تلوّن الفقه بولايتهم (عليهم السلام)
موقعية الإمامة في بقية أركان الدين
قراءة جديدة في حديث:
«من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهلية»
قد روى الفريقان بنحو مستفيض أو متواتر حديث النبي (صلى الله عليه وآله): "من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية"(1). وألفاظ الحديث في بعض الطرق:
"من مات وليس في عنقه بيعة لإمام مات ميتة جاهلية"(2).
والمتبادر من فقه هذا الحديث وجود أئمّة في هذه الأُمّة ولهذا الدين، بهم يتقوّم الإيمان، وبمعرفتهم النجاة، وأنّ معرفتهم على حدّ معرفة بقية أُصول الدين
____________
1- مسند الطيالسي: 259 طبعة حيدرآباد، وصحيح القتيري النيسابوري 8/107، وينابيع المودّة للقندوزي: 117. وفي بعض طرق الحديث: "من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية".
2- مجمع الفائدة للمحقق الأردبيلي: 215.
وأمّا مفاد الحديث على اللفظ الآخر وهو البيعة والتي بمعنى الطاعة السياسية، فله معنى يتناول المعنى السابق وزيادة، حيث يبيّن الحديث على اللفظ الثاني (البيعة): أنّ الطاعة السياسية والقانونية للإمام دخيلة في تحقّق الإيمان، ومن ثمّ ينفتح مسار آخر لقراءة الحديث بنحو أعمق، ألا وهو البحث في العلاقة بين الإمامة وبقية أركان الدين، ولك أن تعبّر موقعية الإمامة في الأبواب الفقهية وفصول التشريع، كي نلاحظ ونتتبّع لون الولاء السياسي والقانوني للمعصوم (عليه السلام). فلو أراد الباحث تصفّح التشريع في الأبواب:
فأوّلاً: في باب الاجتهاد والتقليد، فإنّ منصب الإفتاء والفُتيا للمجتهد والفقيه منشعبة صلاحيته من إذن وتخويل الإمام المعصوم، ويرشد إلى هذه الحقيقة أنّ الفُتيا ليست مجرّد إخبار محض كما هو الحال في نقل الراوي للرواية، بل هي سلطة تشريعية لا بمعنى الصلاحية في تشريع الأحكام، بل بمعنى أنّ الفهم التخصّصي لاستنباط واستنتاج الأحكام هو قدرة في معرفة الأحكام وبيانها، وبالتالي فهي قدرة في الخطاب القانوني المؤثّر في المجتمع.
ومن ثمّ اعتُبرت السلطة القانونية إحدى سلطات الحكم السياسي الاجتماعي، ذات نفوذ وامتداد في المجتمع. ومن ثمّ كان منصب الفتوى والذي هو أحد المناصب المرجعية الدينية ـ هو مسند ولاية نيابية ينوب فيها الفقيه والمجتهد عن المعصوم، ضمن مجال محدود بالقياس إلى علم المعصوم اللدني، ويشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طَائِفَةٌ
وكذلك الحال في منصب القضاء والمناصب الأُخرى التي يقوم بها نيابة عن المعصوم في ضمن مجال محدود، بالقياس إلى صلاحيات المعصوم بسبب العصمة العلمية والعملية، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالاَْحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}(2)، حيث جعل الأحبار وهم العلماء، في طول الربانيين وهم الأوصياء المستحفظون ينوبون عنهم في بعض حدود الصلاحيات.
فيُعلم من ذلك أنّ صلاحيات نيابة الفقيه أو المجتهد كلّها منشعبة ومتعلّقة بالمعصوم وإمامته، فهذا الباب مرتبط عضوياً بشؤون الإمام المعصوم، فمن الغفلة بمكان بتر صلة هذا الباب الذي هو باب الفتوى والقضاء وباب الحكم وباب الحدود ونحوها، عن الصلة بشؤون المعصوم، بدعوى أنّ الفتوى إخبار محض.
أو أنّ القضاء ليس بتنصيب نيابي بل هو عبارة عن قاضي التحكيم، أي بتراض من الخصمين، وأنّ صلاحية نفوذ القضاء ناشئة من التزام وتوافق طرفي النزاع في الخصومة، أو أنّه ناش من قاعدة الحسبة التي مؤدّاها استكشاف الجواز وإن لم
____________
1- سورة التوبة 9: 122.
2- سورة المائدة 5: 44.
