إن من المواضيع المهمة والحساسة التي طالما يدور الحوار حولها موضوع عصمة الأنبياء، وذلك لأن هذا الموضوع يتعامل مع المصدر الثاني الذي يبني عليه الإنسان دينه وعقيدته ويسير عليه جميع شئون حياته وهو النبوة، والاختلاف حول موضوع النبوة التي تعد من أصول الدين عندكل الموحدين يؤدي إلى اختلاف واسع في التفريعات الناشئة عن هذا الأصل.
ومن يبحث في موضوع النبوة يجد أن هناك خلاف بين المسلمين في هذا الموضوع ويظهر هذا الاختلاف بشكله الواضح حينما يدور الموضوع عن عصمة الأنبياء، فتجد السنة والشيعة اختلفوا في عصمة الأنبياء، فقال أهل السنة: إن الأنبياء معصومون في تبليغ الأحكام الشرعية التي ينقلونها عن الله سبحانه وتعالى، وغير معصومين في غير ذلك وجوزوا عليهم الخطأ والنسيان والتردد والمعاصي، وقد ذكرنا هذا الرأي في موضوع عصمة الأنبياء، وقد وجد أن هنالك بعض علماء السنة يقولون بعصمة الأنبياء مطلقا، وهذا على المستوى النظري ولكنهم في نفس الحين يوردون روايات تدل على نقض هذا
أما الشيعة فإنهم يقولون بالعصمة المطلقة حتى عن الخطأ والسهو والنسيان، وهذا هو إجماعهم ولم يشذ عنه إلا واحد من علمائهم إذ قال بجواز السهو على النبي (ص)، فرد عليه جماعة علماؤهم بأنه إن جاز السهو على أحد من أصحاب المكانة العالية، فهو أولى بهذا العالم من النبي (ص).
وخلال مباحثات طويلة أجريتها مع بعض العلماء، وبحث في الكتب ونقاش في ساحات الحوار وصلت إلى نتيجة وهي (أن الأنبياء معصومون مطلقا) ووجدت لهذه النتيجة أدلة من كتب كلا الفريقين، ووجدت أن اختلافنا مع الشيعة لا يمنع من الاقتناع من أدلتهم حول العصمة، من حيث أنها في صدد الدفاع عن الإسلام وفي صدد تنزيه الأنبياء ووصفهم بما يليق بهم من الصفات الكمالية، التي تليق بمقام من اختاره الله لهداية البشرية.
ووجدت أن اتباعنا لمذهب أهل السنة لا يلزمنا بأن نأخذ ما لا يتطابق مع الدليل الصحيح، وخصوصا إذا كان أخذنا لمثل هذه الأمور ليس ناشئ عن اعتقادنا بها وإنما ناشئ عن أنا لو رفضناها نكون قد طعنا في من نرى نزاهته، ونسينا أن مكانة الأنبياء أحق أن تحفظ، وأنه لا ينبغي أن نجامل أحد على حساب الأنبياء، وينبغي أن نرفض كل فضيلة ومنقبة لأي شخص مهما كان خطره إذا كانت على حساب الأنبياء.
وأنا الآن لست بصدد توضيح ما قصد لأنني أفترض في من يقرأ مثل هذا الكلام أن لديه الخليفة التاريخية الكافية، ومن أراد أمثلة تاريخية بعد ذلك
وأحب أن يعلم الجميع أني لست بصدد الدفاع عن مذهب على حساب مذهب، وإنما أنا بصدد الدفاع عن مكانة الأنبياء التي أوجب الله على كل المسلمين الدفاع عنهم وأرجو من كل من يعتقد أنه مسلم أن لا يتردد في الدفاع، وأرى أن أكون آلة في أيدي الشيعة لدفاع عن نبي الإسلام (ص) أحب إلي من أن أكون آلة في يد أعداء الإسلام للهجوم عليه صلى الله عليه وسلم. والسلام.
الفصل الرابع
مناظرة بين التلميذ ومشارك في عصمة الأنبياء عليهم السلام
مناظرة بين التلميذ ومشارك في عصمة الأنبياء عليهم السلام
جرت هذه المناقشة في شبكة هجر، لكن ننقل نصها من شبكة سحاب، حيث نشرها مشارك هناك، بتاريخ 25 - 11 - 1999، الواحدة صباحا، بعنوان (مناظرة في عصمة الأنبياء انسحب من إكمالها كبير الروافض في شبكة هجر - التلميذ). وقال مشارك متبجحا، ولم يصدق في قوله:
هذه مناظرة حصلت بيني وبين التلميذ كبير الروافض وقد انسحب من إكمالها بحجة كثرة التشعبات!!!
