الصفحة 136

الفصل الثامن



  معتقدات الإمامة والمهدي (عج)
(حاضر المعرفة)





الصفحة 137

الصفحة 138

المقالة الاولى
العلم اللدني والولاية
الشريعة بحسب الظاهر وسنن النظام الكوني


العلم اللدني المقوّم لماهية الإمامة:

وقبل الخوض في ذلك يجدر الإلفات إلى النقاط التالية:

1 - البحث يرتبط بصلة وثيقة بالفصول السابقة من الجزء الأوّل من كتاب الإمامة.

2 - غالب البحث سيكون ذا طابع قرآني، وذلك بعد التنبّه إلى نكات الظهور بتوسّط روايات أهل البيت (عليهم السلام).

3 - تذكير بنقاط مستخلصة ممّا سبق:

أ - تعريف الإمامة: والذي تقدّم مفصّلاً في الفصل الثالث من الجزء الأوّل ـ باختصار: إنّ ما ذكره باقتضاب واختزال المتكلّمون ـ حتّى الشيعة منهم في تعريف

الصفحة 139
الإمامة ـ موهم أنّ مقام الإمامة عبارة عن الزعامة والرئاسة الاعتبارية الاجتماعية فقط; لخلوّه من التنويه إلى ارتباط المعصوم بمقام الغيب، ومن ثمّ أوهم التعريف المزبور أنّ الإمام كأيّ عالم آخر، سوى أنّه في درجة متقدّمة، ممّا أوقع الكثير في شبهات حول الإمامة..

وذكرنا في الفصول السابقة المفهوم الذي اخترناه لمعنى الإمامة، وأنّ ما ذكره المتكلّمون وبعض الحكماء من الإمامية في تعريف الإمامة لا يستوعب جميع جوانب الإمام.

فالمتكلّمون اقتصروا على الرئاسة الدينية والدنيوية، وهذا قصر للإمامة على الزعامة السياسية والولاية التشريعية، بل إنّ البعض اقتصر على حفظ الدين، ومن الواضح أنّ هذا التعريف وأمثاله أهمل الإشارة إلى مقام الإمام ومنبع علمه هل هو القناة الحسيّة أم أُخرى غيبية يمتاز بها عن بقية البشر، وهذا الإهمال وقصر حقيقة الإمامة على الشأن الدنيوي هو الذي أوقع كثير من المتأخّرين في العديد من الإشكالات التي لم يجدوا لها جواباً شافياً على هذا التفسير للإمامة.

ومن هنا حدّدنا في الفصول السابقة الأركان والمحاور الأساسية التي تبتني عليها حقيقة الإمامة وماهيتها، وهي:

1 - الهداية الإرائية: ويقصد بها التبليغ والتشريع وإراءة الطريق للمؤمنين، وهذه تعتمد على أنّ للإمام علم لدني وقناة غيبية يستقي منها علومه، وهي ليست من سنخ النبوّة، بل هي وحي بالمعنى الأعمّ، كما ورد عنهم (عليهم السلام) في الزيارات ما مضمونه: "إنّ الإمامة سفارة إلهية".

2 - الهداية الإيصالية: وهي حيثية ولائية مولوية وقدرة، وقد عرّفها العلاّمة

الصفحة 140
الطباطبائي في الميزان في ذيل آية {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ}(1)، {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}(2).

قيادة المعصوم للنفوس وإيصالها إلى المنازل المعنوية الكمالية، وهاتان النقطتان من المحاور الأساسية في حقيقة الإمامة، وقد مثّلنا لهما بقوّة العقل النظري والعملي في الإنسان الصغير، وبمقتضى التطابق بين الإنسان الصغير والكبير يمكن معرفة كثير من خصائص الإمامة في مقام الهداية الإرائية والإيصالية.

فالهداية الإرائية تتمّ عبر قناة التبليغ، وعبر قناة الاتّصال...

