ولكنّا نراه بعد ذلك يتناقض فيرجّح كفّة عبد الرحمن بن عوف، ثمّ يتناقض مرّة أُخرى فيقول: لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لولّيته عليكم(2).
والأعجب من ذلك في أمر أبي حفص هو منعه الحديث عن النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحبسه الصّحابة في المدينة ومنعهم من الخروج منها، ونهيَه المبعوثين من قِبله إلى الأقطار بأن لا يحدّثوا الناس عن السنّة النبويّة، وحرقه للكتب التي كانت بأيدي الصّحابة، وفيها أحاديث النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم)!!
ألم يفهم عمر بن الخطّاب بأنّ السنّة النبويّة هي تبيان للقرآن الكريم؟ أوَلم يقرأ قوله سبحانه وتعالى: {وَأنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ
____________
1- الطبقات الكبرى 3: 342، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 12: 260، كنز العمال 12: 671 ح36044. وقال: (ابن سعد والحارث، حل واللالكائي في السنّة وصحح).
2- وهذا الحديث اتخذه أبو حنيفة حجّة على جواز الخلافة للموالي، وخالف بذلك الصريح من حديث النبي (صلى الله عليه وآله) بأنّ الخلافة لا تكون إلاّ في قريش، ومن أجل ذلك اعتنق الأتراك مذهب أبي حنيفة عندما استولوا على الخلافة، وسمّوا أبا حنيفة الإمام الأعظم (المؤلف).
والنصّ في: تاريخ ابن خلدون 1: 194، أسد الغابة 2: 246.
وهذا ما يحاوله بعض المهوّسين الذين يقولون بأنّ القرآن كثيراً ما ينزل موافقاً لآراء عمر، ومخالفاً لآراء النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم). كبرت كلمة تخرج من أفواههم إنّهم لا يفقهون.
وكنت دائماً أتعجّب عندما أقرأُ في البخاري رفض عمر قبول رواية عمّار بن ياســر بخصـوص تعليم النبي له كيفية التيمّم، كما أتعجّبُ من قول عمّار: إن شئتَ لا أُحدّثُ به(2)، مخافة من عمر!! فيتبيّن بوضوح بأنّ عمر بن الخطّاب كان شديداً على كلّ من يروي أحاديث الرّسول فيلحقه الأذى.
وإذا كان الصحابة من قريش يخافون من الخليفة فلا يخرجون من المدينة، وحتى الذين يخرجون منها يمتنعون عن نقل الأحاديث النبويّة، ثمّ يحرق لهم كتبهم التي جمعوا فيها الأحاديث فلا يتكلّم منهم أحدٌ، فما قيمة عمّار بن ياسر الغريب البعيد، والبغيض لقريش لوقوفه مع علي بن أبي طالب وحبّه إيّاه؟
وإذا ما رجعنا قليلا بالبحث، وبالضّبط يوم الخميس الذي سبق وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، والذي سمّاه ابن عبّاس يوم الرّزية، وذلك عندما أمر رسول
____________
1- النحل: 44.
2- النصّ في صحيح مسلم 1: 194، كتاب الحيض باب التيمّم، البخاري 1: 87، كتاب التيمّم باب التيمم للوجه والكفّين والوارد فيه: "الم تر عمر لم يقنع بقول عمّار".
فإذا كان عمر يمنعُ رسول الله من كتابة أحاديثه، وبمحضر كثير من الصحابة وأهل البيت، ويتّهمه بالهجر بتلك الجُرأة التي لم يعرف التاريخ لها مثيلا، فليس غريباً ولا عجيباً أن يشمّر عن ساعديه بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ليمنع النّاس من نقل أحاديث الرسول بكلّ جهوده، وهو الخليفة القوي الذي يملك الحول والطول، ولا شكّ أنّ له في الصّحابة أنصاراً كثيرين من سُراة قريش الذين لهم نفوذ في القبائل والعشائر، والذين كانوا يصحبون النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إمّا طمعاً أو خوفاً أو نفاقاً.
وقد رأينا هؤلاء على كثرتهم يؤيّدون قولة عمر بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
____________
1- راجع: صحيح البخاري 5: 138، كتاب العلم، باب كتابة العلم، وفي كتاب الجهاد والسير، باب هل يستشفع إلى أهل الذمّة وغيرها، صحيح مسلم 5: 76، كتاب الوصيّة، باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه، مسند أحمد 1: 325، السنن الكبرى للنسائي 3: 433 ح5852، المصنّف لعبد الرزاق 5: 439، صحيح ابن حبان 14: 562، وغيرها من المصادر.
