الصفحة 264
{إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ}، توضّح عن رابطة الأُمّ بطفلها، وأنّها امتحنت بأصعب شيء كما امتحنت السيدة مريم بكرامتها وعرضها وعفّتها وهي سيدة العفّة في زمانها.

لولا أن جاء التسديد الإلهي لمثل هؤلاء البشر الذين اختاروا تنفيذ الإرادة ولو على حساب أعزّ ما لديهم: {لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا}.

النموذج القرآني السابع: قصة لقمان

وهذا النموذج وإن لم يكن نموذج للإمامة ولا للحجّية المصطفاة، إلاّ أنّه نموذج على الهبة اللدنية الإلهية، وهي ليست مقام نبوّة أيضاً. نعم الحجّية في الحكمة هو في ذاتها ومقالاتها حيث إنّها منطوية على الدليل والبرهان، وهاهنا نقاط يُلفت إليها:

1 - تشير الروايات إلى أنّ لقمان لم يصل إلى مقام الحكمة إلاّ بعد أن واظب على جملة من السنن، منها أنّه لم يكن يتكلّم إلاّ عند الحاجة.

2 - وتشير أيضاً إلى أنّه قبل أن يُمنح هذا المقام خيّر بين النبوّة والحكمة فاختار الحكمة، على العكس من داود.

3 - وتشير أيضاً إلى أنّ سلمان المحمدي أعظم حكمة من لقمان، وفي زيارته والروايات الواردة في شأنه إشارة إلى مقامات خاصّة، من قبيل أنّه (باب علم الوحي) و(أدرك علم الأوّلين والآخرين).. بل في الروايات يستشهد الصادق (عليه السلام) بكلمات سلمان وهو دليل حكمة سلمان.

4 - وفي الروايات: مَن أخلص لله أربعين صباحاً جرت ينابيع الحكمة على

الصفحة 265
لسانه.

5 - يظهر من سورة لقمان وممّا ورد في سلمان أنّ هذا المقام والمنزلة مفتوح لكلّ مَن يجاهد نفسه، ومثل مقامات أُخرى كالصدّيقين. وفي رواية في كفاية الأثر للخزّاز وغيره يشرح الصادق (عليه السلام) هذه المقامات ويذكر الطريق إليها.

6 - يظهر أنّه مقام لدني كالنبوّة بحكم التخيير.

{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ..}، وقد وردت الحكمة في آل إبراهيم وآيات أُخر منها: {مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}(1)، ويظهر من الآية أنّها علم إلهي خاصّ يغاير النبوّة والمقامات الأُخر في الجملة، وهذا العلم لدني ويمنح وليس فطرياً; بقرينة: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، فإنّ تعلّم الكتاب ليس فطرياً.

وقد عُرّفت الحكمة بتعريفات متعدّدة أشرنا إليها في كتاب العقل العملي، والحقّ أنّها العلم الذي يتلقّاه العقل العملي فيتمّ الإذعان به والتصديق، فهي ليست صفة عملية بحتة ولا علمية بحتة.

{أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ..}، الظاهر من (أن) أنّها تفسيرية، وبالتالي الظاهر من الآية تفسير الحكمة بالشكر، ممّا يعبّر عن أنّ رأس الحكمة شكر الله.

وقد أخذ قبال الشكر في القرآن الكفر: {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}، كما قابلت الروايات بين الجهل والعقل، ممّا يعني كلّ ذلك أنّ هذه الصفات ليست إدراكية محضة، وإنّما عملية، من ثمّ كان الشغل الشاغل للأنبياء هو العقل العملي الذي هو تحت اختيار الإنسان، وأمّا الإدراك والعلم فالفطري منه موجود من دون اختيار.

ثمّ لا ريب أنّ العلم الذي مُنح للقمان والذين نُعتوا بالحكمة وإن لم يندرج تحت واحد من الأقسام الحجج، إلاّ أنّ علم الحكم حجّيته منطوية فيه لانطواء

____________

1- سورة البقرة 2: 269.


الصفحة 266
البرهان والدليل في أقضيتها.

