الصفحة 303
الحمد من قبل داود وسليمان لمكان الحبوة التي حُظيا بها من الله تعالى، لا لمقام النبوّة منهما، بل لحجّيتهما وإمامتهما.

قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الاَْيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ}(1)، فقد وصف الله تعالى داود أنّه عبد في هذه الآية والمقام ولم يذكر وصف النبوّة، ممّا يدلّل - بمقتضى أنّ الوصف مشعر بالعلّية - على أنّ هذه الحبوات إنّما أُعطيت له بمقتضى درجة العبودية التي وصل إليها، والتي هي معنى الولاية كما في الخضر حيث قال تعالى {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}(2).

فبيّنت الآية أنّ العلم اللدني والرحمة الخاصّة التي هي من مقامات الولاية وأُعطيت للخضر استحقّها بالعبودية بدرجة خاصّة، فهذه المقامات أُعطيت لداود بسبب مقاماته في العبودية، وهي الولاية ; لأنّ العبودية هي الجانب الذي يلي من العبد تجاه مولاه، لا بما لداود من مقام النبوّة.

فالآيات المتقدّمة تشير إلى حقيقة مهمّة وهي أنّ الحبوات التي حصل عليها الأنبياء لا لمجرّد كونهم أنبياء بل لكونهم حججاً أولياء وأئمّة، فالنبوّة وإن كانت تحتاج إلى المعجزة، إلاّ أنّ المعجزة لا ضرورة لدوامها واستمرارها بنحو ممتدّ، بل يكفي وقوعها وحدوثها لإيجابها واستلزامها الثبات على نحو الدوام، أي أنّ وجودها وإن كان دفعياً إلاّ أنّ حجّيتها ووصف الحجّية لها مستمرّ; إذ هي في حدود تصديق نبوّة النبيّ.

فإذا تمّ الغرض انتفت الضرورة لاستمرار وجودها، وإن كان بعض المعاجز كالقرآن الكريم ـ معاجز مستمرّة الوجود، بينما هذه الحبوات والمقامات ثابتة لحجج الله تعالى وأوليائه، وهو ما حدث وما يحدث لأئمّة آل البيت (عليهم السلام) من

____________

1- سورة ص 38: 17.

2- سورة الكهف 18: 65.


الصفحة 304
الحظوة بالمقامات الإلهية التي حازوا عليها وأكرمهم الله تعالى بحبواته، فلا مجال إذن لإنكار هذه الحقيقة المعرفية القرآنية تحت ذريعة وغطاء التفويض والغلوّ كما توهّم البعض.

فإيتاء الملك لداود هي الإمامة. ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض، إشارة إلى التدبير الاجتماعي الذي يديره داود في بني إسرائيل، فإيتاء الملك يختلف عن إيتاء النبوّة، فهو منصب خاصّ من قبل الله تعالى، فالإمامة أهلية خاصّة غير أهلية النبوّة.

قوله تعالى: {أَنَّ الاَْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}(1)، فتوريث الأرض للعباد الصالحين لا لكونهم أنبياء، بل لكونهم عباداً صالحين، وهذا وعد إلهي.

إنّ أحد حدود الإمامة هي العبودية بدرجة فائقة لله تعالى وهي ولاية ولي الله الإمام وتولّيه لربّه تعالى، وقد روى هارون بن الفضل، قال: "رأيت أبا الحسن عليّ بن محمّد في اليوم الذي توفّي فيه أبو جعفر (عليه السلام) فقال: إنّا لله وإنا إليه راجعون، مضى أبو جعفر (عليه السلام). فقيل له: وكيف عرفت؟ قال: لأنّه تداخلني ذلّة لله لم أكن أعرفها"(2).

وفي رواية أُخرى أنّه (عليه السلام) سُئل عن كيفية علمه بوفاة أبيه قال: "قد دخلني من إجلال الله ما لم أكن أعرفه قبل ذلك، فعلمت أنّه قد مضى"(3).

فالإمامة ولاية ملكوتية غيبية وليست ولاية ملك مادّي فقط، بل ولاية عبودية لله تعالى. والولاية أعلى رتبة من النبوّة، وذلك أنّ الولاية هي جهة القرب والارتباط بالله تعالى، فولاية كلّ نبيّ هي أعلى وأشرف من نبوّته; لأنّها جهة عبودية النبيّ للربّ تعالى، فلذلك الولاية أعظم من النبوّة، أي ولاية ولي الله الإمام

____________

1- سورة الأنبياء 21: 105.

2- أصول الكافي 1 / 381.

3- بحار الأنوار 27 / 293 عن بصائر الدرجات.


الصفحة 305
وتولّيه لربّه.

