أمّا القائلين بأنّ حبّه إيّاها لأنّها ابنة أبي بكر فهذا غير صحيح، ولكن يمكننا أن نقول بأنّه تزوّجها من أجل أبي بكر; لأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تزوّج من عدّة قبائل زواجاً سياسياً لتأليف القلوب، ولتسُود المودّة والرحمة في تلك القبائل بدلا من التنافر والتباغض.
فقد تزوّج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأُمّ حبيبة أخت معاوية، وهي بنت أبي سفيان العدوّ الأوّل للنبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك لأنّه لا يحقد وهو رحمة للعالمين، وقد تعدّى عطفه وحنانه القبائل العربية إلى مصاهرة اليهود والنصارى والأقباط; ليقرّب أهل الأديان بعضهم من بعض.
وبالخصوص إذا عرفنا من خلال ما نقرأه في كتب السّيرة بأنّ أبا بكر هو الذي طلب من النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يتزوّج من ابنته عائشة، كما طلب عمر من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يتزوّج ابنته حفصة، وقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنّ قلبه يسعُ أهل الأرض كلّهم.
قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}(1).
وإذا رجعنا إلى الرواية التي روتها عائشة، وقالت فيها بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يلبث إلاّ ريثما ظنَّ أن قد رقدتُ، فأخذ رداءه رويداً وفتح الباب
____________
1- آل عمران: 159.
وهذا الاستنتاج ليس استنتاجاً عفوياً ألّفه خيالي، كلاّ فإنّ له أدلّة في صحاح السنّة، فقد روى مسلم في صحيحه وغيره من صحاح أهل السُنّة أنّ عمر بن الخطاب قال: لمّا اعتزل نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نساءَهُ، قال: دخلت المسجد فإذا النّاسُ ينكُتون بالحصَى ويقولون: طلّق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نساءه، وذلك قبل أن يؤمرن بالحجاب.
فقال عمر: فقلتُ: لأعلمنَّ ذلك اليوم، قال: فدخلت على عائشة فقلتُ: يا بنت أبي بكر أقد بلغ من شأنك أن تُؤذي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)! فقالت: مالي ومالك يابن الخطّاب عليكَ بعيبتك! قال: فدخلتُ على حفصة بنت عمر فقلت لَها: يا حفصة أقد بلغ من شأنكِ أنْ تُؤذي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)! واللّهِ لقد علمت أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يُحِبّكِ، ولولا أنَا لطلَّقكِ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فبكتْ أشدّ البكاءِ... الحديث(2).
إنّ هذه الرواية تدلّنا بوضوح لا يقبلُ الشكّ في أنّ زواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من حفصة بنت عمر لم يكن عن محبّة، ولكنّه لمصلحة سياسية اقتضتها الظروف.
وممّا يزيدنا يقيناً بصحّة ما ذهبنا إليه في هذا الاستنتاج، أنّ عمر بن الخطّاب يُقسمُ بالله بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يُحبُّ حفصة، ويزيدنا عمر يقيناً
____________
1- صحيح مسلم 3: 64، ومسند أحمد 6: 221.
2- صحيح مسلم 4: 188 في باب الايلاء واعتزال النّساء وتخييرهنّ، وقوله تعالى: (وَإنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ)، مسند أبي يعلى 1:150، صحيح ابن حبان 9:496.
ثمّ لا يبقي لنا أدنى شكّ في أنّ الزواج منها كان لمصلحة سياسيّة عندمَا قالَ: "ولولا أنَا لطلّقَكِ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ".
فهذه الرّواية تعطينا أيضاً فكرة على زواج النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بعائشة بنت أبي بكر، وأنّه صبر وتحمّل كلّ أذاها من أجل أبي بكر أيضاً، وإلاّ فإنّ حفصة أولى بحبّ الرسول وتقديره; لأنّه لم يصدر منها ما يُسيء للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عشر معشار ما فعلته عائشة بنت أبي بكر.
