النظر في أدلّة تحريم المتعة
لقد ذكروا في الدفاع عن عمر بن الخطاب وعن تحريمه للمتعة ثلاثة وجوه، ولم أجد أكثر من هذه الوجوه.
الوجه الأوّل:
إنّ المحرّم لمتعة النساء هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالمتعة كانت في حياته الكريمة محرّمة، إلاّ أنّه لم يقل بهذا الحكم الشرعي للناس ولم يعلنه، وإنّما أعلم به عمر بن الخطّاب فقط، فلمّا تولّى عمر الأمر ـ أي أمر الخلافة ـ أعلن عن هذا الحكم.
هذا ما ينتهي إليه الفخر الرازي(1) بعد أنْ يحقّق في المسألة، ويشرّق ويغرّب، لاحظوا نصّ عبارته: فلم يبق إلاّ أن يقال: ـ أي الأقوال الأُخرى والوجوه الأُخرى كلّها مردودة في نظره ـ كان مراده ـ أي مراد عمر ـ أنّ المتعة كانت مباحة في زمن الرسول (صلى الله عليه وسلم)وأنا أنهى عنها، لما ثبت عندي أنّه ـ أي النبي ـ نسخها.
والأصرح من عبارته عبارة النووي(2) في توجيه هذا التحريم يقول: محمول ـ أي تحريمه للمتعة ـ على أنّ الذي استمتع على عهد أبي بكر وعمر لم يبلغه النسخ، وإنّما بلغ النسخ عمر بن الخطّاب فقط.
وكأنّ رسول الله همس في أُذن عمر بن الخطّاب بهذا الحكم الشرعي، وبقي هذا
____________
1- تفسير الرازي 2 / 167.
2- المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج، على هامش القسطلاني 6 / 128.
مناقشة الوجه الأوّل:
أوّلاً: إنّه يقول: وأنا أنهى عنهما، ولا يقول بأنّ رسول الله نسخ هذا الحكم وحرّمه وإنّي أُحرّم المتعة لتحريم رسول الله، يقول: أنا أنهى عنهما واُعاقب عليهما.
وثانياً: هل يرتضي الفخر الرازي ويرتضي النووي ـ لاسيّما الفخر الرازي الذي يقول: لم يبق إلاّ أن يقال، الفخر الرازي الذي يعترف بعدم تماميّة الوجوه الأُخرى وأنّ الوجه الصحيح عنده هذا الوجه، ولا طريق آخر لحلّ المشكلة ـ أن يكون الحكم الشرعي هذا لم يبلغ أحداً من الصحابة، ولم يبلّغه رسول الله إلى أحد منهم، وإنّما باح (صلى الله عليه وآله وسلم) به إلى عمر بن الخطّاب فقط، وبقي عنده، وحتّى أنّ عمر نفسه لم ينقل هذا الخبر عن رسول الله في تمام هذه المدّة؟ وما الحكمة في إخفاء هذا الحكم عن الأمّة إلاّ عن عمر، حتى أظهره في أُخريات أيّامه؟
مضافاً، إلى أنّ رجلاً اسمه عمران بن سواده، يخبر عن عمر بن الخطّاب عمّا يقول الناس فيه، أي عن اعتراضات الناس وانتقاداتهم على عمر، يبلّغه بتلك الأُمور، يقول له: عابت أُمّتك منك أربعاً:... وذكروا أنّك حرّمت متعة النساء وقد كانت رخصة من الله، نستمتع بقبضة ونفارق عن ثلاث.
فالناس كلّهم كانوا يتكلّمون فيه، وقد أبلغ هذا الرجل كلام الناس إليه، فانظروا إلى جوابه:
قال عمر: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أحلّها في زمان ضرورة ثمّ رجع الناس إلى سعة.
فكان رأياً منه ولم يكن رأياً من رسول الله حتّى يقول الفخر الرازي بأنّ هذا الحكم الشرعي ما سمع به إلاّ هذا الشخص وبقي عنده حتّى أعلن عنه.
ولكن الأُمّة لم تقبل هذا العذر من عمر الذي قال بأنّ رسول الله أحلّها في زمان ضرورة ثمّ رجع الناس إلى سعة، لم تقبل الأُمّة هذا العذر من عمر، وبقي الاختلاف على حاله إلى يومنا هذا.
الوجه الثاني:
إنّ التحريم كان من عمر نفسه وليس من رسول الله، هذا التحريم كان منه، وهو مقتضى نصّ عبارته: وأنا أنهى عنهما.
