مظلوميّة الزهراء (عليها السلام)




الصفحة 418

الصفحة 419

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد:

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين.

موضوع البحث ـ كما طلبتم ـ مظلوميّة الزهراء (عليها السلام)، ولماذا لم تقولوا مناقب الزهراء؟ أو لم تقولوا حياة الزهراء؟ وإنما عنونتم مظلوميّة الزهراء.

قد يقال ـ كما قيل ـ قضايا الزهراء سلام الله عليها قضايا تاريخية، ولا ينبغي أن تثار، والقضيّة التاريخية قد تكون صادقة وقد تكون كاذبة.

سنحاول أن نبحث عن هذه القضية بلا أيّ تعصب وتشنج، وإنْ كان الصبر على ما وقع، وقراءة ما وقع، والحديث عمّا وقع، وتحمل ذلك كلّه أمراً صعباً، سترون أنّي لا أذكر شيئاً لا من مصادر القوم فحسب، بل من أعظم مصادرهم، وأشهر كتبهم، وأصح كتبهم، وأسبق كتبهم وأقدمها، سأحاول ذلك قدر الإمكان.

ولو كانت قضيةً تاريخيةً فحسب، فحروب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وغزواته كلّها قضايا تاريخية، ومواقف أمير المؤمنين (عليه السلام) في تلك الغزوات والحروب قضايا تاريخية، ومبيت أمير المؤمنين في ليلة الهجرة على فراش رسول الله قضية تاريخية، وزواج علي من فاطمة الزهراء ـ بعد أن ردّ رسول الله غيره ـ قضية تاريخية، وحروبه أيضاً قضايا تاريخية، وقضية كربلاء وشهادة الحسين (عليه السلام)وأصحابه وأولاده قضية تاريخية، فلماذا نبحث عنها؟


الصفحة 420
وحتى عند أهل السنة أيضاً: كون أبي بكر مع رسول الله في الغار قضية تاريخية، صلاته التي يزعمونها في مكان رسول الله في مرضه قضية تاريخية، وهكذا بقية الأُمور التي يستدلّون بها في كتبهم بزعمهم على فضائل أئمّتهم ومناقب أُمرائهم وخلفائهم.

الحقيقة أنّ قضية الزهراء سلام الله عليها أساس مذهبنا، وجميع القضايا التي لحقت تلك القضية وتأخّرت عنها كلّها مترتبة على تلك القضية، ومذهب الطائفة الإمامية الاثني عشرية بلا قضية الزهراء سلام الله عليها وبلا تلك الآثار المترتبة على تلك القضية ـ هذا المذهب ـ يذهب ولا يبقى، ولا يكون فرقٌ بينه وبين المذهب المقابل.

سنبحث عن قضية الزهراء سلام الله عليها في ضمن مطالب، وهذه المطالب مترتبة، أي كل مطلب منها يترتب على المطلب الذي قبله، حتى نصل إلى المطلب الأخير، ونستنتج من جميع هذه المطالب، ثم نذكر أهمّ مسائل القضيّة، وسترون أنها قضية علميّة عقائدية مذهبية، لها كلّ التأثير في مصير هذا المذهب، ولها كلّ التأثير في سلوك أبناء هذا المذهب، وإليكم المطالب بالتفصيل:


الصفحة 421

المطلب الأول
أحاديث في مقام الزهراء (عليها السلام) ومنزلتها
عند الله وعند الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)

الأحاديث في هذا الباب كثيرة، حتى أن عدّةً من علماء الفريقين دوّنوها في كتب مفردة، وقد انتخبت من تلك الأحاديث هذه الأحاديث التي سأقرؤها، وسترون أن مصادرها من أقدم المصادر وأهمّها:

الحديث الأول:

" فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة "، أو " سيّدة نساء هذه الأُمّة "، أو " سيّدة نساء المؤمنين "، أو " سيّدة نساء العالمين ".

هذا الحديث بألفاظه المختلفة موجود في: صحيح البخاري في كتاب بدء الخلق، وفي مسند أحمد، وفي الخصائص للنسائي، وفي مسند أبي داود الطيالسي، وفي صحيح مسلم في باب فضائل الزهراء، وفي المستدرك وصحيح الترمذي، وفي صحيح ابن ماجة، وغيرها من الكتب(1).

ففاطمة سيّدة نساء العالمين من الأوّلين والآخرين.