قوله تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لاَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الُْمخْلَصِينَ}(1)، إنّ غواية إبليس وإضلاله لا تشمل المخلَصين - بالفتح - فهم معصومون عن غواية إبليس على صعيد العمل وعلى صعيد العلم.

وإنّ سورة الصافات في أربع مواضع ذكرت (عباد الله المخلَصين).

1 - قوله تعالى: {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الُْمخْلَصِينَ}(2).

2 - قوله تعالى: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ * إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الُْمخْلَصِينَ}(3).

3 - قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَُمحْضَرُونَ * إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الُْمخْلَصِينَ}(4).

2 - قوله تعالى: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الُْمخْلَصِينَ}(5).

فوصف الله تعالى هؤلاء العباد بأنّهم مخلَصين لا تقع منهم معصية ولا يراودهم شكّ أو شبهة، فهم مخلِصين لله في عبادتهم، ومخلَصين من أي ذنب أو قبيح.

لذا فإن قوله تعالى: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الُْمخْلَصِينَ}، حيث نزّه الله تعالى عن كلّ وصف إلاّ توصيف عباد الله المخلَصين، وهي أعلى مقامات المخلَصين التي تعني المعرفة الحقّة له تعالى.

فالصلاح الذاتي وما يترتّب عليه من صفات لم يكن كسبياً، بل هو منصب إلهي اصطفائي جعلي; وذلك لقوله تعالى: {وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ}(6).

ومثله الرشد الذاتي اللدني حيث لم يكن عادياً كسبياً، بل هو إلهي جعلي يمنّ على خاصّة عباده; لقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ}(7).

____________

1- سورة ص 38: 82 - 83.

2- سورة الصافات 37: 39 - 40.

3- سورة الصافات 37: 73 - 74.

4- سورة الصافات 37: 127 - 128.

5- سورة الصافات 37: 159 - 160.

6- سورة الأنبياء 21: 72.

7- سورة الأنبياء 21: 51.


الصفحة 306

المشاركة في الحجية:

قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ}(1)، فهذه مشاركة بين موسى وهارون في الحجّية، فنزول الفرقان لم يختصّ به موسى، بل شاركه هارون كذلك. وهذا مفاد حديث المنزلة، إذ كونه (عليه السلام) من النبيّ الخاتم (صلى الله عليه وآله) بمنزلة هارون من موسى، يشير إلى جنبة مشاركة ما ينزل على النبيّ (صلى الله عليه وآله)، شركة تابع له كما في قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَة مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ}(2).

أي يتلو النبيّ (صلى الله عليه وآله) ويشهد الوحي عياناً وهو البينة من الربّ وهو رجل من النبيّ من نفسه.

فقد ورد عنه (صلى الله عليه وآله): "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"(3)، وغيرها من الموارد التي تشير إلى المشاركة، كآية المباهلة وآية التطهير.

النموذج السابع: عيسى (عليه السلام):

قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِْنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِيءُ الاَْكْمَهَ وَالاَْبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ

____________

1- سورة الأنبياء 21: 48.

2- سورة هود 11: 17.

3- خلاصة عبقات الأنوار ج 10 للسيد حامد حسين اللكهنوي، فقد عقد مجلّداً خاصّاً في بيان تواتر الحديث الشريف.


الصفحة 307
إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ}(1).

فهذه المناصب بعضها لا ربط لها بالنبوّة بما هي نبوّة، وكونه رسولاً هو أحد مناصبه (صلى الله عليه وآله)، وقوله {أَخْلُقُ لَكُمْ..} بمعنى الخلقة والتكوين وليس هو تشكيل الطين على هيئة الطير فقط.

إنّ شبهة كون الخلقة التي يتولاّها عيسى (عليه السلام) هو تشكيل فقط دخلت على العامّة، محتجّين بها على كون الخلق لا يمكن أن يقوم به غير الله تعالى، في حين نقول إنّ الخلقة بأمر الله تعالى ولا مانع من أن يقوم بها أحد عباده المصطفين الذين اصطفاهم الله لهذه المهمّة.

وإنّ تشكيل المادّة لا يقال لها خلقة، بل الخلقة هي حالة إيجاد وتكوين بأقدار الله تعالى وإرادته، مع إمكان تفويض ذلك إلى خاصّة عباده كما هو الحال في عيسى (عليه السلام)، تفويضاً غير عزلي أي من دون أن يكون الباري تعالى معزولاً ولا النبيّ عيسى (عليه السلام) ونحوه من الأولياء مستقلاًّ في فعله كما هو الحال في غير ذلك من الأفعال، لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين. ويُستدلّ على ذلك بقوله تعالى: {فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا}(2)، فالنفخ هنا خلق كما في نفخ الصور، فالنفخ هنا ليس تشكيل، إذ الخلق للطير متفرّع على نفخ عيسى (عليه السلام).