وكذلك ما يقال من تفسير صلاحية الحكم للفقيه والمجتهد الناشئة من انتخاب الأُمّة بمقتضى قاعدة الشورى بالمعنى المقلوب لها، بمعنى سلطة الأكثرية; لأنّ المعنى الأوّل الصحيح لها هو بمعنى المداولة الفكرية والاطّلاع والفحص المعلوماتي، واتّباع منهج الفحص العلمي الخبروي والفرق الاستشارية التخصّصية في كلّ مجال، وكذلك ما يقال من تفسير صلاحية الفقيه والحاكم من أنّها ناشئة من العقد والتعاقد بين الأُمّة والحاكم المسمّى بالبيعة. وكلّ هذه المباني تصبّ في بتر الصلة مع المعصوم، وتحديد صلاحياته وولايته أو تجميدها، وبالتالي هذه التنظيرات الفقهية تؤول إلى حسر المعصوم عن ولايته الفعلية وتجميدها، وتصوير المبني على تصوّر خاطئ، وهو عدم التصدّي الفعلي من قبل المعصوم للأمور، وبالتالي يؤول الأمر إلى تصوّرات اعتقادية خاطئة خطيرة في معرفة الإمام والإمامة، وإن كان هذا التلازم بين هذا التنظير الفقهي وهذه اللوازم الأُخرى هو تلازم نظري خفي مغفول عنه.
وقال الشيخ المفيد في المقنعة(1) في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (فأمّا إقامة الحدود: فهو إلى سلطان الإسلام المنصوب من قبل الله تعالى، وهم أئمّة الهدى من آل محمّد (عليهم السلام)، ومن نصّبوه لذلك من الأمراء والحكّام، وقد فوّضوا النظر فيه إلى فقهاء شيعتهم مع الإمكان، فمن تمكّن من إقامتها.... ويجب على إخوانه من المؤمنين معونته على ذلك إذا استعان بهم، ما لم يتجاوز حدّاً من
____________
1- المقنعة: 810.
ثانياً: في باب العبادات، فإنّ مشهور علماء الإمامية بنوا على شرطية الإيمان والمعرفة بالأئمّة في صحّة العبادات، وقد ساقوا في ذلك أدلّة قرآنية وروائية(1)، وهي الآيات التي تدلّ على حبط العمل من دون الإيمان، نظير ما وقع في قصّة إبليس اللعين، حيث حبطت عبادته الطويلة الأمد بتركه ولاية وليّ الله وخليفته. وكذا قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}(2)، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِْيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ}(3)، وقوله تعالى: {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(4)، وقوله تعالى في وصف حال الذين في قلوبهم مرض: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}(5)، وقد فسّر الباري المرض في
____________
1- أبواب مقدّمات العبادات باب 29، وقد تقدّم بسط الكلام في ذلك.
2- سورة طه 20: 82.
3- سورة المائدة 5: 5.
4- سورة هود 11: 16.
5- سورة محمّد 47: 9.
فيتأتّى القولان في ذلك أيضاً، وإن كان في تسمية الاحتمال الثاني قولاً مسامحةً، فعلى قول المشهور لا يكون ذلك الاعتقاد بأُصول الدين من دون الولاية لخليفة الله سالماً صحيحاً، بل منطوياً على نمط من الشرك والكفر، كالذي حصل لإبليس مع إقراره بالربوبية والمعاد، حيث طلب الإنظار إلى يوم البعث، وكذلك كان مقرّاً بنبوّة آدم وتفضيله عليه إلاّ أنّه حيث كان غير منقاد لولاية خليفة الله، لم يكن إيمانه صحيحاً، ولم ينجه من مصير الخلود في النار.
وأمّا على القول الآخر، فيكون الإقرار متحقّقاً، ولا يُعاقب على التوحيد والنبوّة والمعاد، وإن عوقب على ترك الإقرار والإيمان بالولاية، لكنّه لا يُثاب على ما قد أقرّ به من التوحيد والنبوّة والمعاد من أُصول الدين.
ومحصّل الفرق بين القولين: إنّه على قول المشهور يبطل جميع أعمال التارك للولاية والإيمان، سواء البدنية أو القلبية الاعتقادية، فيعاقب على تركها، لأنّه قد أتى بها بنحو فاسد خاطئ، وبالعكس على القول الآخر، فإنّه لا يعاقب على ما أقرّ به من أُصول الدين، بل غايته أنّه لا يثاب عليها، وغاية ما يعاقب عليه على هذا
____________
1- سورة محمّد 47: 29.