____________

1- الخصائص للنسائي: 34، الطبقات 2 / 40، مسند أحمد 6 / 282 حلية الأولياء 2/39، المستدرك 3 / 151.


الصفحة 422

الحديث الثاني:

في أن فاطمة سلام الله عليها بضعة من النبي:

" فاطمة بضعة منّي من أغضبها أغضبني ".

هذا الحديث بهذا اللفظ في: صحيح البخاري، وعدّة من المصادر(1).

" فاطمة بضعة منّي يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها ".

بهذا اللفظ في: صحيح البخاري، ومسند أحمد، وصحيح أبي داود، وصحيح مسلم، وغيرها من المصادر(2).

" إنّما فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما آذاها ".

بهذا اللفظ في: صحيح مسلم(3).

" إنّما فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما آذاها وينصبني ما أنصبها ".

بهذا اللفظ في: مسند أحمد وفي المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين، وفي صحيح الترمذي(4).

" فاطمة بضعة منّي يقبضني ما يقبضها ويبسطني ما يبسطها ".

بهذا اللفظ في: المسند، وفي المستدرك وقال: صحيح الإسناد، وفي مصادر أُخرى(5).

الحديث الثالث:

" إن الله يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها ".

____________

1- صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب مناقب قرابة الرسول ومنقبة فاطمة (عليها السلام).

2- مسند أحمد 4 / 328.

3- صحيح مسلم، باب مناقب فاطمة (عليها السلام).

4)مسند أحمد 4 / 5، المستدرك 3 / 159.

5- المستدرك 3 / 158، مسند أحمد 4 / 323.


الصفحة 423
هذا الحديث تجدونه في: المستدرك، وفي الإصابة، ويرويه صاحب كنز العمال عن أبي يعلى والطبراني وأبي نعيم، ورواه غيرهم(1).

الحديث الرابع:

في أنّ النبي أسرّ إليها أنّها أوّل أهل بيته لحوقاً به.

هذا كان عند وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنّه دعاها فسارّها فبكت، ثمّ دعاها فسارّها فضحكت [ في بعض الألفاظ: فشقّ ذلك على عائشة أن يكون سارّها دونها ] فلمّا قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حلّفتها عائشة أنْ تخبرها، فقالت: سارّني رسول الله أو سارّني النبي، فأخبرني أنّه يقبض في وجعه هذا فبكيتُ، ثمّ سارّني فأخبرني أنّي أوّل أهل بيته أتْبعه فضحكتُ.

هذا الحديث في: الصحيحين، وعند الترمذي والحاكم، وغيرهما(2).

الحديث الخامس:

عن عائشة قالت: ما رأيت أحداً كان أصدق لهجة منها غير أبيها.

هذا الحديث تجدونه في: المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقرّه الذهبي، وفي الاستيعاب، وفي حلية الأولياء(3).

الحديث السادس:

عن عائشة أيضاً: كانت إذا دخلت عليه ـ على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)ـ قام إليها فقبّلها ورحّب بها وأخذ بيدها فأجلسها في مجلسه.

____________

1- المستدرك على الصحيحين 3 / 153، كنز العمال 13 / 674، 12 / 111.

2- صحيح البخاري كتاب بدء الخلق، صحيح مسلم فضائل فاطمة، صحيح الترمذي، المستدرك 4 / 272.

3- المستدرك على الصحيحين 3 / 160، حلية الأولياء 2 / 41، الاستيعاب 4 / 1896.


الصفحة 424
قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وأقرّه الذهبي أيضاً(1).

الحديث السابع:

أخرج الطبراني أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم)قال لعلي: " فاطمة أحبّ إليّ منك وأنت أعزّ عليّ منها ".

قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح(2).

هذه هي الأحاديث التي انتخبتها، لتكون مقدمةً لبحوثنا الآتية، وسنستنتج من هذه الأحاديث في المطالب اللاحقة، وفي الحوادث الواقعة، وهي أحاديث ـ كما رأيتم ـ في المصادر المهمّة بأسانيد صحيحة، ودلالاتها أيضاً لا تقبل أيّ مناقشة.

ومن دلالات هذه الأحاديث: إنّ فاطمة سلام الله عليها معصومة، بالإضافة إلى دلالة آية التطهير وغيرها من الأدلة.