والهداية الإيصالية للمعصوم تتمّ كما في قوّة العقل العملي(3) من دون إلجاء وإجبار، حيث يشوّق ويحثّ ويجذب من دون قهر لقوى الإنسان الأخرى، فالهداية الإيصالية تتمّ من دون أن يكون هناك سلب للإرادة والاختيار.

3 - إنّ الأصل الاشتقاقي للإمامة هو من أمّ يؤمّ، وهي تتضمّن خاصّية المتابعة

____________

1- سورة البقرة 2: 124.

2- سورة الأنبياء 21: 73.

3- إنّ الإمام كما يكون هادياً في العلوم الحصولية فهو يكون هادياً في العلوم الحضورية أيضاً، والتي ذكرنا مراتبها في الفصل الأوّل من الإمامة، ويكون توسّطه بمعنى إنّا نرتبط به حضوراً، وذلك بمقدار ما يكون للإنسان من استعداد، وقد يحرم نفسه بسوء اختياره عندما لا يوفّر الشرائط المطلوبة لمثل هذا الاتّصال، ولكن الطريق للمعصوم بمعنى الحجّية على الآخرين، بل وعلى الشخص نفسه لا تكون إلاّ بالهداية الإرائية الحصولية من قسم البيان والمعاني، وأمّا القسم الآخر من الحصولية وهي الارتباط بالصور المرتسمة في العقل الكلّي والحضورية فليس بحجّة ما لم يعزّز بشاهد من الكتاب والسنّة، نعم هو ينفع في سعة أُفق المعارف وإلفاته إلى نكات في الكتاب والسنّة يعزّز فيها ما انكشف له وشاهده، وسرّ عدم الحجّية هو امكان الخطأ وعدم العصمة، ولذا لا يحتجّ برواية ما يشاهده; لإمكان وقوع الخطأ عند تحويله إلى علم حصولي.


الصفحة 141
من المأموم للإمام، وهي تتضمّن استمرارية السير والحركة الشعورية الدائمة، وعدم التوقّف والجمود، فلا يكون صرف الإراءة محقّقاً للإئتمام، بل هي والإيصالية.

4 - لابدّ للسير والحركة من غاية، وبدون هذه الغاية لا تتحقّق ماهية الإمامة.

وكلّ هذا ممّا حدا بالمحدّثين والمفسّرين والفلاسفة لدفع الإيهام في تعريف المتكلّمين بالإلفات إلى أنّ الإمامة سفارة إلهية..

ومن ثمّ ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "أنا سفير السفراء"(1)، وكذا عبّر الإمام الهادي (عليه السلام) في زيارته لجدّه أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم الغدير: "يا أمين الله في أرضه وسفيره في خلقه"، وفي زيارته (عليه السلام) ليلة المبعث ويومه أوردها المفيد وابن طاووس والشهيد: "وعيبة علم الله وسفير الله في خلقه"، وفي البحار: "سفير السفراء"، وفي زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) الرجبية: "السلام عليك يا سفير الله وابن سفيره"، رواه المفيد وابن طاووس والشهيد.

فإنّها عبارة عن: الهداية الإرائية والإيصالية.

ومنبع الإرائية: الوحي والغيب، ولكنّه بالمعنى الأعمّ، وليس على حدّ النبوّة..

ومنبع الإيصالية: القدرة والولاية، كما ذكر ذلك الطباطبائي في ذيل آية: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}(2)، و {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً}(3)، أنّه: قيادة المعصوم للنفوس وإيصالها إلى المنازل المعنوية والكمالية..

علماً أنّه اقتصر على هذا البعد في تعريفها، مع أنّ الصحيح أنّها هداية إرائية أيضاً; استناداً إلى مجموعة أدلّة سبقت الإشارة إليها.

____________

1- بحار الأنوار 26 / 292.

2- سورة البقرة 3: 124.

3- سورة الأنبياء 21: 73.