ويستفاد من هذه نتيجتان مفصليتان بعد الالتفات إلى النقاط التالية:

1 - إنّ لقمان ليس نبيّاً باتّفاق الجميع.

2 - إنّ المستعرض لحكمة لقمان في القرآن هو الله تعالى، أي لم تُعرض حكمته في القرآن على لسان نبيّ وإنّما على لسان الحقّ تعالى.

3 - إنّ استعراض الحقّ تعالى لحكمته كاستعراضه لكلام الأنبياء.

4 - بل استعراضه يمتاز عن سنن بعض الأنبياء من جهة أنّ شرائعهم منسوخة ولا يفهم أبديتها إلاّ بالقرينة {لِكُلّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}(1)، بينما الظاهر من حكمة لقمان أبديتها، بنكتة كونها كلّيات فوقانية، فهي البنية التحتية للشرائع، أو لأنّها حكمة، أو لأنّها فطرية عقلية مستوسعة، والكلّ واحد تقريباً. نعم، تمتاز سنن الأنبياء عن الحكمة بأنّها تنزل الهداية للتفاصيل ولدائرة أوسع بكثير من الحكمة، بينما الحكمة هي في دائرة الكلّيات.

5 - لم يذكر حجّية حكمة لقمان من جهة عرضه على نبيّ أو من جهة إقرار القرآن لها، وإنّما حجّيتها من جهة تضمّنها للدليل والبرهان.

6 - إنّ حجّية الحكمة هي من حجّية العقل، وحجّية العقل تلازم حكم الشرع; لأنّه كلّ ما حكم به العقل البديهي أو النظري المبدّه حكم به الشرع، فهو لا يختلف روحاً عن التشريع الظاهر، وإن كان تشريعاً باطناً كما يسمّى العقل بالرسول الباطن.

من ثمّ وبعد أن عرفنا أنّ طبيعة الحكمة ليست إلاّ علماً خاصّاً أُودع من قبل الله تعالى في فطرة لقمان بنحو البسط، فهي لا تختلف عن العلوم الفطرية التي

____________

1- سورة المائدة 5: 48.


الصفحة 267
يمتلكها البشر جميعاً من هذه الزاوية، إلاّ في أنّها أوسع نطاقاً من الآخرين، فحينئذ أمكن أن نفهم:

أوّلاً: ما ورد في الروايات أنّ العقل رسول باطن وحجّة باطنة ومنزّل منزلة قناة الوحي، الظاهر في أنّ كلّ إنسان مرتبط بعلم الله تعالى وإرادته في دائرة البديهيات أو النظريات المبدّهة.

وبهذا يكون ردّاً على الأشاعرة والسلفيين والظاهريين قبلهم أصحاب السفسطة حيث أنكروا العقل أو حجّيته.

حيث عرفت أنّ هذا النمط من العلم موجود ويوجب اليقين والجزم، وأنّه قد استوسع للقمان، وفي الروايات إشارة إلى أنّ مصدراً من مصادر علومهم (عليهم السلام) هذا النمط من العلم وهو الحكمة، لكن بدائرة تفوق كلّ من أوتي الحكمة.

ثانياً: النقض على أهل سنّة الخلافة وجماعة السلطان; حيث أنكروا وجود مصدر للحجّية والارتباط بالسماء غير النبوّة، مع أنّا لاحظنا وجود قنوات أُخرى لها، وجود ضامر في كلّ إنسان وأنّها قد توسّع للبعض لا بتوسّط نبيّ، فالحال في الإمام الذي هو خليفة الله تعالى في أرضه المعلّم علم الأسماء كلّها أوضح.

بل إنّ أهل سنّة الجماعة إذا ارتضوا العقل كالمعتزلة، متجاوزين المسلك الأشعري ولو في مساحة محدودة فلا بدع في سنّة الله في الإمامة بعد أن كان العقل قناة إلى جنب قناة النبوّة، فيمكن لله تعالى أن يفتح قناة ثالثة أو يوسّع من قناة العقل والفطرة، وتكون ملزمة وحجّة.