مضافاً إلى أن غير واحد من حفّاظ القوم وكبار علمائهم قالوا بأفضليّة الزهراء سلام الله عليها من الشيخين، بسبب هذه الأحاديث وحديث " فاطمة بضعة منّي " بالخصوص، بل قال بعضهم بأفضليّتها من الخلفاء الأربعة كلّهم، ولا مستند لهم إلاّ الأحاديث التي ذكرتها.

ولأقرأ لكم عبارة المنّاوي وكلامه المشتمل على بعض الأقوال من كبار علماء القوم، ففي فيض القدير في شرح حديث " فاطمة بضعة منّي " قال: استدل به السهيلي [ وهو حافظ كبير من علمائهم، وهو صاحب شرح سيرة ابن هشام وغيره من الكتب ] على أن من سبّها كفر [ ولماذا؟ لاحظوا ] لأنّه يغضبه [ أي لأنّ سبّها يغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)! إستدل به السهيلي على أن من سبّها كفر لأنّه يغضبه ] وأنّها أفضل من الشيخين.

وإذا كانت هذه اللام لام تعليل " لأنّه يغضبه "، والعلة إمّا معمّمة وإمّا مخصّصة،

____________

1- المستدرك على الصحيحين 3 / 154.

2- مجمع الزوائد 9 / 202.


الصفحة 425
ولابد أنْ تكون هنا معمّمة، يوجب الكفر، لأنّه أي السب يغضبها، فيكون أذاها أيضاً موجباً للكفر، لأن الأذى ـ أذى الزهراء سلام الله عليها ـ يغضب رسول الله بلا إشكال.

قال المنّاوي: قال ابن حجر: وفيه ـ أي في هذا الحديث ـ تحريم أذى من يتأذّى المصطفى بأذيّته، فكلّ من وقع منه في حقّ فاطمة شيء فتأذّت به فالنبي (صلى الله عليه وسلم)يتأذّى به بشهادة هذا الخبر، ولا شيء أعظم من إدخال الأذى عليها في ولدها، ولهذا عرف بالاستقراء معاجلة من تعاطى ذلك بالعقوبة بالدنيا ولعذاب الآخرة أشد.

ففي هذاالحديث تحريم أذى فاطمة، وتحريم أذى فاطمة لأنّها بضعة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل هو موجب للكفر كما تقدّم.

وقال المنّاوي: قال السبكي: الذي نختاره وندين الله به أنّ فاطمة أفضل من خديجة ثمّ عائشة.

قال المنّاوي: قال شهاب الدين ابن حجر: ولوضوح ما قاله السبكي تبعه عليه المحققون.

قال المنّاوي: وذكر العَلَم العراقي: إنّ فاطمة وأخاها إبراهيم أفضل من الخلفاء الأربعة باتفاق(1).

إذن، لا يبقى خلاف بيننا وبينهم في أفضلية الزهراء من الشيخين، وأن أذاها موجب للدخول في النار.

ثمّ إنّ هذه الأحاديث ـ كما قرأنا وسمعتم وترون ـ أحاديث مطلقة ليس فيها أي قيد، عندما يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إنّ الله يغضب لغضب فاطمة " لا يقول إنْ كانت القضية كذا، لا يقول بشرط أن يكون كذا، لا يقول إنْ كان غضبها بسبب كذا، ليس في الحديث أيّ تقييد، إن الله يغضب لغضب فاطمة، هذا الغضب بأيّ سبب كان، ومن أيّ أحد كان، وفي أيّ زمان، أو أيّ وقت كان. وعندما يقول: " يؤذيني ما آذاها "، لا يقول

____________

1- فيض القدير في شرح الجامع الصغير 4 / 421.


الصفحة 426
رسول الله: يؤذيني ما آذاها إنْ كان كذا، إنْ كان المؤذي فلاناً، إن كان في وقت كذا، ليس فيه أيّ قيد، بل الحديث مطلق " يؤذيني ما آذاها ".

ودلّت الأحاديث هذه على وجوب قبول قولها، وحرمة تكذيبها، وقد شهدت عائشة بأنّها سلام الله عليها أصدق الناس لهجةً ما عدا والدها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ورسول الله قال كلّ هذا وفَعَله مع علمه بما سيكون من بعده.