الصفحة 142
وقال المحقّق الأصفهاني في نهاية الدراية في تعريف الإمامة: الرئاسة المعنوية الكبرى في الدين والدنيا المنبعثة عن كمال نفسه المقدّسة التي من شؤونها الروحانية وساطتها للفيض وكونها مجرى الفيض النازل من سماء عالم الربوبية، وعليه ينطبق كمال الانطباق قولهم: "مجاري الأُمور بيد العلماء بالله" دون الفقيه الذي هو بما هو فقيه ـ عالم بأحكام الله لا بالله(1).

وجعل (قدس سره) هذا التعريف من الرئاسة المعنوية، أي الروحية والتكوينية في قبال الرئاسة الاعتبارية المجعولة تشريعاً من الله تعالى في أُمور الدنيا والدين، وأنّها من المناصب المجعولة الاعتبارية(2)، بخلاف المعنى الأوّل، فإنّه من المعاني التكوينية. وجعل التقابل بين هذين المعنيين نظير التقابل بين معني النبوّة، فإنّ المعنى التكويني لها عبارة عن:

أوّلاً: إنّها من الصفات الواقعية ومرتبته عالية من الكمالات النفسانية، وهو تلقّي المعارف الإلهية والأحكام الدينية من المبادئ العالية بلا توسّط بشر، وصيرورة نفسه المقدّسة مجلى المعارف والأحكام معنى بلوغها درجة النبوّة.

ثانياً: إنّها معنى إعتباري من المناصب المجعولة، بمعنى جعله مخبراً ومبلّغاً عن الله تعالى وسفيراً تشريعاً ـ إلى خلقه(3).

هذا ويلاحظ على تعريفه (قدس سره) إنّما جعله منشأ الرئاسة التكوينية، كمال نفسه المقدّسة ووساطته للفيض على النفوس والأرواح ومجاري الأُمور هو الأولى أن يجعل أصلاً في التعريف، وبجعل رئاسته التكوينية وقدرة تصرّفه في الخارج

____________

1- نهاية الدراية 5 / 213 وكذا المجلّد السادس.

2- نهاية الدراية 5 و 6 / 213.

3- المصدر السابق.


الصفحة 143
شأن من شؤون حقيقة الإمامة فضلاً عن الرئاسة الاعتبارية القانونية في الدين والدنيا، كما أشار هو (قدس سره)إلى خطأ جعل الرئاسة الاعتبارية هي الأصل في تعريف الإمامة.

كما أنّ هناك فارقاً آخر بين الإمام المعصوم والفقيه مضافاً إلى ما ذكره من الفارق الأول هو أنّ الفقيه لا يحيط بأحكام الله تعالى في اللوح المحفوظ بتمامها، كما أنّ علمه بأحكام الله هو من وراء حجاب عالم دلالات الألفاظ وبتوسط تركيب الدلالة وتناسباتها، ومن ثمّ قد يصيب في تأليف الدلالة باستكشاف الواقع وقد يخطئ، بل في جملة من المواضع يغيب عنه شطر واسع من النصوص اللفظية، فهو لا يحيط بالأحكام الظاهرية فضلاً عن منظومة الأحكام الواقعية، بل قد يكون ما قد توصّل إليه حكماً تخيّلياً لا ظاهرياً كما نبّه على ذلك علماء الأُصول في مبحث الأجزاء، إلى غير ذلك من الفوارق.

هذا وسيأتي في كلام البياضي في (الصراط المستقيم) وهو من علماء القرن التاسع ما يظهر منه التفطّن إلى هذه الجهات في تعريف الإمامة الإلهية.

وقد مثّلنا هاتين الهدايتين بالعقل النظري والعلمي، فالإمام هو العقل النظري للإنسان الكبير وعالم التكوين، وهو العقل العملي كذلك..