ولكن تحريم عمر يجب اتّباعه وامتثاله وإطاعته وتطبيقه، لقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضّوا عليها بالنواجذ ". هذا حديث نبوي، وينطبق هذا الحديث على فعل عمر، وحينئذ يجب إطاعة عمر فيما قال وفعل، فيما نهى وأمر.
يقول ابن القيّم: فإن قيل: فما تصنعون بما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبدالله كنّا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله وأبي بكر، حتّى نهى عنها عمر في شأن عمرو بن حريث، وفيما ثبت عن عمر أنّه قال: متعتان كانتا على عهد رسول الله؟
قيل في الجواب: الناس في هذا طائفتان، طائفة تقول: إنّ عمر هو الذي حرّمها ونهى عنها، وقد أمر رسول الله باتّباع ما سنّه الخلفاء الراشدون [ إشارة إلى الحديث الذي ذكرته ] ولم تر هذه الطائفة تصحيح حديث سمرة بن معبد في تحريم المتعة عام الفتح، فإنّه من رواية عبدالملك بن الربيع بن سمرة عن أبيه عن جدّه، وقد تكلّم فيه ابن معين، ولم ير البخاري إخراج حديثه في صحيحه مع شدّة الحاجة إليه.
يقول ابن القيّم: إنّ هذه الطائفة لم تعتبر هذا الحديث والبخاري لم يخرّجه في
____________
1- تاريخ الطبري 4 / 225.
فظهر أنّ هذا القول ـ أي القول بأنّ التحريم منه لا من الرسول ـ قول طائفة من العلماء، وهؤلاء لا يعتبرون الأحاديث الدالّة على تحريم رسول الله المتعة في بعض المواطن، كما سنقرأ تلك الأحاديث في القول الثالث، وقالوا بأنّ المحرِّم هو عمر، لكنّ تحريمه لا مانع منه وأنّه سائِغ وجائز، بل هو سنّة، ورسول الله أمر باتّباع سنّة الخلفاء الراشدين من بعده وهو منهم.
مناقشة الوجه الثاني:
في هذا الوجه اعتراف وإقرار بما يدلّ عليه كلام عمر حيث يقول: وأنا أنهى، وليس فيه أيّ تمحّل وتكلّف، أخذ بظاهر عبارته الصريحة في معناها، لكن في مقام التوجيه لابدّ وأن ينتهي الأمر إلى رسول الله، وقد انتهى الأمر إلى رسول الله على ضوء الحديث المذكور.
فرسول الله يقول: كلّ ما سنّه الخلفاء من بعده، فتلك السنّة واجبة الإتّباع، واجبة الامتثال والتطبيق، فحينئذ يتمّ التحريم، إذ أنّه ينتهي إلى التشريع، إلى الله والرسول.
لكن يتوقف هذا الاستدلال على تماميّة حديث: " عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي " أنْ يتمّ هذا الحديث سنداً ودلالة.
أمّا سنداً، فلابدّ أن يتمّ سنده ويكون معتبراً وتوثّق رجاله على أساس كلمات علماء الجرح والتعديل من أهل السنّة على الأقل.
إذا كان المراد من هذا الحديث هؤلاء، فحينئذ يتمّ الاستدلال بعد تماميّة السند.
ولكنّي وُفّقت ـ ولله الحمد ـ بتحرير رسالة مفردة(1) في هذا الحديث، وأثبتّ أنّه من الأحاديث الموضوعة في زمن معاوية، هذا أوّلاً.
وثانياً: هذا الحديث إنْ تمّ سنده على فرض التنزّل عن المناقشة سنداً، فإنّ المراد من الخلفاء في هذا الحديث هم الأئمّة الإثنا عشر في الحديث المعروف المشهور المتفق عليه بين المسلمين، وعليكم بمراجعة تلك الرسالة، ولو كان لنا وقت ومجال لوسّعت الكلام في هذا الحديث، ولكن أُحيلكم إلى تلك الرسالة.
الوجه الثالث:
إنّ التحريم كان من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا شيء أعلنه رسول الله وأبلغه رسول الله إلى الناس، إلاّ أنّ الذين قالوا بجوازه وبقوا على حليّته لم يبلغهم تحريم رسول الله...
إنّ رسول الله أعلن عن هذا الحكم الشرعي، إلاّ أنّ عليّاً لم يدرِ بهذا الحكم، وابن عباس وابن مسعود وأُبي بن كعب وجابر بن عبدالله الأنصاري وغيرهم، كلّ هؤلاء لم يطّلعوا على هذا التحريم من رسول الله، وأيضاً: عمر يقول: أُحرّمهما، وقد كان عليه أن يقول رسول الله حرّم، لكن أصحاب هذا القول يقولون بأنّ رسول الله هو الذي حرّم المتعة.