وإذا بحثنا في الواقع العملي بقطع النّظر عن الروايات الموضوعة الّتي نمّقها بنو أُميّة في فضائل عائشة، لوجدنا أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان كثيراً ما يتأذّى منها، وكثيراً ما يغضب عليهَا، وها نحن ننقُل رواية واحدة أخرجها البخاري وكثير من المحدّثين من أهل السنّة، تعرب عن مدى النفور الذي كانت تشعُرُ به أُمّ المؤمنين عائشة من قبلِ زوجها رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
أخرج البخاري في صحيحه في الجزء السابع في باب قول المريض: إنّي وجعٌ، أَوْ وا رأسَاهُ، قال: سمعتُ القاسم بن محمّد قال: قالت عائشة: وا رأسَاهُ! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "ذاك لو كان وأنا حىٌّ فأستغفر لكِ وأدعو لَكِ"، فقالت عائشة: وا ثكليَاهُ، واللّهِ إنّي لأظنّكَ تحِبُّ موتي، ولو كانَ ذاكَ لظَلِلْتَ آخر يومك مُعرِّساً ببعض أزواجِكَ(1).
فهل تدلّك هذه الرّواية على حبّ النبىّ لعائشة؟
____________
1- صحيح البخاري 7: 8 من كتاب المرضى والطبّ، مسند أحمد 6: 228.
وأعتقد أنّ ميزانهم الوحيد في الرفع والوضع هو فقط عداؤهم الشديد وبغضهم اللاّمحدود لمحمّد وأهل بيته علي وفاطمة والحسن والحسين، فكلّ شخص كان ضدّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وضدّ أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً رَفعوا من شأنه، واختلقوا له روايات وفضائل، وقرّبوه وأعطوه المناصب والعطايا، فأصبح يحظى بتقدير النّاس واحترامهم.
وكلّ شخص كان يحبّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ويدافع عنه عملوا على انتقاصه، وخلق المعايب الكاذبة له، واختلاق الروايات التي تنكر فضله وفضائله.
وهكذا أصبح عمر بن الخطّاب الذي كان يعارضه في كلّ أوامره، حتّى رماه بالهجر في أواخر أيام حياته (صلى الله عليه وآله وسلم) ; أصبح هذا الرجل هو قمّة الإسلام عند المسلمين زمن الدولة الأمويّة!
أمّا علي بن أبي طالب الذي كان منه بمنزلة هارون من موسى، والذي يحبّ الله ورسوله ويُحبُّه اللّهُ ورسولُهُ، والذي هو وليّ كلّ مؤمن; أصبح يلعنُ على منابر المسلمين ثمانين عاماً!!
وهكذا أصبحتْ عائشة الّتي جرّعت رسول الله الغُصص، وعصتْ أوامره كما عصتْ أمر ربّها، وحاربتْ وصىّ رسول الله، وتسبّبت في أكبر فتنة
وهكذا أصبح يزيد بن معاوية، وزياد بن أبيه، وابن مرجانة، وابن مروان، والحجّاج، وابن العاص وغيرهم من الفسّاق الملعونين بنصّ الكتاب على لسان نبي الله، نعم أصبح هؤلاء أُمراء المؤمنين وولاة أُمورهم، أمّا الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة، وريحانتا النبي من هذه الأُمّة، والأئمة من عترة الرسول الذين هم أمانُ الأُمة، أصبحوا مشرّدين مسجونين مقتولين مسمومين!!
وهكذا أصبح أبو سفيان المنافق الذي ما وقعت حربٌ ضدّ الرّسول إلاّ وكان هو قائدها، أصبح محموداً مشكوراً حتّى قيل: من دخل داره كان آمناً، أمّا أبو طالب حامي النبي وكفيله والمدافع عنه بكلّ ما يملك، والذي قضى حياته مناوئاً لقومه وعشيرته من أجل دعوة ابن أخيه، حتّى قضى ثلاث سنوات في الحصار مع النبىّ في شعب مكة، وكتم إيمانه لمصلحة الإسلام، أي لإبقاء بعض الجسور مفتوحة مع قريش، فلا يؤذون المسلمين كما يريدون، وذلك كمؤمن آل فرعون الذي كتم إيمانه، أمّا هذا فكان جزاؤه ضحضاح من نار يضع فيها رجله فيغلي منها دماغه!!