ثمّ إحياء الموتى ليس هو كخلق الطير، بل إحياء الموتى هو تزويج الروح بالبدن.

وقوله تعالى: {وَأُبْرِئُ الاَْكْمَهَ وَالاَْبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ}، فالإبراء وإن كان إحياء وخلق لكن خلق حال وليس إعادة لحياة الذات، وهذا ما يمكن تصوّره في أولياء الله المصطفين كالأئمّة (عليهم السلام) ; إذ إمكان إعطائهم هذه الحبوة كما أُعطيت

____________

1- سورة المائدة 5: 110.

2- سورة آل عمران 3: 49.


الصفحة 308
لعيسى ليس تفويضاً عزلياً باطلاً تعزل فيه قدرة الله تعالى وهيمنته وقاهريته وقيوميته، كما هو الحال في أفعال الإنسان لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين، ولا فرق في تمكين وإقدار الباري للمخلوق على الفعل بين فعل النملة وفعل عزرائيل وميكائيل وأعاظم الملائكة والأرواح; فإنّه بقانون واحد لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين، ومن لا يميز بين التفويض العزلي الباطل وبين التفويض بمعنى الإقدار والتمكين في حين قدرته تعالى من انحسار لقدرته فيما أقدرهم عليه، يحصل لديه الخلط بينهما، كما أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة.

قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}(1)، إنّ أُصول الدين لا تُنسخ، بل النسخ يكون في الفروع، كما أنّ أركان الفروع غير منسوخة، فأُصول المحرّمات هي واحدة في كلّ الشرائع كحرمة الزنا والكذب والغشّ وغيرها، وكذلك أُصول الواجبات.

فالنسخ لا يكون في المعارف ولا إلغاءً لها، بل الحال فيها حالات تكامل وتوسّع وتعمّق، وكذلك الكتب الإلهية في نسخها الأصلية غير المحرّفة والتي هي عند الإمام المهدي (عج) لكونه وارث الأنبياء والمرسلين كذلك، وشرائعها السابقة لها قدسيتها في القرآن الكريم وفي كلام أهل البيت (عليهم السلام).

فمع أنّ عيسى (عليه السلام) قد نسخت شريعته، فهو مع ذلك سيكون له دور مهمّ في شريعة الإسلام، إذ سيؤدّي دوره المقدّر من قبل الله تعالى حيث نزوله من السماء والتحاقه بالإمام المهدي المنتظر (عج).

على أنّه تجدر الإشارة إلى أنّ غيبة الإمام (عج) لا تعني أكثر من خفاء هوية

____________

1- سورة آل عمران 3: 55.


الصفحة 309
وليس تغييباً لوجوده ولا إبعاده عن مسرح الأحداث ولا مزايلة عن تدبير الأوضاع البشرية، ولذلك الاعتقاد أدلّة قائمة قد مرّ الإشارة إليها. وظهور الإمام (عج) يعني ظهور هويته المغيبة أي المخفية المستترة، وليس بداية لحضور وجوده الشريف، بل وجوده حاضر بيننا نعيشه بوجداننا وأعماقنا.

وكلمة (متوفّيك)، أي قابضك، فهو قبض له حتّى يبعثه الله إلى حيث يوجّهه لمناصرة وليه الإمام المهدي (عج) ومؤازرته.

قوله تعالى: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}(1)، فروح القدس حبوة إلهية لعيسى (عليه السلام)، وهي ليست من خصائص النبوّة كما أنّ روح القدس قد تقدّم الحديث عنه مبسوطاً في الفصل السابع في مباحث ليلة القدر، وهو نور كما فُسّر بلحاظ الهيمنة العلمية، فهو مع الأئمّة (عليهم السلام)، وهو بلحاظ المناصب الأُخرى غير النبوّة.

قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}(2)، ومضافاً إلى كون عيسى (عليه السلام) رسول الله فقد وُصِف أيضاً بأنّه كلمته وأنّه روح الله. والكلمة هي الشيء التكويني الدالّ على معنى بدلالة تكوينية لا فرض اعتباري أدبي، وهذا المعنى هو الأصل في معنى ومصداق الكلمة حقيقة، وأمّا الكلمة التي تتداول في الكلام المحاوري فهي اعتبارية يعتبرها ويفترضها المتكلّم والمخاطب فيما بينهم، فعيسى هو كلمة الله وهو اسمه أيضاً; لأنّ الاسم في اللغة يعني السمة والعلامة، وهو نفس معنى كلمته وهو آية من آيات ربوبيته كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً}(3)، وقال تعالى: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ

____________

1- سورة البقرة 2: 87.