وكلّما تدبّرنا في خصوصيات العقلين نجدها في الإمام، بما في ذلك أنّهما لا يقهران الإرادة ولا يسلبان الاختيار، كذلك الإمام لا يقهر الإرادة ولا يسلب الاختيار، وإنما يُعلِّم ويشوّق فقط..

بل إنّ العقل مرتبط بالعلم الحصولي والإنسان يمتلك علماً آخر وهو العلم الحضوري، والذي ذكرت له مراتب تبدأ بالقلب فالسرّ والخفي والأخفى..

كذلك الإمام هو هادي في رتبة العلم الحضوري أيضاً، علماً أنّ الهدايتين في

الصفحة 144
هذه المرتبة تندّكان بوجود واحد بسيط..

وعندما نرجع إلى اللغة حيث إنّ الأصل الاشتقاقي للإمامة هو من أمّ يأمُ نلاحظ أنّ الإمامة في الوقت الذي تستبطن الخصوصيتين (الإراءة والإيصال)، تستبطن الحركة والسير والمتابعة للإمام نحو غاية ما عن شعور واختيار..

ومن ثمّ لم يكن صرف الإراءة محقّقاً للإئتمام، وصرف الإيصال كذلك; لأنّه سيكون لا عن شعور..

ب - البطون والتأويل في تعريف جديد: إنّ السائد في فهم البطون وتفسيره: أنّه التأويل الذي لا يمكن الوصول إليه عبر منصّة الظاهر ومن خلال موازين الظهور..

إلاّ أنّ الاتّجاه المعاصر أخذ ينحو منحىً آخر في فهم وتعريف البطون تبعاً للآيات وكثير من الروايات، وهو: المعنى الذي لا يمكن للذهن العادي غير المعصوم الوصول إليه بنفسه عبر منصّة الظهور.. أي أنّ البطون هو قسم من الظهور لكن لا يهتدي بغير المعصوم إلى تأليف موازين اللفظ والدلالة من مختلف القرائن والمناسبات ونضد المقدّمات الدقيقة لتحصيل مفاده من منصّة الظهور الأوّلي.

وهو يعني أنّه ليس هناك باطن غير ظاهر، سوى أن استنطاقه من النصّ غير متاح لكلّ أحد، وإنّما هو خاصّ بالمعصوم..

وعلى ضوء هذا يفهم قول الصادق (عليه السلام): "قد ولدني رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنا أعلم كتاب الله وفيه بدء الخلق وما هو كائن إلى يوم القيامة وفيه خبر السماء وخبر الأرض وخبر الجنّة وخبر النار وخبر ما كان وخبر ما هو كائن أعلم ذلك كما أنظر إلى كفي ان الله

الصفحة 145
يقول: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء}(1)"(2).

ويفهم حثّه (عليه السلام) أصحابه كما في موثق أبي الجارود قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): "إذا حدّثتكم بشيء فاسألوني من كتاب الله، ثمّ قال في بعض حديثه: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عن القيل والقال وفساد المال وكثرة السؤال، فقيل له: يا ابن رسول الله أين هذا من كتاب الله؟ قال: إنّ الله عزّوجلّ يقول: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِير مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَة أَوْ مَعْرُوف أَوْ إِصْلاَح بَيْنَ النَّاسِ}(3) وقال: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً}(4) وقال: {لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}(5)" الحديث(6).

وهذا طبيعي بعد أن كان مصحف الكتاب العزيز نسخة من لوح التكوين وتنزيلاً له..

فيوجد تعريفان للباطن:

أحدهما: هو الذي يعتبر من التأويل الذي لا يمكن الوصول إليه عبر منصّة الظاهر وموازينه، وهذا هو التعريف المشهور على ألسنة الكثير من المحقّقين.