أمّا أبو ذر الغفاري الذي ما أقلّت الخضراء ولا أظلت الغبراء أصدق ذي لهجة منه، فأصبح صاحب فتنة، يضربُ ويشرّد ويُنفى إلى الربذة، وأمّا
____________
1- يقول الشاعر في هذا المعنى:
عاندوا "أحمد" وعادوا عليّاً | وتـولّــوا مـنــافــقـاً وغـويّــاً |
وأسرّوا سبّ النـبي نـفاقاً | حين سبّوا جهراً أخاهُ عليّاً |
(المؤلف)
وقد ذكر الشيخ الألباني في صحيحته حديث رقم 3332: "... عن أبي عبد الله الجدلي قال: قالت لي أُم سلمة: أيُسبُ رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بينكم على المنابر؟!
قلت: سبحانه الله! وأنّى يسب رسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!
قالت: أليس يُسبُّ علي بن أبي طالب ومن يحبّه، وأشهد أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يُحبه...
قلت: وهذا إسناد جيد ورجاله كلّهم ثقات...".
وهذا من الطامات الكبرى والرزايا العظمى أن يسب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والعهد منه قريب جداً، وجسده الشريف لم يبرد بعد، وكفنه لم يبل، لكن الطلقاء وأبناء الطلقاء أرادوا حجب نور الشمس قبل بزوغها، وإطفاء نورها قبل ظهورها، فسعوا إلى ذلك بكلّ ما أُتوا من قوّة; إلاّ أَن الله كان لهم بالمرصاد، فأخمدهم وأخمد فتنتهم قبل انتصاب الأمور وتحقيق غاياتهم الفاسدة.
وهكذا أصبح أتباع مدرسة الخلفاء، وأتباع معاوية، وأصحاب المذاهب الذين أوجدتهم السلطة الجائرة، أصبحوا هم أهل السنّة والجماعة، وهم الذين يمثّلون الإسلام، ومن خالفهم كان من الكافرين، ولو اقتدى بأئمة أهل البيت الطيبين الطاهرين.
أمّا أتباع مدرسة أهل البيت الذين اتّبعوا باب مدينة العلم، وأوّل النّاس إسلاماً، ومن كان الحقّ يدور معه حيث دار، وتشيّعوا لأهل البيت واتّبعوا الأئمة المعصومين، أصبحوا هم أهل البدعة والضلالة، ومن خالفهم وحاربهم كان من المسلمين، فلا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم وصدق الله إذ يقول:
{وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * ألا إنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ * وَإذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ألا إنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ}(1).
وإذا رجعنا إلى موضوع حبّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لعائشة; لأنّها حفظت عنه نصف الدّين، وكان يقول: "خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء"، فهذا حديث باطل لا أساس له من الصّحة، ولا يستقيم مع ما روي عن عائشة من أحكام مضحكة مبكية يتنزّه عن ذكرها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ويكفينا مثلا على ذلك قضية رضاعة الكبير التي كانت ترويها عن
____________
1- البقرة: 11 ـ 13.
ويكفي في هذه الرواية الشنيعة أنّ زوجات النبي كلّهن رفضن العمل بها وأنكرنها، وحتّى أنّ راويها بقي عاماً كاملا يتهيّب أن يذكرها لفظاعتها وقلّة حيائها.
وإذا ما رجعنا إلى "صحيح البخاري" في باب يقصر من الصّلاة إذا خرج من موضعه، قال: عن الزهرىّ، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: الصّلاة أوّل ما فُرِضتْ ركعتان، فأْقرّتْ صلاة السّفر وأُتِمَّتْ صلاة الحضَر، قال الزهري: فقلتُ لعروة: فما بال عائشة تُتمُ؟ قال: تأَوَّلتْ ماتأَوَّلْ عثمان(1).