والملفت أنّ القرآن لم يذكر جملة من الأنبياء، أو ذكر جملة أُخرى منهم ولم يذكر لهم قولاً، في الوقت الذي تعرّض فيه لجملة من المؤمنين مع عرض كلماتهم، كمؤمن آل فرعون ومؤمن آل ياسين وزوجة فرعون، بالإضافة إلى النماذج التي سبقت الإشارة إليها بمَن فيهم لقمان.


الصفحة 268
وليس ذكر مثل هؤلاء إلاّ للعبرة، وليس ذكر كلماتهم إلاّ للاحتجاج في أنّ الحجّية الذاتية لا تنحصر بالنبوّة، إذ قد تكون من خلال علم فطري تفتّق، أو علم لدني خاصّ مُنح من قبل الله تعالى، إلاّ أنّ حجّية النبوّة والإمامة دائرتها أوسع بلا مقايسة مع دائرة حجّية العقل الفطري البديهي.

{أَنِ اشْكُرْ..}، وجوب الشكر في الحكمة العملية يوازي في الحكمة النظرية وجوب وجوده تعالى.

{فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ}، بدليل: {إِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}، وحميد فيها إشعار إلى أنّه يشكر مَن شكره: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لاََزِيدَنَّكُمْ}، أو يعني جامع الكمالات.

{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، في هذه الآية وعموم الآيات القرآنية يلاحظ الترابط بين البعد النظري والعملي، فالشرك أعظم غلطة وكذباً وجهلاً على مستوى الإدراك، والظلم العظيم أعظم قبحاً في العقل العملي.

{يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّة..}، المداقّة في الحساب - وكما ورد في سورة الزلزلة - ممّا لا يدركه العقل لوحده، كذا باطن الفعل في الملكوت بمقتضى الآية المبين فيها، حيث إنّ إتيان الله به يوم الحساب دليل بقائه وثباته.

{فِي السَّمَوَاتِ}، إمّا كناية عن الإحاطة الإلهية، أو إشارة إلى وجود جزاء لأهل السماء مجهول الكيفية لنا، كما يبدو من آيات وروايات متعدّدة، مثل: {سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا}، وقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة حول الملائكة: "إنّهم يزدادون بعبادتهم لربّهم علماً"، و.. الكاشف عن وجود ظاهرة العمل والجزاء في الملائكة.

{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاة}، بعد أن فرغ من توحيد الله ومعاده ودخل في استعراض كلّيات الشريعة، وفيه دلالة على أنّ الصلاة ثابت في كلّ شريعة، حيث كانت فطرية، وأنّ الأمر بالمعروف فطري، وهو وإن كان في الفقه الاصطلاحي يقابل

الصفحة 269
الجهاد والقصاص والديات والقضاء، إلاّ أنّه بالمعنى الأعمّ شامل لها، بل شامل لكلّ معروف بعد أن كان الإتيان به يستبطن الدعوة لإقامته.

والصبر يكشف عن أنّ الأُمور العملية فيها عناء ولا يتمّ إلاّ بالصبر.

{وَلاَ تُصَعِّرْ}، فعل جارحي ناتج عن الكبر.

{مَرَحًا} الزهو، وهو الترف والفرح للمادّيات المذموم في القرآن.

{إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَال فَخُور}، إنباء لقمان عن المحبّة الإلهية، والتي على أساسها أمكنه العلم بالمحبوبات، وعلى أساس ذلك أمكنه النسبة.

ويعرّف أيضاً: أنّ الحكمة ليست علماً صرفاً، وإنّما هي التي تستوجب العمل.

وبه يمكن الردّ على من يقول إنّ حكم العقل منجّز فقط، حيث ظهر أنّه يلازم حكم الشرع بل يمكن نسبته إليه تعالى.

{إِنَّ أَنْكَرَ الاَْصْوَاتِ}، فيه دلالة على إلمامه الواسع بالخليقة، وإن كان قد ورد أنّ المراد بذلك صوت بعض أصحاب التابوت في قعر جهنّم.

النموذج القرآني الثامن: قصّة آصف بن برخيا صاحب سليمان:

وتبدأ من آية 35 إلى آية 41 من سورة النحل.

{قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ..}، إنّما كان سليمان حريصاً على السرعة الخاطفة في إحضار عرش بلقيس لإظهار مقام آصف وأنّه وصيّه والإمام من بعده، كذا جاء في الروايات عنهم (عليهم السلام)، ويعاضده سياق الآيات.

والإتيان بالوصف {عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} مشعر بالعلّية، وأنّ الوصف هذا هو الذي أهّله للقيام بهذا العمل.


الصفحة 270
وآصف ليس نبيّاً بالاتّفاق، فتدلّ الآية على توفّر غير الأنبياء أيضاً على علم لدني وهو خاصّ، وصنّف هذا العلم بعلم الكتاب وهو علم مرتبط بالأديان، وبالدقّة: علم السنن الإلهية الكونية والشريعة بحسب التكوين.

وقد جاءت أوصاف العلوم اللدنية في الروايات متنوّعة: علم الكتاب، فصل الخطاب، علم الوصايا، علم الأصلاب، علم شهادة الأعمال، علم المنايا والبلايا، علم التأويل، علم تأويل الأحاديث، منطق الطير، وغيرها..

كما ألفت القرآن إلى علم الكتاب في مواضع متعدّدة:

أ - {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الاَْرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الاَْمْرُ جَمِيعًا..}(1)، وقد نزلت الآية في كفّار قريش الذين طالبوا الرسول (صلى الله عليه وآله) بأن يقوم بتسيير الجبال المحيطة بالبيت الحرام بعيداً، ويقطّع الهضاب في مكّة كي تصير الأرض سهلة زراعية كأرض الشام وتذهب حزونتها، ويحيي لهم موتاهم ممّن مضى، إلاّ أن القرآن ذكر أنّ المطلوبات ثلاثة لو أُنجزت بالقرآن لا بالمصحف الشريف المقدّس لما آمنوا، فهذه الآية دالّة على أنّ هذه الأُمور ممّا يمكن تحقّقها بحقيقة القرآن إلاّ أنّه تعالى لم يأذن لنبيّه (صلى الله عليه وآله) بتحقيقها وإيجادها بتوسّط ما لديه من حقيقة القرآن; لأنّ مشركي قريش لا يفون بشرطهم باستجابتهم للإيمان، ممّا يكشف عن أنّ هذه الأُمور تحصل بالقرآن، سوى أنّه لم يحصل لأنّه لا يؤدّي إلى وفائهم وإيمانهم.

ب - {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَل لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}(2)، فالخشية ههنا عظيمة، ومن ثمّ جاء: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، ومن الواضح أنّ نفس المصحف الشريف لو وضع على جبل لا يوجب تصدّعه، فمن

____________

1- سورة الرعد 13: 31.

2- سورة الحشر 59: 21.


الصفحة 271
الواضح أنّ المراد هو نزول حقيقة القرآن على الذات الحقيقية الخفية للجبل، حيث يثبت القرآن الكريم للأشياء الجامدة ذاتاً خفية وراء أجسامها، كقوله تعالى: {أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْء}(1)، و {وَإِنْ مِنْ شَيْء إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}(2)، ممّا يثبت أنّ لذوات الأشياء إدراك وشعور.

جـ - وفي آيات أُخرى: {آتَانِيَ الْكِتَابَ}(3) وما أشبه، دالّة على مؤهّلات النبيّ الظاهرة في أنّ إيتاء الكتاب غير جعل النبوّة، وإنّما هو مقام غيبي آخر وعلم لدني قد يقترن بالنبوّة.

د - قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَة إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّة فِي ظُلُمَاتِ الاَْرْضِ وَلاَ رَطْب وَلاَ يَابِس إِلاَّ فِي كِتَاب مُبِين}(4)، وقوله تعالى: {مَا مِنْ غَائِبَة فِي السَّمَاءِ وَالاَْرْضِ إِلاَّ فِي كِتَاب مُبِين}(5)، الدالّ على أنّ كلّ شيء مستطرّ في الكتاب والكتاب المبين، فالذي لديه علمه يحيط بذلك أو لديه بعضه فيحيط بقدر منه.