الصفحة 427

المطلب الثاني
في أنّ من آذى عليّاً (عليه السلام) فقد آذى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

كان المطلب الأوّل في أنّ من آذى فاطمة فقد آذى رسول الله، وهذا المطلب الثاني في أنّ من آذى عليّاً فقد آذى رسول الله، وذاك قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من آذى عليّاً فقد آذاني ".

هذا الحديث تجدونه في: المسند، وفي صحيح ابن حبّان، وفي المستدرك، وفي الإصابة، وأُسد الغابة، وأورده صاحب كنز العمّال عن ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في تاريخه والطبراني، وله أيضاً مصادر أُخرى(1).

____________

1- مسند أحمد 3 / 483، المستدرك 3 / 122، مجمع الزوائد 9 / 129، أُسد الغابة والاصابة بترجمته عن عدّة من الأئمة، كنز العمال 11 / 601.


الصفحة 428

الصفحة 429

المطلب الثالث
في أنّ بغض علي (عليه السلام) نفاق

أخرج مسلم في صحيحه عن علي (عليه السلام) قال: " والذي فَلَقَ الحَبَّةَ وبرأ النَسَمة، إنّه لعهد النبي الأُمّي إليّ [ وهل يكون التأكيد بأكثر من هذا؟ ] أنْ لا يحبّني إلاّ مؤمن ولا يبغضني إلاّ منافق ".

تجدون هذا الحديث بهذا اللفظ أو بمعناه عند: النسائي، والترمذي، وابن ماجة، وفي مسند أحمد، وفي المستدرك، وفي كنز العمال عن عدة من كبار الأئمّة(1).

وفي مسند أحمد وصحيح الترمذي عن أُم سلمة: كان رسول الله يقول [ هذه الصيغة تدل على الاستمرار ] كان رسول الله يقول: " لا يحب عليّاً منافق ولا يبغضه مؤمن "(2).

نستفيد من هذه الأحاديث في هذا المطلب: إنّ حبّ علي وحبّ المنافقين لا يجتمعان، لو أنّ أحداً يعتقد حتّى بإمامة علي وولايته بعد رسول الله، إلاّ أنّه لا يبغض المنافقين، هذا الشخص هو أيضاً منافق، وهو مطرود من الطرفين، أي من المؤمنين ومن المنافقين، لأنّ المنافقين لا يعتقدون بولاية علي وهذا يعتقد، ولأنّ المؤمنين لا يحبّون المنافقين وهذا يحب.

ولا يمكن الجمع بينهما بأيّ حال من الأحوال، وبأيّ شكل من الأشكال.

____________

1- مسند أحمد 1 / 84، 128، صحيح مسلم كتاب الايمان، كنز العمال 13 / 120 رقم 36385.

2- مسند أحمد 6 / 292.


الصفحة 430

الصفحة 431

المطلب الرابع
في إخبار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليّاً (عليه السلام)
بأنّ الأُمّة ستغدر به

قال علي (عليه السلام): " إنّه ممّا عهد إليّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ الأُمّة ستغدر بي بعده ".

قال الحاكم: صحيح الإسناد، وقال الذهبي في تلخيصه: صحيح(1)، وقد قرّروا أنّ كلّ حديث وافق الذهبي فيه الحاكم النيسابوري في التصحيح فهو بحكم الصحيحين.

ومن رواة هذا الحديث أيضاً: ابن أبي شيبة، والبزّار، والدارقطني والخطيب البغدادي، والبيهقي، وغيرهم.

____________

1- المستدرك على الصحيحين 3 / 140، 142.


الصفحة 432

الصفحة 433

المطلب الخامس
ضغائن في صدور أقوام

أخرج أبو يعلى والبزّار ـ بسند صحّحه: الحاكم، والذهبي، وابن حبّان، وغيرهم ـ عن علي (عليه السلام) قال: " بينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) آخذ بيدي ونحن نمشي في بعض سكك المدينة، إذ أتينا على حديقة، فقلت: يا رسول الله ما أحسنها من حديقة! فقال: إنّ لك في الجنّة أحسن منها، ثمّ مررنا بأُخرى فقلت: يا رسول الله ما أحسنها من حديقة! قال: لك في الجنّة أحسن منها، حتّى مررنا بسبع حدائق، كلّ ذلك أقول ما أحسنها ويقول: لك في الجنّة أحسن منها، فلمّا خلا لي الطريق اعتنقني ثمّ أجهش باكياً، قلت: يا رسول الله ما يبكيك؟ قال: ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها لك إلاّ من بعدي، قال: قلت يا رسول الله في سلامة من ديني؟ قال: في سلامة من دينك ".

