وسيأتي لاحقاً في هذا الفصل والذي يُعدّ أيضاً ارتباط حقيقة ليلة القدر بحكومتهم السياسية الخفية في النظام الاجتماعي السياسي، ولكن بنمو تكويني منظومي.
وهذا النازل في ليلة القدر ليس وحي شريعة، وإنّما هو علم في الإدارة والتدبير والقيادة والإمامة الإلهية، ومحلّ تقدير وتدبير لكلّ شيء في القضاء والقدر الإلهي إلى السنة المقبلة.
حقيقة القرآن هي الروح النازل ليلة القدر:
22 ـ وروى السيوطي في ذيل سورة النحل قوله تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ}(1)، قال: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ}، قال: بالوحي.
23 ـ وكذلك روى السيوطي في الموضع السابق عن جملة من المصادر، عن قتادة في قوله: {يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ}، قال: بالوحي والرحمة. وأخرج عن جملة، عن الضحّاك في قوله تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ}، قال: القرآن(2). وروى الطبري بسنده عن قتادة مثله.
24 ـ وروى السيوطي في الدرّ المنثور في سورة الشورى في ذيل قوله تعالى:
____________
1- سورة النحل 16: 2.
2- الدرّ المنثور في ذيل آية (ينزّل الملائكة بالروح) من سورة النحل.
حقيقة الوحي هو نزول الروح كما في ليلة القدر
ومستمرّ إلى يوم القيامة:
أقول: ويُستفاد من مجموع هذه الطائفة من الروايات: أنّ حقيقة القرآن هي الروح الذي يتنزّل في كلّ ليلة قدر، وأنّ نزوله في كلّ ليلة قدر نزول للوحي الإلهي، بل إنّ الوحي ليس إلاّ نزول الروح والملائكة على من يشاء من العباد المصطفون، من الأنبياء والأوصياء، ومن ثمّ عبّر في سورة الشورى في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ} عن إرسال الروح الأمري بأنّه وحيٌ، فالوحي هو إنزال الروح وإنزال الروح هو وحي، فتصريح القرآن الكريم في سورة القدر بتنزيل الروح كلّ عام، هو تصريح باستمرار الوحي بعد سيد الأنبياء، غاية الأمر الذي يتنزّل هو من غيب القرآن الذي قد ورّثه النبيّ (صلى الله عليه وآله) لأوصيائه.
____________
1- سورة الشورى 42: 52.
2- الدرّ المنثور في ذيل الآية المتقدّمة.
عقيدة البداء وحقيقة ليلة القدر:
25 ـ وروى الطبري في سورة الرعد في ذيل قوله تعالى: {يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}(1) بسنده المتّصل عن مجاهد قول الله: {يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ}، قالت قريش حين أُنزل: {وَمَا كَانَ لِرَسُول أَنْ يَأْتِيَ بِآيَة إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ}: ما نراك يا محمّد تملك من شيء، ولقد فُرغ من الأمر، فأُنزلت هذه الآية تخويفاً ووعيداً لهم أنّا إن شئنا أحدثنا من أمرنا ما شئنا، ونُحدث في كلّ رمضان فنمحو ونثبت ما نشاء من أرزاق الناس ومصائبهم، وما نعطيهم وما نقسّم لهم(2).
أقول: وفي هذه الرواية والروايات التي رويت في ذيل الآية والتي رواها أهل سنّة جماعة الخلافة والسلطان، دالّة على عقيدة البداء التي هي نوع من النسخ التكويني الواردة في روايات أهل البيت، كما تدلّ هذه الروايات على أنّ ما في أمّ الكتاب الذي هو أصل القرآن وحقيقته العلوية الغيبية، متضمّن لكلّ قضاء وقدر، وليس هو مجرّد ظاهر التنزيل، وهذه الحقيقة للقرآن لا ينالها إلاّ المعصوم الذي ينزّل عليه الروح في ليلة القدر، ولا يطمع في نيلها غير المعصوم; إذ ليس الأمر بالأماني والتمنّي، هيهات. وما سيأتي ومضى من رواياتهم لا يخفي تضمّنه لمعنى النسخ والبداء.