أما عن اتهام عمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالهجر فراجع: سرّ العالمين للغزالي: 40، تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي: 65، النهاية لابن الأثير 5: 245، السقيفة وفدك للجوهري كما في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6: 51، منهاج السنة لابن تيمية 6: 24 و 315.
ذلك الكتاب الذي أراد به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تحصين أُمّته من الدخول في الضّلالة، فإذا بالمتآمرين يقلّبون الموقف، ويصبح ذلك الكتاب (إذا ما كُتبَ) سبب الضلالة والانقلاب عن الإسلام.
فكيف لا يُغيّر رسول الله ـ بأبي هو وأُمّي ـ وهو على تلك الحال من المرض على فراش الموت رأيهُ، وبوحي من ربّه الذي يرنّ في أُذنيه، ويملأُ قلبه حسرة وأسى على أُمّته المنكوبة، قوله: {أفَإنْ مَاتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أعْقَابِكُمْ}(1).
ولم تنزل هذه الآية عفوية، بل هي نتيجة حتمية لما علمه الله سبحانه من دسائسهم ومؤامراتهم ومكرهم، فهو يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، والذي يُعزّي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ ربّه أعْلمه عن كلّ ذلك وسلاّه، وأجزاه خير ما يجزي نبي عن أُمّته، ولم يحمّله مسؤولية ارتداد الأُمة وانقلابها، بل قال له مسبقاً:
{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا * يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلا * لَقَدْ أضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنسَانِ خَذُولا * وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآنَ مَهْجُوراً *
____________
1- آل عمران: 144.
والذي لا مفرّ منه في هذا البحث هو النتيجة المؤلمة التي وصلنا إليها، وهو أنّ أبا سفيان ومعاوية ما كانا ليتجرّآ على صاحب الرسالة لولا مواقف عمر السّابقة، وجرأته على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبحضرته (صلى الله عليه وآله وسلم)، وخصوصاً إذا بحثنا مواقفه طيلة حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومعارضته إياه في كثير من المواقف.
والاستنتاج الذي لا بدّ منه هو أنّ هناك مؤامرة كبرى حيكت للنّيل من شخصية الرسول الأكرم، وانتقاصه وتصويره للناس الذين لم يعرفوه بأنّه شخصٌ عادىٌ أو أقلّ من ذلك، فقد تأخذه العاطفة ويميل مع هواه ويزيغ عن الحقّ، كلّ ذلك ليموّهوا على الناس بأنّه ليس معصوماً، والدليل أنّ عمر عارضه عدّة مرّات، والقرآن ينزل بتأييد ابن الخطّاب، حتّى وصل الأمر بأن يهدد الله نبيّه صلّى الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيبكي ويقول: لو أصابنا الله بمصيبة لم ينجُ منها إلاّ ابن الخطّاب(2)في قضية أسرى بدر.
أو أنّ عمر كان يأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يحجُب نساءه، ولم يكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يفعل ذلك حتى نزل القرآن بتأييد عمر، وأمر نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحجب نساءه(3).
أو أنّ الشيطان لا يخاف من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكنّه يخاف ويهرب من
____________
1- الفرقان: 27 ـ 31.
2- نحوه الرياض النضرة 1: 249 ح609، تفسير الدر المنثور للسيوطي 3: 202، أسباب النزول للواحدي 242، تفسير القرطبي 8: 31، روح المعاني للآلوسي 5: 231.
3- صحيح البخاري 1: 46، باب خروج النساء إلى البراز.
ولكن عمر ضرب الرقم القياسي في هذا الصدّد حتى رووا (أخزاهم الله) بأنّ رسول الله كان يشكّ في نبوّته، وذلك لحديث يروونه بأنّه قال (صلى الله عليه وآله وسلم): "ما أبطأ عني جبرئيل إلاّ ظننت أنّه ينزل على عمر بن الخطّاب"!!
