الصفحة 399
تلك القيود كلّها منطبقة على المهدي سلام الله عليه، لأنّ هذا الإمام عندما يظهر يجتمع الناس على القول بإمامته، وأنّ الله سبحانه وتعالى سيعزّ الإسلام بدولته، وأنّه سيظهر دينه على الدين كلّه، وجميع تلك القيود والمواصفات التي وردت في أحاديث الأئمّه اثنا عشر كلّها منطبقة على المهدي سلام الله عليه.

وببالي أنّي رأيت في بعض الكتب التي حاولوا فيها ذكر الخلفاء بعد رسول الله من بني أُميّة وغيرهم، يعدّون المهدي أيضاً من أُولئك الخلفاء الإثني عشر، الذين أخبر عنهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الأحاديث التي درسناها في الليلة الماضية.

وإلى الآن عرفنا الاتفاق على ثلاثة نقاط:

النقطة الأُولى: أنّ في هذه الأُمّة مهدياً.

النقطة الثانية: أنّ لكلّ زمان إماماً يجب على كلّ مسلم معرفته والإيمان به والالتزام بطاعته والانقياد له.

النقطة الثالثة: أنّ المهدي (عليه السلام) الذي أخبر عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في تلك الأحاديث الكثيرة، نفس المهدي الذي يكون الإمام الثاني عشر من الأئمّة الذين أخبر عن إمامتهم من بعده في أحاديث الأئمّة إثنا عشر.

وإلى الآن عرفنا المشتركات بين المسلمين، فإنّه إلى هنا لا خلاف بين طوائف المسلمين، ويكون المهدي حينئذ أمراً مفروغاً منه ومسلّماً في هذه الأُمّة، والمهدي هو الثاني عشر من الأئمّة الإثني عشر، فهو الإمام الحق الذي يجب معرفته والاعتقاد به، وأنّ من مات ولم يعرف المهدي مات ميتة جاهلية.

وهنا قالت الشيعة الإمامية الإثنا عشرية: إنّ الذي عرفناه مصداقاً لهذه النقاط هو ابن الحسن العسكري، ابن الإمام الهادي، ابن الإمام الجواد، ابن الإمام الرضا، ابن الإمام الكاظم، ابن الإمام الصادق، ابن الإمام الباقر، ابن الإمام السجاد، ابن الحسين الشهيد، ابن علي بن أبي طالب، سلام الله عليهم أجمعين.


الصفحة 400
فهذه عقيدة الشيعة، فهم يطبّقون تلك النقاط الثلاثة المتفق عليها على هذا المصداق.

فهل هناك حديث عند الجمهور يوافق الشيعة الإماميّة، ويدلّ على ما تذهب إليه الشيعة الإماميّة في هذا التطبيق؟

هل هناك حديث أو أحاديث من طرق أهل السنّة توافق هذا التطبيق وتؤيّد هذا التطبيق أو لا؟

من هنا يشرع البحث بين الشيعة وغير الشيعة، هذه عقيدة الشيعة ولهم عليها أدلّتهم من الكتاب والسنّة وغير ذلك، وما بلغهم وما وصلهم عن أئمّة أهل البيت الصادقين سلام الله عليهم.

لكن هل هناك ما يدلّ على هذا الاعتقاد في كتب أهل السنّة أيضاً، لتكون هذه العقيدة مؤيَّدة ومدعمة من قبل روايات السنّة، ويمكن للشيعة الإماميّة أنْ تلزم أولئك بما رووا في كتبهم أو لا؟

نعم وردت روايات في كتب القوم مطابقة لهذا الاعتقاد، إذن، يكون هذا الاعتقاد متفقاً عليه حسب الروايات وإن لم يكن القوم يعتقدون بهذا الاعتقاد بحسب الأقوال، إلاّ أنّا نبحث أوّلاً عن العقيدة على ضوء الأدلّة، ثمّ على ضوء الأقوال والآراء، فلنقرأ بعض تلك الروايات:

الرواية الأُولى: قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : "لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل الله عزّوجلّ ذلك اليوم حتّى يبعث فيه رجلاً من ولدي اسمه اسمي، فقام سلمان الفارسي فقال: يا رسول الله، من أيّ ولدك؟ قال: من وَلَدي هذا. وضرب بيده على الحسين".