والمجال مفتوح لمن أراد أن يكملها معي من الروافض في ساحتهم.
كتب (التلميذ) بتاريخ 15 - 8 - 1999، الثانية عشرة والنصف ليلا، موضوعا بعنوان (عصمة الأنبياء في القرآن الكريم)، قال فيه:
(الدليل الأول): إن الله سبحانه وتعالى يطرح في كتابه العزيز عصمة الأنبياء ويضفي عليهم هذا الوصف ويشهد لذلك مجموعة من الآيات:
- قال الله سبحانه وتعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين، وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من
84 - 88.
ثم إنه سبحانه يصف هذه الصفوة من عباده أي الأنبياء بقوله: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكر للعالمين). الأنعام: 90. فهذه الآية تصف الأنبياء بأنهم مهديون بهداية الله سبحانه على وجه يجعلهم القدوة والأسوة.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى نرى أنه سبحانه يصرح بأن من شملته الهداية الإلهية لا مضل له فيقول: (ومن يضلل فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضل). الزمر: 36 - 37.
- وفي آية ثالثة يصرح بأن حقيقة العصيان هي الانحراف عن الجادة الوسطى بل هي الضلالة، ويقول: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم، وقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون). يس: 60 - 62.
وبملاحظة هذه الطوائف الثلاث من الآيات تظهر عصمة الأنبياء بوضوح.
وتوضيح ذلك كالتالي: إنه سبحانه يصف الأنبياء في اللفيف الأول من الآيات بأنهم القدوة والأسوة والمهديون من الأمة. كما يصرح في اللفيف الثاني بأن من شملته الهداية الإلهية لا ضلالة ولا مضل له. كما أنه سبحانه يصرح في اللفيف الثالث بأن العصيان نفس الضلالة أو مقارنة وملازم له حيث يقول: (ولقد أضل منكم) وما كانت ضلالتهم إلا لأجل عصيانهم ومخالفتهم لأوامره ونواهيه.
وماذا عن النسيان يا تلميذ؟
وماذا عن الآيات التي لا تستقيم مع تفسيرك للعصمة؟
إلى المشارك: هل لديك نقض لهذا الدليل؟ بمعنى أن تثبت أن هذا الاستدلال بهذه الآيات وبهذه الكيفية لا يدل على العصمة.
أما النسيان - حسب قولك - والآيات التي ظاهرها لأول وهلة حصول المعصية من الأنبياء، فسيأتي عليها الكلام إن شاء الله تعالى، وسنثبت في محله أنها لا تفيد عدم عصمة الأنبياء عليهم السلام. فكلامنا في هذا الدليل من القرآن، إذا كان لديك نقض له فهاته، وإلا سننتقل إلى الدليل الثاني.
وكيف تجمع بين هذه الآيات وبين قوله تعالى: (ولا تكن كصاحب الحوت) (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه... إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك) (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك)، آمل أن تطرح عقيدتك كاملة، حتى نبين لك وجه الخطأ في استدلالك ببعض القرآن دون بعض.
إلى المشارك: أكرر، هل عندك إشكال أو نقض على استدلالي بالآيات أعلاه على عصمة الأنبياء، غير الآيات التي ظاهرها أنها تدل على عدم العصمة؟
إذا كان لديك نقض بغير ذلك فهاته، أما الآيات التي ذكرتها وغيرها فسيأتي عليها الكلام إن شاء الله تعالى، وسنتثبت لك بأنها لا تدل على عدم عصمة الأنبياء، ولا داعي للف والدوران.
سؤال محدد يحتاج منك فقط إلى شجاعة للإجابة عليه فأجب عليه، لماذا تلف وتدور؟ ثم تلجأ إلى طرح سؤال عن عقيدتي، ماذا تريد من عقيدتي؟
وأنت تعلم أني شيعي اثنا عشري. يا سبحان الله!
مساكين أنتم، تبدون الاستعداد للحوار والنقاش وهذا هو أسلوبكم في الحوار والنقاش، لف ودوران وهروب من موضوع الحوار إلى مواضيع أخرى لا علاقة لها بالحوار.
أجبني: هل عندك نقض لهذا الدليل غير الآيات التي ذكرتها؟
لن أستمر معك في اللف والدوران وسأطرح الدليل الثاني وأعتبرك أنك لم تأت بما ينقض هذا الدليل القرآني على عصمة الأنبياء.