وأنا أعتقد بأنّ هذه الأحاديث وأمثالها وُضعتْ في زمن معاوية بن أبي سفيان، لمّا أعيته الحيلة في طمس حقائق علي بن أبي طالب، فلجأ إلى إطراء أبي بكر وعمر وعثمان، واختلاق الفضائل لهم كي يرفعهم في نظر النّاس على مقام علي سلام الله عليه، ويرمي من ذلك إلى هدفين:
الهدف الأوّل: تصغير شأن ابن أبي طالب (أبو تراب)، كما يُسمّيه هو للتمويه على النّاس، واعتبار الخلفاء الثّلاثة الذين سبقوه أفضل منه.
والهدف الثاني لوضعه الأحاديث هو: لكي يتقبّل الناس تجاوز أوامر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ووصاياه في أمر الخلافة في أهل بيته، خصوصاً الحسنين (عليهما السلام) اللذين كانا يعاصران معاوية، فإذا كان من الممكن أن يتجاوز الثلاثة أوامر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في علي (عليه السلام)، لِمَ لا يمكن أن يتجاوز معاوية (الرابع) أوامره (صلى الله عليه وآله وسلم) في أولاد علي (عليه السلام)؟!
وقد نجح ابن هند في مخطّطه نجاحاً كبيراً، والدليل أنّنا اليوم عندما نتحدث عن علم علي وشجاعته وقرابته وأفضاله على الإسلام والمسلمين
____________
1- البخاري 4: 96، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر، صحيح مسلم 4: 1485، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر.
ويقف في وجوهنا من يقول: عمر الفاروق هو الذي يفرقْ بين الحقّ والباطل.
ويقف في وجوهنا من يقول: عثمان ذو النورين الذي استحت منه ملائكة الرحمن.
والمتتّبع لهذه الأبحاث يجد أنّ عمر بن الخطّاب أخذ نصيب الأسد في باب الفضائل، وليس ذلك من باب الصدفة، كلاَّ ولكن لمواقفه المعارضة والمتعدّدة تجاه صاحب الرسالة أحبّتْهُ قريش، وخصوصاً للدور الذي لعبه عمر في إقصاء أمير المؤمنين وسيّد الوصيين علي بن أبي طالب عن الخلافة، وإرجاع الأمر إلى قريش تتحكّم فيه كيف شاءتْ، ويطمع فيه الطلقاء والملعونون من بني أُميّة، وقريش كلّها وعلى رأسهم أبو بكر يعرفُون بأنّ الفضل كلّه يرجع لعمر في تسلّطهم على رقاب المسلمين.
فعمر هو بطل المعارضة لرسول الله، وعمر هو المانع لرسول الله بأن يكتب الخلافة لعلىّ، وعمر هو الذي هدّد الناس وشكّكهم في موت نبيّهم حتّى لا يسبقوه بالبيعة لعلي، وعمر هو بطل السّقيفة، وهو الذي ثبّت بيعة أبي بكر، وعمر هو الذي هدّد المتخلّفين في بيت علي بأن يحرق عليهم الدار بمنْ فيها إن لم يبايعوا أبا بكر.
وعمر هو الذي حمل الناس على بيعة أبي بكر بالقوّة والقهر، وعمر هو الذي كان يعيّن الولاة، ويعطي المناصب في خلافة أبي بكر، بل لسنا
ومرّة أُخرى كتب أبو بكر لصحابيين قطعة من الأرض وأرسلها لعمر ليمضي فيه، فتفل فيه عمر ومحاه، فشتماه ورجعا لأبي بكر يتذمّران فقالا: ما ندري أأنت الخليفة أم عُمر؟! فقال: بل هو، وجاء عمر مغضباً إلى أبي بكر وقال له: ليس من حقّك إعطاء الأرض إلى هذين، فقال أبو بكر: لقد قلتُ لك بأنّك أقوى منّي على هذا الأمر ولكنّك غلبتني(2).
____________
1- بدايع الصنائع لأبي بكر الكاشاني 2: 45، النصّ والاجتهاد لشرف الدين: 43.
2- الإصابة 4: 640، ترجمة عيينة بن حصن.
وجاء في السيرة الحلبية 3: 512: "وفي كلام سبط ابن الجوزي أنّه [أي أبو بكر] كتب لها بفدك، ودخل عليه عمر فقال: ما هذا؟ فقال: كتاب كتبته لفاطمة بميراثها من أبيها، فقال: مما تنفق على المسلمين وقد حاربتك العرب كما ترى، ثمّ أخذ عمر الكتاب فشقه".