هذه الرواية في المصادر عن أبي القاسم الطبراني(1)، ومحب الدين الطبري(2)، وأبي

____________

1- المعجم الكبير 10/166 رقم 10222 باختلاف.

2- ذخائر العقبى: 136 باب ما جاء ان المهدي من ولد الحسين.


الصفحة 401
نعيم الإصفهاني(1)، وابن قيّم الجوزية(2)، ويوسف بن يحيى المقدسي(3)، وشيخ الإسلام الجويني(4)، وابن حجر المكي صاحب الصواعق(5).

الحديث الثاني: قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لبضعته الزهراء سلام الله عليها وهو في مرض وفاته: "ما يبكيك يا فاطمة، أما علمت أنّ الله اطّلع إلى الأرض إطّلاعة أو اطْلاعة فاختار منها أباك فبعثه نبيّاً، ثمّ اطّلع ثانية فاختار بعلك، فأوحى إليّ فأنكحته إيّاك واتّخذته وصيّاً، أما علمت أنّكِ بكرامة الله إيّاك زوّجك أعلمهم علماً، وأكثرهم حلماً، وأقدمهم سلماً. فضحكت واستبشرت، فأراد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يزيدها مزيد الخير، فقال لها: ومنّا مهدي الأُمّة الذي يصلّي عيسى خلفه، ثمّ ضرب على منكب الحسين فقال: من هذا مهدي الأُمّة".

وهذا الحديث رواه كما في المصادر: أبو الحسن الدارقطني، أبو المظفر السمعاني، أبو عبدالله الكنجي، وابن الصبّاغ المالكي(6).

الحديث الثالث: قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : "يخرج المهدي من ولد الحسين من قبل المشرق، لو استقبلته الجبال لهدمها واتّخذ فيها طرقاً".

وهذا الحديث كما في المصادر عن نعيم بن حمّاد، والطبراني، وأبي نعيم، والمقدسي صاحب كتاب عقد الدرر في أخبار المنتظر(7).

____________

1- الأربعون حديثاً في المهدي، وقد رواه عنه العلماء بالأسانيد.

2- المنار المنيف: 148.

3- عقد الدرر في أخبار المنتظر: 56 ـ انتشارات نصايح ـ قم ـ 1416 هـ.

4- فرائد السمطين 2/325 رقم 575 عن حذيفة بن اليمان ـ مؤسسة المحمودي ـ بيروت ـ 1400 هـ.

5- الصواعق المحرقة: 249 وما بعدها.

6- البيان في أخبار صاحب الزمان للكنجي الشافعي: 502 (ضمن كفاية الطالب) ـ دار احياء تراث أهل البيت ـ طهران ـ 1404 هـ.

الفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكي: 296 ـ منشورات الأعلمي ـ طهران.

7- عقد الدرر للسلمي الشافعي: 223.


الصفحة 402
هذا بحسب الروايات.

وأمّا بحسب أقوال العلماء المحدّثين والمؤرّخين والمتصوفين، هؤلاء أيضاً يصرّحون بأنّ المهدي ابن الحسين، أي من ذريّة الحسين، ويضيفون على ذلك أنّه ابن الحسن العسكري، وأيضاً مولود وموجود، هؤلاء عدة كبيرة من العلماء من أهل السنّة في مختلف العلوم، أذكر أشهرهم:

أحمد بن محمّد بن هاشم البلاذري، المتوفى سنة 279 هـ.

أبو بكر البيهقي، المتوفى سنة 458 هـ.

ابن الخشّاب، المتوفى سنة 567 هـ.

ابن الأزرق المؤرخ، المتوفى سنة 590 هـ.

ابن عربي الأندلسي صاحب الفتوحات المكية، المتوفى سنة 638 هـ.

ابن طلحة الشافعي، المتوفى سنة 653 هـ.

سبط ابن الجوزي الحنفي، المتوفى سنة 654 هـ.

الكنجي الشافعي، المتوفى سنة 658 هـ.

صدر الدين القونوي، المتوفى سنة 672 هـ.

صدر الدين الحموي، المتوفى سنة 723 هـ.

عمر بن الوردي المؤرخ الصوفي الواعظ، المتوفى سنة 749 هـ.

صلاح الدين الصفدي صاحب الوافي بالوفيات، المتوفى سنة 764 هـ.

شمس الدين ابن الجزري، المتوفى سنة 833 هـ.