يقول ابن القيّم ـ بعد الكلام السابق الذي أوردناه ـ: الطائفة الثانية رأت صحّة حديث سمرة، ولو لم يصح فقد صحّ حديث علي أنّ رسول الله حرّم متعة النساء، فوجب حمل حديث جابر على أنّ الذي أخبر عنها بفعلها لم يبلغه التحريم، ولم يكن قد اشتهر، حتّى كان زمن عمر، فلمّا وقع فيها النزاع ظهر تحريمها واشتهر.
____________
1- مطبوعة ضمن (الرسائل العشر في الأحاديث الموضوعة في كتب السنّة).
وخلاصة هذا القول: أنّ رسول الله هو الذي حرّم، وقول عمر: أنا أُحرّمهما، غير ثابت، والحال أنّه ثابت عند ابن القيّم، وقد نصَّ على ذلك، هذا والصحابة القائلون بالحليّة بعد رسول الله لم يبلغهم التحريم.
مناقشة الوجه الثالث:
لنرى متى حرّم رسول الله المتعة؟ ومتى أعلن عن نسخ هذا الحكم الثابت في الشريعة؟
هنا أقوال كثيرة.
القول الأوّل: إنه كان عام حجة الوداع.
فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حرّم المتعة عام حجّة الوداع، والناس لم يعلموا، أي القائلون بالحليّة لم يعلموا ولم يطّلعوا على هذا التحريم، فكان شيء حلالاً في الشريعة بالكتاب والسنّة ثم إنّ رسول الله نسخ هذا الحكم في حجّة الوداع.
هذا هو القول الأوّل.
يقول ابن القيّم: هو وَهمٌ من بعض الرواة.
فهذا القول غلط.
القول الثاني: إنّه حرّم المتعة في حنين.
قال ابن القيّم: هذا في الحقيقة هو القول بكونه كان عام الفتح، لاتصال غزاة حنين بالفتح.
إذن، ينتفي القول بتحريم رسول الله المتعة في عام حنين، هذا القول الثاني.
القول الثالث: إنّه كان في غزوة أوطاس.
____________
1- زاد المعاد في هدي خير العباد 2 / 184.
فانتفى هذا العنوان، عنوان أنّ التحريم كان في أوطاس. تجدون هذه الكلمة في فتح الباري لابن حجر(1).
القول الرابع: قيل في عمرة القضاء.
قال السهيلي: أرغب ما روي في ذلك ـ أي في التحريم ـ رواية من قال في غزوة تبوك، ثمّ رواية الحسن إنّ ذلك كان في عمرة القضاء، هذا أرغب ما قيل.
ذكر هذا الكلام الحافظ ابن حجر في شرح البخاري وقال: أمّا عمرة القضاء فلا يصحّ الأثر فيها، لكونه من مرسل الحسن [ الحسن البصري ] ومراسيله ضعيفة، لأنّه كان يأخذ عن كلّ أحد، وعلى تقدير ثبوته، لعلّه ـ أي الحسن ـ أراد أيّام خيبر، لأنّهما كانا في سنة واحدة كما في الفتح وأوطاس سواء(2).
فهذه أربعة أقوال بطلت بتصريحاتهم.
فمتى؟ وأين حرّم رسول الله المتعة؟ هذا التحريم الذي لم يبلغ أمير المؤمنين وغيره من كبار الأصحاب؟
القول الخامس: إنّه في عام الفتح.
وهذا القول اختاره ابن القيّم، واختاره ابن حجر، ونسبه السهيلي إلى المشهور، فلاحظوا زاد المعاد(3)، وفتح الباري(4).
يقول ابن حجر الطريقة التي أخرجها مسلم مصرّحة بأنّها في زمن الفتح أرجح، فتعيّن المصير إليها.
____________
1- فتح الباري في شرح صحيح البخاري 9/138.
2- فتح الباري في شرح صحيح البخاري 9/138.
3- زاد المعاد في هدي خير العباد 2 / 184.
4- فتح الباري في شرح صحيح البخاري 9/138.
قال ابن حجر بعد ذكر أدلّة الأقوال الأُخرى: فلم يبق من المواطن كما قلنا صحيحاً صريحاً سوى غزوة خيبر وغزوة الفتح، وفي غزوة خيبر من كلام أهل العلم ما تقدّم.
إذن، إنحصر الأمر في موطنين، إمّا في الفتح وإمّا في خيبر، لكن في غزوة خيبر يعارضه كلام أهل العلم فهذا أيضاً يبطل، ويبقى القول بأنّه في عام الفتح.