وفي المصنّف لأبن أبي شيبة 7: 641 "اقطع أبو بكر طلحة أرضاً وكتب له بها كتاباً وأشهد به شهوداً منهم عمر، فأتى طلحة عمر بالكتاب فقال: اختم على هذا، قال: لا أختم عليه، هذا لك دون الناس؟ فانطلق طلحة وهو مغضب، فأتى أبا بكر فقال: والله ما أدري أأنت الخليفة أو عمر، قال: لا بل عمر لكنّه أبى".
وفي كنز العمال 12: 583: "إن عمر مزّق الكتاب ومحاه".
وقد رأينا عقيدة عمر في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من يوم صلح الحديبية إلى يوم الرّزية، أضف إلى ذلك أنّه منع الصحابة من التبرّك بآثار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقطع شجرة بيعة الرضوان(1)، كما توسّل بالعبّاس عمّ النبىّ ليُشعرَ الناس بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مات وانتهى أمره، فلا فائدة حتى في ذكراه، فلا لوم على الوهابية الذين يقولون بهذه المقالات، فهي ليستْ جديدة كما يتوهّم البعض.
ومن هنا فُتح الباب إلى أعْداء الإسلام والمستشرقين ليستخلصوا بأنّ محمّداً رجلٌ عبقري عرف أنّ قومه وثنيّين تربّوا على عبادة الأصنام فأزال الأصنام، ولكنّه أبدلهم بذلك حجراً أسوداً.
ونرى بعد كلّ هذا عمر هو بطل المعارضة لكتابة الأحاديث النبويّة، حتّى يحبس الصحابة في المدينة، ويمنع آخَرين من الحديث، ويحرق كتب الحديث حرصاً منه بأن لا تتفشّى السنّة النبوية بين النّاس.
ونفهم أيضاً من خلال ذلك لماذا بقي علي حَبيس الدّار لا يخرج إلاّ عندما يُدعى لحلّ معضلة عجز عنها الصّحابة، ولم يُشركه عمر في منصب
____________
1- المصنّف لابن أبي شيبة الكوفي 2: 269 وسنده صحيح، فتح الباري لابن حجر العسقلاني 7: 345.
ولذلك يذكر المؤرّخون بأنّه اضطرّ للبيعة بعد موت الزهراء سلام الله عليها لمّا رأى تحوّل وجوه الناس عنه.
لك الله يا أبا الحسن فكيف لا يبغضُك الناس، وقد قتلتَ أبطالهم، وفرّقتَ جموعهم، وسفّهت أحلامهم، وما تركتَ لهم في سوق الفضائل فضيلة، ولا في ميدان الحسنات حسنةً، ومع ذلك فأنت ابن عمّ المصطفى، وأقربهم إليه، وزوج فاطمة سيّدة نساء العالمين، وأبو السبطين سيّدي شباب أهل الجنّة، وأوّلهم إسلاماً، وأكثرهم علماً.
وعمّك حمزة سيد الشهداء، وجعفر الطيار ابن أُمّك وأبيك، وأبو طالب سيّد البطحاء وكفيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أبوك، والأئمة الميامين كلّهم من صُلبك.
سبقت السَّابقين ونأيت عن اللاّحقين، فكنت أسد الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكنت سيف الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) وكنت أمين الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما بعثك (صلى الله عليه وآله وسلم) ببراءة ولم يأتمن عليها غيرك.
وكنت أنت الصّديقُ الأكبر لا يقولها بعدك إلاّ كذّابٌ، وكنت الفاروق الأكبر الذي يسير الحقّ في ركابه، فيُعرف الحقُ به من بين ركام الباطل، وكنت العلم الظاهر، والمنار الساطع، يُعرفُ بحبّه إيمان المؤمن وببغضه نفاق المنافق. وكنتَ الباب لمدينة العلم، من أتاك أتاها، فقد كذب من زعم الدخول من غيرك، والوصول بدونك.
فمن منهم له سهم كسهمك يا أبا الحسن؟ ومن منهم له فضلٌ كفضلك؟
لقد شطّ بنا القلم إلى مناجاة أمير المؤمنين المظلوم حيّاً وميّتاً، وله في أخيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أُسوة حسنة، فهو أيضاً مظلوم حيّاً وميّتاً; لأنّه قضى حياته (صلى الله عليه وآله وسلم) مجاهداً ناصحاً حريصاً على المؤمنين بهم رَؤوف رحيم.