ابن الصبّاغ المالكي، المتوفى سنة 855 هـ.

جلال الدين السيوطي، المتوفى سنة 911 هـ.

عبد الوهاب الشعراني الفقيه الصوفي، المتوفى سنة 973 هـ.

ابن حجر المكي، المتوفى سنة 973 هـ.

علي القاري الهروي، المتوفى سنة 1013 هـ.


الصفحة 403
عبد الحق الدهلوي، المتوفى سنة 1052 هـ.

شاه ولي الله الدهلوي، المتوفى سنة 1176 هـ.

القندوزي الحنفي، المتوفى سنة 1294 هـ.

فظهر إلى الآن:

أوّلاً: أنّ المهدي (عليه السلام) من هذه الأُمّة.

ثانياً: المهدي (عليه السلام) من بني هاشم.

ثالثاً: المهدي (عليه السلام) من عترة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) .

رابعاً: المهدي (عليه السلام) من ولد فاطمة (عليها السلام) .

خامساً: المهدي (عليه السلام) من ولد الحسين (عليه السلام) .

ولكلّ واحد من هذه النقاط: كونه من هذه الأُمّة، كونه من بني هاشم، كونه من عترة النبي، كونه من ولد فاطمة، كونه من ولد الحسين، لكلّ بند من هذه البنود، روايات خاصة، ولم نتعرض لها لغرض الاختصار.

فانتهينا إذن من الفصل الأول.


الصفحة 404

الصفحة 405

الفصل الثاني

هناك بحوث تدور حول روايات في كتب السنّة تخالف هذا الذي انتهينا إليه، ولربّما اتّخذ بعض العلماء من أهل السنّة ما دلَّت عليه تلك الروايات عقيدةً لهم، ودافعوا عن تلك العقيدة، إلاّ أنّنا في بحوثنا حقّقنا أنّ تلك الروايات المخالفة لهذا العقيدة، إمّا ضعيفة سنداً، وإمّا فيها تحريف، والتحريف تارةً يكون عمداً، وتارة يكون سهواً، وتلك البحوث هي:

أوّلاً: الخبر الواحد الذي ورد في بعض كتبهم في أنّ "المهدي هو عيسى ابن مريم"(1)، فليس من هذه الأُمّة، وإنّما المهدي هو عيسى بن مريم، فالمهدي الذي أخبر به رسول الله في تلك الروايات الكثيرة المتواترة التي دوّنها العلماء في كتبهم، وأصبحت روايات موضع وفاق بين المسلمين، وأصبحت من ضمن عقائد المسلمين، المراد من المهدي في جميع تلك الروايات هو عيسى بن مريم.

وهذه رواية واحدة فقط موجودة في بعض كتب أهل السنّة.

وثانياً: الخبر الواحد الذي ورد في بعض كتبهم من أنّ "المهدي من ولد العباس"(2)، فليس من أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .

وهذا كأنّه وضع في زمن بني العباس لصالح حكّام بني العباس.

____________

1- المنار المنيف لابن قيم الجوزية: 148، كنز العمال 14/263 ح38656.

2- المصدر نفسه: 149، كنزالعمال: 14/264 ح38663.


الصفحة 406
وثالثاً: الخبر الواحد الذي في كتبهم من أنّه "من ولد الحسن"(1)، لا من ولد الحسين.

ورابعاً: الخبر الواحد الذي في بعض كتبهم من أنّ "اسم أبي المهدي اسم أبي النبي"(2)، وأبو النبي اسمه عبدالله، فلا ينطبق على المهدي ابن الحسن العسكري سلام الله عليهم، فتكون رواية مخالفة لما ذكرناه واستنتجناه من الأدلة.

وخامساً: ما عزاه ابن تيميّة إلى الطبري وابن قانع من "أنّ الحسن العسكري قد مات بلا عقب" وإذا كان الحسن العسكري قد مات بلا عقب، فليس المهدي ابن الحسن العسكري.

فهذه بحوثٌ لابدّ من التعرّض لها وإثبات ضعف هذه الأحاديث المخالفة، أو إثبات أنّها روايات محرّفة.

أمّا ما نسبه ابن تيميّة إلى الطبري صاحب التاريخ، وإلى ابن قانع، فهو كذب، وقد حققته بالتفصيل في بعض مؤلفاتي.