وأخرجها مسلم في صحيحه في باب صلاة المسافرين وقصرها وبعبارة أوضح ممّا في البخاري، قال: عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة أنّ الصلاة أوّل ما فُرضت ركعتين، فأقرّت صلاة السفر وأتِمّتْ صلاة الحضر، قال الزهريُّ: فقلْتُ لعروة: ما بال عائشة تُتم في السّفرِ؟ قال: إنّها تأولتْ كما تأوّل عثمان(2).
إنّه التناقُض الصريح، فهي التي تروي بأنّ صلاة المسافر فُرضتْ ركعتين، ولكنّها تخالف ما افترضه الله وعمل به رسولهُ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتتأوّل لتغيّر أحكام الله
____________
1- صحيح البخاري 2: 36.
2- صحيح مسلم 2: 142.
فإذا كانت الحميراء التي يؤخذ عنها نصف الدّين تتأوّل في أحكام الله كيف تشاء، فلا أعتقدُ بأنّ زوجها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يرضى منها هذا ويأمر الناس بالاقتداء بها، على أنّه ورد في "صحيح البخاري" وصحـاح أهل السنّة إشارة إلى أنّ في اتّباعها معصية لله، وسنُوافيك بذلك في أوانه إن شاء الله.
وأمّا القائلون بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يُحبّها; لأنّ جبرئيل أتاه بصورتها قبل الزواج، وأنّه لا يدخل عليه إلاّ في بيتها، فهذه روايات تُضحك المجانين.
ولستُ أدري أكانت الصورة التي جاء بها جبرئيل فوتوغرافية أم لوحة زيتية، على أنّ صحاح أهل السنّة يروون بأنّ أبا بكر بعث بعائشة إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومعها طبق من التمر لينظر إليها، وهو الذي طلب من النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتزوّج ابنته، فهل هناك داع لينزل جبرئيل بصورتها، وهي تسكن على بعد بضع أمتار من مسكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!! وأعتقد أنّ مارية القبطية التي كانت تسكنُ مصر، وهي بعيدة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما كان أحد يتصوّر مجيئها، هي أولى بأن ينزل جبرئيل بصورتها، ويبشّر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّ الله سيرزقه منها إبراهيم.
وأمّا أنّ جبرئيل كان لا يدخل على محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو مضطجع إلاّ في بيت عائشة فهي أقبحُ من الأُولى، والمعلوم من القرآن الكريم أنّ الله هدّدها عندما تظاهرت على رسوله، هدّدها بجبرئيل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهيراً.
فما أقوال شيوخنا وعلمائنا إلاّ ضربٌ من الظنّ والخيال، وإنّ الظنّ لا يُغني من الحق شيئاً {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْم فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إنْ تَتَّبِعُونَ إلاّ الظَّنَّ وَإنْ أنْتُمْ إلاّ تَخْرُصُونَ}(1).
عائشة فيما بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
أمّا إذا درسنا حياة أُمّ المؤمنين عائشة ابنة أبي بكر بعد لحوق زوجها بالرفيق الأعلى روحي له الفداء، وبعد ما خلاَ لها الجوّ وأصبح أبوها هو الخليفة والرئيس على الأُمّة الإسلامية، وأصبحت هي حينذاك المرأة الأُولى في الدولة الإسلامية; لأنّ زوجها رسول الله وأبوها هو خليفة رسول الله.
ولأنّها كما تعتقد هي أو توهمُ نفسها بأنها أفضلُ أزواج النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لا لشيء إلاّ لأنّه تزوّجها بكراً وما تزوّج بكراً غيرها!! وقد توفّي عنها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي في عزّ شبابها وزهرة عمرها، فكان عمرها يوم وفاة زوجها
____________
1- الأنعام: 148.