وقابلوه في آخر لحظة بالكلام القبيح، ورموه بالهجر، وجابهوه بالعصيان والتمرّد في تأميره أُسامة، وهرعوا للسقيفة من أجل الخلافة، وتركوه جثة هامدة، ولم يشتغلوا حتى بتجهيزه وغسله وتكفينه بأبي هو وأُمّي، وبعد وفاته عملوا على انتقاصه في أعين الناس، والحط من قيمته، وتجريده من العصمة التي يشهد بها القرآن والوجدان، كلّ ذلك من أجل حكم زائل ودنيا فانية.
وإذا عرفنا من خلال البحث، موقف بعض الصحابة تجاه شخصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أجل الوصول للخلافة.
فإنّ حكام بني أُميّة ـ على رأسهم معاوية بن أبي سفيان ـ جاءتهم الخلافة بالوراثة واطمأنّوا لها، ولم يكن يدور في خلدِ أحد منهم بأنّها في يوم من الأيام سوف تخرج منهم، فلماذا استمرّ بنوا أُميّة في انتقاص شخصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتزوير الرّوايات للحطّ من قيمته؟
وأعتقد بأنّ هناك سببين رئيسيين، وهما:
السبب الأوّل: إنّ في الحطّ من قيمة رسول الله هو إرغام أُنوف بني هاشم
زد على ذلك بأنّ عليّاً هو سيّد بني هاشم بعد الرسول من غير منازع، وقد عرف الخاص والعام بغض معاوية لعلي، والحروب التي شنّها ضدّه لانتزاع الخلافة منه، وبعد مقتله أولغ في سبّه ولعنه على المنابر، فالحطّ من شخصية الرسول بالنسبة لمعاوية هو تحطيم شخصية علي، كما أن سبّ ولعن علي هو في الحقيقة موجّهٌ لرسول الله.
السبب الثاني: إنّ في الحطّ من قيمة رسول الله فيه تبرير لما يقوم به حكّام بني أُمية من أعمال مخزيّة، وقبائح شنيعة سجّلها لهم التاريخ، فإذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ كما يصوّره بني أُمية ـ يميل مع هواه ويحبّ النّساء إلى درجة أنّه ينسى واجباته، ويميل إلى إحداهن إلى درجة أنّه لا يعدل بينهن حتى يبعثن له يطالبنه بالعدل(1)، فلا لوم بعد ذلك على البشر العاديين أمثال معاوية ويزيد وأضرابهم.
وتكمن الخطورة في السبب الثاني في أنّ الأمويين اختلقوا روايات وأحاديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أصبحت أحكاماً يُعمل بها في الإسلام، والمسلمون يأخذونها مُسلّمة على أنّها من أقوال وأفعال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فتصبح عندهم سنّة نبويّة.
وأضرب لذلك بعض الأمثلة من الأحاديث المخزية التي وُضعت للنيل
____________
1- صحيح مسلم 4: 1507 كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عائشة.
1 ـ أخرج البخاري في كتاب الغسل في باب إذا جامع ثمّ عاد، قال أنس: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يدور على نسائه في السّاعة الواحدة من اللّيل والنّهار وهنّ إحدى عشرة، قال: قلت لأنس: أو كان يُطيقهُ؟ قال: كنا نتحدّثُ أنّه أُعطِيَ قوّةَ ثلاثين.
أُنظر معي أيّها القارئ إلى هذه الرواية المخزية التي تصوّر لنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على هَذا النهم من الجماع، فيجامع إحدى عشرة زوجة في ساعة واحدة، ويجامعهنّ في الليل أو النهار وبهذه السرعة، ومن غير أن يغتسل من الأُولى فيجامع الثانية بماء الأُولى.
وما عليك أيّها القارئ إلاّ أن تتصوّر وتتخيّل كيف يرتمي إنسان على زوجته كالحيوان بدون مقدّمات ولا تهيئة، وقد شاهدنا أنّه حتّى عند الحيوانات تستغرق عملية الجماع مدة طويلة وتتطلّب مقدّمات وتهيأ، فكيف بهذا الرسول العظيم يفعل مثل هذا؟ قاتلهم الله ولعنهم أنّي يؤفكون.