26 ـ وروى الطبري في سورة الدخان، بسنده عن ابن زيد في قوله عزّوجلّ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة مُبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}(3)، قال: تلك الليلة ليلة القدر، أنزل الله هذا القرآن من أُمّ الكتاب في ليلة القدر، ثمّ أنزله على الأنبياء في الليالي والأيام،
____________
1- سورة الرعد 13: 39.
2- جامع البيان في سورة الرعد ذيل قوله تعالى: (يمحو الله ما يشاء).
3- سورة الدخان 44: 3.
أقول: هذه الرواية دالّة على أنّ الذي يتنزّل من أُمّ الكتاب الذي هو أصل القرآن وحقيقته الغيبية العلوية، والذي يتنزّل منه، ليس ظاهر التنزيل، بل كلّ المقادير وقضاء الحوادث الكونية وأنّ ذلك التنزّل مستمرّ ليس في خصوص ليلة القدر، بل على مرّ الليالي والأيام والآناء واللحظات، وأنّه لا زال يتنزّل بعد ذهاب الأنبياء، يتنزّل على الأوصياء خلفاء النبيّ ـ الاثني عشر من قريش سلام الله عليهم، وهذا المضمون قد ورد في روايات أهل البيت (عليهم السلام).
27 ـ وروى الطبري في سورة الرعد، بسند متّصل عن قتادة قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}، قال: جملة الكتاب وأصله.
28 ـ وروى الطبري في الموضع المذكور بسنده إلى الضحّاك في قوله: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}، قال: كتاب عند ربّ العالمين.
29 ـ وروى الطبري عن الضحّاك أيضاً في الموضع المزبور {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}، قال: جملة الكتاب وعلمه، يعني ما بذلك ما ينسخ منه وما يثبت. وروى نظيره بسند متّصل عن ابن عبّاس {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا}(2).
أقول: مقتضى التعبير بلفظ جملة الكتاب عنده تعالى، أنّ ظاهر التنزيل ليس كلّ درجات حقيقة الكتاب، وأنّ جملته مجموع ما فيه من التأويل والحقائق وكلّ قضاء وقدر، وكلّ ما كان ويكون فهو في أُمّ الكتاب، وهو الذي ينزل منه كلّ عام في ليلة القدر بتوسّط الروح، وأنّه لازال ينزل من باطن الكتاب وتأويل كلّ عام في ليلة القدر إلى يوم القيامة، بل في كلّ ليلة، وأنّه كما مرّ في بعض الروايات المتقدّمة.
____________
1- جامع البيان 25 / 64.
2- سورة الأحزاب 33: 6.
بل إنّ من تصريح الآيات بأنّ أهل البيت المطهّرين الذين يمسّون الكتاب المكنون، يُعلم بالتلازم أنّ أهل البيت هم الذين يتنزّل عليهم روح القدس في ليلة القدر، بما في أُمّ الكتاب من القضاء والقدر لكلّ سنة، كما أنّ من التلازم في حديث الثقلين من العترة والكتاب وعدم افتراقهما، يُعلم تلازمهما في كلّ ما ينزل من الكتاب في كلّ سنة.
كما أنّ من التعبير بأنّ عنده أُمّ الكتاب الذي هو جملة مجموعه، وأصله وحقيقته التعبير بأنّ هذه الجملة والحقيقة عند الله للدلالة على القرب المعنوي بحسب نشأة عوالم الخلقة، فمكانته الوجودية غيبية مكنونة في لوح محفوظ ذات مجد كوني وتكويني، وهي الروح الأعظم كما سيأتي في الروايات.