وكتب (عربي 1)، الواحدة ظهرا:
الأخ الأستاذ التلميذ: لن تنتهي قصة مشارك أبدا، أكمل جزاك الله خيرا.
اللهم صل على محمد وآل محمد.
وكتب (المشارك)، الواحدة والنصف ظهرا:
هذه عقيدتنا في العصمة يا تلميذ:
الأنبياء هم صفوة البشر وأفضلهم معدنا: قال تعالى: (الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس)، ولكنهم بشر مثل بقية البشر يحصل لهم ما يحصل للبشر من السهو والنسيان: قال تعالى في قصة موسى والخضر: (قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا)، (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما)، وقال تعالى عن يوشع بن نون: (وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره)، وفي الحديث الذي يرويه الترمذي والحاكم: (ونسي آدم ، فنسيت ذريته)، ومن ذلك نسيان الرسول صلى الله عليه وسلم في غير البلاغ وفي غير أمور التشريع حينما صلى بهم إحدى صلاتي العشي ركعتين نسيانا ثم أتم الصلاة بعد ذلك حينما نبهه الصحابة، والحديث متفق عليه، وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولكني إنما أنا بشر، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني). رواه البخاري ومسلم وغيرهما، قال هذا بعد نسيانه في إحدى الصلوات . ويحصل منهم الذنب قبل البعثة وبعدها، وكذلك من الممكن أن يخطأ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ويذنبوا بعض الذنوب، ومن ذلك ما حكاه الله عن الأسباط أخوة يوسف والذين جاءتهم النبوة بعد قصتهم مع يوسف، ومما يدل على نبوتهم قوله عز وجل: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل
وحتى بعد البعثة يمكن أن يحصل الذنب من النبي، والأدلة على ذلك كثيرة منها قوله عز وجل: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر). وثبت في الصحيحين في حديث الشفاعة: أن المسيح يقول: اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم حتى تورم قدماه. فيقال له:
أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا؟ وقد قال تعالى: (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات).
وفي الصحيحين: عن هريرة أنه قال: يا رسول الله أرايت سكوتك بين التكبير والقراءة. ماذا تقول؟ قال: أقول (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والبرد والماء البارد).
وفي صحيح مسلم وغيره أنه كان يقول نحو هذا إذا رفع رأسه من الركوع وفي صحيح مسلم عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعاء الاستفتاح: اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي وعملت سوءا فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في سجوده: اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله علانيته وسره أوله وآخره وفي السنن عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بدابة ليركبها وإنه حمد الله وقال: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون. ثم كبره وحمده. ثم قال: سبحانك ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك وقال: إن الرب يعجب من عبده إذا قال: اغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، يقول:
علم عبدي أنه لا يغفر إلا أنا وغير ذلك كثير.
ولكن ييسر الله لهم التوبة من أخطائهم وذنوبهم في الدنيا، كما حكى الله عن أنبيائه ورسله في القرآن.
والأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه كانوا لا يؤخرون التوبة بل يسارعون إليها ويسابقون إليها لا يؤخرون ولا يصرون على الذنب بل هم معصومون من ذلك ومن أخر ذلك زمنا قليلا كفر الله ذلك بما يبتليه به. كما فعل بذي النون صلى الله عليه وسلم هذا على المشهور أن إلقاءه كان بعد النبوة، وأما من قال: إن إلقاءه كان قبل النبوة فلا يحتاج إلى هذا. والتائب من الكفر والذنوب قد يكون أفضل ممن لم يقع في الكفر والذنوب وإذا كان قد يكون أفضل فالأفضل أحق بالنبوة ممن ليس مثله في الفضيلة , وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها ومن اتبعهم على ما أخبر الله به في كتابه، وما ثبت عن رسوله من توبة الأنبياء عليهم السلام من الذنوب التي تابوا منها وهذه التوبة رفع الله بها درجاتهم. فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين. وعصمتهم هي من أن يقروا على الذنوب والخطأ فإن من سوى الأنبياء يجوز عليهم الذنب والخطأ من غير توبة والأنبياء عليهم السلام يستدركهم الله فيتوب عليهم ويبين لهم.
(رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين). سورة هود 47. وقول إبراهيم: (ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب). سورة إبراهيم 41 وقوله: (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين). سورة الشعراء 82. وقوله سبحانه:
(فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات). سورة محمد - 19 وقال تعالى: (وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين). سورة الأنبياء 87 - 88.