ولأنّ العرب في ذلك العهد والرجال حتى في هذا العهد ما زالوا يفتخرون بقوّة الجماع، ويعتبرون ذلك علامة الرجولة، فوضعوا هذه القصة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحاشاه وهو الذي كان يقول: "لا ترتموا على نسائكم كالبهائم واجعلوا بينكم وبينهنّ رسولا".
فبمثل هذه الروايات يتحامل أعداء الإسلام على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويصفونه
وهل لنا أن نسأل أنس بن مالك راوي هذه القصّة، مَن أخبره بها؟ من أعلمه أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يُجامع نساءه في ساعة واحدة وهنّ إحدى عشرة؟
هل النبي هو الذي حدّثه بذلك؟ فهل يليق بأحدنا أن يحدّث الناس على مجامعته لزوجته؟ أمْ أنّ زوجات النبي هنّ اللاتي حدّثنه بذلك؟ فهل يليق بالمرأة المسلمة أن تحكي للرجال عن جماع زوجها لها؟ أم أنّ أنس هو الذي تجسّس على النبي، وتتبّع خلواته مع زوجاته، وتفرّج عليه من ثقوب الأبواب؟ أستغفر الله من همزات الشياطين ولعن الله الكذّابين.
ولا أشكّ في أنّ الحكّام الأمويّين والعباسيين الذين اشتهروا بكثرة النساء والجواري، هم الذين وضعوا مثل هذه القصّة لتبرير أعمالهم.
2 ـ أخرج البخاري في صحيحه من الجزء الثالث صفحة 132، وكذلك مسلم في صحيحه من الجزء السابع في صفحة 136، قالا: قالت عائشة: أرسل أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى رسول الله، فاستأذنت عليه وهو مُضطجع معي في مِرطي، فأذنَ لها، فقالت: "يا رسول الله إنّ أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدْلَ في ابنةِ أبي قُحافة"، وأنا ساكتة، قالت: فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "أي بُنيّة ألست تُحبّين ما أحبُّ"؟ فقالت: "بلى"، قال: "فأحبّي هذه".
ثمّ تمضي الرواية فتقول إلى أن يبعث أزواج النبي مرّة ثانية بزينب بنت جحش زوج النبي ينشدنّهُ العدل في بنت أبي قحافة، فتدخل هي الأُخرى
فما عساني أن أقول في هذه الرواية المنكرة التي تجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يميل مع هواه ولا يعدل بين زوجاته، وهو الذي جاء القرآن على لسانه: {فَإنْ خِفْتُمْ ألا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أوْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ}(1)؟!
ثمّ كيف يأذن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لابنته فاطمة سيّدة النساء لتدخل عليه وهو على تلك الحالة مضطجع مع زوجته ولابس مرطها، فلا يجلس ولا يقوم ويبقى مضطجعاً حتى يقول، "أي بنيّة، ألست تحبّين ما أحبّ"؟ وكذلك عندما تدخل عليه زوجته زينب وتطالبه بالعدل، يبتسم ويقول: "إنّها ابنة أبي بكر"؟!!
أُنظر أيّها القارئ الكريم إلى هذه المخازي التي يُلصقونها برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رمز العدالة والمساواة، في حين أنّهم يقولون: مات العدل مع عمر ابن الخطّاب، ويصوّرون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شخصاً مستهتراً بالقيم الأخلاقية، فلا يعرف الحياءُ ولا المروءة.
ولهذه الرواية نظائر كثيرة في صحاح السنّة، والتي يقصد الرّواة من ورائها إبراز فضيلة لصحابي أو لعائشة بالذات لأنّها ابنةُ أبي بكر، فينتقصون رسول
____________
1- النساء: 3.
3 ـ أخرج مسلم في صحيحه في باب فضائل عثمان بن عفّان، عن عائشة زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعثمان حدّثا: أنّ أبا بكر استأذن على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو مضطجع على فراشِهِ لابسٌ مِرَط عائشة، فأذن لأبي بكر وهو كذلك، فقضى إليه حاجته ثمّ انصرف، ثمّ استأذن عمر فأذنَ له وهو على تلك الحال، فقضى إليه حاجته ثمّ انصرف.