30 ـ وروى بسنده عن ابن عبّاس أنّه سأل كعب عن أُمّ الكتاب، قال: علم الله ما هو خالق ما خلقه عاملون، فقال لعلمه: كن كتاباً فكان كتاباً.. وقال الطبري بعد ذلك: وأولى الأقوال بذلك بالصواب قول من قال وعنده أصل الكتاب وجملته; وذلك أنّه تعالى ذِكره أخبر أنّه يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، ثم عقّب بذلك بقوله: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}، فكان بيّناً أنّ معناه عنده أصل المثبت منه والمحو، وجملته في كتاب لديه.
32 ـ وروى الطبري في ذيل سورة الدخان بسنده عن عمر مولى غفرة، قال: يقال: ينسخ لملك الموت من يموت في ليلة القدر إلى مثلها; وذلك لأنّ الله عزّوجلّ يقول: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة مُبَارَكَة}، وقال: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْر حَكِيم}(2)، قال: فتجد الرجل ينكح النساء ويغرس الغرس واسمه في الأموات.
أقول: ومقتضى هاتين الروايتين أنّ القرآن النازل في ليلة القدر ـ وهي الليلة المباركة ـ يُسمّى بحسب حقيقته الغيبية بعدّة أسماء، وهي بحسب مراتبه الغيبية: الكتاب المبين، وأُمّ الكتاب، والكتاب المكنون. كما أنّ مقتضى الرواية الأخيرة هيمنة القرآن والروح النازل في ليلة القدر على وظائف ملك الموت، وأنّه تابع منقاد للروح، وكذلك ميكائيل الموكّل بالأرزاق، وإسرافيل الموكّل بالأحياء، وجبرئيل الموكّل بالعلم والبطش.
وقال الطبري في ذيل سورة الدخان: وقوله: {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}(3)، يقول تعالى ذكره: {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} رسولنا محمّد (صلى الله عليه وآله) إلى عبادنا {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(4).
وقال: وقوله: {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}(5)، يقول تعالى ذكره: في هذه
____________
1- سورة الدخان 44: 3.
2- سورة الدخان 44: 4.
3- سورة الدخان 44: 5.
4- سورة الدخان 44: 6.
5- سورة الدخان 44: 5.
أقول: إنّ الإرسال في الآيات الكريمة في سورة الدخان مرتبط بإنزال الروح ليلة القدر بتقادير الحوادث كلّها، وهذا الإرسال في كلّ ليلة قدر من كلّ عام إلى يوم القيامة وإن لم يكن إرسال نبوّة ورسالة، بل هو تزويد لخليفة الله في الأرض، واطّلاعه بإرادات الله ومشيئاته للقيام بالمسؤوليات الإلهية الخطيرة التي تعهد إليه من الباري تعالى، والتي تتوقّف على هذا الكمّ الهائل من العلم بالمقدّرات الإلهية المستقبلية.
دوام ليلة القدر من الروايات الحاثّة على فضيلتها في الصحاح:
قد عقد البخاري ومسلم كلّ منهما باباً بعد كتاب الصوم أُدرج فيه خمسة أبواب:
الأوّل: في فضل ليلة القدر.
الثاني: التماس ليلة القدر في السبع الأواخر.
الثالث: تحرّي ليلة القدر في الوتر من العشر. وأورد فيها البخاري روايات عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) كلّها آمره بالتماس وتحرّي ليلة القدر، أي طلبها كلّ عام، ممّا يقضي بدوام ليلة القدر إلى يوم القيامة.
أقول: مقتضى هذه الرواية أنّ ليلة القدر حقيقة قد يرى بعضُ آياتها، وبعض لمعانها وأنوارها بعضُ البشر. ومثله في صحيح مسلم.
