يا أهل الكوفة قد دعوتكم إلى جهاد هؤلاء ليلا ونهارا، وسرا وإعلانا، وقلت لكم اغزوهم فإنه ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا، فتواكلتم (2) وتخاذلتم وثقل عليكم قولي، واستصعب عليكم أمري، واتخذتموه ورائكم ظهريا، حتى شنت عليكم الغارات، وظهرت فيكم الفواحش والمنكرات، تمسيكم وتصبحكم، كما فعل بأهل المثلات من قبلكم، حيث أخبر الله عز وجل عن الجبابرة العتاة الطغاة، المستصعفين الغوات، في قوله تعالى: " يذبحون أبنائكم ويستحيون نسائكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم (3) " أما والذي فلق الحبة وبرئ النسمة لقد حل بكم الذي توعدون.
عاتبتكم يا أهل الكوفة بمواعظ القرآن فلم أنتفع بكم، وأدبتكم بالدرة فلم تستقيموا لي، وعاقبتكم بالسوط الذي يقام به الحدود فلم ترعووا، ولقد علمت أن
____________
(1) أي: أطول ممارسة وأشد معالجة.
(2) أي أحال كل منكم الأمر إلى صاحبه ووكله إليه ولم يتوله أحد منكم.
(3) البقرة: 49.
يا أهل الكوفة منيت منكم بثلاث واثنتين (2) صم ذووا أسماع، وبكم ذووا ألسن، وعمي ذووا أبصار، لا إخوان صدق عند اللقاء، ولا إخوان ثقة عند البلاء.
اللهم إني قد مللتهم وملوني، وسئمتهم وسئموني (3) اللهم لا ترض عنهم أميرا ولا ترضهم عن أمير، وأمث قلوبهم كما يماث الملح (4) بالماء أما والله لو أجد بدا (5) من كلامكم ومراسلتكم ما فعلت، ولقد عاتبتكم في رشدكم حتى لقد سئمت الحياة، كل ذلك تراجعون بالهزء من القول، فرارا من الحق، وإلحادا إلى الباطل الذي لا يعز الله بأهله الدين، وإني لأعلم أنكم لا تزيدونني غير تخسير، كلما أمرتكم بجهاد عدوكم اثاقلتم إلى الأرض وسألتموني التأخير، وفاع ذي الدين المطول، (6) إن قلت لكم في القيظ سيروا، قلتم الحر شديد، وإن قلت لكم في البرد سيروا، قلتم القر شديد (7) كل ذلك فرارا عن الحرب، إذا كنتم عن الحر والبرد تعجزون، فأنتم عن حرارة السيف أعجز، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
____________
(1) أي متطلبا صلاحكم بفساد ديني.
(2) منيت به: امتحنت واختبرت به.
(3) سئمه: مله.
(4) يماث الملح: يذوب.
(5) لم تجد لك بدا من كذا أي: مخلصا منه.
(6) المطول: الكثير المطل وهو: تأخير أداء الدين بلا عذر.
(7) القر بالضم - البرد.
احتجاجه (ع) على معاوية في جواب كتاب كتب إليه في غيره من المواضع وهو من أحسن الحجاج وأصوبها (*).
أما بعد فقد أتاني كتابك تذكر فيه اصطفاء الله تعالى محمدا صلى الله عليه وآله لدينه، وتأييده إياه بمن أيده من أصحابه، فلقد خبأ (4) لنا الدهر منك عجبا إذ طفقت (5)
____________
(1) الأنبار: بلدة على الشاطئ الشرقي للفرات ويقابلها على الجانب الغربي هيت
(2) العصبة - بضم العين -: جماعة من الرجال نحو العشرة وقيل من العشرة إلى الأربعين.
(3) الغرض - بالتحريك -: الهدف الذي يرمى إليه.
(*) تجد هذا الكتاب في ج 3 ص 34 من نهج البلاغة.
(4) خبأه: ستره وأخفاه.
(5) طفق: جعل.
____________
(1) مثل يضرب لمن يحمل الشئ إلى معدنه لينتفع به فيه وهجر معروفة بكثرة التمر.