قال عثمان: ثمّ استأذنت عليه فجلس وقال لعائشة: "أجمعي عليك ثيابك"، فقضيتُ إليه حاجتي ثمّ انصرفتُ، فقالت عائشة: يا رسول الله مالي لم أرك فزعْتَ لأبي بكر وعُمر رضي الله عنهما كما فزعتَ لعثمان؟! قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّ عثمان رجلٌ حَيىٌّ، وإنّي خشيت إن أذنت له على تلك الحال أن لا يبلُغ إلىّ في حاجته"!
وهذه الرواية أيضاً هي الأُخرى شبيهة بما أخرجه البخاري ومسلم في فضل عثمان بن عفّان، ومفادها بأنّ رسول الله كان كاشفاً عن فخذيه، فاستأذن أبو بكر فلم يغطّي رسول الله فخذيه، وكذلك فعل مع عمر، فلمّا استأذن عثمان غطّى رسول الله فخذيه وسوّى ثيابه، ولمّا سألته عائشة عن ذلك قال لها: "ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة"(1)!
قاتل الله بني أُميّة الذين ينتقصون رسول الله لرفع مكانة سيّدهم.
____________
1- صحيح مسلم 4: 1486، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عثمان.
وأترك لك أيّها القارئ أن تُعلّق بنفسك على هذه الرواية، فقد بلغ من تدليل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لزوجته عائشة أن يحدّث بجماعها الخاصّ والعامّ من الناس، وكم لعائشة بنت أبي بكر من أمثال هذه الروايات التي فيها مسّ من كرامة الرسول والحطّ من قيمته.
فمرة تروي بأنّه يضع خدّه على خدّها لتتفرّج على رقص السودان، ومرّة يحملها على كتفه(1)، ومرّة يتسابق معها فتغلبه وينتظر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى تسمن فيسابقها ويقول هذه بتيك(2)، ومرّة يستلقي على ظهره والنساء يضربن بالدفوف ومزمارة الشيطان في بيته فينتهرها أبو بكر(3).
وكم في كتب الصحاح أمثال هذه الروايات المخزية التي لا يُقصَدُ منها إلاّ انتقاص نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله)، كالروايات التي تقول بأنّ الرسول سُحر حتّى
____________
1- صحيح البخاري 2: 3، كتاب الجهاد، باب الدرق.
2- مسند أحمد 6: 39 وأشار محقّق الكتاب أحمد حمزة الزين إلى صحة الحديث. وقال الشيخ الألباني في صحيحته 1: 254 ح131 بعد أن ذكر الحديث: "أخرجه الحميدي في مسنده ق 42/2، وأبو داود: 2578، والنسائي في عشرة النساء ق 74/1 والسياق له، وابن ماجة: 1979 مختصراً وأحمد 6: 39/264"، السنن الكبرى للنسائي 5: 303 ح8942.
3- صحيح البخاري 2: 11 كتاب مناقب الأنصار، باب مقدم النبي وأصحابه المدينة.
ويسهو في صلاته فلا يدري كم ركعة صلّى(4)، ولا يدري رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما هو مصيره يوم القيامة وما يُفعل به(5)، وأنّه يبول قائماً والصحابي يبتعد عنه، فيناديه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ليقترب منه حتى يفرغ من بوله(6).
نعم، لقد بلغ من تدليل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) زوجته عائشة بنت أبي بكر أنّه يحبس نفسه ويحبس المسلمين معه ليبحثوا عن عقد ضاع من عائشة، وليس معهم ماء حتّى أنّ الناس يشتكون من عائشة لأبي بكر، فيأتي أبوها يوبّخها ويلومها، كلّ ذلك ورسول الله مشغول بالنوم في حجر زوجته، وإليك الرواية بالتفصيل!
أخرج البخاري في صحيحه في باب التيمّم، ومسلم في صحيحه في باب التيمّم أيضاً عن عائشة أنّها قالت: خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعض
____________
1- البخاري 4: 68 و7: 29 كتاب الطب، باب هل يستخرج السحر.
2- البخاري 2: 234، كتاب الصوم، باب الصائم يصبح جنباً وما بعده.
3- البخاري 1: 44 و171، كتاب الوضوء، باب التخفيف، صحيح مسلم 1: 442، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل.
4- البخاري 1: 123، 2: 65، كتاب السهو.
5- البخاري 2: 71 كتاب الجنائز، باب الدخول على الميت بعد الموت إذا اُدرج في أكفانه.
6- صحيح مسلم 1: 157، كتاب الطهارة، باب المسح على الخفّين.