شهر رمضان إعداد لليلة القدر
وهي باب عظيم لمعرفة الإمام (عليه السلام)
فكما أن هناك صلة بين شهر رمضان وليلة القدر، فهناك صلة وثيقة بينهما وبين حقيقة الإمام (عليه السلام)، وكما أنّ شهر رجب وشهر شعبان يوطّئان ويمهّدان لشهر رمضان، فكذلك شهر رمضان يوطئ لليلة القدر، وليلة القدر بدورها توطئ لنزول الروح والملائكة الذي هو نزول لحقيقة القرآن، والروح أنّما ينزل بكلّ أمر على من يصطفيه الله من عباده في كلّ عام وهو الإمام، وتعظيم شهر رمضان أنّما هو لما فيه من ليلة القدر، وعظمة ليلة القدر أنّما هي لما فيها من نزول الروح ونزول القرآن، وهو أنما ينزل على من يشاء من عباد الله، مَنْ اصطُفي لذلك.
فشهر رمضان بيئة نورية لليلة القدر، وليلة القدر بيئة أشدّ نوراً لنزول الروح، ونزول الروح أشدّ نوراً بأضعاف عند من يتنزّل عليه الروح.
فالانشداد إلى شهر رمضان انشداد إلى ليلة القدر، والانشداد إلى ليلة القدر انشداد إلى الإمام الذي يتنزّل عليه الروح. وإدراك ليلة القدر هو بمعرفة حقيقة
روى الكليني عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: ".. فضل إيمان المؤمن بجملة {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} وتفسيرها على من ليس مثله في الإيمان بها، كفضل الإنسان على البهائم، وإنّ الله عزّوجلّ ليدفع بالمؤمنين بها عن الجاحدين لها في الدنيا لكمال عذاب الآخرة لمن علم أنّه لا يتوب منهم ـ ما يدفع بالمجاهدين عن القاعدين"، الحديث(1).
بيئة ليلة القدر شهر رمضان:
إنّ الناظر في خصائص شهر رمضان وما أحيط به من هالة معنوية وزخم روحي كبير وتركيز مكثّف هو تمهيد لليلة القدر، وإنّ ذلك لا يقتصر على شهر رمضان بل يبدأ من شهر رجب ومن بعده شهر شعبان إلى أن يصل شهر رمضان، شهر الله الذي عُظّم من الله عزّوجلّ، حيث نُسب إليه تعالى وجُعلت فيه ليلة القدر. وكذلك كونه شهر ضيافة الله عزّوجلّ وأنّه أُنزل فيه القرآن العظيم، حيث قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَات مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}(2).
وكلّ هذا التعظيم حلقات مترابطة لتصل إلى ما في شهر رمضان من أوج العظمة وهي ليلة القدر، حيث إنّ فضائل شهر رمضان في جانب وفضائل ليلة القدر في
____________
1- الكافي 1 / 250 ح 7.
2- سورة البقرة 2: 185.
فليلة القدر هي أوج عظمة الضيافة الإلهية والحفاوة الربّانية، فأوج نصيب حظّ العباد إدراك ليلة القدر، إلاّ أنّ هذا الإدراك للّيلة العظيمة ليس بمجرّد الكمّ الكبير من العبادات والأدعية والابتهال والتنفّل; فإنّ كلّ ذلك إعداد ضروري لما وراءه من إدراك آخر لحقيقة ليلة القدر وهو معرفة هذه الليلة، ومعرفتها هو بمعرفة حقيقتها المتّصلة بحقيقة الإمام والإمامة.
فمن ثمّ كان شهر رمضان شهر الله الأغرّ وشهر معرفة الإمام خليفة الله في أرضه، فكما أنّ شهر رمضان نفخ بالحياة للدين القويم، فإنّ ليلة القدر هي القلب النابض في هذا الشهر; لما لها من صلة بالإمام وتنزّل الروح الأعظم عليه.
فشهر رمضان بوابة لمعرفة ليلة القدر، وليلة القدر بوابة لمعرفة الإمام والارتباط به والانشداد إليه، فجُعل شهر رمضان سيد الشهور كما جاء في روايات الفريقين، وجُعلت ليلة القدر قلب شهر رمضان كما ورد في الحديث.