والثاني: هو نحو من الظهور الذي لا يمكن للأذهان العادية الوصول إليه إلاّ عبر تعليم المعصوم، فهو ليس في قبال الظاهر، بل هو قسم من الظاهر، وهو غير ممتنع على أحد بل هو مفتوح، إلاّ أنّ الوصول إليه يتمّ عبر مناسبات وتأليف للمقدّمات الدقيقة العميقة التي لا تهتدي الأذهان العادية إلى الوصول إليها، وهذا لا يجعله خفياً بل يكون حاله حال علم الرياضيات الذي يعتمد على الأوّليات البديهية ومع ذلك ما زالت ما لا تحصى من المسائل الرياضية متعسّرٌ على الذهن العادي حلّها، وهو لا يخرجها عن حدود علم الرياضيات.

____________

1- سورة النحل 16: 89.

2- الكافي 1 / 61.

3- سورة النساء 4: 114.

4- سورة النساء 4: 5.

5- سورة المائدة 5: 101.

6- الكافي 1 / 60.


الصفحة 146
والذي نختاره هو المعنى الثاني; لأنّا نراه أقرب إلى مسلك الأئمّة (عليهم السلام)، حيث كانوا يحثّون أصحابهم على استنطاق القرآن الكريم بإرشادهم إلى أوجه الدلالة، وترغيبهم في السؤال عن مصدر الحكم، والإشارة إلى المناسبات المتعدّدة والقرائن التي تكون محفوفة بالآيات، وتجميع الآيات المتفرّقة بنحو برهاني، وما استدلال الإمام بالقرآن على روايات الطينة إلاّ من هذا القبيل. وبناءً على هذا نقول:

أ - إنّ روايات الأئمّة (عليهم السلام) في ذيل الآيات لا تكون أمراً مستقلاًّ عن الآيات ومخالفة للظاهر، بل يجب اعتمادها كملاحق وتبصرات للأُصول القانونية ولأُسس المعارف، وهذا من الناحية العلمية له فوائد جمّة.

ب - إنّ التعامل مع الروايات الواردة في تفسير الآيات لا يكون على أساس مجرّد التعبّد فقط، بل يكون على أساس الإرشاد والإشارة أيضاً إلى كيفية سلوك موازين الظاهر، وإيجاد المناسبات للوصول إلى البطون. وهذا التفسير في كلّ آية آية لا يمكن للعقول الاهتداء إليه إلاّ بهداية المعصوم، ومن ثمّ التنبّه إلى إعمال الموازين الدلالية في الوصول إليه.

وهذه الطريقة هي التي يجب اتّباعها في استخلاص هذه البطون، وسوف تكون مرتبة من مراتب الظهور، وسوف يكون هذا المنهج برهاناً دلالياً لمذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وقد ورد عنهم (عليهم السلام): "من أخذ دينه من كتاب الله وسنّة نبيّه (صلى الله عليه وآله) زالت الجبال قبل أن يزول"(1).

د - إنّ الطريقة التي نريد تطبيقها في فهم الآيات القرآنية تعتمد على الظهورات الابتدائية للآيات، وتكون نقطة الانطلاق في أيّ فهم آخر.

هـ - إنّ الإعتماد على القرائن العقلية يكون تامّاً بشرط أن تعتمد

____________

1- الكافي 1 / 7.


الصفحة 147
على العقل البيّن، وكلّما أمكن تقليل الاعتماد على العقل النظري يكون أجدر وأصحّ.

وهذا لا يعني أنّه على التفسير الأوّل للباطن يتمّ التسليم بتهمة الباطنية أو عدم وجوب الإيمان به; لأنّه ليس من الظاهر; وذلك لأنّ الإيمان بالظاهر دون الباطن الذي هو الغيب والتأويل ـ كفر، والإيمان بالباطن دون الظاهر هو كفر أيضاً، بل يجب الإيمان بهما معاً. وعليه، فإنّ الذي يقع مورد الثواب والعقاب هو الشريعة الظاهرة ومدى العمل بواجباتها ومحرّماتها، وعدم الالتزام بها والالتفات إلى الباطن فقط زيغ. ومن الجهة الثانية أيضاً إن الاقتصار على الظاهر فقط يكون تركاً للتأويل الحقّ الذي هو الباطن الخفي، ويصبح من الشاذّ والنادر مع مرور الزمن، فلذا يجب الالتزام بهما معاً، والدمج بينهما.