وأمّا بالنسبة إلى البحوث الأُخرى، فلو أردنا الدخول في تحقيقها لاحتجنا إلى وقت إضافي، فإن شاء الله تعالى بعد أن أُكمل البحث في هذه الليلة في الفصل الثالث، إن بقي من الوقت شيء، ندخل في هذه البحوث لغرض التفصيل، وإلاّ فلا ضرورة.

وحينئذ نصل إلى الفصل الثالث.

____________

1- المنار المنيف لابن قيّم الجوزية: 151.

2- كنز العمال 14/268 ح38678.


الصفحة 407

الفصل الثالث

الأسئلة:

السؤال الأول: مسألة طول العمر؟

السؤال الثاني: لماذا هذه الغيبة؟

السؤال الثالث: ما الفائدة من إمام غائب؟

السؤال الرابع: أين يعيش المهدي؟

السؤال الخامس: متى يظهر؟

السؤال السادس: ما هو تكليف المؤمنين تجاهه وتجاه الأحكام الشرعية في زمن الغيبة؟

السؤال السابع: ما هي الحوادث الكائنة عند ظهوره وبعد ظهوره؟

السؤال الثامن: مسألة الرجعة؟

وقد تكون هناك أسئلة أُخرى.

ولابدّ من الإجابة على هذه الأسئلة ولو بنحو الإجمال، لئلاّ يبقى البحث ناقصاً.

أقرأ لكم عبارة السعد التفتازاني أوّلاً، وندخل في البحث ونشرع في الجواب عن هذه الأسئلة ولو بنحو الإجمال كما ذكرت.

يقول السعد التفتازاني(1): زعمت الإمامية من الشيعة أنّ محمّد بن الحسن

____________

1- شرح المقاصد 5/313.


الصفحة 408
العسكري اختفى عن الناس خوفاً من الأعداء، ولا استحالة في طول عمره كنوح ولقمان والخضر (عليه السلام) .

يقول: وأنكر ذلك سائر الفرق، لأنّه ادّعاء أمر مستبعد جدّاً، ولأنّ اختفاء إمام هذا القدر من الأنام بحيث لا يذكر منه إلاّ الاسم بعيد جدّاً، ولأنّ بعثه مع هذا الاختفاء عبث، ولو سلّم فكان ينبغي أنْ يكون ظاهراً، فما قيل أو فما يقال: إنّ عيسى يقتدي بالمهدي أو بالعكس شيء لا مستند له، فلا ينبغي أنْ يعوّل عليه.

هذا غاية ما توصّل إليه متكلّمهم سعد الدين التفتازاني.

أقول: إن تطرح هذه الأسئلة كبحوث علمية ومناقشات، فلا مانع، ويا حبّذا لو تطرح كذلك ويلتزم فيها بالآداب والأخلاق والمتانة، ولا يكون هناك شتم وسبّ وتهجّم وتهريج واستهزاء، وهكذا فعل بعض العلماء وبعض الكتّاب المعاصرين.

إلاّ أنّنا إذا راجعنا منهاج السنّة وجدناه في فصل البحث عن المهدي قد ملأ كتابه حقداً وبغضاً وعناداً وسبّاً وشتماً وتهريجاً وتكذيباً للحقائق!!! بحيث لو أنّكم أخرجتم من كتاب منهاج السنّة ما يتعلّق بالمهدي وما اشتمل عليه من السب والشتم لجاء كتاباً مستقلاً.

وقد تبعه أولياؤه في هذا المنهج من كتّاب زماننا وفي خصوص المهدي سلام الله عليه واعتقاد الشيعة في المهدي، تراهم يتهجّمون ويسبّون وينسبون إلينا الأكاذيب، ويخرجون عن حدود الآداب، ومع الأسف يكون لكتبهم قرّاء ومن يروّج لها في بعض الأوساط.

والحقيقة، إنّه تارةً يشك الباحث في أحاديث المهدي، أو يُناقش في أحاديث "الأئمّة الإثنا عشر"، أو لا يرتضي حديث "من مات ولم يعرف إمام زمانه"، فهذا له وجه، بمعنى أنّه يقول: بأنّي لا أُوافق على صحّة هذه الأحاديث، فيبقى على رأيه، ولا يتكلّم معه إن لم يقتنع بما في الكتب، لاسيّما بروايات أبناء مذهبه.