وسنقرأ كلمات أهل العلم في غزوة خيبر.
أقول: دليل كون التحريم في غزوة الفتح ما هو؟ هو ذاك الحديث الذي لم يخرّجه البخاري، هو الحديث الذي أبطله ابن معين، هو الحديث الذي قال النووي وقال ابن قيّم وغيرهما: بأنّ هذا الحديث غير معتبر وإنْ أخرجه مسلم في صحيحه.
لاحظوا تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني بترجمة عبدالملك بن الربيع يقول: قال أبو خيثمة سئل يحيى بن معين عن أحاديث عبدالملك ابن الربيع عن أبيه عن جدّه فقال: ضعاف. وحكى ابن الجوزي عن ابن معين أنّه قال: عبدالملك ضعيف. وقال أبوالحسن ابن القطان: لم تثبت عدالته وإنْ كان مسلم أخرج له فغير محتجّ به [ يعني إنّ مسلماً أخرج هذا الحديث عن هذا الرجل، إلاّ أنّه لا يحتجّ مسلم به، لماذا؟ ] لأنّه أخرجه متابعة.
والحديث إذا كان متابعة في الاصطلاح فمعناه أنّه ليس هو مورد الإحتجاج، وإنّما ذكر لتقوية حديث آخر، ومسلم إنّما أخرج له حديثاً واحداً في المتعة، هو نفس هذا الحديث، متابعةً، وقد نبّه على ذلك المزّي صاحب كتاب تهذيب الكمال، ولاحظوا تهذيب التهذيب(1).
فظهر أنّ هذا الحديث ساقط سنداً عند الشيخين، وابن معين، وغيرهم، من أعلام
____________
1- تهذيب التهذيب 6/349.
وخلاصة البحث إلى الآن: إن أمر القوم يدور بين أمرين كما ذكر ابن قيّم الجوزيّة:
إمّا أن ينسبوا التحريم إلى عمر ويجعلوا سنّته سنّةً شرعيّة يجب اتّباعها على أساس الحديث الذي ذكرناه.
وأمّا إذا كان التحريم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلماذا نسبه عمر إلى نفسه؟ ولماذا نسب كبار الصحابة إلى عمر التحريم؟
ثمّ حينئذ يسألون عن وقت هذا التحريم، وقد ظهر أنّه ليس في أوطاس، ولا في فتح مكّة، ولا في حجّة الوداع، ولا، ولا، ولا، فأين كان هذا التحريم الذي بلغ عمر ولم يبلغ سائر الصحابة أجمعين؟
هنا يضطربون ـ لاحظوا ـ يقولون: إنّ التحريم والتحليل تكرّرا، حلّلها رسول الله في موطن، ثمّ في الموطن اللاحق حرّمها، في الموطن الثالث حلّلها، في الموطن الرابع حرّمها... وهكذا، حتّى يجمع بين هذه الأقوال والروايات.
لاحظوا عنوان مسلم يقول: باب نكاح المتعة وبيان أنّه أُبيح ثمّ نسخ ثمّ أبيح ثمّ نسخ واستقرّ حكمه إلى يوم القيامة.
لكنّ الروايات والأقوال هي أكثر من مرّتين، تبلغ السبعة، ولذا اضطرّ بعضهم أن يقول: أحلّ الرسول المتعة وحرّمها، أحلّها وحرّمها إلى سبعة مواطن، وهذا ما التزمه القرطبي في تفسيره(1).
لكنّ ابن القيّم يقول: هذا لم يعهد في الشريعة(2) ولا يوجد عندنا حكم أحلّه الله سبحانه وتعالى وحرّمه مرّتين، فكيف إلى سبعة مرّات؟!
فيظهر أنّها محاولات فاشلة، ولم يتمكّنوا من إثبات تحريم رسول الله، وكان
____________
1- الجامع لأحكام القرآن 5 / 130.
2- زاد المعاد في هدي خير العباد 2 / 184.
كان الأجدر بهم جميعاً أن يلتزموا بهذا، إن أمكنهم تصحيح حديث " عليكم بسنّتي.... " وتماميّة هذا الحديث في دلالته.
وإلى الآن... بقيت ذمّة عمر مشغولة، والمشكلة غير محلولة.
الإفتراء على عليّ (عليه السلام) في مسألة المتعة
حينئذ يضطرّون إلى الافتراء، لأنّ المخالف الأوّل عليّ، وعليّ هو الإمام العالم بالأحكام الشرعيّة، الحريص على حفظها وتطبيقها بحذافيرها، فالأولى أن يفتروا على علي، ويضعوا على لسانه أحاديث في أنّ رسول الله حرّم المتعة، فخرج عمر عن العهدة وشاركه في الحكم بالتحريم والنقل عن رسول الله علي (عليه السلام).