فبين القولين جهات من الفرق واضحة، فعلى القول الثاني تضعف شدّة لون ولاية الإمام في الأعمال، بخلافه على القول الأوّل; فإنّ التركيز فيه واضح، وباب العبادات أحد الأقسام الأربعة لمجموع الفقه.
الضريبة المالية:
ثالثاً: الخمس، وهو وإن كان من العبادات، إلاّ أنّ الكلام فيه من حيثية أُخرى، وهي جواز التصرّف فيه بإيصاله إلى المصارف الشرعية. وقد اختلفت التخريجات في ذلك، فمن تخريج أنّه من باب مجهول المالك، ومن ثمّ يحتاط بالتصدّق به عنه (عج) عند صرفها في المصارف الشرعية.
فيكون مستند جواز التصرّف حكم مجهول المالك، لا المأذونية المنشعبة من ولاية الإمام (عليه السلام).
وقيل: بجواز التصرّف والإيصال إلى المصارف الشرعية من باب أنّ الخمس هو لمقام الحاكم والحكومة، وإن كان بعض مصارفه الذرّية من بني هاشم زادهم الله شرفاً ـ وعلى ذلك فكلّ من يتصدّى للحكم الشرعي يسوغ له التصرّف، وإن كانت صلاحية حكمه قد انبثقت من ولاية الأُمّة على نفسها، وبالتالي فلا يكون التصرّف في الخمس بأذن منه (عليه السلام)، بل ولا تكون ولايته على الخمس فعلية حينئذ.
وقيل: تخريج الجواز المزبور من باب الحسبة; إذ الأصل عدم ثبوت ولاية نيابية للمجتهد من قبل المعصوم. إلى غيرها من التخريجات التي تبتني على عدم استفادة الجواز من المأذونية منه (عج) باعتبار ولايته على الخمس.
فالولاية للخمس والفيء خاصّة به (عج)، وولايته فعلية غير معطّلة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وكلّ صلاحية ومأذونية يجب أن تكون من قبل شخصه الشريف، نظير التوقيع الشريف: "أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا"، ونحو ذلك مما يستشفّ منه المأذونية.
وقد يُظنّ أنّ قاعدة الحسبة أوفق بالاحتياط، حيث إنّها مبتنية على عدم ثبوت النيابة للمجتهد من قبل المعصوم، وإنّ ما يتصدى له المجتهد من الأُمور العامّة إنّما هو من باب الجواز التكليفي المحض، لا المأذونية النيابية، وفي الحقيقة فإنّ قاعدة الحسبة في أصلها مبنية ـ كما هي لدى جمهور أهل سنّة الجماعة ـ على عدم وجود المنصوب للولاية العامّة بالنصّ الإلهي، فيتمسّك لجواز التصرّف بتقرير مقدّمات الحسبة، فمؤدّى الحسبة في الحقيقة مبنية على عدم لزوم تولّد الجواز من قبل إذنه (عج)، وبالتالي عدم انحصار انشعاب المأذونية من ولايته.
____________
1- سورة الحشر 59: 7.
السلطة في النظام العالمي:
رابعاً: الجهاد الابتدائي فإنّه قد أطبقت الإمامية على اختصاص هذا المقام بالإمام المعصوم (عليه السلام)، حيث إنّ الجهاد الابتدائي في لغة القانون الوضعي الحديث يوازي ويعادل الوصاية على المجتمعات البشرية، والنظام المدني العالمي الموحّد لإرساء العدالة العالمية في جميع أرجاء الكرة الأرضية، في نظام موحّد عالمي، ويكون بيده القرار الأوّل في مصير البشرية. وهذا مقام حسّاس خطير لا يتأهّل له غير المعصوم، فمن الغريب بعد ذلك التمسّك بذيل قاعدة الحسبة وتقرير مقدّمات لتصوير جواز التصدّي لغير المعصوم لهذا الشأن والمقام الخطير.
النظام الإيماني في النظام المدني:
خامساً: باب النكاح مع أهل الخلاف. فقد ذهب كثير من المتقدّمين إلى عدم جواز نكاح المؤمنة من غير المؤمن لا سيما غير المستضعف، كالمعاند. وذهب المتأخّرون إلى الكراهة أو إلى تقيّد المنع إذا خِيف على إيمانها، وفي بعض ما ورد في ألسن الروايات كراهة تزويج المؤمن بغير المستضعفة، ونظير ذلك ورد في باب الذبائح من التفصيل بين ذبيحة المستضعف وبين ذبيحة المعاند.
المشاركة في الأنظمة الوضعية:
سادساً: باب الولايات في الأنظمة الوضعية. فقد ورد أنّ تسلّم أحد المناصب في الأنظمة المزبورة مشروط إمّا بالإكراه، وإمّا بغرض خدمة المؤمنين وقضاء حوائجهم.
وفي الحقيقة أنّ هذا الجواز ليس تكليفاً محضاً، وأنّما هو مأذونية منه (عليه السلام) وبماله من الولاية.
الإمامة والنظام المالي:
ونظير ذلك باب إحياء الموات، من أحيا أرضاً فهي له، فإنّ الجواز هنا مأذونية منهم (عليهم السلام) لولايتهم. وكذلك باب التعامل المالي في أشكاله المختلفة من المداولات المالية مع الأنظمة الوضعية، كما في شراء المقاسمات والخراج وإجارة الأراضي وقبول المنح، وغيرها، فهو إذن تسهيلي منهم (عليهم السلام) ; لكونهم الحكّام الأصليين في الحقيقة، وبيدهم شرعاً زمام الأمور، فلا يكون من مجهول المالك ونحو ذلك. كما ورد عنهم (عليهم السلام) "لك المهنا وعليهم الوزر"، ومن ثمّ قال الشيخ المفيد في المقنعة: (.. ومن تأمّر على الناس من أهل الحقّ بتمكين ظالم له وكان أميراً من قبله في ظاهر الحال، فإنّما هو أمير في الحقيقة من قبل صاحب الأمر الذي سوّغه ذلك وأذن له فيه، دون المتغلّب من أهل الضلال)(1).
وقد تقدّم أنّ الصلاحية في باب القضاء وإقامة الحدود والقصاص وغيرها من
____________
1- المقنعة: 812 باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ط قم.
والمراد من الحصر في كلامه (عليه السلام): الحصر في مقام الصلاحية التي هي بالأصالة، فلا تنافي الصلاحية التي هي بالنيابة بالإذن من قبلهم (عليهم السلام)، حيث يكون فيها الفقيه تابعاً لنظام القضاء عندهم (عليهم السلام).
والحاصل، إنّ أزمّة وزمام عقال الأبواب الفقهية تتناهى إلى ولايتهم (عليهم السلام)، التي هي تابعة إلى ولاية الرسول، وبالتالي إلى ولاية الله، والتركيز على هذا اللون والحيثية والجهة في الأبواب الفقهية، يضبط سلامة النتائج في التفاصيل; بسبب استقامة البنية الأصلية في قواعد الأبواب المحكّمة فيها.
هذا فضلاً عن حجّية أقوال وفعل وتقرير المعصوم (عليه السلام) كمصدر في الأدلّة الشرعية الأصلية، فالحجّية في إبلاغ الشريعة والأخذ بالأحكام الشرعية عنهم (عليهم السلام) ; لدورهم وصلاحيتهم التشريعية التابعة لسنن النبي (صلى الله عليه وآله) التابعة لفرائض الله تعالى، حيثية تغاير حيثية ولايتهم (عليهم السلام) في نظام القانون والفقه بما هم ولاة أمر وحكّام من قبل الرسول (صلى الله عليه وآله)، ومن قبله تعالى عزّ اسمه، فلا يكفي في البحث الفقهي الالتفات إلى إحدى الحيثيتين وهي الحجّية مع الغفلة عن الحيثية الأُخرى وهي ولايتهم في الحكم والحكومة، بل اللازم الالتفات إلى تمام الحيثيات التي لهم (عليهم السلام) في الأبواب الفقهية، لا الاقتصار على الاثنتين فضلاً عن الاقتصار على الواحدة منهما.
____________
1- الوسائل أبواب صفاء القاضي الباب الثالث حديث 2 و 3.
حرمة طاعة حكام الجور والطواغيت
قال بعض: إنّ مثل معاوية ويزيد والحجّاج طاعتهم لازمة، وتولّي الجائرين واجب بالعنوان الثانوي، ويستدلّ على ذلك بضرورة حفظ النظام وأنّه لابدّ للناس من أمير برّ أو فاجر، والدليل أجنبي عمّا يتديّن به القائل من طاعة حكّام الجور وتولّيهم، وبيان ذلك بوجوه:
الأوّل: إنّ ضرورة الفعل وهو النظم لا تدلّ على مشروعية فاعلية الفاعل، نظير السجّان الذي يسقي المحبوس لديه المشرف على الهلاك ماءً غصبياً لا يدلّ على إباحة الماء; لأنّ شرب الماء للسجين المظلوم لا يوجب حسناً فاعلياً للفاعل، بل يوجب سوءً في فاعلية الفاعل. ولهذا الأمر أمثلة عديدة ذكرها علماء الأُصول، نظير من يتوسّط الدار الغصبية فإن خروجه ضرورة بحكم العقل، ولكنّ ذلك لا يعني عدم العقاب للفاعل على الخروج مع كونه بضرورة العقل. ونظير ذلك قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغ وَلاَ عَاد}(1)، فإنّه تعالى أحلّ الميتة عند الضرورة
____________
1- سورة البقرة 3: 173.
وكذلك من يذهب بنفسه إلى مجلس يعلم بأنّه سيُكره على الفعل الحرام كالزنا والفاحشة وشرب الخمر، فإنّه بعد ذهابه إلى ذلك المجلس يكون إتيانه للفعل ضرورة; لوقوعه في الإكراه، ولكنّ ذلك لا يكون عنواناً ثانوياً رافعاً لحرمة الفعل.
ومن ثمّ قال علماء الأُصول: إنّ التسبّب للوقوع في الاضطرار للضرورات لا يرفع الحرمة، وإن كان رافعاً لفاعلية (خطاب الحكم) ومحرّكية حرمة الفعل المسمّاة بخطاب الحرمة.
الثاني: إنّه بمقتضى تمسّكه بوجوب حفظ النظام المدني من الأموال والأعراض والنفوس، يجب تولّي الحاكم الكافر والاستعمار الأجنبي على حسب كلام هذا القائل ـ وإطاعته، ويلزم مشروعية حكومته; للضرورة المزبورة حسب ذلك الزعم.
الثالث: إنّ ضرورة حفظ النظام أيّ علاقة لها مع مشروعية حكم الحاكم الجائر ومشروعية تولّيه والركون إليه قلباً وقالباً، بل غاية لزوم حفظ النظام هو لزوم الكفّ عمّا يسبّب المزيد من الفساد والهرج والمرج إذا كان أهل الحقّ لا قدرة لهم على إزالة الجائر، ولزوم إعتماد جانب التقية (سياسة الأمن)، لا الموالاة للظالم الجائر، وكم البون بعيد بين الأمرين.
الرابع: إنّ حفظ النظام هو الذي يوجب إزالة النظام الجائر في جملة من الصور والموارد، كما إنّ حفظ النظام يقتضي دوام إنكار المنكر، وهو على درجات: بدءاً من القلب وهو لا يسقط بحال، ثمّ اللسان (المعارضة الإعلامية)، فاليد (المعارضة
الخامس: قوله تعالى: {وَلاَ تَرْكَـنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَـمُوا فَتَـمَسَّـكُمُ النَّارُ}(1) و: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ}(2) و: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا}(3)، تبين هذه الآيات حرمة الركون إلى الظالم الجائر والطاغوت بل يجب الكفر به والتمرّد عليه، كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "من رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرام أو تاركاً لعهد الله ومخالفاً لسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، ثمّ لم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله"(4).
السادس: إنّ ملف سيرة الغاصبين لخلافة أهل البيت (عليهم السلام)، وبدعهم وضلالاتهم، يبرهن إمتناع مشروعية خلافتهم تظلّ مع منكر أفعالهم؟ فهل مع هذا الملف من الضلالات تبقى مشروعية خلافتهم تحت عنوان ضرورة حفظ النظام؟ وهل ضرورة حفظ النظام تستلزم الضلالات والبدعة والظلم في الحكم؟
السابع: إنّ العنوان الثانوي كما حُرّر في علم الأُصول لا يرفع واقع الحكم وملاكه من المصلحة أو المفسدة في الفعل، وإنّما يرفع العقوبة والمؤاخذة، بشرط أن لا يكون الإقدام على الاضطرار بسوء الاختيار، وإلاّ فلا ترتفع العقوبة أيضاً.
الثامن: ما قام به أمير المؤمنين (عليه السلام) من الامتناع على أصحاب السقيفة في
____________
1- سورة هود 11: 113.
2- سورة النساء 4: 60.
3- سورة البقرة 2: 256.
4- البحار 44 / 382، تاريخ الطبري 4 / 304، ابن الأثير 3/280، مقتل الخوارزمي 1/234.