نعم، ثمانية عشر عاماً لفتاة بلغت سنّ المراهقة كما يقال اليوم، وقضت نصف عمرها مع صاحب الرسالة، وبين ضرّات يبلغ عددهن عشر أو تسع زوجات، وهناك امرأة أُخرى أغفلنا ذكرها في حياة عائشة، وكانت أشدّ عليها من كلّ ضرّة، لأنّ حبّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لها فاق التصوّر، وهذه المرأة هي فاطمة الزهراء ربيبة عائشة ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من خديجة، وما أدراك ما خديجة الصدّيقة الكبرى التي سلّم عليها جبرئيل، وبشّرها ببيت لها في الجنّة لا صخَب فيه ولا نصب(2).
والتي كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يدع مناسبة تفوته إلاّ ويذكر خديجة، فيتفطر كبد عائشة ويحترق قلبها غيرة، فتثور ثائرتها وتخرج عن أطوارها، فتشتم بما يحلو لها، ولا تبال بعواطف زوجها ومشاعره.
ولنستمع إليها تحدّث عن نفسها بخصوص خديجة، كما روى البخاري، وأحمد، والترمذي، وابن ماجة، قالت: ما غرتُ على امرأة لرسول الله كما
____________
1- صحيح البخاري 3: 156، كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضاً.
2- صحيح البخاري 4: 231، صحيح مسلم 7: 133، باب فضائل أم المؤمنين خديجة.
قالت: فتغيّر وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تغيّراً ما كنتُ أراه إلاّ عند نزول الوحي، وقال: "لا، ما أبدلني الله خيراً منها، قد آمنتْ بي إذ كفر بي النّاس، وصدّقتني إذْ كذّبني الناس، وواستني بما لها إذ حرمني النّاس، ورزقني الله عز وجلّ ولدها إذ حرمني أولاد النساء"(2).
____________
1- قد مرّ بنا سابقاً قولها: ما غرت على امرأة كما غرت على صفية، وقولها: ما غرت على امرأة إلاّ دون ما غرت على مارية، لكِ الله يا عائشة، فهل سَلمتْ واحدة من أزواج النبي من غيرتك وأذيّتك؟ (المؤلف).
2- حديث غيرة عائشة على خديجة رضي الله عنها ورد في مصادر أهل السنّة بكثرة وبألفاظ مختلفة، والمؤلف لفق بين هذه الأحاديث، فقولها: "ما غرت على... وثنائه عليها" يوجد في البخاري 6: 158، ونحوه بلفظ قريب منه في مسلم 7: 134، وسنن ابن ماجة 1: 643، وسنن الترمذي 3: 249 وغيرها.
أمّا قولها: "ما تذكر من عجوز... خيراً منها" يوجد بألفاظه المختلفة في كلّ من: صحيح البخاري 4: 231، صحيح مسلم 7: 134، مسند أحمد 6: 154، السنن الكبرى النسائي 7: 307 وغيرها.
أمّا قولها: "فتغيّر وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله)... أولاد النساء" يوجد بألفاظه المختلفة في: مسند أحمد 6: 118 عنه مجمع الزوائد 9: 224 وقال: "رواه أحمد وإسناده حسن"، فتح الباري 7: 103، فيض القدير 4: 164، البداية والنهاية 3: 158 وقال: "تفرّد به أحمد واسناده لا بأس به، ومجالد روى له مسلم متابعة وفيه كلام مشهور والله أعلم".
وانظر أيضاً المعجم الكبير للطبراني 23: 13، تاريخ دمشق 3: 195، الاصابة
=>
ومرّة أخرى يعلّمنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّه لا يميل مع الهوى، ولا يحبّ الجمال والبكارة; لأنّ خديجة سلام الله عليها تزوّجت قبله مرّتين، وكانت تكبره بخمسة عشرة عاماً، ومع ذلك فهو يحبّها ولا ينثني عن ذكرها، وهذا
____________
<=
8: 103.
أمّا مجالد بن سعيد فقد وثّقه غير واحد كما في مجمع الزوائد 10: 399، وهو حسن الحديث كما في مجمع الزوائد أيضاً 9: 242.
وذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء 2: 112 من طريق مروان بن معاوية، عن وائل بن داود، عن عبد الله البهي، عن عائشة، والسند حسن كما صرّح محقّق الكتاب بذلك.