هذا اللفظ في: مجمع الزوائد عن: أبي يعلى والبزّار(1)، ونفس السند موجود في المستدرك وقد صحّحه الحاكم والذهبي(2)، فيكون سنده صحيحاً يقيناً، لكن اللفظ في المستدرك مختصر وذيله غير مذكور، والله أعلم ممّن هذا التصرف، هل من الحاكم أو من الناسخين أو من الناشرين؟ فراجعوا، السند نفس السند عند أبي يعلى وعند البزّار وعند الحاكم، والحاكم يصحّحه والذهبي يوافقه، إلاّ أنّ الحديث في المستدرك أبتر مقطوع

____________

1- مجمع الزوائد 9 / 118.

2- المستدرك على الصحيحين 3 / 139.


الصفحة 434
الذيل، لأنّه إلى حدّ " إنّ لك في الجنّة أحسن منها " لا أكثر.

وهناك أحاديث أيضاً صريحة في أنّ " الأقوام " المراد منهم في هذا الحديث " هم قريش "، وفي المطلب السادس أيضاً بعض الأحاديث تدلّ على ذلك، فلاحظوا.


الصفحة 435

المطلب السادس
في أنّ قريشاً هم سبب هلاك الناس بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)

عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " يهلك أُمّتي هذا الحي من قريش "، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: " لو أنّ الناس اعتزلوهم ".

وعن أبي هريرة أيضاً قال: سمعت الصادق المصدوق يقول: " هلاك أُمّتي على يدي غلمة من قريش "، فقالوا: مروان غلمة؟ قال أبو هريرة: إن شئت أنْ أُسمّيه، بني فلان، بني فلان.

والحديثان في الصحيحين(1).

____________

1- وأخرجه أحمد 2 / 324، 288، 299، 520.


الصفحة 436

الصفحة 437

المطلب السابع
لم يروَ من الضغائن والغدر إلاّ القليل

وهذا المطلب مهم جدّاً، فالغدر الذي كان، والضغائن التي بدت ـ التي سبق وأنْ أخبر عنها رسول الله ـ لم يروَ منها في الكتب إلاّ القليل، والسبب واضح، لأنّهم منعوا من تدوين الحديث، وعندما دُوّن، فقد دوّن على يد بني أُميّة وفي عهدهم، وهذا حال السنّة، أي السنّة عند أهل السنّة.

ثمّ إنّ من كان عنده شيء من تلك الأُمور التي أشار إليها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يروه، وإذا رواه لم ينقلوه ولم يكتبوه ومنعوا من نشره، ومن نقله إلى الآخرين، حتّى أنّ من كان عنده كتاب فيه شيء من تلك القضايا، أخذوه منه، أو أخفاه ولم يظهره لأحد، أذكر لكم موارد من هذا القبيل:

قال ابن عدي في آخر ترجمة عبد الرزاق بن همّام الصنعاني في كتاب الكامل: ولعبد الرزاق بن همّام [ هذا شيخ البخاري ] أصناف حديث كثير، وقد رحل إليه ثقات المسلمين وأئمّتهم وكتبوا عنه، ولم يروا بحديثه بأساً، إلاّ أنّهم نسبوه إلى التشيّع، وقد روى أحاديث في الفضائل ممّا لا يوافقه عليها أحد من الثقات، فهذا أعظم ما رموه به من روايته لهذه الأحاديث، ولما رواه في مثالب غيرهم ممّا لم أذكره في كتابي هذا، وأمّا في باب الصدق فأرجو أنّه لا بأس به، إلاّ أنّه قد سبق عنه أحاديث في فضائل أهل البيت

الصفحة 438
ومثالب آخرين مناكير(1).

وبترجمة عبد الرحمن بن يوسف بن خراش ـ الحافظ الكبير ـ يقول ابن عدي: سمعت عبدان يقول: وحمل ابن خراش إلى بندار جزئين صنّفهما في مثالب الشيخين فأجازه بألفي درهم.

فأين هذا الكتاب الذي هو في جزئين؟

قال ابن عدي: فأمّا الحديث فأرجو أنّه لا يتعمّد الكذب(2).

