت 29: 41.
5- سورة الشورى 42: 9.
6- انتهى كلام النيسابوري في وجوه القرآن ص 583، ويحكي هذا المعنى عن كتاب التصاريف والوجوه، وكذا في الإمامية الإلهية ج 1 الفصل الثالث.
وبعبارة أُخرى: إنّ للولاية معنىً جامع وأصل فارد يستعمل في الموارد العديدة، وهو الذي تنبّه إليه ابن الأثير فيما تقدّم من قوله: (إنّ الولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل)، أي أنّ المعنى الجامع مفاده التمكين والقدرة على التصرّف، فإذا تقرّر ذلك يتبيّن من خلال ما مضى وسيأتي من شواهد عديدة أنّ الولاية المجعولة في الأدلّة لعليّ (عليه السلام) والأئمّة (عليهم السلام) هي ولاية كلّ الدين، بما في ذلك من الإمارة والحكومة والقيام بالأُمور السياسية في النظام الاجتماعي وكذا الولاية في التشريع والقيمومة على الدين ووساطتهم في التدين بالدين، وغير ذلك من الشؤون.
وهذه الآية ملحمة قرآنية لقريش بأنّها ستتولّى الأُمور وتكون سيرتها ما ذكرته الآية. وفي القراءة الثانية إن تولّت بنو هاشم الأُمور ستعاديهم قريش فتضمّنت الملحمة القرآنية نبوءة مستقبلية قد جاء بتصديقها ما وقع في الصدر الأوّل للأُمّة الإسلامية.
فالولاية من معاني الولاية في جميع أبواب الدين، ومن تلك الأبواب الإبلاغ عن الله تعالى ممّا أبلغه النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن الله لهم خاصّة، سواء في نشأة حياته الدنيا أو حياته الأُخرى، ولا زال النبيّ (صلى الله عليه وآله) يبلّغ الإمام القائم بالأمر(عج) عن الله تعالى، وهذه هي السفارة الإلهية وإن لم تكن من سنخ النبوّة أي السبب المتّصل بين الأرض والسماء، قال الشيخ الصدوق في الاعتقادات: وقد فوّض الله تعالى إلى نبيّه (صلى الله عليه وآله) أمر دينه، فقال عزّوجلّ: {مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فالولاية الواردة لهم (عليهم السلام) في الآيات والأحاديث كحديث الغدير ـ هي ولاية كلّ الدين عدا النبوّة، فكلّ ما كان للنبيّ (صلى الله عليه وآله) فهو ثابت لهم، وكذا وساطتهم عن الله، غاية الأمر بتوسّط النبيّ (صلى الله عليه وآله).
وليست ولايتهم مقصورة على الولاية السياسية والرئاسة وقيادة النظام الاجتماعي، وإن كانت هذه الولاية إحدى شعب ولايتهم في الدين، وبعبارة أُخرى، إنّ الإمامة كما تقرّر في معناها ليست مقتصرة على الرئاسة العامّة وحفظ الدين في جانب الحاكمية والتدبير، بل حدودها ومعناها أوسع من ذلك بنحو يتناول الهداية التشريعية الارائية في طول النبوّة والهداية الإيصالية للنفوس إلى الكمالات الحقيقية بتدبير ملكوتي وكلّ من الهدايتين هي من موقع تكويني لنفس وروح الإمام المعصوم، نظير ما ذكره المتكلّمون في تعريف النبوّة والنبيّ من أنّها كون النفس البشرية بحيث تسمع كلام الله، أي أنّه مقام تكويني للروح النبويّة، فكذلك الحال في الإمامة فإنّها مقام تكويني كمالي وإن اختلفت سنخاً عن النبوّة، ويتقرّر من ذلك أنّ الولاية بمعناها الوسيع الشامل تتطابق(3) مع ماهية الإمامة.
ويجدر هاهنا الإشارة إلى جملة من الشواهد على سعة معنى الولاية بالإضافة إلى الدين وأبوابه ومقاماته:
أوّلاً: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ
____________
1- سورة الحشر 59: 7.
2- الاعتقادات: 101.
3- ومن ثمّ كانت الشهادة لعليّ (عليه السلام) بالإمامة هي عين الشهادة لعليّ بالولاية فـ (أشهدُ أنّ عليّاً وليّ الله) هي عين مفاد أشهد أنّ علياً إماماً للدين والدنيا.