وقد جُعل شهر رمضان أعظم حرمة من الأشهر الحُرُم الأربعة، وهذه العظمة لشهر رمضان أنّما هو لما فيه من تلك الليلة العظيمة، فهو كالجسم وهي كالروح له، مع أنّ شهر رمضان هو كالروح للأشهر الحُرُم الأربعة التي منها شهر رجب. وكلّ ذلك يرسم مدى العظمة التي تحتلّها ليلة القدر، وقد بيّن الغاية من الصيام في شهر رمضان في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى
والصيام على درجات كما كان في الشرائع السابقة، فلا يقتصر على الإمساك البدني بل يرتبط بالدرجات الاعتقادية كالإمساك عن الكذب على الله ورسوله، فصيام على مستوى الجانب البدني وصيام الجوانح وصيام على مستوى الحالات النفسية والخواطر، وهناك صيام على مستوى الحالات القلبية وحالاته وخواطره.
وأعظم المراتب على مستوى الاعتقاد، كما يشير إليه قول الإمام الصادق (عليه السلام) في رواية جراح المدائني(2)، فبيّن (عليه السلام) صوم الصمت كما هو صوم زكريا ومريم، وعُرف بصوم الصمت الداخل، أي الإمساك بحسب كلّ مراتب النفس الباطنية.
فشهر رمضان بيئة عظيمة لليلة القدر، وقد وصف هذا الشهر كما في خطبة النبيّ (صلى الله عليه وآله) التي رواها الصدوق بسند معتبر عن الرضا (عليه السلام)، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "شهر الله ذي البركة والرحمة والمغفرة، شهر، هو عند الله أفضل الشهور وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دُعيتم به إلى ضيافة الله وجُعلتم به من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة وعملكم فيه مقبول ودعاؤكم فيه مستجاب.. هذا الشهر العظيم.. ومن تلى فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور. أيّها الناس، إنّ أبواب الجنان في هذا الشهر مفتّحة فسلوا ربّكم أن لا يغلقها عليكم، وأبواب النيران مغلّقة فسلوا ربّكم أن لا يفتحها عليكم، والشياطين مغلولة فسلوا ربّكم أن لا يسلّطها عليكم".
____________
1- سورة البقرة 2: 183.
2- أبواب آداب الصائم باب12 أنّه يكره للصائم الجدال والجهل والحلف الحديث 13. (مصباح المتهجّد للطوسي: 625) حيث يقول الصادق (عليه السلام): "إن الصيام ليس من الطعام والشّراب وحده... قالت مريم (عليها السلام): (إنّي نذرت للرّحمن صوماً) أي صمتاً، فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم...".
أوصاف ليلة القدر:
إلاّ أنّ كلّ هذه الأوصاف لشهر رمضان بالقياس إلى أوصاف ليلة القدر منه هي دون الأوصاف التي وصفت بها تلك الليلة; فإنّ تلك الأوصاف قد ذكرت لليلة القدر بنحو مضاعف أضعافاً، وكأنّ الشهر توطئة وإعداد للولوج في تلك الليلة، حتّى أنّ أغلب أدعية ذلك الشهر المأثورة تركّز على الدعاء والطلب لإدراك تلك الليلة، ولطلب حسن ما يقضي ويقدّر من الأمر المحتوم وما يفرق من الأمر الحكيم في تلك الليلة من القضاء الذي لا يردّ ولا يبدّل.
ومن تلك الأوصاف، أنّها أوّل السنة المعنوية بلحاظ لوح القضاء والقدر. فقد روى الكُليني عن رفاعة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: "ليلة القدر هي أوّل السنة وهي آخرها"(1).
وروى الشيخ في التهذيب بعدّة أسانيد إلى مولانا الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "إذا سلم شهر رمضان سلمت السنة، وقال: رأس السنة شهر رمضان"(2).
وروى الكُليني بسنده إلى أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: "الشهور عند الله اثنا عشر شهراً
____________
1- الكافي 4 / 160.
2- التهذيب 4 / 333.
وروى ابن طاووس في الإقبال بإسناده إلى علي بن فضّال من كتاب الصيام، بإسناده إلى ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: "شهر رمضان رأس السنة"(2).
وقال أيضاً في كتاب إقبال الأعمال بعد ذكر جملة للروايات المتضمّنة لهذا المضمون: (واعلم أنّني وجدت الروايات مختلفات، هل أنّ أوّل السنة محرّم أو شهر رمضان؟ لكنّني رأيت من عمل من أدركته من علماء أصحابنا المعتبرين وكثيراً من تصانيف علمائهم الماضين، أنّ أوّل السنة شهر رمضان على التعيين، ولعلّ شهر الصيام أوّل العام في عبادات الإسلام، والمحرّم أوّل السنة في غير ذلك من التواريخ ومهام الأنام; لأنّه جلّ جلاله عظّم شهر رمضان، فقال جلّ جلاله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَات مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}(3)فلسان حال هذا التعظيم كالشاهد لشهر رمضان بالتقديم; ولأنّه لم يجر لشهر من شهور السنة ذكر باسمه في القرآن وتعظيم أمره إلاّ لهذا الشهر شهر الصيام، وهذا الاختصاص بذكره كأنه ينبّه ـ والله أعلم ـ على تقديم أمره; ولأنّه إذا كان أوّل السنة شهر الصيام وفيه ما قد اختصّ به من العبادات التي ليست في غيره من الشهور والأيام، فكأنّ الإنسان قد استقبل أوّل السنة; ولأنّ فيه ليلة القدر التي يُكتب فيها مقدار الآجال وإطلاق الآمال، وذلك منبّه على أنّ شهر الصيام أوّل السنة)(4).
قال المجلسي (قدس سره): قال الوالد العلاّمة: (الظاهر أنّ الأوّلية باعتبار التقدير، أي أوّل
____________
1- الكافي 4 / 67.
2- إقبال الأعمال 1 / 32 الباب الثاني.
3- سورة البقرة 2: 185.
4- إقبال الأعمال 1 / 32 ـ 33 الباب الثاني.
ومنها: ما رواه الطبرسي في مجمع البيان، والاستربادي في تأويل الآيات. عن ابن عبّاس عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: "إذا كانت ليلة القدر تنزّل الملائكة الذين هم سكان سدرة المنتهى وفيهم جبرئيل، ومعهم ألوية فينصب لواء منها على قبري ولواء منها في المسجد الحرام ولواء منها على طور سيناء، ولا يدع مؤمن ولا مؤمنة إلاّ ويسلّم عليه، إلاّ مدمن خمر وآكل لحم خنزير والمتضمّخ بالزعفران"(2). ونظيره ما روي في كتاب جعفر بن محمد الدورستري.
ومنها: يفرق فيها كلّ أمر حكيم، وأنّها مباركة ببركة خاصّة مضاعفة مُمتازة عن بركة شهر رمضان كلّه، حيث قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة مُبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْر حَكِيم}(3)، وقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر * تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْر}(4).
ومنها: أنّها موصوفة بالسلامة، حيث قال تعالى: {سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}(5)، مع أنّ شهر رمضان كما تقدّم ـ تُصفد فيه الشياطين وتُفتح فيه أبواب السماء وأبواب الجنان وتُغلق أبواب النيران، إلاّ أنّ في ليلة القدر يزداد هذا الفتح
____________
1- الكافي 4 / 160.
2- مجمع البيان 10 / 409 في ذيل سورة الفجر وتأويل الآيات 2 / 816.
3- سورة الدخان 44: 3 - 4.
4- سورة القدر 97: 2 - 6.
5- سورة القدر 97: 7.