وهذه طريقة أُخرى بعد أن فشلت المحاولات في إثبات أنّ الرسول هو الذي حرّم، وإثبات أنّه حرّم ولم يعلم بهذا التحريم إلاّ عمر، وأيضاً فشلوا في نسبة التحريم إلى عمر، لعدم تمكّنهم من إثبات حديث عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين، فماذا يفعلون؟ حينئذ يفترون على من؟ على عليّ بن أبي طالب، فلو أنّ عليّاً وافق عمر في فتواه في التحريم في قول، حينئذ ينتفي الخلاف ولا يبقى نزاع في البين.
لكن المشكلة هي أنّ المفترين على علي لمّا تعدّدوا، تعدّد الوضع عليه والافتراء، فجاء أحدهم فنقل عن علي أنّ التحريم من رسول الله، وكان في الموطن الكذائي، وجاء الآخر ـ وهو جاهل بتلك الفرية ـ وافترى عليه أنّ رسول الله حرّم في موطن آخر، وجاء ثالث وهو لا يعلم بأنّ قبله من افترى على علي في موطنين، فوضع موطناً ثالثاً، وهكذا عادت المشكلة وتعدّدت الروايات، فمتى حرّم رسول الله المتعة؟ عادت المشكلة من جديد، عندما يتعدّد المفترون، وكلٌّ لا علم له باختلاق غيره، حينئذ يتعدّد الاختلاق، وإذا تعدّد الاختلاق حصل الاختلاف، حتّى لو كانت الأحاديث موجودة في الصحيحين، إذ الخبران حينئذ يتعارضان، لأنّ التحريم من رسول الله واحد.
لاحظوا الأسانيد بدقّة، فالسند واحد، السند الذي يقول عن علي التحريم في تبوك هو نفس السند الذي يقول عنه أنّ التحريم في خيبر، وهو نفس السند الذي يقول أنّ التحريم في حنين، فلاحظوا كيف يكون!!.
الحديث الأول:
قال النووي: وذكر غير مسلم عن علي أنّ النبي نهى عنها في غزوة تبوك، من رواية إسحاق بن راشد عن الزهري عن عبدالله بن محمّد بن علي عن أبيه عن علي: أنّ رسول الله حرّم المتعة في تبوك.
إذن، الراوي من؟ الزهري، عن عبد الله بن محمّد بن الحنفيّة، عن أبيه محمد بن الحنفية، عن علي: إنّ رسول الله حرّم المتعة في تبوك(1).
الحديث الثاني:
أخرج النسائي: أخبرنا عمرو بن علي ومحمّد بن بشّار ومحمّد بن المثنّى ثلاثتهم قالوا: أنبأنا عبدالوهّاب قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني مالك بن أنس، أنّ ابن شهاب ـ أي الزهري ـ أخبره أنّ عبدالله والحسن ابني محمّد بن علي أخبراه، أنّ أباهما محمّد بن علي بن الحنفيّة أخبرهما أنّ علي بن أبي طالب قال: نهى رسول الله يوم خيبر عن متعة النساء، قال ابن المثنّى [ هذا أحد الثلاثة الذين روى عنهم النسائي، لأنّه قال عمرو بن علي ومحمّد بن بشّار ومحمّد بن المثنّى ثلاثتهم ] قال ابن المثنّى: حنين بدل خيبر.
نفس السند ابن المثنّى يقول: حنين، قال: هكذا حدّثنا عبدالوهّاب من كتابه.
____________
1- المنهاج في شرح صحيح مسلم 6/119 هامش القسطلاني.
وأمّا أخبار خيبر، ففي الصحيحين، أخرج البخاري: حدّثنا مالك بن إسماعيل، حدّثنا ابن عُيينة: إنّه سمع الزهري يقول: أخبرني الحسن بن محمّد بن علي وأخوه عبدالله، عن أبيهما: إنّ عليّاً قال لابن عباس.
لاحظوا أيضاً قول علي لابن عباس، هذه عبارة علي يخاطب ابن عباس، لأنّ ابن عباس إلى آخر لحظة من حياته كان يقول بحليّة المتعة، هذا ثابت، وعلي كان من القائلين بالحرمة كما يزعمون.
فقال لابن عباس: إنّ النبي نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهليّة زمن خيبر(2).