فالرجل ليس بكاذب، ولو راجعتم سير أعلام النبلاء للذهبي أو راجعتم تذكرة الحفّاظ للذهبي، لرأيتم الذهبي ينقل هذا المطلب، ويتهجّم على ابن خراش ويشتمه ويسبّه سبّ الذين كفروا(3).

ولا يتوهمنّ أحد أنّ هذا الرجل ـ ابن خراش ـ من الشيعة، وذلك، لأنّ هذا الرجل من كبار علماء القوم ومن أعلامهم في الجرح والتعديل، ويعتمدون على آرائه في ردّ الراوي أو قبوله، أذكر لكم مورداً واحداً، يقول ابن خراش بترجمة عبدالله بن شقيق، وعند ابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب يقول: قال ابن خراش: كان ـ عبدالله بن شقيق ـ ثقة وكان عثمانياً يبغض عليّاً(4).

فابن خراش ليس بشيعي، لأنّه يوثق هذا الرجل مع تصريحه بأنّه كان عثمانيّاً يبغض عليّاً.

فلا يتوهّم أنّ هذا الرجل ـ ابن خراش ـ من الشيعة، بل هو من أعلام أهل السنّة ومن كبار حفّاظهم، إلاّ أنّه ألّف جزئين في مثالب الشيخين.

مورد آخر في كتاب العلل لأحمد بن حنبل، قال أحمد: كان أبو عوانة [ الذي هو

____________

1- الكامل في الضعفاء 6 / 545.

2- الكامل في الضعفاء 5 / 519.

3- سير أعلام النبلاء 13 / 509، تذكرة الحفاظ 2 / 684، ميزان الاعتدال 2 / 600.

4- تهذيب التهذيب 5 / 223.


الصفحة 439
من كبار محدّثيهم وحفّاظهم، وله كتاب في الصحيح اسمه: صحيح أبي عوانة ] وضع كتاباً فيه معايب أصحاب رسول الله، وفيه بلايا، فجاء سلاّم بن أبي مطيع(1) فقال: يا أبا عوانة، أعطني ذاك الكتاب فأعطاه، فأخذه سلاّم فأحرقه(2).

ويروي أحمد بن حنبل في نفس الكتاب عن عبدالرحمن بن مهدي(3) قال: فنظرت في كتاب أبي عوانة وأنا أستغفر الله(4).

فهذا يستغفر الله من أنّه نظر في هذا الكتاب، والشخص الآخر جاء إليه وأخذ الكتاب منه وأحرقه بلا إذن منه ولا رضا.

مورد آخر: ذكروا بترجمة الحسين بن الحسن الأشقر: أنّ أحمد بن حنبل حدّث عنه وقال: لم يكن عندي ممّن يكذب [ فهو حدّث عنه وقال: لم يكن عندي ممّن يكذب ] فقيل له: إنّه يحدّث في أبي بكر وعمر، وإنّه صنّف باباً في معايبهما، فقال: ليس هذا بأهل أنْ يحدَّث عنه(5)!

أوّلاً: أين ذاك الباب الذي اشتمل على هذه القضايا؟ ولماذا لم يصل إلينا؟

وثانياً: إنّه بمجرَّد أنْ علم أحمد بن حنبل بأنّ الرجل يحدّث في الشيخين، وبأنّه صنّف مثل هذه الأحاديث في كتاب، سقط من عين أحمد وأصبح كذّاباً لا يعتمد عليه ولا يروى عنه!

مورد آخر: في ميزان الاعتدال بترجمة إبراهيم بن الحكم بن زهير الكوفي: قال أبو حاتم: روى في مثالب معاوية فمزّقنا ما كتبنا عنه(6).

____________

1- الإمام الثقة القدوة، من رجال الصحيحين. سير أعلام النبلاء 7/428.

2- كتاب العلل والرجال 1 / 60.

3- الامام الناقد المجوّد سيد الحفاظ. سير أعلام النبلاء 9 / 192.

4- كتاب العلل والرجال 3 / 92 الطبعة الحديثة.

5- تهذيب التهذيب 2 / 291.

6- ميزان الاعتدال في نقد الرجال 1 / 27.


الصفحة 440
روى في مثالب معاوية فمزّقنا ما كتبنا عنه، فراحت تلك الروايات.

وهذا بعض ما ذكروا في هذا الباب.

ثمّ إنّهم ذكروا في تراجم رجال كثيرين من أعلام الحديث والرواة الذين هم من رجال الصحاح، ذكروا أنّه كان يشتم أبا بكر وعمر، لاحظوا هذه العبارة بترجمة إسماعيل بن عبدالرحمن السُدّي(1)، وبترجمة تليد بن سليمان(2)، وبترجمة جعفر بن سليمان الضبعي(3)، وغير هؤلاء.

ولماذا كان هؤلاء يشتمون؟ هل بلغهم شيء أو أشياء، ممّا أدّى وسبّب في أنْ يجوّزوا لأنفسهم أن يشتموا ويسبّوا؟ وأين تلك القضايا وماهي؟

وأمّا ما ذكروه بترجمة الرجال وكبار علمائهم وحفّاظهم من شتم عثمان وشتم معاوية، فكثير جدّاً، وأعتقد أنّه لا يحصى لكثرته.

ولقد فشى وكثر اللعن أو الطعن في الشيخين في النصف الثاني من القرن الثالث، يقول زائدة بن قدامة ـ ووفاته في النصف الثاني من القرن الثالث ـ: متى كان الناس يشتمون أبا بكر وعمر؟!(4).

وكثر وكثر حتى القرن السادس من الهجرة، جاء أحدهم ـ وهو الحافظ المحدّث عبد المغيث بن زهير بن حرب الحنبلي البغدادي ـ فألّف كتاباً في فضل يزيد بن معاوية وفي الدفاع عنه والمنع عن لعنه، فلمّا سئل عن ذلك، قال بلفظ العبارة: إنّما قصدت كفّ الألسنة عن لعن الخلفاء(5).

حتى جاء التفتازاني في أواخر القرن الثامن من الهجرة وقال في شرح المقاصد ما

____________

1- تهذيب التهذيب 1 / 274.

2- تهذيب الكمال 4 / 322.

3- تهذيب التهذيب 2 / 82 ـ 83.

4- تهذيب التهذيب 3 / 264.

5- سير أعلام النبلاء 21 / 161.


الصفحة 441
نصّه: فإن قيل: فمن علماء المذهب من لم يجوّز اللعن على يزيد مع علمهم بأنّه يستحقّ ما يربو على ذلك ويزيد؟ قلنا: تحامياً عن أن يرتقى إلى الأعلى فالأعلى(1).

حتّى جاء كتّاب عصرنا، فألّفوا في مناقب يزيد، وألّفوا في مناقب الحجّاج، وألّفوا في مناقب هند!!

وإنّي أعتقد أنّهم يعلمون بأنّ هذه المناقب والفضائل، والذي يذكرونه في الدفاع عن هؤلاء وأمثالهم، كلّه كذب، وإنّ هؤلاء يستحقّون اللعن، إلاّ أنّ الغرض هو إشغال الكتّاب والباحثين والمفكّرين وسائر الناس بمثل هذه الأُمور، ولكي لا يبقى هناك مجال لأن يرتقى إلى الأعلى فالأعلى.

ومن هنا نفهم: إنّ محاربتهم لقضايا الحسين (عليه السلام)ومحاربتم لمآتم الحسين (عليه السلام)ولقضايا عاشوراء، كلّ ذلك، لئلاّ يلعن يزيد، ولئلاّ ينتهى إلى الأعلى فالأعلى.

____________

1- شرح المقاصد 5 / 311.


الصفحة 442

الصفحة 443

المطلب الثامن
أحقاد قريش وبني أُميّة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وأهل بيته (عليهم السلام)

وهنا ننقل بعض الشواهد على أحقاد قريش وبني أُميّة بالخصوص، وضغائنهم على النبي وأهل البيت، حتّى أنّهم كانت تصدر منهم أشياء في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولمّا لم يتمكّنوا من الإنتقام من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالذات، انتقموا من أهل بيته لينتقموا منه.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " اللهمّ إنّي أستعديك على قريش، فإنّهم أضمروا لرسولك (صلى الله عليه وآله وسلم) ضروباً من الشر والغدر، فعجزوا عنها، وحُلت بينهم وبينها، فكانت الوجبة بي والدائرة عليّ، اللهمّ احفظ حسناًوحسيناً، ولا تمكّن فجرة قريش منهما ما دمت حيّاً، فإذا توفّيتني فأنت الرقيب عليهم وأنت على كلّ شيء شهيد "(1).