(2) المناضلة المرامات يقال: ناضله إذا راماه، ومسدده: الذي يعلمه الرمي وهو مثل يضرب لمن يتعالم على معلمه ومثله قوله:
(3) يريد أبا بكر وعمر.
(4) القدح: السهم وهذا المثل يضرب لمن يفتخر بشئ ليس فيه.
(5) أربع: توقف وانتظر يقال: " أربع على نفسك أو على ظلعك " أي:
توقف ولا تستعجل والظلع العيب. أي أنت ضعيف فانته عما لا تطيقه ويقصر عنه باعك
(6) أي حائد عن القصد.
(7) هو حمزة بن عبد المطلب عم الرسول " ص " وقد مر ذكره في هامش ص 194 فراجعه.
____________
(1) هو جعفر بن أبي طالب " ع " وقد مر ذكره في هامش ص 172 من هذا الكتاب.
(2) الرمية: الصيد وهو مثل يضرب لمن اعوج غرضه فمال عن الاستقامة لطلبه والمراد هنا بمن مالت به الرمية الأول والثاني.
(3) قال العلامة المجلسي في ج 8 ص 536 من بحار الأنوار:
قوله عليه السلام: " فأنا صنايع ربنا " هذا كلام مشتمل على أسرار عجيبة من غرائب شأنهم التي تعجز عنها العقول، ولنتكلم على ما يمكننا إظهاره والخوض فيه فنقول صنيعة الملك: من يصطنعه ويرفع قدره، ومنه قوله تعالى: " اصطنعتك لنفسي " أي اخترتك وأخذتك صنيعتي، لتنصرف عن إرادتي ومحبتي.
فالمعنى: أنه ليس لأحد من البشر علينا نعمة، بل الله تعالى أنعم علينا، فليس بيننا وبينه واسطة، والناس بأسرهم صنايعنا فنحن الوسائط بينهم وبين الله سبحانه.
ويحتمل أن يريد بالناس بعض الناس أي المختار من الناس، نصطنعه ونرفع قدره.
وفي ج 3 من شرح النهج لابن أبي الحديد ص 451 قال:
هذا كلام عظيم عال على الكلام، ومعناه عال على المعاني، وصنيعة الملك من يصطنعه الملك ويرفع قدره، يقول: ليس لأحد من البشر علينا نعمة بل الله تعالى هو الذي أنعم علينا، فليس بيننا وبينه واسطة، والناس بأسرهم صنائعنا فنحن الواسطة بينهم وبين الله تعالى، وهذا مقام جليل ظاهره ما سمعت وباطنه أنهم عبيد الله، وأن الناس عبيدهم.
وقال محمد بن عبده في ص 36 من ج 3: من نهج البلاغة آل النبي: أسراء إحسان الله عليهم والناس أسراء فضلهم بعد ذلك.
(4) الطول: الفضل. قال العلامة المجلسي في ص 536 من ج 8 من بحار الأنوار
=>
ولما احتج المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول الله صلى الله عليه وآله فلجوا عليهم
____________
<=
" أقول: قد ظهر لك مما سبق أن بني أمية لم يكن لهم نسب صحيح ليشاركوا في الحسب
آباءه عليه السلام مع أن قديم عزهم لم ينحصر في النسب بل أنوارهم " ع " أول المخلوقات
ومن بدو خلق أنوارهم إلى خلق أجسادهم وظهور آثارهم كانوا معروفين بالعز والشرف
والكمالات، في الأرضين والسماوات، يخبر بفضلهم كل سلف خلفا، ورفع الله ذكرهم
في كل أمة عزا وشرفا.
(1) المكذب: أبو سفيان كان المكذب لرسول الله وعدوه المجلب عليه وقيل المراد
به أبو جهل.
(2) أسد الله حمزة. وأسد الأحلاف قيل هو: أسد بن عبد العزى، وقيل
عتبة بن ربيعة، وقيل أبو سفيان لأنه حزب الأحزاب، وحالفهم على قتال النبي " ص "
في غزوة الخندق.