وأخرج مسلم: حدّثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك على ابن شهاب [ عاد إلى الزهري ] عن عبدالله والحسن ابني محمّد ابن علي، عن أبيهما، عن علي بن أبي طالب: أنّ رسول الله نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل اللحوم الحمر الإنسيّة.
هنا لايوجد خطاب لابن عباس، فلاحظوا بقيّة الأحاديث:
وحدّثناه عبدالله بن محمّد بن أسماء الربيعي، حدّثنا الجويرية، عن مالك بهذا الإسناد [ نفس السند ] وقال: سمع علي بن أبي طالب يقول لفلان [ لا يوجد اسم ابن عباس ] : إنّك رجل تائه، نهانا رسول الله عن متعة النساء يوم خيبر.
لاحظتم الفرق بين العبارات.
حديث آخر: حدّثنا أبوبكر ابن أبي شيبة وابن نمير وزهير بن حرب، جميعاً عن ابن عيينة. قال زهير: حدّثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن الحسن بن عبدالله بن محمّد
____________
1- سنن النسائي 6/126.
2- فتح الباري في شرح صحيح البخاري 9/136.
هنا أيضاً لا يتعرض إلى ذكر ابن عباس.
وحدّثنا محمّد بن عبدالله بن نمير، حدّثنا أبي حدّثنا عبيدالله، عن ابن شهاب، عن الحسن وعبدالله ابني محمّد بن علي، عن أبيهما، عن علي: إنّه سمع ابن عباس يليّن في متعة النساء فقال: مهلاً يابن عباس [ في هذا اللفظ مهلاً يابن عباس، كان هناك: إنّك رجل تائه، في لفظ آخر: قال لفلان ] : مهلاً يابن عباس، فإنّ رسول الله نهى عنها يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإنسيّة.
وأيضاً حديث آخر: حدّثني أبوالطاهر وحرملة بن يحيى قالا: أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن الحسن وعبدالله ابني محمّد بن علي بن أبي طالب، عن أبيهما: إنّه سمع علي بن أبي طالب يقول لابن عباس: يابن عباس نهى رسول الله عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسيّة(1).
إذن، لاحظتم أنّهم يروون عن علي بسند واحد أنّ رسول الله حرّم المتعة، تارة ينقلون حرّمها في خيبر، وتارة في تبوك، وتارة في حنين، وهذه الأحاديث وهي بسند واحد، أليست تتعارض ويكذّب بعضها بعضاً؟ وقد وجدتم الخبر عند النسائي بسند واحد وفيه خيبر وحنين، كلاهما بسند واحد!
حديث التحريم في تبوك، نصّ الحافظ ابن حجر بأنّه خطأ.
هذا واحد.
وحديث التحريم في خيبر خطّأه كبار الأئمّة وكذّبه أعلام الحديث والرجال والسير، لاحظوا السهيلي يقول: هذا غلط هذا كذب.
فابن عبد البر، والبيهقي، وإبن حجر العسقلاني، والقسطلاني صاحب إرشاد
____________
1- صحيح مسلم بشرح النووي، هامش القسطلاني 6/129، 130.
إذن، فماذا يبقى؟ وما الفائدة من الافتراء على علي، وبقي عمر في تحريم المتعة وحده.
وهذه الأحاديث كلّها ـ كما قرأنا ـ تنصّ على أنّ عبدالله بن عباس كان يقول بالحليّة، وهناك أحاديث أُخرى أيضاً لم أقرأها، وعلي قال له: إنّك رجل تائه، لأنّه كان يقول بالحليّة.
فإذن، يكون ابن عباس مخالفاً لعمر، وماذا فعلوا؟ لابد من الافتراء على ابن عباس أيضاً، فرووا أنّ ابن عباس رجع عن القول بالحلّيّة...
يقول ابن حجر في فتح الباري: كلّ أسانيد رجوع عبدالله بن عباس ضعيفة.
ينصّ الحافظ ابن حجر وينصّ ابن كثير على أنّ ابن عباس بالرغم من أنّه خاطبه عليّ بأنّك رجل تائه، وقال له: مهلاً يابن عباس... وإلى آخره، لم يرجع عن القول بالحليّة إلى آخر حياته، فوضعوا على لسانه أحاديث بأنّه رجع، وابن حجر يقول: هذه الأحاديث كلّها ضعيفة سنداً، وابن كثير أيضاً يكذّب الرجوع(2).