وأمّا بناء على قبول هذه الأحاديث لكونها مخرّجة في الصحاح، وفي السنن،

الصفحة 409
والمسانيد، والكتب المعتبرة، وأنّها أحاديث متّفق عليها بين المسلمين، وأنّ الاعتقاد بالمهدي (عليه السلام) أو الاعتقاد بالإمام في كلّ زمان واجب، وأنّ المهدي هو الثاني عشر في الحديث المعروف المتفق عليه، فيكون البحث بنحو آخر، لأنّه إنْ كان الباحث موافقاً على هذه الأحاديث، وعلى ما ورد من أنّ المهدي ابن الحسن العسكري، فلا محالة يكون معتقداً بولادة المهدي (عليه السلام) ، كما اعتقدوا، وذكرنا أسماء كثيرين منهم.

نعم منهم من يستبعد طول العمر، بأنْ يبقى الإنسان هذه المدة في هذا العالم، وهذا مستبعد كما عبّر السعد التفتازاني، فإن التفتازاني لم يكذّب ولادة المهدي من الحسن العسكري سلام الله عليه، وإنّما استبعد أن يكون الإمام باقياً هذه المدة من الزمان، ولذا نرى بعضهم يعترف بولادة الإمام (عليه السلام) ثمّ يقول: "مات"، يعترف بولادته بمقتضى الأدلّة الموجودة، لكنّه يقول بموته، لعدم تعقّله بقاء الإنسان في هذا العالم هذا المقدار من العمر، لكن هذا يتنافى مع "من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية" حيث قرّرنا أنّ هذا الحديث يدلّ على وجود إمام في كلّ زمان.

ولذا نرى البعض الآخر منهم يلتفت إلى هذه النواحي، فلا يقول مات، بل يقول: "لا ندري ما صار"، ولد، إلاّ أنّه لا ندري ما صار، ما وقع عليه، لا يعترف ببقائه، لأنّه يستبعد البقاء هذه المدة، ولا ينفي البقاء لأنّه يتنافى مع الأحاديث، يعترف بالولادة فيقول: لا ندري ما صار، وأين صار، وما وقع عليه، ممّا يظهر أنّهم ملتزمون بهذه الأحاديث، ومن التزم بهذه الأحاديث لابدّ وأن يلتزم بولادة المهدي (عليه السلام) ووجوده.

ثمّ الاستبعاد دائماً وفي كلّ شيء، وفي كلّ أمر من الأُمور، الاستبعاد يزول إنْ حدث له نظير، لو أنّك تيقّنت عدم شيء أو عدم إمكان شيء، فوقع فرد واحد ومصداق واحد لذلك الشيء، ذلك الاعتقاد بالعدم الذي كنت تجزم به مائة بالمائة سيكون تسعين بالمائة، لوقوع فرد واحد، فإذا وقع فرد آخر، وإذا وقع فرد ثالث، ومصداق رابع، هذا الاعتقاد الذي كان مائة بالمائة ثمّ أصبح تسعين بالمائة، ينزل على ثمانين، وسبعين، و، و، إلى خمسين وتحت الخمسين، فحينئذ، نقول للسعد التفتازاني:


الصفحة 410
إنّ الله سبحانه وتعالى أمكنه أنْ يعمّر نوحاً هذا العمر، أمكنه أن يبقي خضراً في هذا العالم هذه المدة، أمكنه سبحانه وتعالى أنْ يبقي عيسى في العالم الآخر هذه المدّة، الذي هو من ضروريات عقائد المسلمين، ومن يمكنه أنْ ينكر وجود عيسى؟! وأيضاً: في رواياتهم هم يثبتون وجود الدجال الآن، يقولون بوجوده منذ ذلك الزمان، فإذا تعدّدت الأفراد، وتعدّدت المصاديق، وتعدّدت الشواهد، يقلّ الاستبعاد يوماً فيوماً، وهذه الاكتشافات والاختراعات التي ترونها يوماً فيوماً تبدل المستحيلات إلى ممكنات، فحينئذ ليس لسعد التفتازاني وغيره إلاّ الاستبعاد، وقد ذكرنا أنّ الاستبعاد يزول شيئاً فشيئاً.