والقرآن هو الكتاب كما ورد في الواقعة وهي قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَاب مَكْنُون}(6)، وكذا في سورة الدخان وهي قوله تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة مُبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ..}(7)، وغيرها من السور الدالّة. وقد منح شطر من العلم المزبور لآصف بن برخيا.

ونرجع دفّة الكلام إلى أصل القصّة وبدايتها من قوله تعالى: {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلاَُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ

____________

1- سورة فصلت 41: 21.

2- سورة الاسراء 17: 44.

3- سورة مريم 19: 30.

4- سورة الأنعام 6: 59.

5- سورة النمل 27: 75.

6- الواقعة 56: 77 - 78.

7- سورة الدخان 44: 1 - 3.


الصفحة 272
تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَأَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}(1).

والمفاد الأوّلي لهذه الآية: أنّ جليس سليمان لم يصفه القرآن بأنّه نبيّ ولا مرسل، بل لديه علم من الكتاب، في حين يثبت له القرآن الكريم علم غير كسبي.

ثمّ يستفاد من الآية أُمور:

أوّلاً: إنّ جليس سليمان الذي هو آصف بن برخيا - والذي عليه الفريقان - لم يكن نبيّاً ولا مرسلاً مع ذلك زوّد بعلم لدني غير كسبي، ممّا يعني أن هذا العلم لا يختصّ بنبيّ ولا رسول، بل تعلّق بغيرهما، ولكونه حجّة من الحجج الإلهية.

ثانياً: إنّ علمه لدني غير كسبي، ودليل ذلك:

1 - وصفه القرآن الكريم بأنّه علم من الكتاب توطئة لبيان القدرة على المجيء بعرش بلقيس، والوصف دخيل في العلّية، حيث وصف علمه بعلم الكتاب، فالعلّة والسبب لهذا الفعل هو العلم غير الكسبي بل اللدني كما يقال في علم البلاغة والبيان الوصف مشعر بالعلّية.

2 - إنّ آصف بن برخيا مؤهّل لهذه المهمّة الإلهية التي تُعدّ إحدى المقامات العالية التي لا ينالها إلاّ أهلها، ممّا يعني أنّ آصف بن برخيا في درجة من الطاعة والعبودية يستحقّ عندها الاصطفاء لهذه الحبوة الكريمة.

على أنّ الكتاب المشار إليه في الآية لم يكن هو الكتاب الخطّي المنقوش، بل هو الكتاب الحقيقي الملكوتي الذي يهيمن على النشآت الأُخرى، لذا ورد لفظ الكتاب في القرآن الكريم في عدّة موارد مشيراً إلى هذه الحقيقة، كما في قوله

____________

1- سورة النمل 27: 38 - 40.


الصفحة 273
تعالى: {وَمَا مِنْ غَائِبَة فِي السَّمَاءِ وَالاَْرْضِ إِلاَّ فِي كِتَاب مُبِين}(1)، وقد أشارت إلى ذلك سورة الواقعة في قوله تعالى: {فِي كِتَاب مَكْنُون * لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}(2)، وفي سورة الرعد وصف لهذا الكتاب: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الاَْرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الاَْمْرُ جَمِيعًا..}(3)، وكما في سورة الحشر قوله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَل لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}(4)، فالإنزال المشار إليه هو إنزال ملكوتي حقيقي، وليس هذا المصحف المنقوش بل بوجوده اللدني الملكوتي. ومن آثار هذا العلم اللدني إمكانية حامله بإتيان عرش بلقيس قبل أن يرتدّ الطرف، وهي قدرة خارقة عجيبة حاز عليها آصف بن برخيا بتحمّله هذا العلم الإلهي الذي هو بعض ذلك العلم، لتنكير كلمة (علم) الواردة في الآية ولفظة (من) ممّا يشير إلى أنّ آصف حُبي ببعضه فقط.

كما يجب التنويه إلى أنّ وجود علم الكتاب عند غير الأنبياء دليل تشريك في المسؤولية والحجّية بينهم وبين مَن عنده علم الكتاب وهم الحجج.