وكذلك أخرجه الدولابي في كتابه الذرية الطاهرة: 31 عن محمّد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، عن مروان بن معاوية الفزاري، عن وائل بن داود، عن عبد الله البهي، عن عائشة. وهذا السند حسن كما ترى، والحسن يحتج به; لأنّه من قسم الصحيح بالمعنى الأعم.
ومنه يتبيّن أن ما ذكره في "كشف الجاني": 133 من تضعيف هذه الزيادة واتهام المؤلّف بالكذب ليس بصحيح، وناشئ من عدم اطّلاع عثمان الخميس على رواياتهم ومباني علماء الحديث وذلك:
1ـ إنّ مجالد بن سعيد مختلف فيه، فحديثه يكون حسناً على أقل تقدير.
2ـ إنّ مجالد بن سعيد لم ينفرد بهذه الزيادة، بل وردت عن عبد الله البهي، وهو ثقة فيحتجّ بحديثه، ويكون حديث مجالد بن سعيد صحيحاً; لأنّ له متابعاً صحيحاً وهو حديث عبد الله البهي، فيكون مقوّياً له.
وهناك فرق كبير بين هذه الرواية الحقيقية، وتلك المزيّفة التي تدّعي بأنّ الرسول يميل إلى عائشة، حتّى بعثن إليه نساؤُه ينشدنه العدل في ابنة أبي قحافة!!
وهل لنا أن نسأل أُمّ المؤمنين عائشة التي ما رأت يوماً في حياتها السيّدة خديجة رضوان الله عليها ولا التقت بها: كيف تقول عنها: عجوز حمراء الشّدقين؟ وهل هذه هي أخلاق المؤمنة العادية الّتي يحرمُ عليها أن تغتاب غيرها إذا كان حيّاً! فما بالك بالميّت الذي أفضى إلى ربِّه!! فما بالك إذا كان ضحية الغيبة زوج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والتي ينزل جبرئيل في بيتها ويبشّرها ببيت في الجنّة لا صخب فه ولا نصب؟!
وبالتأكيد إنّ ذلك البغض، وتلك الغيرة التي تأجّجت في قلب عائشة من أجل خديجة لابدّ لها من فورة ومتنفّس وإلاّ انفجرت، فلم تجد عائشة أمامها إلاّ فاطمة ابنة خديجة ربيبتها، والتي هي في سنّها أو تكبرها قليلا على اختلاف الرّواة.
وبالتأكيد ـ أيضاً ـ أنّ ذلك الحبّ العميق من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لخديجة تجسّد وقوِيَ في ابنته ووحيدته فاطمة الزهراء، فهي الوحيدة التي عاشت مع أبيها، تحمـل في جنباتها أجمل الذكريات التي كان يحبّها رسول الله في خديجة، فكان يسمّيها أمّ أبيها.
وزاد في غيرة عائشة أن ترى رسول الله يمجّد ابنته، ويسمّيها سيّدة نساء
ثمّ ازدادت الغيرة أكثر عندما شملت زوج فاطمة أبا الحسنين لا لشيء إلاّ لحبّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إيّاه، وتقديمه على أبيها في كلّ المواقف، فلا شكّ أنّها كانت تعيش الأحداث.
وترى ابن أبي طالب يفوز في كلّ مرّة على أبيها، ويمضي بحبّ الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) له، وتفضيله وتقديمه على من سواه، فقد عرفت أنّ أباها رجع مهزوماً في غزوة خيبر بمن معه من الجيوش، وأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تألّم لذلك وقال: "لأعطين الراية رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبُّهُ الله ورسوله كرّار غير فرار"(3)، وكان ذلك الرجل هو علي بن أبي طالب زوج فاطمة، ثمّ رجع
____________
1- صحيح البخاري 4: 183، 209 و7: 142.