فيقول أمير المؤمنين: إنّ قريشاً أضمروا لرسول الله ضروباً من الشر والغدر وعجزوا عنها، والله سبحانه وتعالى حال بينه وبين تلك الشرور أن تصيبه، إلى أنْ توفّي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكانت الوجبة بأمير المؤمنين والدائرة عليه، كما أنّه في هذا الكلام يشير بأنّ قريشاً ستقتل الحسن والحسين أيضاً انتقاماً من النبي.

وقال (عليه السلام) في خطبة له: " وقال قائل: إنّك يا ابن أبي طالب على هذا الأمر لحريص،

____________

1- شرح نهج البلاغة 20 / 298.


الصفحة 444
فقلت: بل أنتم ـ والله ـ أحرص وأبعد، وأنا أخص وأقرب، وإنّما طلبت حقّاً لي وأنتم تحولون بيني وبينه، وتضربون وجهي دونه، فلما قرّعته بالحجة في الملأ الحاضرين هبّ كأنه بهت لا يدري ما يجيبني به.

اللهم إني استعديك على قريش ومن أعانهم، فانهم قطعوا رحمي، وصغّروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي، ثم قالوا: ألا إنَّ في الحق أنْ تأخذه وفي الحق أن تتركه "(1).

وفي كتاب له (عليه السلام) إلى عقيل: " فدع عنك قريشاً وتركاضهم في الضلال، وتجوالهم في الشقاق، وجماحهم في التيه، فإنّهم قد أجمعوا على حربي إجماعهم على حرب رسول الله قبلي، فجزت قريشاً عنّي الجوازي، فقد قطعوا رحمي وسلبوني سلطان ابن أُمّي "(2).

وروى ابن عدي في الكامل في حديث: فقال أبو سفيان: مثل محمّد في بني هاشم مثل ريحانة وسط نتن، فانطلق بعض الناس إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فأخبروا النبي، فجاء (صلى الله عليه وسلم)ـ يعرف في وجهه الغضب ـ حتّى قام فقال: " ما بال أقوال تبلغني عن أقوام " إلى آخر الحديث.

هذا في الكامل لابن عدي(3) بهذا النص، والقائل أبو سفيان.

وهو بنفس السند واللفظ موجود أيضاً في بعض المصادر الأُخرى، إلاّ أنّهم رفعوا كلمة: " فقال أبو سفيان "، ووضعوا كلمة: " فقال رجل ".

لاحظوا مجمع الزوائد(4).

وعن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب قال: أتى ناس من الأنصار إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقالوا: إنّا نسمع من قومك، حتّى يقول القائل منهم إنّما مثل محمّد مثل نخلة

____________

1- نهج البلاغة، الخطبة: 172.

2- شرح نهج البلاغة 16 / 151.

3- الكامل في الضعفاء 3 / 28.

4- مجمع الزوائد 8/215.


الصفحة 445
نبتت في الكبا(1).

والكبا الأرض غير النظيفة.

لكن هذا الحديث أيضاً في بعض المصادر محرّف.

ثمّ إنّ السبب في هذه الضغائن ماذا؟ ليس السبب إلاّ أقربية أمير المؤمنين (عليه السلام)إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فينتقمون منه انتقاماً من النبيّ، مضافاً إلى مواقف أمير المؤمنين (عليه السلام) في الحروب وقتله أبطال قريش، وهذا ما صرّح به عثمان لأمير المؤمنين في كلام له معه عليه الصلاة والسلام، أذكر لكم النص الكامل.

ذكر الآبي في كتاب نثر الدرر ـ وهو كتاب مطبوع موجود ـ وعنه أيضاً ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة عن ابن عباس قال: وقع بين عثمان وعلي كلام، فقال عثمان: ما أصنع إن كانت قريش لا تحبّكم، وقد قتلتم منهم يوم بدر سبعين كأنّ وجوههم شنوف الذهب(2).

هذه هي الأحقاد والضغائن، ولم يتمكّنوا من الإنتقام من رسول الله، فانتقموا من أهل بيته كما أخبر هو (صلى الله عليه وآله وسلم).

وهكذا توالت القضايا، انتقموا من الزهراء وأمير المؤمنين، وانتقموا، وانتقموا، إلى يوم الحسين (عليه السلام) وبعد يوم الحسين (عليه السلام).. وإلى اليوم....

____________

1- مجمع الزوائد 8 / 215.

2- شرح نهج البلاغة 9 / 22.