وقال تعالى: (واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق) إلى قوله: (ظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب) إلى قوله:
(ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب) الآية. سورة ص 17 - 35. وقول موسى: (أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك) وقوله (رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي).
ونحن نعتقد بعصمة الأنبياء فيما يبلغونه عن الله عز وجل، وقد اتفقت الأمة على أن الرسل معصومون في تحمل الرسالة فلا ينسون شيئا مما أوحاه الله
وبعصمتهم أيضا بما يستقر عليه أمرهم، فقد يجتهد النبي أو الرسول في أمر ما ثم يأتي حكم الله عز وجل بالتأييد أو التصحيح لما جاء عن الرسول، وعند ذلك لا يصح لنا الاقتداء بالسابق مما جاء عن الرسول إذا جاء ما ينسخه من الله ومن ذلك قوله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم)، فهل يجوز لنا تحريم ما أحل الله على أنفسنا؟
(ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم) مع أن يونس نبي من أنبياء الله (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عليم حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم).
إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود، فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهما. فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها فقضى به للصغرى). وقد اقتضت حكمته سبحانه وتعالى أن يرسل لنا بشرا من أمثالنا وليس كما طلب المشركون عندما طلبوا أن يكون الرسول من الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، والذين لا يأكلون ولا يشربون. قال تعالى:
(وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم) (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا).
شبهات والرد عليها:
الشبهة الأولى: هل هذا يقدح في الأنبياء وينقص من مكانتهم؟ وكذلك ما احتجوا به من أن الذنوب تنافي الكمال أو أنها ممن عظمت عليه النعمة أقبح أو أنها توجب التنفير أو نحو ذلك من الحجج العقلية، فهذا إنما يكون مع البقاء على ذلك وعدم الرجوع، وإلا فالتوبة النصوح التي يقبلها الله يرفع بها صاحبها إلى أعظم مما كان عليه كما قال بعض السلف: كان داود عليه السلام بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة، وقال آخر: لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه، وقد ثبت في الصحاح حديث التوبة لله أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلا.. الخ. وقد قال تعالى: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين). وقال تعالى: (إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات). وقد ثبت في الصحيح
والمقصود هنا أن ما تضمنته قصة ذي النون مما يلام عليه كله مغفور بدله الله به حسنات ورفع درجاته وكان بعد خروجه من بطن الحوت وتوبته أعظم درجة منه قبل أن يقع ما وقع. قال تعالى: (فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم فاجتباه ربه فجعله من الصالحين). وهذا بخلاف حال التقام الحوت فإنه قال: (فالتقمه الحوت وهو مليم). فأخبر أنه في تلك الحال مليم. والمليم: الذي فعل ما يلام عليه، فالملام في تلك الحال لا في حال نبذه بالعراء وهو سقيم، فكانت حاله بعد قوله: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، أرفع من حاله قبل أن يكون ما كان والاعتبار بكمال النهاية لا بما جرى في البداية والأعمال بخواتيمها، والله تعالى خلق الإنسان وأخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئا ثم علمه فنقله من حال النقص إلى حال الكمال فلا يجوز أن يعتبر قدر الإنسان بما وقع منه قبل حال الكمال، بل الاعتبار بحال كماله. ويونس صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء في حال النهاية حالهم أكمل الأحوال.
ومن هنا غلط من غلط في تفضيل الملائكة على الأنبياء والصالحين فإنهم اعتبروا الملائكة كمالا مع بداية الصالحين ونقصهم، فغلطوا ولو اعتبروا حال
الشبهة الثانية: هل هذا يخالف التأسي بهم والاقتداء؟
والقول الذي عليه جمهور الناس وهو الموافق للآثار المنقولة عن السلف إثبات العصمة من الاقرار على الذنوب مطلقا، والرد على من يقول: إنه يجوز إقرارهم عليها. وحجج القائلين بالعصمة إذا حررت إنما تدل على هذا القول وحجج النفاة لا تدل على وقوع ذنب أقر عليه الأنبياء، فإن القائلين بالعصمة احتجوا بأن التأسي بهم مشروع وذلك لا يجوز إلا مع تجويز كون الأفعال ذنوبا. ومعلوم أن التأسي بهم إنما هو مشروع في ما أقروا عليه دون ما نهوا عنه ورجعوا عنه، كما أن الأمر والنهي إنما تجب طاعتهم في ما لم ينسخ منه، فأما ما نسخ من الأمر والنهي فلا يجوز جعله مأمورا به ولا منهيا عنه فضلا عن وجوب اتباعه والطاعة فيه.
وقولهم هذا يكون صحيحا، لو بقيت معصية الرسول ظاهرة ومختلطة بالطاعة، أما وأن الله ينبه رسله وأنبياءه إلى ما وقع من مخالفات ويوفقهم إلى التوبة منها من غير تأخير، فإن ما أورده لا يصلح دليلا، بل يكون التأسي بهم في هذا منصبا على الاسراع في التوبة عند وقوع المعصية، وعدم التسويف في هذا تأسيا بالرسل والأنبياء الكرام في مبادرتهم بالتوبة من غير تأخير.
تنبيه مهم:
على أنه لا يجوز لنا أن نأخذ في موضوع ذنوب الأنبياء إلا ما صح في الكتاب والسنة فقط، وأما ما يرويه اليهود والنصارى وبعض
وأيضا: 1 - التائب من الذنب الذي لا يخص المخلوقين كمن لا ذنب له إذا قبل الله توبته، ودليل ذلك قوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم)، فالذي يتوب من ذلك ويصلح فإنه لا يعتبر فاسقا باتفاق. وأيضا لأن التوبة الصادقة تجب ما قبلها، وإلا لاعتبرنا أن الصحابة الذين كانوا كفارا قبل البعثة كفارا لا ينفعهم الإسلام لأنهم كانوا كفارا قبل ذلك وكانوا عصاة قبل ذلك.
2 - بالنسبة لآية (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده)، فيجب أن نجمع بينها وبين قوله عز وجل: (ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم)، وقوله عز وجل: (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم)، وقد ذكرت لك سابقا وجه الجمع بين هذه الآيات وأزيدك هنا بما يزيل الشبهة إن شاء الله. يقول تعالى: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شئ ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا إنك أنت العزيز الحكيم لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد).
فقد كان لإبراهيم مع أبيه موقفان: الموقف الأول: هو موقف الاستغفار وهو
1 - أنه مستثنى من الاقتداء والتأسي لقوله عز وجل (إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك). 2 - أن إبراهيم عليه السلام اعتبره خطيئة (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين). 3 - أن إبراهيم عليه السلام غير موقفه من أبيه وتبرأ منه. 4 - أننا نهينا عن الاستغفار للمشركين (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم).
وأما بالنسبة لموقف إبراهيم الثاني (التبرؤ) فإننا نقتدي به فيه وذلك للأسباب التالية:
1 - أن هذا هو آخر الأمرين منه صلى الله عليه وسلم، ونحن نعلم أن الأنبياء معصومون من الاقرار على الخطأ. 2 - أن الله أثنى عليه في ذلك. 3 - أن هذا هو ما أمرنا به في شريعتنا. وعلى هذا فنحن نقتدي بإبراهيم عليه الصلاة والسلام هنا في أمرين: الأول: في المسارعة إلى التوبة من الخطأ والاستغفار (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين). الثاني: في موقفه الأخير وهو التبرؤ.
وبهذا القول يمكن الجمع بين جميع الآيات. ولله الحمد والمنة.
وأما حول عقيدتي في عصمة الأنبياء فأظن أنك قد قرأت أقوال علماء الشيعة في عصمة الأنبياء من خلال نقل (فيصل نور) لها في موقعه، والذي قصصت منه ونقلته هنا! فراجع فما ذكره السيد المرتضى والشيخ المظفر وغيره هي عقيدتي في عصمة الأنبياء.
علما أنني سأرد على صاحبك فيصل نور من خلال سلسلة بعنوان (الحق المسطور في نقض شبهات فيصل نور) وسأفند كل مغالطاته وشبهاته فترقب ذلك.
سنترقب ردك على فيصل نور في سلسلتك، وأما هنا فأنا أترقب ردك على ما ذكرته لك من عقيدتي في العصمة، وأترقب إكمالك لعقيدتك، ليبدأ النقاش بعد ذلك، علما أن في جوابي السابق ردا على ما تعتقده لو تأملته.
إلى المشارك: سأنقض عقيدتك هذه إن شاء الله تعالى في عصمة الأنبياء في المستقبل، فلا أريد أن أخلط الحابل بالنابل، فبعد عجزك عن الرد على الدليل الأول ونقضه، نأتي إن شاء الله تعالى بالدليل الثاني.