(3) وصبية النار: إشارة إلى الكلمة التي قالها النبي " ص " لعقبة بن أبي معيط
حين قتله يوم بدر وقال - كالمستعطف له صلى لله عليه وآله -: " من للصبية يا محمد "
قال: " النار ".
(4) حمالة الحطب: أم جميل بنت حرب بن أمية امرأة أبي لهب.
(5) لا تدفع أي: لا تنكر وفي بعض النسخ " وجاهليتنا " وحينئذ يكون المعنى
شرفنا وفضلنا في الجاهلية لا ينكره أحد.
وزعمت أني لكل الخلفاء حسدت، وعلى كلهم بغيت، فإن يكن ذلك كذلك فليس الجناية عليك فيكون العذر إليك.
وقلت: إني كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى أبايع، ولعمر الله لقد أردت أن تذم فمدحت، وأن تفضح فافتضحت، وما على المسلم من غضاضة (2) في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكا في دينه، ولا مرتابا في يقينه، وهذه حجتي إلى غيرك قصدها، ولكني أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها.
ثم ذكرت ما كان من أمري وأمر عثمان فلك أن تجاب عن هذه لرحمك منه فأينا كان أعدى له وأهدى إلى مقاتلته، أم من بذل له نصرته فاستقعده واستكفه؟
أم من استنصره فتراخى عنه وبث المنون إليه حتى أتى عليه قدره؟ كلا والله لقد علم الله المعوقين منكم والقائلين لأخوانهم هلم إلينا، ولا يأتون البأس إلا قليلا، وما كنت لأعتذر من أني كنت أنقم عليه أحداثا، فإن كان الذنب إليه إرشادي وهدايتي له، فرب ملوم لا ذنب له، وقد يستفيد الظنة المتنصح، وما أردت إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
وذكرت أنه ليس لي ولا لأصحابي عندك إلا السيف، ولقد أضحكت بعد استعبار، متى ألفيت بنو عبد المطلب عن الأعداء ناكلين (3) وبالسيوف مخوفين فألبث قليلا يلحق الهيجاء (4) حمل، فسيطلبك من تطلب، ويقرب منك ما تستبعد
____________
(1) وذلك إن المهاجرين احتجوا يوم السقيفة بأنهم شجرة الرسول ففلجوا - أي: ظفروا بهم - وظفر المهاجرين بهذه الحجة ظفر لأمير المؤمنين على معاوية وإلا فالأنصار على حقهم من دعوى الخلافة وفي كلا الحالين ليس لمعاوية فيها من نصيب.
(2) الغضاضة: النقص.
(3) ناكلين: متأخرين.
(4) لبث: - بتشديد الباء -: فعل أمر من " ليث " إذا استزاد لبثه - أي:
مكثه، والهيجاء: الحرب، وحمل - بالتحريك -: هو حمل بن بدر، رجل من قشير
=>
أما بعد فإنا كنا نحن وأنت على ما ذكرت من الألفة والجماعة، ففرق بيننا وبينكم بالأمس إنا آمنا وكفرتم، واليوم إنا استقمنا وفتنتم، وما أسلم مسلمكم إلا كرها (7) وبعد أن كان أنف الإسلام كله لرسول الله حزبا (8).
وذكرت إني قتلت طلحة والزبير، وشردت بعايشة، ونزلت بين المصرين (9) وذلك أمر غبت عنه، فلا الجناية عليك، ولا العذر فيه إليك، وذكرت أنك زائري في المهاجرين والأنصار، وقد انقطعت الهجرة يوم أسر أخوك (10) فإن كان فيك
____________
<=
أغير على إبله في الجاهلية فاستنقذها وقال: -
فصار مثلا يضرب للتهديد بالحرب.
(1) مرقل: مسرع والجحفل: الجيش العظيم.
(2) الساطع، المنتشر. والقتام - بالفتح -: الغبار.
(3) السربال: اللباس أي: لابسين لباس الموت كأنهم في أكفانهم.
(4) النصال: السهام.