ومن ثمّ تجد أنّ المعصوم (عليه السلام) في أخبار الطينة الغامضة يستنطقون فيها ألفاظ القرآن، وبالتأمّل نلحظ أنّ القرآن ظاهر في ذلك لنكات كانت خفية علينا، لا أنّه من باب الجري وذكر المصداق..

بل ظاهرة البطون أي المعاني الغامضة المعقّدة الخفية ـ ليست خاصّة بالمعارف الدينية، بل نجد ذلك في مثل علم الرياضيات، فإنّه في حين كونه بديهياً وتقلّ إن لم تنعدم - فيه الفرضيات، إلاّ أنّه ما زالت هناك مجهولات لم يوفّق لحلّها كبار العلماء مع قبولهم وجود الحلّ في داخل البديهيات الرياضية، سوى أنّهم لم يتمكّنوا من التفطّن لكيفية تنظيم المعادلات بحيث يتوصّل بها لحلّ المجهول(1)، وكذلك نجدها في مسابقات الأدب، فإن مهرة الأدب يخوضون في

____________

1- قد يقال: صرف استدلال الإمام بالقرآن واستخراجه من القرآن لا يكشف عن أنّ الباطن ظاهر، إلاّ أن يكون (عليه السلام) يلفت إلى نكات تجعل المعنى يظهر لنا من القرآن.

ويجاب: نعم، الإمام (عليه السلام) يلفت إلى نكات، ونحن ندّعي الموجبة الكلّية في ذلك.. ولكن ليس بالضرورة في كلّ رواية، وإنّما من مجموع ما ورد من روايات في المسألة الواحدة..

وقد يقال: ثمّ هل البطون ـ بعد حصره بالظاهر ـ هو التأويل أو أنّ التأويل أعمّ، فهناك ما يرتبط منه بالمصداق والوجود الخارجي الذي هو حقيقة القرآن ولوح تكوينه؟

ويجاب: نعم، البطن هو التأويل، وليس الثاني أعمّ، والبطن يشمل المصداق والحقيقة، ولكن لا يمنع أن يكون مدلولاً مطابقياً للّفظ بعد أن كان له مفهوم، فالبطن يبدأ من المفاهيم غير الظاهرة إلاّ للمعصوم ويستمرّ في تراميه إلى المصداق فالحقائق التكوينية بكلّ مراتبها، وكلّها مداليل مطابقية، وظاهرة من اللفظ لوجود ما يدلّ عليها، ولكنّه خفي علينا.. فاللّفظ له مراد استعمالي فتفهيمي فجدّي، هي متاحة لنا، ثمّ تبدأ المرادات الجدّية بالترامي، وكلّ منها يظهر من اللّفظ ـ لا أنّه لازم لسابقه كي يكون مدلولاً عقلياً لا لفظياً سوى أنّ الذهن العامّ لم يوفّق للعثور على تلك الدلالات بدون إرشاد المعصوم ووصايته وقيمومته على فهم القرآن.

وقد يقال: هل يعني أنّ اللوازم الفقهية ـ والتي برع فيها بعض فقهائنا كلّها ظواهر، كذا ما يكون حصيلة الجمع بين الأدلّة كالملكية الآنية؟

ويجاب: نعم.

أو يقال: هل يمكن القول بأن العلاّمة قد نهج نفس المنهج ـ أي التوسع وإن لم يخرج ذلك بما ذكرتم من تفسير البطن؟

فيجاب: نعم، بالإضافة إلى أنّه ـ كما ذكرنا في الأُصول اكتفى بالرجوع للرواية حدوثاً لا بقاءً، وهو ممّا لا نقبله; إذ مقتضى تأبيد المعية بين الثقلين هو المعية في الرجوع إليهما ابتداءً وانتهاءً.