وبقي عمر وحده، ولم يتمكّن أولياؤه من توجيه تحريم عمر وتبرير مقولته، وماذا نفعل؟ وما ذنبنا؟ أرأيتم إنّنا نقلنا شيئاً عن أصحابنا؟ أوجدتم رواية ذكرناها عن طرقنا؟ وهل اعتمدنا في هذا البحث على كتاب من كتبنا؟
أليس الحقّ ـ إذن ـ مع علمائنا؟
____________
1- فتح الباري 9: 138، عمدة القاري 17: 246، ارشاد الساري 6: 536 و 8: 41، زاد المعاد 2: 184، البداية والنهاية 4: 193.
2- فتح الباري في شرح صحيح البخاري 9 / 139، البداية والنهاية 4 / 193.
خاتمة البحث
وتبقى هنا نقاط أذكرها لكم:
النقطة الأُولى:
إنّ مدار هذه الأحاديث كما قرأناها على الزهري، والزهري من أشهر المنحرفين عن علي (عليه السلام)، وكان صاحب شرطة بني أُميّة، مع أنّه فقيه كبير، وكان من المقرّبين للبلاط، وقد اتخذوا منه جسراً يعبرون عليه إلى مقاصدهم، حتّى أنّ الإمام زين العابدين (عليه السلام)كتب إليه كتاباً وعظه فيه ونصحه ووبّخه ولم يؤثر فيه، والكتاب موجود حتّى في الكتب الأخلاقيّة الوعظيّة العرفانيّة مثل إحياء علوم الدين(1)، وهو أيضاً موجود في أحد كتبنا، عثرت عليه في كتاب تحف العقول لابن شعبة الحرّاني(2).
هذا الرجل هذا شأنه، والأسانيد كلّها تنتهي إليه، والعجيب أنّه عندما يضع، يضع الشيء على لسان أهل البيت وذريّة الأئمّة الطاهرين، وقد قرأنا في بعض البحوث السابقة حديثاً في أنّ أبابكر وعمر صلّيا على فاطمة الزهراء، وهم يروون هذا الحديث عن الزهري عن أحد الأئمّة (عليهم السلام) وأولادهم، وهذا فعلهم متى ما أرادوا أن يضعوا مثل هذه الأحاديث يحاولون أن يضعوها على لسان بعض أهل البيت أو أبنائهم.
____________
1- إحياء علوم الدين 2 / 143.
2- تحف العقول عن آل الرسول: 198.
النقطة الثانية:
ذكروا أنّ عبدالملك بن عبدالعزيز بن جريج، هذا الفقيه الكبير، المتوفى سنة 149هـ، وهو من كبار التابعين، ومن أئمّة الفقه والحديث، ومن رجال الصحاح الستة، هذا الرجل تزوّج بأكثر من تسعين إمرأة متعة، وقد أوصى إلى أبنائه وحذّرهم من أن يتزوّجوا بشيء من هذه النساء لأنّهنّ زوجات والدهم، وهذا من كبار التابعين في القرن الثاني، لاحظوا سير أعلام النبلاء(1) وغير هذا الكتاب من المصادر بترجمة ابن جريج المكّي.
النقطة الثالثة:
ذكر الراغب الإصفهاني في كتاب المحاضرات: قال يحيى بن أكثم لشيخ بالبصرة: بمن اقتديت في جواز المتعة؟ قال: بعمر بن الخطاب، فقال: كيف هذا وعمر كان أشد الناس فيها؟ قال: لأنّ الخبر الصحيح قد أتى أنّه صعد المنبر فقال: إنّ الله ورسوله أحلاّ لكم متعتين وإنّي أُحرّمهما عليكم وأُعاقب عليهما، فقبلنا شهادته ولم نقبل تحريمه(2).
النقطة الرابعة:
ذكر ابن خلّكان بترجمة يحيى بن أكثم: أنّ المأمون الخليفة العبّاسي أمير المؤمنين عندهم، أمر بأنْ ينادى بحلّيّة المتعة، قال: فدخل عليه محمّد بن منصور وأبو العيناء، فوجداه يستاك ويقول وهو متغيّظ: متعتان كانتا على عهد رسول الله وعهد أبي بكر وأنا أنهى عنهما! ومن أنت يا جُعل حتّى تنهى عمّا فعله رسول الله وأبو بكر! فأراد محمّد بن
____________
1- سير أعلام النبلاء 6/333.
2- محاضرات الأُدباء 2 / 214.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.
____________
1- وفيات الأعيان 5 / 197.
الشهادة بالولاية
في الأذان
تمهيد:
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الأوّلين والآخرين.
بحثنا في الشهادة بولاية أمير المؤمنين في الأذان.
تارة نبحث عن هذه المسألة فيما بيننا نحن الشيعة الإماميّة الإثنى عشريّة، وتارة نجيب عن سؤال يردنا من غيرنا وعن خارج الطائفة، ويكون طرف البحث من غير أصحابنا.