(5) أخوه: حنظلة، وخاله: الوليد بن عتبة، وجده: عتبة بن ربيعة وهو جده لأمه
(6) تجد هذا الكتاب في ص 134 من ج 3 من نهج البلاغة.
(7) وذلك إن أبا سفيان لم يسلم حتى قبل فتح مكة وإنما دخل الإسلام خوف القتل
(8) أنف الإسلام: إشراف العرب الذين دخلوا فيه قبل الفتح.
(9) المصران: الكوفة والبصرة.
(10) أخوه: عمرو بن أبي سفيان، أسر يوم بدر.
وعندي السيف الذي أعضضته بجدك وخالك وأخيك في مقام واحد (2)، وإنك والله ما علمت الأغلف القلب المقارب (3) للعقل، والأولى أن يقال لك:
إنك رقيت سلما أطلعك مطلع سوء عليك لا لك، لأنك نشدت غير ضالتك (4) ورعيت غير سائمتك (5) وطلبت أمرا لست من أهله، ولا في معدنه، فما أبعد قولك من فعلك! وقريب ما اشبهت من أعمام وأخوال حملتهم الشقاوة وتمني الباطل، على الجحود بمحمد صلى الله عليه وآله، فصرعوا بمصارعهم حيث عملت لم يدفعوا عظيما، ولم يمنعوا حريما، بوقع سيوف ما خلا منها الوغى، فلم يماشها الهوينا (6) وقد أكثرت في قتلة عثمان فادخل فيما دخل فيه الناس (7) ثم حاكم القوم إلي أحملك وإياهم على كتاب الله.
____________
(1) أي استح ولا تستعجل وفي بعض النسخ " فاسترقه " بالقاف فيكون المعنى فاخفه ولا تظهره.
(2) أعضضته: جعلته يعضه والمراد ضربته به وهؤلاء قتلهم أمير المؤمنين " ع " يوم بدر.
(3) أي: أنت الذي أعرفه، والأغلف القلب: الذي لا يدرك كأن قلبه في غلاف لا تنفذ إليه المعاني، ومقارب العقل ناقصه ضعيفه، كأنه يكاد يكون عاقلا وليس به
(4) الضالة: ما فقدته من مال وغيره، ونشدت طلبت، وهذا مثل يضرب لمن يطلب حقا ليس له.
(5) السائمة: الماشية من الحيوان.
(6) الوغى: الحرب. أي إن تلك السيوف باقية لم تخل منها الحروب ولم ترافقها المساهلة.
(7) أي البيعة له عليه السلام.
وكتب عليه السلام إلى معاوية وفي كتاب آخر (2).
فسبحان الله ما أشد لزومك للأهواء المبتدعة، والحيرة المتبعة (3)، مع تضييع الحقايق، واطراح الوثايق، التي هي لله طلبة، وعلى عباده حجة، فأما إكثارك الحجاج في عثمان وقتلته، فإنك إنما نصرت عثمان حيث كان النصر لك وخذلته حيث كان النصر له والسلام.
وروى أبو عبيدة (4) قال: كتب معاوية إلى أمير المؤمنين عليه السلام إن لي فضائل كثيرة، كان أبي سيدا في الجاهلية، وصرت ملكا في الإسلام، وأنا صهر رسول الله صلى الله عليه وآله، وخال المؤمنين، وكاتب الوحي.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أبالفضائل يبغي علي ابن آكلة الأكباد؟ (5) أكتب إليه يا غلام:
____________
(1) أي الذي تريده من إبقائك واليا في الشام.
(2) تجد هذا الكتاب في ج 3 من نهج البلاغة ص 69.
(3) وفي نسخة: " والحيرة المتعبة "
(4) أبو عبيدة معمر - كجعفر - البصري النحوي اللغوي كان متبحرا في علم اللغة وأيام العرب وأخبارها ويحكى أنه يقول ما التقى فرسان في جاهلية وإسلام إلا عرفتهما وعرفت فارسهما، وهو أول من صنف غريب الحديث.