2- سورة النساء 4: 171.

3- سورة المؤمنون 23: 50.


الصفحة 310
وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا}(1)، والآية في اللغة العلامة والسمة أيضاً، وعليه تكون الآية والكلمة والاسم بمعنى واحد، أو مشتركة في أصل معناها.

وكونه روح الله يعني بوجوده وولادته وحالاته الملكوتية خروجه من الغيب مقاماً، فأضيفت إلى الذات الإلهية تشريفاً لمقامها.

وقد قام الدليل على أنّ الأئمّة كلمات الله كما في قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ}(2)، ولعلّ الإشارة في كلمات الصدق وتمامية الكلمات صدقاً هو للمرسلين، وتمامية الكلمة عدلاً هو لجعل الله تعالى للأئمّة الهادين بأمره الذين يوحي إليهم فعل الخيرات وإقامة العدل، ولا ريب أنّ من كلمات الله في عموم هذه الآية هو النبيّ عيسى (عليه السلام)، فالمراد من الكلمات هم الحجج المصطفين.

وقد ورد من طريق الفريقين في قوله تعالى: {فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَات فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}(3)، فقد روى الحاكم في مستدركه: "أنّ آدم لمّا اقترف الخطيئة قال: يا ربّي أسألك بحقّ محمّد لما غفرت لي. فقال: يا آدم كيف عرفت؟ قال: لأنّك لمّا خلقتني نظرت إلى العرش فوجدتُ مكتوباً فيه: لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله فرأيت اسمه مقروناً مع اسمك فعرفته أحبّ الخلق إليك"(4).

وقد تقدّمت الإشارة في قوله تعالى حول مريم: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ}(5)، أنّ مقتضى المقابلة بين الكلمات والكتب قرينة على إرادت الحجج المصطفين الذين منهم النبيّ عيسى (عليه السلام)، كما ورد عين هذا التعبير في قوله تعالى لزكريا {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَة مِنَ اللَّهِ}(6)، أي مصدّقاً بالنبيّ عيسى،

____________

1- سورة مريم 19: 21.

2- سورة الأنعام 6: 115.

3- سورة البقرة 2: 37.

4- مستدرك الحاكم / ج2 ص615.

5- سورة التحريم 66: 12.

6- سورة آل عمران 3: 39.


الصفحة 311
نظير التعبير بمريم: وصدّقت بكلمات ربّها، فكلمات الله وكلمة الربّ تطلق على كلّ من اصطفاه الله من أولياءه الحجج، سواء جعله نبيّاً رسولاً أو جعله إماماً للناس خليفة له في أرضه، فلا مجال للإنكار ولا للتنكّر عن هذه المعارف القرآنية; إذ عيسى حُبي بهذه الحبوة وهو كونه كلمة، وهذه الحبوة ليست من مناصب خصوص النبوّة ولا من حالاتها، وإنّما هي من شؤون عموم الاصطفاء والجعل الإلهي.

قوله تعالى: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا ِلأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}(1)، طلب عيسى من الله سبحانه أن يُنزّل مائدةً من السماء اطمئناناً لقلوب الحواريين وقد استجاب الله لسؤاله وأكرمه بنزول المائدة، فكانت تلك المائدة كرامةً لعيسى بن مريم (عليه السلام)، علماً أنّ هذه الكرامة ليس لخصوص منصب كونه نبيّاً ورسول الله، بل لكونه حجّة إلهية، وبذلك فقد ألقى الله حجّته على الحواريين بحجّية عيسى بن مريم، على أنّ الحجّية كلّما اشتدّت كلّما اشتدّت العقوبة واشتدّ تنجيزها.

قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلاُِبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}(2)، قد تفسّر البينات بالمعجزة، إلاّ أنّ المعجزة مشتركة مع جميع الأنبياء، فلا يبعد أن تكون البينات منزلة إلهية غير أصل معجزة النبوّة، والقرينة على ذلك هو مجيئه بالحكمة، فهو إشارة إلى

____________

1- سورة المائدة 5: 112 - 114.

2- سورة الزخرف 43: 63.


الصفحة 312
خصوصية اختصّ بها عيسى إضافة لنبوّته.

والعامّة لا يثبّتون للنبيّ من وراء نبوّته مقاماً آخر، وهذه مشكلة تُضاف إلى الأذهان لتتبلّد عن معرفة النبوّة ومقاماتها الإلهية وكراماتها من الله تعالى.


*  *  *  *  *


الصفحة 313