وبانتظام ومطابقة بين علم الكتاب في سورة الرعد وعلم الكتاب في سورة الواقعة يُتنبه إلى حقائق:

الأُولى: إنّ سوراً عديدة تفسّر الكتاب المبين بالقرآن، كما هو عليه سورة الدخان في قوله تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة مُبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}(5)، والتنزيل إشارة إلى أنّ المنزّل هو ذلك القرآن الذي وصفته الآية بالكتاب المبين، وكما في سورة الواقعة عند قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَاب مَكْنُون}(6)، وقوله تعالى في سورة النمل: {وَمَا مِنْ غَائِبَة فِي السَّمَاءِ وَالاَْرْضِ

____________

1- النمل / 75.

2- سورة الواقعة 56: 78 - 79.

3- سورة الرعد 13: 31.

4- سورة الحشر 59: 21.

5- سورة الدخان 44: 1 - 3.

6- سورة الواقعة 56: 77 - 78.


الصفحة 274
إِلاَّ فِي كِتَاب مُبِين}(1)، ممّا يعني أنّ الكتاب المشار هو القرآن الكريم.

الثانية: إنّ الكتاب تارةً يُطلق على جنس الكتاب، وتارةً يُطلق على الكتاب العهدي للاّم العهدية، والمقصود من الكتاب هنا هو القرآن الكريم لورود اللام العهدية في تعريفه، وأنّ للقرآن مواقع ومنازل كونية ملكوتية، وأنّ المصحف الشريف هو أنزل تلك المواقع والمنازل، ومن ثمّ وصف في الآيات بأنّه تنزيل الكتاب، أي الدرجة والموقع النازل من الكتاب لا المواقع المكنونة الغيبية القدسية ذات المجد والكرامة.

الثالثة: إنّ القرآن الكريم وصفه الله تعالى بأنّه مهيمن على الكتاب، وهذه الصفة تعني الإحاطة، فما نزل على الأنبياء من الحقائق العلمية والتي أودعت في كتب مثل التوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وموسى فهي مودعة مثلها في القرآن الكريم.

والخلاصة:

إنّ ما كان عند آصف بن برخيا هو بعض علم الكتاب أي بعض من القرآن; إذ الكتاب هو القرآن الشامل لكلّ الكتب التي أسلفنا.

وتبين عند ذلك أنّ الكتاب له وحدة واحدة وهو القرآن، أي: أنّ المعارف السماوية وحقائقها كلّها أودعت في القرآن الكريم، وإذا كان آصف بن برخيا قد علِم بعض حقائق القرآن فكيف بمَن أُحيط بعلمه كلّه ظاهراً وباطناً وهو رسول

____________

1- سورة النمل 27: 75.


الصفحة 275
الله (صلى الله عليه وآله) وأوصيائه الحجج المعصومين من أهل بيته الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين)؟

النموذج القرآني التاسع: قصّة عزير

قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَة وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَام ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْم قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَام}(1)، على اختلاف الروايات عند الفريقين فإنّ الذي مرّ على قرية هل هو إرميا النبيّ أم هو عزير الذي هو أحد الحجج الإلهية؟

وعلى كلا الوجهين فإنّ الذي يهمّنا هو أنّ الكلام الإلهي المقصود في الآية كونه إسناداً مباشراً إلى الله تعالى فهذا الوحي والخطاب الإلهي خوطب به الذي مرّ على القرية.

وعلى فرض أنّ المقصود هو عزير - وهو المشهور بين الفريقين - فإنّ عزير لم يكن نبيّاً، بل هو حجّة من حجج الله تعالى، ومع ذلك فقد حصل على مقام التكليم مع الله تعالى مباشرة، ممّا يعني أنّ التكليم الإلهي ليس من مختصّات مقام النبوّة فقط، بل يشترك معها مقام الحجج الإلهية كذلك.

ولسائل أن يقول: إذا كان نبيّ الله إبراهيم قد سأل الله تعالى بنفسه ما سأل عزير حين قال حكاية عن إبراهيم: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}(2)، فكان ذكره في مقام مدح وثناء، بينما كان

____________

1- سورة البقرة 2: 259.

2- سورة البقرة 2: 260.