الصفحة 148
التحليل الأدبي إلى درجات عميقة في النصّ يعجز كثير من أبناء اللغة بل بقية الأدباء في الوصول إليها، نظير ترسيم شخصّية صاحب النصّ وبيئته وخلفيته العلمية وخلقه وتاريخه، إلى غير ذلك من العوامل والبيئات التي ترتبط بصاحب النصّ، كلّ ذلك من خلال مقطوعة لفظية يدرسها ويحلّلها الأديب البارع. ولقد كانت المسابقات الأدبية معهودة عند عرب الجاهلية حيث كانوا يتعاطون في سوق عكاظ حول القصائد الشعرية والمقطوعات النثرية عند من برز نجمه في الأدب.

والنتيجة: أنّ الروايات التفسيرية ليست مجرّد تعبّدية إجمالية محضة، بل مدلّلة

الصفحة 149
مُبيّنة على التفسير الثاني للبطون التأويلي الخفي لأنّ فيها إرشاداً إلى كيفية الاستفادة من الظهور القرآني، بخلافه على المعنى الأوّل; فإنّها لا تعدو التعبّد بمعنى الذي لا نعرف موازينه ولم نتعرّف عليها..

في حين أنّها على الفهم الثاني للبطون ستكون شرحاً وتفصيلاً للقرآن الذي هو بمثابة الدستور كما ذكر السيد البروجردي تبعاً لمنهج العلاّمة المجلسي في البحار.

وبهذا الفهم يتمّ القضاء على الشبهة الموجّهة للشيعة الإمامية بأنّها فرقة باطنية غنوصيّة لا تعلن عن أفكارها ومتبنياتها; إذ عرفت أنّ الشيعة لا تعتقد ولا تتبنّى فكرة إلاّ وهي ظاهرة مآلاً من القرآن والسنّة(1).

____________

1- على الفهم الأوّل للبطون يجاب عن شبهة الباطنية بالحديث الشريف: "من آمن بالظاهر دون الباطن فقد كفر، ومن آمن بالباطن دون الظاهر فقد كفر، ومن آمن بهما معاً فقد آمن".

وذلك لأنّ الإيمان بالباطن دون الظاهر يساوق عدم الالتزام بالشريعة الظاهرية وبواجباتها ومحرّماتها، بل وعقائدها، وهو واضح أنّه انحراف وكفر.. فتهمة الباطنية إنّما تشكّل وصمة، وتعبّر عن الانحراف إذا كان بالتنكّر للظاهر، أمّا مع الدمج بينهما فهو الإيمان، بل ورد في الحديث أنّ إنكار الباطن والاقتصار على الظاهر كفر. كيف، وهناك جملة من الآيات القرآنية دالّة على ذلك كقوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم)، وقوله تعالى: (إنّه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسّه إلاّ المطهّرون)، وقوله تعالى: (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ)، وقوله تعالى: (ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكلّ شيء)، وقوله تعالى: (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم)، وغيرها من الآيات الدالّة على أنّ لظاهر القرآن تأويل وحقائق في اللوح المحفوظ والكتاب المكنون والكتاب المبين لا يطّلع عليها إلاّ المطهّرون أهل آية التطهير، حيث الكتاب آيات بينات في صدورهم، والإيمان بظاهر الكتاب وإنكار تأويله في اللوح المحفوظ والكتاب المكنون والكتاب المبين هو من باب: (أتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض)، ونظير ذلك الحديث النبويّ: "ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه"، حيث يدلّ على أنّ فقه الدين وفهمه له مراتب ومدارج مترامية متلاحقة تمتدّ بامتداد ما للدين من عمق وغور خفية عن مرتبة الظاهر الأوّل، وقد أشبعنا البحث في ذلك في الفصول السابقة.

وكذا قوله: (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي).