نصّ حديث المنزلة وتصحيحه
أمّا نصّ الحديث في صحيح البخاري: حدّثنا محمّد بن بشّار، حدّثنا غندر، حدّثنا شعبة، عن سعد قال: سمعت إبراهيم بن سعد عن أبيه [ أي سعد بن أبي وقّاص ] قال النبي (صلى الله عليه وسلم) لعلي: " أما ترضى أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى "(1).
قال: وحدّثنا مسدّد، حدّثنا يحيى، عن شعبة، عن الحكم، عن مصعب ـ مصعب بن سعد بن أبي وقّاص ـ عن أبيه: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خرج إلى تبوك فاستخلف عليّاً فقال: أتكلّفني بالصبيان والنساء؟ قال: " ألا ترضى أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه ليس بعدي نبي "(2).
وأمّا لفظ مسلم، فإنّه يروي هذا الحديث بأسانيد عديدة لا بسند وسندين:
منها: ما يرويه بسنده عن سعيد بن المسيّب، عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص، عن أبيه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لعلي: " أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي ".
قال سعيد: فأحببت أنْ أُشافه بها سعداً، فلقيت سعداً فحدّثته بما حدّثني به عامر فقال: أنا سمعته، قلت: أنت سمعته؟ قال: فوضع إصبعيه على أُذنيه فقال: نعم، وإلاّ أُستكّتا(3).
في هذا الحديث، وفي هذا اللفظ نكت يجب الإلتفات إليها.
____________
1- صحيح البخاري 5/24 ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.
2- صحيح البخاري 6/3.
3- صحيح مسلم 4/1870 رقم 2404 ـ دارالفكر ـ بيروت ـ 1398 هـ.
فهذا حديث المنزلة في الصحيحين، وأنتم تعلمون بأنّ المشهور بينهم قطعيّة أحاديث الصحيحين، فجمهورهم على أنّ جميع أحاديث الصحيحين مقطوعة الصدور، ولا مجال للبحث عن أسانيد شيء من تلك الأحاديث، وللتأكّد من ذلك يمكنكم الرجوع إلى كتبهم في علوم الحديث، فراجعوا مثلاً كتاب تدريب الراوي في شرح تقريب النوّاوي للحافظ السيوطي، وبإمكانكم الرجوع إلى شروح ألفيّة الحديث كشرح ابن كثير وشرح زين الدين العراقي وغير ذلك، وحتّى لو راجعتم كتاب علوم الحديث لأبي الصلاح لرأيتم هذا المعنى، ويزيد شاه ولي الله الدهلوي في كتاب حجة الله البالغة، وهو كتاب معتبر عندهم ويعتمدون عليه، يزيد الأمر تأكيداً عندما يقول ـ وبعد أنْ يؤكّد على وقوع الإتفاق على هذا المعنى ـ يقول: اتفقوا على أنّ كلّ من يهوّن أمرهما [ أي أمر الصحيحين ] فهو مبتدعٌ متبع غير سبيل المؤمنين.
فظهر أنّ من يناقش في سند حديث المنزلة بحكم هذا الكلام الذي ادّعى عليه الاتفاق شاه ولي الله الدهلوي، كلّ من يناقش في سند حديث المنزلة فهو مبتدع متّبع غير سبيل المؤمنين.
وعندما تراجعون كتب الرجال، هناك اتفاق بينهم على قبول من أخرج له الشيخان، حتّى أنّ بعضهم قال: من أخرجا له فقد جاز القنطرة. بهذه العبارة!
ومن هنا نراهم متى ما أعيتهم السبل في ردّ حديث يتمسّك به الإمامية على إثبات حقّهم أو على إبطال باطل، عندما أعيتهم السبل عن الجواب يتذرّعون بعدم إخراج
____________
1- صحيح مسلم 4/1871 رقم
أذكر لكم مثالاً واحداً، وهو حديث: " ستفترق أُمّتي على ثلاث وسبعين فرقة "، هذا الحديث بهذا اللفظ غير موجود في الصحيحين، لكنّه موجود في السنن الأربعة، يقول ابن تيميّة في مقام الردّ على هذا الحديث(1): الحديث ليس في الصحيحين ولكن قد أورده أهل السنن ورووه في المسانيد كالإمام أحمد وغيره. ومع ذلك لا يوافق على هذا الحديث متذرّعاً بعدم وجوده في الصحيحين.
إلاّ أنّ الملفت للنظر لكلّ باحث منصف، أنّهم في نفس الوقت الذي يؤكّدون على قطعيّة صدور أحاديث الصحيحين، ويتخذون إخراج الشيخين للحديث أو عدم إخراجهما للحديث دليلاً وذريعة ووسيلة لردّ حديث أو قبوله، في نفس الوقت إذا رأوا في الصحيحين حديثاً في صالح الإماميّة يخطّئونه ويردّونه وبكلّ جرأة.
ولذا لو راجعتم إلى كتاب التحفة الإثنا عشرية(2) لوجدتم صاحب التحفة يبطل حديث هجر فاطمة الزهراء أبا بكر وأنّها لم تكلّمه إلى أن ماتت، يبطل هذا الحديث ويردّه مع وجوده في الصحيحين.
وينقل القسطلاني في إرشاد الساري في شرح البخاري(3)، وأيضاً ابن حجر المكي في كتاب الصواعق(4)، ينقلان عن البيهقي أنّه ضعّف حديث الزهري الدال على أنّ عليّاً (عليه السلام) لم يبايع أبا بكر مدّة ستّة أشهر، فالبيهقي يضعّف هذا الحديث ويحكي غيره كالقسطلاني وابن حجر هذا التضعيف في كتابه، مع أنّ هذا الحديث موجود في الصحيحين.
____________
1- منهاج السنة 3 / 456.
2- التحفة الاثنا عشرية: 278.
3- إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري 6 / 363.
4- الصواعق المحرقة: 90.
فيظهر: أنّ القضيّة تدور مدار مصالحهم، فمتى ما رأوا الحديث في صالحهم وأنّه ينفعهم في مذاهبهم، اعتمدوا عليه واستندوا إلى وجوده في الصحيحين، ومتى كان الحديث يضرّهم ويهدم أساساً من أُسس مذهبهم ومدرستهم، أبطلوا ذلك الحديث أو ضعّفوه مع وجوده في الصحيحين أو أحدهما، وهذا ليس بصحيح، وليس من دأب أهل العلم وأهل الفضل، وليس من دأب أصحاب الفكر وأصحاب العقيدة الذين يبنون فكرهم وعقيدتهم على أُسس متينة يلتزمون بها ويلتزمون بلوازمها.
وعندما نصل إلى محاولات القوم في ردّ حديث المنزلة أو المناقشة في سنده، سنرى أنّ عدّةً منهم يناقشون في سند هذا الحديث أو يضعّفونه بصراحة، مع وجوده في الصحيحين، فأين راحت قطعية صدور أحاديث الصحيحين؟ وما المقصود من الإصرار على هذه القطعية؟
ونحن أيضاً لا نعتقد بقطعيّة صدور أحاديث الصحيحين، ونحن أيضاً لا نعتقد بوجود كتاب صحيح من أوّله إلى آخره سوى القرآن الكريم.
لكن بحثنا معهم، وإنّما نتكلّم معهم على ضوء ما يقولون وعلى أساس ما به يصرّحون.
فإذا جاء دور البحث عن سند حديث المنزلة سترون أنّ عدّةً منهم من علماء الأصول ومن علماء الكلام يناقشون في سند حديث المنزلة ولا يسلّمون بصحّته، فيظهر أنّه ليس هناك قاعدة يلجأون إليها دائماً ويلتزمون بها دائماً، وإنّما هي أهواء يرتّبونها بعنوان قواعد، يذكرونها بعنوان أُسس، فيطبّقونها متى ما شاؤا ويتركونها متى ما شاؤا.
ولا بأس بذكر عدة من ألفاظ حديث المنزلة في غير الصحيحين من الكتب المعروفة المشهورة، وفي كلّ لفظ أذكره توجد خصوصية أرجو أنْ لا تفوت عليكم، وأرجو أنْ
في الطبقات لابن سعد، يروي هذا الحديث بطرق، ومنها: بسنده عن سعيد بن المسيّب، هذا نفس الحديث الذي قرأناه في صحيح مسلم، فقارنوا بين لفظه في الطبقات ولفظه في صحيح مسلم يقول سعيد:
قلت لسعد بن مالك ـ هو سعد بن أبي وقّاص ـ: إنّي أُريد أنْ أسألك عن حديث، وأنا أهابك أنْ أسألك عنه! قال: لا تفعل يا ابن أخي، إذا علمت أنّ عندي علماً فاسألني عنه ولا تهبني، فقلت: قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لعلي حين خلّفه في المدينة في غزوة تبوك، فجعل سعد يحدّثه الحديث(1).
لماذا عندما يريدون أن يسألوا عن حديث يتعلّق بعلي وأهل البيت يهابون الصحابي أن يسألوه، أمّا إذا كان يتعلّق بغيرهم فيسألونه بكلّ انطلاق وبكلّ سهولة وبكلّ ارتياح؟
ويروي محمّد بن سعد في الطبقات(2) باسناده عن البراء بن عازب وعن زيد بن أرقم قالا:
لمّا كان عند غزوة جيش العسرة وهي تبوك قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لعلي بن أبي طالب: " إنّه لابدّ أنْ أُقيم أو تقيم ".
يظهر أنّ في المدينة في تلك الظروف حوادث، وهناك محاولات أو مؤامرات سنقرأها في بعض الأحاديث الآتية، وكان لابدّ أنْ يبقى في المدينة إمّا رسول الله نفسه وإمّا علي ولا ثالث، أحدهما لابدّ أنْ يبقى، وأمّا الغزوة أيضاً فلابدّ وأنْ تتحقّق، فيقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي: " إنّه لابدّ أنْ أُقيم أو تقيم "، فخلّفه.
فلمّا فَصَلَ رسول الله غازياً قال ناس ـ وفي بعض الألفاظ: قال ناس من قريش، وفي بعض الألفاظ: قال بعض المنافقين ـ: ما خلّفه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلاّ لشيء كرهه منه، فبلغ
____________
1- طبقات ابن سعد 3/24 ـ دار صادر ـ بيروت ـ 1405 هـ.
2- طبقات ابن سعد 3/24.
وفي رواية خصائص النسائي(1) قال الناس: قالوا ملّه، أي ملّ رسول الله عليّاً وكره صحبته.
وفي رواية: قال علي لرسول الله: زعمت قريش أنّك إنّما خلّفتني أنّك استثقلتني وكرهت صحبتي، وبكى علي، فنادى رسول الله في الناس: " ما منكم أحد إلاّ وله خاصة، يابن أبي طالب، أما ترضى أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي؟ " قال علي: رضيت عن الله عزّوجلّ وعن رسوله.
وإذا راجعتم سيرة ابن سيّد الناس(2)، وكذا سيرة ابن قيّم الجوزية(3)، وسيرة ابن إسحاق(4)، وأيضاً في بعض المصادر الأُخرى: إنّ الذين قالوا ذلك كانوا رجالاً من المنافقين، ففي بعض الألفاظ: الناس، وفي بعض الألفاظ: قريش، وفي بعض الألفاظ: المنافقون، ومن هنا يظهر أنّ في قريش أيضاً منافقين، وهذا مطلب مهم.
وفي المعجم الأوسط للطبراني عن علي (عليه السلام) : إنّ النبي قال له: " خلّفتك أنْ تكون خليفتي "، قلت: أتخلّف عنك يا رسول الله؟ قال: " ألا ترضى أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي "(5).
ففيه: " خلّفتك أنْ تكون خليفتي ".
____________
1- الخصائص للنسائي: 67 رقم 44 و77 رقم61.
2- عيون الأثر 2/294 ـ مكتبة دار التراث ـ المدينة المنوّرة ـ 1413 هـ.
3- زاد المعاد 3/559 مـ 560 ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ 1408 هـ.
4- سيرة ابن هشام 2 / 519 ـ 520.
5- المعجم الأوسط 4/484 رقم 4248.
كنت أنا وأبو بكر وأبو عبيدة بن الجرّاح [ هؤلاء الثلاثة هم أصحاب السقيفة من المهاجرين ] ونفر من أصحاب النبي، وهو متّكىء [ أي النبي ] على علي بن أبي طالب، حتّى ضرب بيده على منكبيه ثمّ قال: " يا علي أنت أوّل المؤمنين إيماناً وأوّلهم إسلاماً، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى، وكذب من زعم أنّه يحبّني ويبغضك ".
وفي تاريخ ابن كثير(2): " أو ما ترضى أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ النبوّة ".
وفرق بين عبارة " إلاّ النبوّة " وبين عبارة " إلاّ أنّك لست بنبي " و " إلاّ أنّه لا نبي بعدي " فرق كثير بين العبارتين، يقول ابن كثير: إسناده صحيح ولم يخرجوه.
وفي تاريخ ابن كثير أيضاً(3) في حديث معاوية وسعد: إنّ معاوية وقع في علي فشتمه [ بنصّ العبارة ] فقال سعد: والله لأنْ تكون لي إحدى خلاله الثلاث أحبّ إليّ ممّا يكون لي ما طلعت عليه الشمس...، فيذكر منها حديث المنزلة.
إلاّ أن الزرندي الحافظ يذكر نفس الحديث يقول: عن سعد: إنّ بعض الأُمراء قال له:
____________
1- الجامع الكبير 16/244 رقم 7818 ـ دارالفكر ـ بيروت ـ 1414 هـ.
2- البداية والنهاية المجلد الرابع الجزء 7/340 ـ دار الفكر ـ بيروت.
3- البداية والنهاية المجلد الرابع الجزء 7/340.
فأراد أنْ لا يذكر اسم معاوية محاولةً لحفظ ماء وجهه وماء وجههم.
وفي تاريخ دمشق والصواعق المحرقة وغيرهما: إنّ رجلاً سأل معاوية عن مسألة فقال: سل عنها عليّاً فهو أعلم، قال الرجل: جوابك فيها أحبّ إليّ من جواب علي، قال معاوية: بئس ما قلت، لقد كرهت رجلاً كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يغرّه بالعلم غرّاً، ولقد قال له: " أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي "، وكان عمر إذا أشكل عليه شيء أخذ منه(2).
وتلاحظون أنّ في كلّ لفظ من هذه الألفاظ التي انتخبتها خصوصية، لابدّ من النظر إليها بعين الدقّة والإعتبار.
وانتهت الجهة الأُولى، أي جهة البحث عن السند والرواة.
____________
1- نظم درر السمطين: 107.
2- ترجمة الإمام علي (عليه السلام) من تاريخ دمشق 1/396 رقم 410، الرياض النضرة 3/162 ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت، مناقب الإمام علي (عليه السلام) للمغازلي: 34 رقم 52 ـ دار الأضواء بيروت ـ 1403.
دلالات حديث المنزلة
الجهة الثانية: في دلالات حديث المنزلة، وكما أشرنا من قبل، دلالات حديث المنزلة متعددة، وكلّ واحدة منها تكفي لأن تكون بوحدها دليلاً على إمامة أمير المؤمنين.
قبل كلّ شيء لابدّ أنْ نرى ما هي منازل هارون من موسى حتّى يكون علي نازلاً من النبي منزلة هارون من موسى، لنرجع إلى القرآن الكريم ونستفيد من الآيات المباركات منازل لهارون:
المنزلة الأُولى: النبوّة
قال تعالى: ( وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً )(1).
المنزلة الثانية: الوزارة
قال تعالى عن لسان موسى: ( وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي )(2)، وفي سورة الفرقان قال تعالى: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً )(3)، وفي سورة القصص عن لسان موسى: ( وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي
____________
1- سورة مريم: 53.
2- سورة طه: 29.
3- سورة الفرقان: 35.
المنزلة الثالثة: الخلافة
قال تعالى: ( وَقَالَ مُوسَى لاَِخِيه هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ )(2).
المنزلة الرابعة: القرابة القريبة
قال تعالى عن لسان موسى: ( وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُد بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي )(3).
ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يخبر في حديث المنزلة عن ثبوت جميع هذه المنازل القرآنية لهارون وغيرها كما سنقرأ، عن ثبوتها جميعاً لعلي ما عدا النبوة، لقد أخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) النبوة بعد شمول تلك الكلمة التي أطلقها، هي تشمل النبوة إلاّ أنّه أخرجها واستثناها استثناءً، لقيام الضرورة على أنْ لا نبي بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ويبقى غير هذه المنزلة باقياً وثابتاً لعلي (عليه السلام) ، وبيان ذلك:
إنّ عليّاً (عليه السلام) وإنْ لم يكن بنبي، وهذا هو الفارق الوحيد بينه وبين هارون في المراتب والمقامات والمنازل المعنوية الثابتة لهارون، وإنْ لم يكن بنبي، إلاّ أنّه (عليه السلام) يعرّف نفسه ويذكر بعض خصائصه وأوصافه في الخطبة القاصعة، نقرأ في نهج البلاغة يقول (عليه السلام) :
" ولقد علمتم موضعي من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد، يَضمّني إلى صدره ويكنفني في فراشه، ويمسّني جسده، ويشمّني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثمّ يلقمنيه، وما وجد لي كذبة بقول ولا خطلة في
____________
1- سورة القصص: 34.
2- سورة الأعراف: 142.
3- سورة طه: 31.
لاحظوا هذه الكلمة: " أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوّة، ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه، فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان قد أيس من عبادته ".
ثمّ لاحظوا ماذا يقول الرسول لعلي: " إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى، إلاّ أنّك لست بنبي ولكنّك وزير، وإنّك لعلى خير "(1).
أرجو الإنتباه إلى ما أقول، لتروا كيف تتطابق الآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة وكلام علي في الخطبة القاصعة، إنّ عليّاً وإنْ لم يكن بنبي لكنّه رأى نور الوحي والرسالة وشمّ ريح النبوّة.
أترون أنّ هذا المقام وهذه المنزلة تعادلها منازل جميع الصحابة من أوّلهم إلى آخرهم في المنازل الثابتة لهم؟ تلك المنازل لو وضعت في كفّة ميزان، ووضعت هذه المنزلة في كفّة، أترون أنّ تلك المنازل كلّها وتلك المناقب، تعادل هذه المنقبة الواحدة؟ فكيف وأنْ يُدّعى أنّ شيئاً من تلك المناقب المزعومة يترجّح على هذه المنقبة؟
علي لم يكن بنبي، لكنّه شمّ ريح النبوّة، لكنْ ما معنى هذه الكلمة بالدقّة، لا نتوصّل إلى معناها، وعقولنا قاصرة عن درك هذه الحقيقة، لم يكن بنبي إلاّ أنّه شمّ ريح النبوّة، وأيضاً: لم يكن علي نبيّاً إلاّ أنّه كان وزيراً، لمن؟ لرسول الله الذي هو أشرف الأنبياء وخير المرسلين وأكرمهم وأعظمهم وأقربهم إلى الله سبحانه وتعالى، وأين هذه المرتبة من
____________
1- نهج البلاغة 2/182 ـ مطبعة الإستقامة بمصر (محمّد عبده) .
ومن الأحاديث الشاهدة بوزارة علي (عليه السلام) لرسول الله، الحديث الذي ذكرناه في يوم الدار، يوم الإنذار، حيث قال: " فأيّكم يوآزرني على أمري هذا؟ " قال علي: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه، فقال: " إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا "(1).
وفي رواية الحلبي في سيرته: " إجلس، فأنت أخي ووزيري ووصيّي ووارثي وخليفتي من بعدي "(2).
وفي تاريخ دمشق، وفي المرقاة، وفي الدر المنثور، وفي الرياض النضرة، يروون عن ابن مردويه وعن ابن عساكر وعن الخطيب البغدادي وغيرهم، عن أسماء بنت عميس قالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: " اللهمّ إنّي أقول كما قال أخي موسى: اللهمّ اجعل لي وزيراً من أهلي أخي عليّاً، اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبّحك كثيراً ونذكرك كثيراً، إنّك كنت بنا بصيراً "(3).
وأيضاً، هذه دلالات حديث المنزلة، لاحظوا كيف تتطابق الآيات والروايات وكلام علي بالذات؟
إنّ لعلي (عليه السلام) موضعاً من رسول الله يقول: " قد علمتم موضعي من رسول الله بالقرابة القريبة "، هذه القرابة القريبة في قصّة موسى وهارون قول موسى: ( وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي )، ومن هنا سيأتي أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد ذكر حديث المنزلة في قصة المؤاخاة بينه وبين علي عليهما الصلاة والسلام.
____________
1- تفسير البغوي 4 / 278، ومصادر أُخرى.
2- السيرة الحلبيّة 1 / 461.
3- ترجمة الإمام علي (عليه السلام) من تاريخ دمشق 1/120 ـ 121 رقم 147، الدر المنثور 5/566 ـ دارالفكر ـ بيروت ـ 1403 هـ، الرياض النضرة 3/118 ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت.
فإنّ الأوصاف الثلاثة هذه ـ أي الإيمان والهجرة وكونه ذا رحم ـ لا تنطبق إلاّ على علي، فيظهر أنّ القرابة القريبة هي جزء من مقوّمات الخلافة والولاية بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
وقد ذكر الفخر الرازي بتفسير الآية المذكورة استدلال محمّد ابن عبدالله بن الحسن ابن الحسن المجتبى (عليه السلام) بالآية المباركة هذه، في كتاب له إلى المنصور العباسي، استدلّ بهذه الآية على ثبوت الأولوية لعلي، وأجابه المنصور بأنّ العباس أولى بالنبي من علي، لأنّه عمّه وعلي ابن عمّه، ووافق الفخر الرازي الذي ليس من العباسيين، وافق العباسيين في دعواهم هذه، لا حبّاً للعباسيين، وإنّما؟
والفخر الرازي نفسه يعلم بأنّ العباس عمّ النبي، ولكن العباس ليس من المهاجرين، إذ لا هجرة بعد الفتح، فكان علي هو المؤمن المهاجر ذا الرحم، ولو فرضنا أنّ في الصحابة غير علي من هو مؤمن ومهاجر، والإنصاف وجود كثيرين منهم كذلك، إلاّ أنّهم لم يكونوا بذي رحم، ويبقى العباس وقد عرفتم أنّه ليس من المهاجرين، فلا تنطبق الآية إلاّ على علي.
وهذا وجه استدلال محمّد بن عبدالله بن الحسن في كتابه إلى المنصور، وقد كان الرجل عالماً فاضلاً عارفاً بالقرآن الكريم، والفخر الرازي في هذا الموضع يوافق العباسيين و المنصور العباسي، ويخالف الهاشميين والعلويين حتّى لا يمكن ـ بزعمه ـ الاستدلال بالآية على إمامة علي أمير المؤمنين.
فقوله تعالى: ( وَأُولُوا الاَْرْحَامِ ) دليل آخر على إمامة علي، ومن هنا يظهر: أنّ استدلال علي (عليه السلام) وذكره القرابة القريبة كانت إشارة إلى ما في هذه الناحية من الدخل في مسألة الإمامة والولاية.
____________
1- سورة الأحزاب: 6.
ومن منازل هارون:
أعلميّته بعد موسى من جميع بني إسرائيل ومن كلّ تلك الأُمّة، وقد ثبتت المنزلة هذه بمقتضى تنزيل علي منه بمنزلة هارون من موسى لأمير المؤمنين (عليه السلام) ، وإلى الأعلميّة هذه يشير علي (عليه السلام) في الأوصاف التي ذكرها لنفسه في هذه الخطبة وفي غير هذه الخطبة.
في هذه الخطبة يقول: " كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أُمّه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالإقتداء به ".
ويقول (عليه السلام) في خطبة أُخرى بعد أنْ يذكر العلم بالغيب يقول: " فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلاّ الله، وما سوى ذلك [ أي ما سوى ما اختصّ به سبحانه وتعالى لنفسه ]فعلم علّمه الله نبيّه، فعلّمنيه ودعا لي بأنْ يعيه صدري وتضْطَمّ عليه جوانحي ".
وأيضاً: تظهر أعلميّته (عليه السلام) من قوله في نفس هذه الخطبة عن رسول الله حيث خاطبه بقوله: " إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى ".
وأيضاً: رسول الله يقول في علي: " أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها ".
هذا الحديث هو الآخر من الأحاديث الدالة على إمامة أمير المؤمنين سلام الله عليه، وكان ينبغي أن نخصّص ليلة للبحث عن هذا الحديث الشريف، لنتعرّض هناك عن أسانيده ودلالاته، ولنتعرّض أيضاً لمحاولات القوم في ردّه وإبطاله، وما ارتكبوه من الكذب والدسّ والتزوير والتحريف.
من دلالات حديث المنزلة العصمة:
وهل من شك في ثبوت العصمة لهارون؟ وقد نزّل رسول الله أمير المؤمنين منزلة هارون، ولم يدّع أحد من الصحابة العصمة، كما لم يدّعها أحد لواحد من الصحابة، سوى أمير المؤمنين (عليه السلام) .
وحينئذ هل يجوّز عاقل أن يكون الإمام بعد رسول الله غير معصوم مع وجود المعصوم؟
وهل يجوّز العقل أنْ يجعل غير المعصوم واسطة بين الخلق والخالق مع وجودالمعصوم؟
وهل يجوز عقلاً وعقلاءاً الإقتداء بغير المعصوم مع وجود المعصوم؟
وإلى مقام العصمة يشير علي (عليه السلام) عندما يقول ويصرّح بأنّه كان يرى نور الوحي والرسالة ويشمّ ريح النبوة.
وهل يعقل أن يترك مثل هذا الشخص ويقتدى بمن ليس له أقلّ قليل من هذه المنزلة؟
ولا يخفى عليكم أنّ الذي كان يسمعه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنّ الذي كان يراه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، هو أسمى وأجلّ وأرقى وأرفع ممّا كان يراه ويسمعه غيره من الأنبياء السابقين
____________
1- سورة القصص: 78.
2- تفسير البغوي 4/357 ـ دارالفكر ـ بيروت ـ 1405 هـ.
3- تفسير الجلالين 2/201 ـ نشر مصطفى البابي الحلبي بمصر ـ 1388 هـ.
من خصائص هارون ومنازله:
أنّ الله سبحانه وتعالى أحلّ له ما لم يكن حلالاً لغيره في المسجد الأقصى، وبحكم حديث المنزلة يتمّ هذا الأمر لعلي وأهل بيته بالخصوص، ويكون هذا من جملة ما يختصّ بأمير المؤمنين وأهل البيت الطاهرين ويميّزهم عن الآخرين، فيكونون أفضل من هذه الناحية أيضاً من غيرهم.
والشواهد لهذا الحديث ولهذا التنزيل في الأحاديث كثيرة، ومن ذلك: حديث سدّ الأبواب، وهذه ألفاظ تتعلّق بهذا الموضوع في السنّة النبويّة الشريفة المتفق عليها بين الفريقين، وأنا أنقل لكم من بعض المصادر المعتبرة عند أهل السنّة:
أخرج ابن عساكر في تاريخه، وعنه السيوطي في الدرّ المنثور(1): إنّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خطب فقال: " إنّ الله أمر موسى وهارون أن يتبوّءا لقومهما بيوتاً، وأمرهما أنْ لا يبيت في مسجدهما جنب، ولا يقربوا فيه النساء، إلاّ هارون وذريّته، ولا يحلّ لأحد أن يقرب النساء في مسجدي هذا ولا يبيت فيه جنب إلاّ علي وذريّته ".
وفي مجمع الزوائد عن علي (عليه السلام) قال: أخذ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بيدي فقال: " إنّ موسى سأل ربّه أنْ يطهّر مسجده بهارون، وإنّي سألت ربّي أنْ يطهّر مسجدي بك وبذريّتك "، ثمّ أرسل إلى أبي بكر أنْ سدّ بابك، فاسترجع [ أي قال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون ] ثمّ قال: سمعٌ وطاعة، فسدّ بابه، ثمّ أرسل إلى عمر، ثمّ أرسل إلى العباس بمثل ذلك، ثمّ قال رسول الله: " ما أنا سددت أبوابكم وفتحت باب علي، ولكن الله فتح باب علي وسدّ أبوابكم "(2).
وفي مجمع الزوائد وكنز العمال وغيرهما ـ واللفظ للأوّل ـ: لمّا أخرج أهل المسجد
____________
1- ترجمة الإمام علي (عليه السلام) من تاريخ دمشق 1/296، الدر المنثور 4/383.
2- مجمع الزوائد 9/114.
وفي كتاب المناقب لأحمد بن حنبل، وكذا في المسند، وفي المستدرك للحاكم، وفي مجمع الزوائد، وتاريخ دمشق، وغيرها(2) عن زيد بن أرقم قال: كانت لنفر من أصحاب رسول الله أبواب شارعة في المسجد، فقال يوماً: " سدّوا هذه الأبواب إلاّ باب علي "، قال: فتكلّم في ذلك ناسٌ، فقام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: " أمّا بعد، فإنّي أمرت بسدّ هذه الأبواب غير باب علي، فقال فيه قائلكم، والله ما سددت شيئاً ولا فتحته، ولكن أُمرت بشيء فاتّبعته ".
وهذا الحديث موجود في صحيح الترمذي، وفي الخصائص للنسائي(3)، وغيرهما من المصادر أيضاً.
ولذا كانت قضية سدّ الأبواب من جملة موارد قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : " علي منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي ".
وإلى الآن ظهرت دلالة حديث المنزلة على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) :
من جهة ثبوت العصمة له.
ومن جهة ثبوت الأفضلية له.
ومن جهة ثبوت بعض الخصائص الأُخرى الثابثة لهارون.
____________
1- مجمع الزوائد 9/115، كنز العمال 11/600 رقم 32887 ـ دار إحياء التراث.
2- فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) لأحمد بن حنبل: 72 رقم 109، مسند أحمد 5/496 رقم 18801، مستدرك الحاكم 3/125، مجمع الزوائد 9/114، ترجمة الإمام علي (عليه السلام) من تاريخ دمشق 1/279 ـ 280 رقم 324، الرياض النضرة 3/158.
3- خصائص النسائي: 59 رقم 38.
دلالة حديث المنزلة
على خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام)
ننتقل الآن إلى دلالة هذا الحديث على خصوص الخلافة والولاية، فيكون نصّاً في المدّعى.
ولا ريب في أنّ من منازل هارون: خلافته عن موسى (عليه السلام) ، قال تعالى عن لسان موسى يخاطب هارون: ( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ )(1).
فكان هارون خليفة لموسى، وعلي بحكم حديث المنزلة خليفة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فيكون هذا الحديث نصّاً في الخلافة والإمامة والولاية بعد رسول الله.
ومن جملة آثار هذه الخلافة: وجوب الطاعة المطلقة، ووجوب الإنقياد المطلق، والطاعة المطلقة والإنقياد المطلق يستلزمان الإمامة والولاية العامة.
ولا يتوهمنّ أحدٌ بأنّ وجوب إطاعة هارون ووجوب الإنقياد المطلق له كان من آثار وأحكام نبوّته، لا من آثار وأحكام خلافته عن موسى، حتّى لا تجب الإطاعة المطلقة لعلي، لأنّه لم يكن نبيّاً.
هذا التوهم باطل ومردود، وإنْ وقع في بعض الكتب من بعض علمائهم، وذلك لأنّ وجوب الإطاعة المطلقة إنْ كان من آثار النبوّة لا من آثار الخلافة، إذن لم يثبت وجوب الإطاعة للمشايخ الثلاثة، لأنّهم لم يكونوا أنبياء، وأيضاً: لم يثبت وجوب الإطاعة
____________
1- سورة الأعراف: 142.
فإذن، وجوب الإطاعة لهارون كان بحكم خلافته عن موسى لا بحكم نبوّته، وحينئذ تجب الإطاعة المطلقة لعلي (عليه السلام) بحكم خلافته عن رسول الله، وبحكم تنزيله من رسول الله منزلة هارون من موسى. فالمناقشة من هذه الناحية مردودة.
وإذا ما رجعنا إلى الكتب المعنيّة بمثل هذه البحوث، لرأينا تصريح علمائهم بدلالة حديث المنزلة على خلافة علي (عليه السلام) .
فراجعوا مثلاً كتاب التحفة الإثنا عشرية الذي ألّفه مؤلّفه ردّاً على الشيعة الإمامية الإثنا عشرية، فإنّه يعترف هناك بدلالة حديث المنزلة على الخلافة، بل يضيف أنّ إنكار هذه الدلالة لا يكون إلاّ من ناصبي ولا يرتضي ذلك أهل السنة.
إنّما الكلام في ثبوت هذه الخلافة بعد رسول الله بلا فصل، أمّا أصل ثبوت الخلافة لأمير المؤمنين بعد رسول الله بحكم هذا الحديث فلا يقبل الإنكار، إلاّ إذا كان من النواصب المعاندين لأمير المؤمنين (عليه السلام) ، كما نصّ على ذلك صاحب التحفة الإثنا عشرية.
يقول صاحب التحفة هذا الكلام ويعترف بهذا المقدار من الدلالة.
إلاّ أنّك لو راجعت كتب الحديث وشروح الحديث لرأيتهم يناقشون حتّى في أصل دلالة حديث المنزلة على الخلافة والولاية بعد رسول الله، أي ترى في كتبهم ما ينسبه صاحب التحفة إلى النواصب، ويقولون بما يقوله النواصب.
فراجعوا مثلاً شرح حديث المنزلة في كتاب فتح الباري لابن حجر العسقلاني الحافظ، وشرح صحيح مسلم للحافظ النووي، والمرقاة في شرح المشكاة، تجدوهم في شرح حديث المنزلة يناقشون في دلالة هذا الحديث على أصل الإمامة والولاية، وهذا ما كان صاحب التحفة ينفيه عن أهل السنّة وينسبه إلى النواصب.
أقرأ لكم عبارة النووي في شرح صحيح مسلم، ونفس العبارة أو قريب منها موجود
يقول: ويؤيّد هذا أنّ هارون المشبّه به لم يكن خليفة بعد موسى، بل توفي في حياة موسى قبل وفاة موسى بنحو أربعين سنة على ما هو المشهور عند أهل الأخبار والقصص، قالوا: وإنّما استخلفه ـ أي استخلف موسى هارون ـ حين ذهب لميقات ربّه للمناجاة، فكانت الخلافة هذه خلافة موقتة، وكانت في قضية خاصة محدودة، وليس فيها أي دلالة على الخلافة بالمعنى المتنازع فيه أصلاً.
وهل هذا إلاّ كلام النواصب الذي يأبى أن يلتزم به مثل صاحب التحفة، فينسبه إلى النواصب؟
وأمّا ما يقوله ابن تيميّة وغير ابن تيميّة من أصحاب الردود على الشيعة الإماميّة، فسنذكر مقاطع من عباراتهم، لتعرفوا من هو الناصبي، وتعرفوا النواصب أكثر وأكثر.
وإلى هنا بيّنا وجه دلالة حديث المنزلة على الخلافة والإمامة والولاية بعد رسول الله بالنص، وأنّ صاحب التحفة لا ينكر هذه الدلالة، وإنّما يقول بأنّ الدلالة على الإمامة بلا فصل أوّل الكلام، لأن النزاع والكلام في دلالة الحديث على الإمامة بعد رسول الله مباشرة.
____________
1- شرح النووي لصحيح مسلم المجلد الثامن الجزء 15/174.