وفي مروج الذهب وفي سنة 211 مات أبو عبيدة العمري معمر بن المثنى كان يرى رأي الخوارج، وبلغ نحوا من مئة سنة ولم يحضر جنازته أحد من الناس بالمصلى حتى اكترى لها من يحملها، وله مصنفات حسان في أيام العرب وغيرها منها كتاب المثالب الخ عن الكنى والألقاب ج 1 ص 14
(5) آكلة الأكباد هند أم معاوية وهي التي أخرجت كبد حمزة وجعلت تلوكها كما مر ص 194.
فقال معاوية: اخفوا هذا الكتاب لا يقرأه أهل الشام فيميلوا إلى ابن أبي طالب عليه السلام.
وروي عن الصادق عليه السلام أنه قال: لما قتل عمار بن ياسر (2) ارتعدت
____________
(1) وفي بعض النسخ: " لمن يرد القيامة وهو خصمي ".
(2) عمار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة المذحجي ثم العنسي، أبو اليقظان حليف بني مخزوم " وأمه سمية وهي أول من استشهد في سبيل الله طعنها أبو جهل في قلبها فاستشهدت. وهو وأبوه وأمه من السابقين الأولين إلى الإسلام.
كان من المستضعفين، وعذب في الله عذابا شديدا. أحرقه المشركون بالنار فكان رسول الله " ص " يمر به ويمر يده على رأسه ويقول: " يا نار كوني بردا وسلاما على عمار، كما كنت على إبراهيم " ع " ".
عن عثمان بن عفان قال: أقبلت أنا ورسول الله " ص " أخذ بيدي نتماشى في البطحاء حتى أتينا على أبي عمار وعمار وأمه وهم يعذبون، فقال ياسر: " الدهر هكذا! ".
فقال له النبي " ص ": " اصبر اللهم اغفر لآل ياسر، قال وقد فعلت ". وروي أن رسول " ص " مر بعمار وأهله وهم يعذبون في الله فقال: " ابشروا آل عمار فإن موعدكم الجنة ".
قال الطبرسي في قوله تعالى: " إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان " إنها نزلت في جماعة أكرهوا وهم عمار وياسر أبوه وامه سمية وصهيب وبلال وخباب عذبوا وقتل
=>
____________
<=
أبو عمار وأمه فأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا منه، ثم أخبر بذلك رسول الله " ص "
فقال قوم: " كفر عمار " فقال " ص ": " كلا إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه
واختلط الإيمان بلحمه ودمه ".
وجاء عمار إلى رسول الله " ص " وهو يبكي فقال " ص ": " ما وراك؟ " قال
يا رسول الله ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، فجعل رسول الله " ص "
يمسح عينيه ويقول: " إن عادوا لك فعد لهم فنزلت الآية.
وشهد بدرا ولم يشهدها ابن مؤمنين غيره وشهد أحدا والمشاهد كلها مع رسول الله " ص "
وقال له رسول الله " ص ": " أبشر يا أبا اليقظان فإنك أخو علي في ديانته ومن
أفاضل أهل ولايته ومن المقتولين في محبته تقتلك الفئة الباغية وآخر زادك من الدنيا
ضياح من لبن ".
وعن على " ع " قال: جاء عمار يستأذن على النبي " ص " فقال: " ائذنوا له مرحبا
بالطيب المطيب ". وقال علي عليه السلام فيه: ذاك امرأ حرم الله لحمه ودمه على النار
وأن تمس شيئا منهما.
وكان رحمه الله من كبار الفقهاء، وكان طويل الصمت طويل الحزن والكآبة،
وكان عامة كلامه عائذا بالله من فتنة.