يمثّل بعض علمائنا ويقول: لو أنّ أحداً ادّعى تمكّنه من المشي على الماء، يكذّبه الحاضرون، وكلّ من يسمع هذه الدعوى يقول: هذا غير ممكن، فإذا مشى على الماء وعبر النهر مرّةً يزول الاستغراب أو الاستبعاد من السامعين بمقدار هذه المرّة، فإذا كرّر هذا الفعل وكرّره وكرّره أصبح هذا الفعل أمراً طبيعياً وسهل القبول للجميع، حينئذ هذا الاستبعاد يزول بوجود نظائر ذلك.

إلاّ أنّ ابن تيميّة ملتفت إلى هذه الناحية، فيكذّب أصل حياة الخضر ويقول: بأنّ أكثر العلماء يقولون بأنّ الخضر قد مات، فيضطرّ إلى هذه الدعوى، لأنّ هذه النظائر إذا ارتفعت رجع الاستبعاد مرة أُخرى.

لكنّك إذا رجعت مثلاً إلى الإصابة لابن حجر العسقلاني(1) لرأيته يذكر الخضر من جملة الصحابة، ولو رجعت إلى كتاب تهذيب الأسماء واللغات للحافظ النووي(2) الذي هو من علماء القرن السادس أو السابع يصرّح بأنّ جمهور العلماء على أنّ الخضر حي، فكان الخضر حيّاً إلى زمن النووي، وإذا نزلت شيئاً فشيئاً تصل إلى مثل القاري في

____________

1- الإصابة 2/114 ـ 115 ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت.

2- تهذيب الأسماء واللغات 1/176 رقم 147 ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت.


الصفحة 411
المرقاة(1) وتصل إلى مثل شارح المواهب اللدنيّة، هناك يصرّحون كلّهم ببقاء الخضر إلى زمانهم، وحتّى أنّهم ينقلون قصصاً وحكايات ممن التقى بالخضر وسمع منه الأخبار والروايات، فحينئذ تكذيب وجود الخضر من قبل ابن تيميّة إنّما هو لعلة ولحساب، وهو يعلم بأنّ وجود الخضر خير دليل على أنّ هذا الاستبعاد ليس في محلّه.

على أنّ الله سبحانه وتعالى إذا اقتضت الحكمة أنْ يبقي أحداً في هذا العالم آلاف السنين، إذا اقتضت الحكمة، فقدرته سبحانه وتعالى تطبّق تلك الإرادة، ومشيّته تطبَّق، وهو قادر على كلّ شيء.

فمسألة طول العمر أصبحت الآن مسألة بسيطة الحل، وصار الجواب عن هذا السؤال سهلاً جداً في مثل زماننا.

وأمّا أنّ الإمام (عليه السلام) متى يظهر، وأنّه سلام الله عليه كيف يستفاد منه في زمن الغيبة؟

يقول ابن تيميّة وأيضاً يقول السعد التفتازاني: بأنّ المهدي لم يبق منه إلاّ الإسم، ولم ينتفع منه أحد حتّى القائلون بوجوده.

وهؤلاء لا يعلمون، لأنّ هذه الأُمور لا يتوصّلون إليها ولا يمكنهم الاطّلاع عليها، إنّ الثقات من أبناء هذه الطائفة من علماء وغير علماء، لهم قضايا وحوادث وقصص وحكايات، تلك القضايا الثابتة المروية عن طرق الثقات مدوّنة في الكتب المعنيّة، وكم من قضية رجع الشيعة، عموم الشيعة، أو في قضايا شخصية، رجعوا إلى الإمام (عليه السلام) وأخذوا منه حلّ تلك القضية ورفع تلك المشكلة، إلاّ أنّ أعداء الأئمّة سلام الله عليهم والمنافقين لا يوافقون على مثل هذه الأخبار، وطبيعي أن لا يوافقوا، ومن حقّهم أن لا يعتقدوا.

مضافاً، إلى أنّ الله سبحانه وتعالى إنّما ينصب الإمام في كلّ أُمة، ويرسل الرسول إلى كلّ أُمّة، ليتمّ به الحجة، وكم من نبي قتلوه في أوّل يوم من نبوّته ودعوته، وكم من رسول

____________

1- مرقاة المفاتيح للقاري 9/692 كتاب الفتن.


الصفحة 412
صلبوه في اليوم الأوّل من رسالته، وكم من الأنبياء حاربوهم وشرّدوهم وطردوهم، أيمكن أن يقال لله سبحانه وتعالى: بأنّ إرسالك هؤلاء الرسل والأنبياء كان عبثاً!!