وعقيدتي باختصار أن الأنبياء معصومون، قبل النبوة وبعدها بل من يوم الولادة إلى آخر أعمارهم، من الخطأ، والذنب، والسهو، والنسيان، فلا يصدر منهم شئ من ذلك.
أرجو أن نكمل هنا ولا داعي لتكثير المواضيع، وأنا في انتظارك عندما تنتهي من سرد عقيدتك وأدلتها.
فكتب (التلميذ)، السابعة مساء:
رجاؤك مرفوض للأسباب التي ذكرتها لك في (الدليل الثاني) فراجع هناك.
أبت الوصال مخافة الرقباء وأتتك تحت مدارع الظلماء هذا هو وصف القرين الذي يحاذيك بمعتقداته أيها الأخ (التلميذ) فقصة المماطلة، والتخريف في المنازلة، هو الخوف، والخوف خير فاضح.
فأنت بموضوعيتك غانم، ولم لا؟ لأن الدليل يرده الدليل ذو الضوء السليط على حدوده. وتبقى أساليب المصادرات جانبا ترتع فيها العقول الضحلة.
سأنتظرك يا تلميذ بعد أن تنتهي، وأما إن أردت أن تناقشني فعلى الرحب والسعة لأنني قد انتهيت من ذكر عقيدتي بأدلتها.
ولماذا تنتظرني (يا المشارك) هيا للنقاش، أدلتك دليلا دليلا على أن الأنبياء يجوز عليهم الخطأ والنسيان والسهو؟
أرجو أن تطرح دليلك الأول للنقاش كل دليل على حده، أليس هذا هو الأسلوب الأمثل في نقاش الأدلة والبراهين؟ أنا أنتظر منك طرح دليلك الأول.
لقد طرحت لك عقيدتي بأدلتها فناقشني فيما شئت، وسأجيبك إن شاء الله.
هل كل الأدلة التي ذكرتها أعلاه هي جميع الأدلة التي تستدل بها على عقيدتك في عدم تنزيه الأنبياء عن الذنب والخطأ والنسيان والسهو في غير مقام التبليغ؟
أم هناك أدلة أخرى؟
ثم إنه ذكرت الآيات دون كيفية الاستدلال بها، ولم تفعل كما فعلت أنا حيث ذكرت الآيات القرآنية مع طريقة وكيفية الاستدلال بها على عصمة الأنبياء، فالمطلوب منك أن تنقل الدليل كاملا - أعني أن تنقل الآية أو الرواية، ثم تنقل لنا كيفية الاستدلال بها على عدم العصمة - لا أن تنقل روايات وآيات دون أن تذكر كيفية الاستدلال بها، ولا داعي للمماطلة، هات أدلتك دليلا دليلا وستعرف عند نقض أدلتك أن عقيدتك باطلة وغير صحيحة، وذلك بعون الله إن شاء تعالى.
لا ليست هذه كل أدلتي. ولكن اختر منها ما تشاء للمناقشة، وبين وجهة اعتراضك وسأبين لك التفصيل فيها إن شاء الله، فتفضل يا تلميذ.
المشارك... كفاك لفا ودورانا!!
ومتى يصدر منهم ذلك؟ أجب على هذا السؤال فكفاك لعبا ولفا ودورانا وتضييعا للوقت وتهربا من الأجوبة.
لا حول ولا قوة إلا بالله، ألم نتفق على الاحترام المتبادل؟ عموما هذا ما عندي يا تلميذ (المشارك كفاك لفا ودوران) شكرا على النصيحة!
(أجبني على سؤالي هذا: هل تعتقد أن الأنبياء يرتكبون المعاصي ويخالفون الله سبحانه وتعالى في أوامره غير الإرشادية. وهل يفعلون كبائر الذنوب؟) تحصل منهم الصغائر ويوفقهم الله للتوبة منها قبل الموت والتفصيل في الأعلى بالأدلة، وبالنسبة للكبائر فهم معصومون منها.
(ومتى يصدر منهم ذلك؟)
يحصل قبل البعثة وبعدها والتفصيل في الأعلى بالأدلة.
(أجب على هذا السؤال فكفاك لعبا ولفا ودورانا وتضييعا للوقت وتهربا من الأجوبة). هذه الإجابة أعدتها لك، وشكرا على النصيحة!
إلى مشارك. قلت: (وقد ذكر الله في القرآن أيضا قصة قتل موسى للقبطي (فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين، قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم).
فكيف تستدل بقوله تعالى هذا على عدم عصمة موسى عليه السلام؟ وهل قتل موسى عليه السلام للقبطي معصية صغيرة أم كبيرة؟