وقال له رسول الله " ص ": يا عمار ستكون بعدي فتنة فإذا كان كذلك فاتبع
عليا " ع " وحزبه فإنه مع الحق والحق معه، يا عمار إنك ستقاتل مع علي صنفين الناكثين
والقاسطين ثم تقتلك " الفئة الباغية " قلت يا رسول الله أليس ذلك على رضا الله ورضاك
قال: نعم على رضا الله ورضاي، ويكون آخر زادك شربة من لبن تشربه، فلما كان
يوم صفين خرج عمار بن ياسر إلى أمير المؤمنين " ع " فقال له يا أخا رسول الله " ص "
أتأذن لي في القتال؟ قال: مهلا رحمك الله، فلما كان بعد ساعة أعاد عليه الكلام، فأجابه
بمثله، فأعاده ثالثا فبكى أمير المؤمنين " ع " فنظر إليه عمار فقال: يا أمير المؤمنين إنه
اليوم الذي وصف لي رسول الله " ص "؟ فنزل أمير المؤمنين عن بغلته وعانق عمارا
وودعه، ثم قال: يا أبا اليقظان جزاك الله عن الله وعن نبيك خيرا فنعم الأخ كنت
ونعم الصاحب كنت، ثم بكى وبكى عمار ثم برز إلى القتال فقاتل حتى قتل رحمه الله
=>
وكتب عليه السلام (1) إلى عمرو بن العاص في أثناء كتاب:
فإنك جعلت دينك تبعا لدنيا امرء ظاهر غيه، مهتوك ستره، يشين الكريم بمجلسه، ويسفه الحليم بخلطته، فاتبعت أثره، وطلبت فضله اتباع الكلب للضرغام (2) يلوذ إلى مخالبه، وينتظر ما يلقى إليه من فضل فريسته، فأذهبت دنياك وآخرتك ولو أخذت بالحق أدركت ما طلبت، فإن يمكني الله منك ومن ابن أبي سفيان أخبرتكما بما قدمتما (3) فإن نعجز أو تبقيا فما أمامكما شر لكما والسلام.
وقال عليه السلام - في عمرو جوابا عما قال فيه -: عجبا لابن النابغة (4) يزعم
____________
<=
فأتاه أمير المؤمنين " ع " وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون إن امرءا لم يدخل عليه مصيبة
من قتل عمار فما هو في الإسلام من شئ ثم صلى عليه ثم قال:
أراك بصيرا بالذين أحبهم * كأنك تمضي نحوهم بدليل
وفي خبر أنه أتي يومئذ بلبن فضحك ثم قال: قال لي رسول الله " ص ": آخر شراب تشربه من الدنيا مذقة من لبن حتى تموت وقال: والله لو ضربونا حتى بلغونا سعفات هجر لعلمت أننا على الحق وأنهم على الباطل. ثم قتل رضي الله عنه قتله أبو العادية " لع " واحتز رأسه أبو الجوى السكسكي وكان عمره (ره) يوم قتل (94) سنة راجع صفة الصفوة ج 1 ص 175 أسد الغابة ج 4 ص 43 سفينة البحار ج 2 ص 275
(1) تجد هذا الكتاب في ج 3 من نهج البلاغة ص 71.
(2) الضرغام: الأسد.
(3) وفي بعض النسخ: " أجزكما ".
(4) نبغ الشئ: ظهر وإنما سميت أم عمرو: (النابغة) لشهرتها بالفجور وتظاهرها به.
وكتب محمد بن أبي بكر (9) إلى معاوية احتجاجا عليه
من محمد بن أبي بكر، إلى الغاوي معاوية بن صخر، سلام الله على أهل طاعة الله ممن هو أهل دين الله وأهل ولاية الله.
____________
(1) الدعابة - بالضم -: المزاح.
(2) تلعابة - بالكسر -: أي كثير اللعب
(3) العفاس - بالكسر - اللعب. وفي بعض النسخ (أعارس) من أعرس الرجل إذا دخل بامرأته.
(4) الممارسة: المزاولة والملاعبة.
(5) الإل: - بالكسر - العهد والقرابة
(6) الأست: العجز أو حلقة الدبر، أشار عليه السلام إلى ما ذكر أرباب السير وصار مضربا للأمثال من كشفه سوئته شاخرا برجليه حين لقيه أمير المؤمنين عليه السلام في بعض أيام صفين، وقد اختلطت السيوف، واشتد نار الحرب فانصرف عنه أمير المؤمنين (ع).
(7) أي العطية.