وأمّا أين يعيش؟

فأين يعيش الخضر؟ نحن نسأل القائلين ببقاء الخضر وغير الخضر ـ ممّن يعتقدون بحسب رواياتهم بقاءهم ـ هؤلاء أين يعيشون؟ وهذه ليست مسألة، إنّ الإمام أين يعيش!

وأمّا الحوادث الكائنة عند ظهوره وبعد ظهوره.

فتلك حوادث وقضايا مستقبلية وردت بها أخبار، وتلك الأخبار مدوّنة في الكتب المعنية.

والشيء الذي أراه مهمّاً من الناحية الاعتقادية والعملية، وأرجو أنْ تلتفتوا إليه، فلربّما لا تجدونه مكتوباً وفي مكان لا تسمعونه من أحد كما أقوله لكم:

لاحظوا إذا كانت غيبة الإمام (عليه السلام) لمصلحة أو لسبب، ذلك السبب إمّا وجود المانع وإمّا عدم المقتضي، غيبة الإمام (عليه السلام) إمّا هي لعدم المقتضي لظهوره أي لعدم وجود الأرضية المناسبة لظهوره، أو لوجود الموانع عن ظهوره.

وجود الموانع وعدم المقتضي كان السبب في غيبة الإمام (عليه السلام) ، هذا واضح.

إنّا لا نعلم أنّ المانع متى يرتفع، ولا نعلم أنّ المقتضي متى يتحقق ويحصل، ولذا ورد في الروايات: "إنّما أمرنا بغتة".

فظهور الإمام (عليه السلام) متى يكون؟

حيث لا يكون مانع وتتمّ المقدمات والأرضية المناسبة لظهوره.

وهذا متى يكون؟

العلم عند الله سبحانه وتعالى، فيمكن أن يكون غداً، ويمكن أن يكون بعد غد، وهكذا، فهذه نقطة.

والنقطة الثانية: إنّ في رواياتنا أنّ حكومة المهدي ستكون حكومة داود (عليه السلام) ، إنّه

الصفحة 413
يحكم بحكم داود (عليه السلام) ، رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان وبعضكم ألحن بحجّته من بعض، وأيّما رجل قطعت له قطعة فإنّما أقطع له قطعة من نار"(1).

أوضّح لكم هذه الرواية: رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا تخاصم إليه رجلان على كتاب مثلاً، على دار، أو على أيّ شيء آخر، يطلب من المدعي البيّنة، وحينئذ إنْ أقام البيّنة أخذ الكتاب من المدعى عليه وسلّمه إلى المدعي، وهذا الحكم يكون على أساس البيّنة، يقول رسول الله إنّما أقضي عليكم إنّما أقضي بينكم بالبيّنة، أمّا إذا كانت البيّنة كاذبة والمدعي أقامها وعن هذا الطريق تملّك الكتاب، فليعلم بأنّ الكتاب هذا قطعة من النار، أنا وظيفتي أنْ أحكم بينكم بحسب البيّنة، وأنت أيّها المدعي إنْ كنت تعلم بينك وبين ربّك أنّ الكتاب ليس لك، فلا يجوز لك أخذ هذا الكتاب.

إذن، يكون حكم رسول الله والحكم الإسلامي على أساس القواعد المقرّرة، وهذه هي الأدلة الظاهرية المعمول بها.

فإذا جاء المهدي سلام الله عليه، لا يأخذ بهذه القواعد والأحكام الظاهرية، وإنّما يحكم طبق الواقع، فإذا جاء ورأى أنّ الكتاب الذي بيدي هذا الكتاب الذي بحوزتي هو لزيد، أخذه منّي وأرجعه إلى زيد، وإذا علم أنّ هذه الدار التي أسكنها ملك لعمرو أخذها منّي وأرجعها إلى عمرو، فكلّ حقّ يرجع إلى صاحبه بحسب الواقع.

وعلى هذا، إذا كان الإمام (عليه السلام) ظهوره بغتة، وكان حكمه بحسب الواقع، فنحن ماذا يكون تكليفنا فيما يتعلّق بنا في شؤوننا الداخلية والشخصية؟ في أُمورنا الاجتماعية؟ في حقوق الله سبحانه وتعالى علينا؟ وفي حقوق الآخرين علينا؟ ماذا يكون تكليفنا وفي كلّ لحظة نحتمل ظهور الإمام (عليه السلام) ، وفي تلك اللحظة نعتقد بأنّ حكومته ستكون طبق الواقع لا على أساس القواعد الظاهرية؟ حينئذ ماذا يكون تكليف كلّ فرد منّا؟

____________

1- الكافي 7/414 رقم 1، باختلاف بالألفاظ.