فمنهج البحث حينئذ يختلف.
أمّا في أصحابنا، فلم أجد أحداً، لا من السابقين ولا من اللاحقين، من كبار فقهائنا ومراجع التقليد، لم أجد أحداً يفتي بعدم جواز الشهادة بولاية أميرالمؤمنين في الأذان، ومن يتتبع ويستقصي أقوال العلماء منذ أكثر من ألف سنة وإلى يومنا هذا، ويراجع كتبهم ورسائلهم العمليّة، لا يجد فتوى بعدم جواز هذه الشهادة.
فلو ادّعى أحد أنّه من علماء هذه الطائفة، وتجرّأ على الفتوى بالحرمة، أو التزم بترك الشهادة هذه، فعليه إقامة الدليل العلمي القطعي الذي يتمكّن أن يستند إليه في فتواه أمام هذا القول، أي القول بالجواز، الذي نتمكّن من دعوى الإجماع عليه بين أصحابنا.
وكلامنا مع من هو لائق للإفتاء، وله الحق في التصدّي لهذا المنصب، أي منصب
أمّا أصحابنا بعد الإتّفاق على الجواز:
منهم من يقول باستحباب هذه الشهادة في الأذان، ويجعل هذه الشهادة جزءاً مستحبّاً مندوباً من أجزاء الأذان، كما هو الحال في القنوت بالنسبة إلى الصلاة، وهؤلاء هم الأكثر الأغلب من أصحابنا.
وهناك عدّة من فقهائنا يقولون بالجزئيّة الواجبة، بحيث لو تركت هذه الشهادة في الأذان عمداً، لم يثب هذا المؤذّن على أذانه أصلاً ولم يطع الأمر بالأذان.
ومن الفقهاء من يقول بأنّ الشهادة الثالثة أصبحت منذ عهد بعيد من شعائر هذا المذهب، ومن هذا الحيث يجب إتيانها في الأذان.
معنى الأذان والشهادة وولاية عليّ (عليه السلام)
قبل الورود في البحث، عنوان بحثنا الشهادة بولاية أمير المؤمنين في الأذان، فما هو الأذان؟ وما هي الشهادة؟ وما المراد من ولاية علي (عليه السلام)؟
" الأذان ": هو في اللغة العربية وفي القرآن والسنّة وفي الاستعمالات الفصيحة: الإعلان، أي الإعلام، ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بالْحَجِّ )(1) أي أعلمهم بوجوب الحج، وأعلن وجوب الحج ( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ )(2) أي أعلن ونادى مناد بينهم، وهكذا في الاستعمالات الأُخرى.
فالأذان أي الإعلان.
" الشهادة ": هي القول عن علم حاصل عن طريق البصر أو البصيرة، ولذا يعتبر في الشهادة أن تكون عن علم، فالشهادة عن ظنّ وشك لا تعتبر، فلو قال أشهد بأنّ هذا الكتاب لزيد وسُئل أتعلم؟ فإن قال: لا، أظن، ترد شهادته.
وهذا العلم تارةً يكون عن طريق البصر فالإنسان يرى بعينه أنّ هذا الكتاب مثلاً اشتراه زيد من السوق فكان ملكه، وتارة يشهد الإنسان بشيء ولكنّ ذلك الشيء لا يرى وإنّما يراه بعين البصيرة فيشهد، كما هو الحال في الشهادة بوحدانيّة الله سبحانه وتعالى وبالمعاد والقيامة وغير ذلك من الأُمور التي يعلم الإنسان بها علماً قطعيّاً، فيشهد بتلك الأُمور.
____________
1- سورة الحج: 27.
2- سورة الاعراف: 44.
فإذا ضممنا هذه الأُمور الثلاثة، لاحظوا، إذنْ، نعلن في الأذان، نعلن ونخبر الناس إخباراً عامّاً: بأنّا نعتقد بأولويّة علي بالناس بعد رسول الله.
هذا معنى الشهادة بولاية علي في الأذان، أي نقول للناس، نقول للعالم، بأنّا نعتقد بولاية علي، بأولويته بالناس بعد رسول الله.
وهذا القول قول عام، نعلن عنه على المآذن وغير المآذن، ونسمع العالمين بهذا الاعتقاد.
وهذا الاعتقاد الذي نحن عليه لم يكن اعتقاداً جزافياً اعتباطياً، وإنّما هناك أدلة تعضد هذا الاعتقاد وتدعم هذا الاعتقاد، فنعلن عن هذا الاعتقاد للعالم، ونتّخذ الأذان وسيلة للإعلان عن هذا الاعتقاد.