(8) الرضخ: العطاء القليل
(9) محمد بن أبي بكر بن أبي قحافة. وأمه أسماء بنت عميس مر لها ذكر في هامش ص 125 ولد بالبيداء في حجة الوداع.
روي أن أبا بكر خرج في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله في غزاة فرأت أسماء بنت
=>
____________
<=
عميس وهي تحته كان أبا بكر متخضب بالحناء رأسه ولحيته، وعليه ثياب بيض، فجاءت
إلى عائشة فأخبرتها، فبكت عائشة وقالت: إن صدقت رؤياك فقد قتل أبو بكر إن خضابه
الدم وأن ثيابه أكفانه، فدخل النبي صلى الله عليه وآله وهي كذلك فقال: ما أبكاها؟ فذكروا
الرؤيا. فقال: ليس كما عبرت عائشة ولكن يرجع أبو بكر، فتحمل منه أسماء بغلام
تسميه محمدا يجعله الله تعالى غيظا على الكافرين والمنافقين.
قال ابن أبي الحديد: ونشوه في حجر أمير المؤمنين عليه السلام وأنه لم يكن يعرف
أبا غير على، حتى قال أمير المؤمنين عليه السلام: محمد ابني من صلب أبي بكر، وكان
يكنى (أبا القاسم) وكان من نساك قريش، وكان ممن أعان في يوم الدار، ومن ولده
(القاسم بن محمد) فقيه أهل الحجاز وفاضلها، ومن ولد القاسم (عبد الرحمن) من فضلاء
قريش ويكنى (أبا محمد) ومن ولد القاسم أيضا أم فروة تزوجها الإمام الباقر أبو جعفر
محمد بن علي (ع).
وكان من حواري أمير المؤمنين عليه السلام، وخواصه واحد المحامدة التي تأبى
أن يعصى الله.
وروي عن حمزة بن محمد الطيار قال: ذكرنا محمد بن أبي بكر عند أبي عبد الله (ع)
فقال أبو عبد الله (ع): رحمه الله وصلى عليه، قال لأمير المؤمنين (ع) - يوما من
الأيام -: أبسط يدك أبايعك، فقال: أو ما فعلت؟ قال: بلى، فبسط يده فقال:
أشهد أنك إمام مفترض طاعتك وأن أبي في النار. فقال أبو عبد الله عليه السلام: كان
النجابة من أمه أسماء بنت عميس رحمة الله عليها لا من قبل أبيه. وعن زرارة بن أعين
عن أبي جعفر (ع): أن محمد بن أبي بكر بايع عليا عليه السلام على البراءة من أبيه.
وعن شعيب عن أبي عبد الله (ع) قال: سمعته يقول: ما من أهل بيت إلا ومنهم
نجيب من أنفسهم، وانجب النجباء من أهل (بيت سوء) محمد بن أبي بكر.
وينسب إليه قوله:
إنما أنقذني منك الذي * أنقذ الدر من الماء الملح
يا بني الزهراء أنتم عدتي * وبكم في الحشر ميزاني رجح
=>
____________
<=
وقتل بمصر قتله معاوية بن خديج - وكان فيها واليا من قبل أمير المؤمنين (ع) - ثم وضعه في جوف حمار ميت وأحرقه.
ولما بلغ أمير المؤمنين عليه السلام قتل محمد بن أبي بكر حزن لذلك حزنا شديدا حتى ظهر ذلك عليه وتبين في وجهه، وقام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه إلى أن قال: ألا وإن محمد بن أبي بكر قد استشهد رحمة الله عليه وعند الله نحتسبه..
وقيل له (ع) قد جزعت على محمد جزع شديدا يا أمير المؤمنين فقال: وما يمنعني أنه كان لي ربيبا وكان لبني أخا، وكنت له والدا، أعده ولدا.
ولما سمعت أمه أسماء بقتله كظمت غيظها حتى شخبت ثدياها دما.
وكان استشهاد سنة (37) هجرية.
سفينة البحار ج 1 ص 312، رجال الكشي ص 60، خلاصة العلامة ص 138،
النجوم الزاهرة ج 1 ص 110.