الصفحة 414
وهذا معنى "أفضل الأعمال انتظار الفرج".

وهذا معنى ما ورد في الروايات من أنّ الأئمّه (سلام الله عليهم) كانوا ينهون الأصحاب عن الاستعجال بظهور الإمام (عليه السلام) ، إنّما كانوا يأمرون ويؤكّدون على إطاعة الإنسان لربّه وأن يكون مستعدّاً لظهور الإمام (عليه السلام) .

وبعبارة أُخرى: مسألة الانتظار، ومسألة ترقب الحكومة الحقة، هذه المسألة خير وسيلة لإصلاح الفرد والمجتمع، وإذا صَلُحنا فقد مهّدنا الطريق لظهور الإمام (عليه السلام) ، ولأن نكون من أعوانه وأنصاره.

ولذا أمرونا بكثرة الدعاء لفرجهم، ولذا أمرونا بالانتظار لظهورهم، هذا الانتظار معناه أن يعكس الإنسان في نفسه ويطبّق على نفسه ما يقتضيه الواقع، قبل أن يأتي الإمام (عليه السلام) ويكون هو المطبِّق، ولربّما يكون هناك شخص يواجه الإمام (عليه السلام) ويأخذ الإمام منه كلّ شيء، لأنّ كلّ الأشياء التي بحوزته ليست له، وهذا ممكن.

فإذا راقبنا أنفسنا وطبّقنا عقائدنا ومعتقداتنا في سلوكنا الشخصي والاجتماعي، نكون ممهّدين ومساعدين ومعاونين على تحقّق الأرضية المناسبة لظهور الإمام (عليه السلام) .

وتبقى كلمة سجّلتها عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بهذه المناسبة، يقول الإمام (عليه السلام) ـ كما في نهج البلاغة ـ: "ولا تستعجلوا بما لم يعجّله الله لكم، فإنّه من مات منكم على فراشه وهو على معرفة حقّ ربّه وحقّ رسوله وأهل بيته، مات شهيداً"(1).

وعندنا في الروايات: أنّ من كان كذا ومات قبل مجيء الإمام (عليه السلام) مات وله أجر من كان في خدمته وضرب بالسيف تحت رايته.

يقول الإمام (عليه السلام) : "فإنّه من مات منكم على فراشه وهو على معرفة حقّ ربّه وحقّ رسوله وأهل بيته مات شهيداً، ووقع أجره على الله، واستوجب ثواب ما نوى من صالح

____________

1- نهج البلاغة 2/156 خطبة 185.


الصفحة 415
عمله، وقامت النيّة مقام إصلاته لسيفه، فإنّ لكلّ شيء مدّة وأجلاً"(1).

ففي نفس الوقت الذي نحن مأمورون بالدعاء بتعجيل الفرج، فنحن مأمورون أيضاً لتهيئة أنفسنا، وللاستعداد الكامل لأن نكون بخدمته، وإذا عمل كلّ فرد منّا بوظائفه، وعرف حقّ ربّه عزوجل وحقّ رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحقّ أهل بيته (عليهم السلام) ، فقد تمّت الأرضية المناسبة لظهوره (عليه السلام) ، ولا أقل من أنّا أدّينا تكاليفنا ووظائفنا تجاه الإمام (عليه السلام) .

وكنت أقصد أن أُلخّص البحث في بعض الجهات الأُخرى حتّى أُوفّر وقتاً لهذه النقطة الأخيرة التي بيّنتها لكم، وذكرت لكم الدليل البرهاني العقلي والروائي على وجوب الالتزام العملي على كلّ واحد منّا بوظائفه تجاه ربّه وتجاه رسوله وتجاه أهل بيت الرسول (عليهم السلام) .

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعرّفنا حقّه، أن يعرّفنا حقّ رسوله، أن يعرّفنا حقّ الأئمّة الأطهار، أن يعرّفنا حقّ إمامنا، وأنْ يوفّقنا لأداء الوظائف والتكاليف الملقاة على عواتقنا.

وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.

____________

1- تأويل الآيات: 642، البحار 52/144 ح63.