2- ورد في تاريخ دمشق 13: 202، وكنز العمال 13: 667 ح37699 بلفظ: "إنّ ابني هذين..."، وفي مسند أحمد 2: 85 ـ 114 وصرّح محقّق الكتاب أحمد شاكر في كلا الموضعين بصحته، والمصنّف لابن أبي شيبة 7: 514 ح16، والسنن الكبرى للنسائي 5: 49 ح8167، وصحيح ابن حبان 15: 426 بلفظ: "هما ريحانتي من الدنيا".
3- بهذا اللفظ في تاريخ دمشق 41: 219، وكنز العمال 13: 123 ح36393، ويوجد صدر الحديث في صحيح البخاري 5: 76، صحيح مسلم 5: 195، ويوجد بلفظ: "ليس بفرار" في مسند أحمد 1: 99، المصنّف لابن أبي شيبة 8: 522، السنن الكبرى للنسائي 5: 109، المعجم الكبير للطبراني 7: 35.
وقد عرفت ـ أيضاً ـ أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث أبوها بسورة براءة ليبلّغها إلى الحجيج، ولكنّه أرسل خلفه علي بن أبي طالب فأخذها منه، ورجع أبوها يبكي ويسأل عن السبب، فيجيبه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "إن الله أمرني أن لا يبلّغ عني إلاّ أنا أو أحد من أهل بيتي"(1).
وقد عرفتْ أيضاً بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نصّب ابن عمّه علي خليفة على المسلمين من بعده، وأمر أصحابه وزوجاته بتهنئته بإمرة المؤمنين، فجاءه أبوها في مقدّمة النّاس يقول: بخ بخ لك يا بن أبي طالب، أصبحت وأمسيت مولى كلّ مؤمن ومؤمنة.
وقد عرفتْ بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أَمَّر على أبيها شابّاً صغيراً لا نبات بعارضيه، عمره سبعة عشر عاماً، وأمره بالسّير تحت قيادته والصلاة خلفه.
ولا شكّ بأنّ أُمّ المؤمنين عائشة كانت تتفاعل مع هذه الأحداث، فكانت تحمل في جنباتها همَّ أبيها، والمنافسة على الخلافة والمؤامرة التي تدور عند رؤساء القبائل في قريش، فكانت تزداد بُغضاً وحنقاً على علي وفاطمة، وتحاول بكلّ جهودها أنْ تتدخّل لتغيير الموقف لصالح أبيها بشتّى الوسائل، كلّفها ذلك ما كلّفها.
____________
1- انظر بألفاظه المختلفة: مسند أحمد 1: 3 وصرّح محقّق الكتاب أحمد شاكر بصحته، كتاب السنّة لابن أبي عاصم: 595، السنن الكبرى للنسائي 5: 129، المعجم الأوسط 3: 165، الدر المنثور 3: 210.
والباحث في هذه القضية التي روتها عائشة بروايات مختلفة ومتضاربة يجدُ التناقض واضحاً، وإلاّ فإنّ أباها عبّأه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في جيش، وأمره بالخروج تحتَ قيادة أُسَامة بن زيد قبل تلك الصّلاة بثلاثة أيام، ومن المعلوم بالضرورة أنّ قائد الجيش هو إمام الصلاة، فأُسامة هو إمام أبي بكر في تلك السرية.
فلمّا أحسّتْ عائشة بتلك الإهانة، وفهمت مقصود النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منها، خصوصاً وأنّها تفطّنت بأنّ علي بن أبي طالب لم يعيّنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك الجيش الذي عبّأ فيه وجوه المهاجرين والأنصار، والذين لهم في قريش زعامة ومكانة، وقد علمتْ من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كْما علم أكثر أصحابه بأنّ أيّامه أصبحتْ معدودة، ولعلّها كانتْ على رأي عمر بن الخطّاب في أنّ رسول الله أصبح يهجرُ ولا يدري ما يفعَلُ; فدفعتها غيرتها القاتلة أن تتصرّف بما تراه يرفع من شأن أبيها وقدره مقابل منافسه علي.
ولكلّ ذلك أنكرت أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أوصى لعلي، ولذلك حاولت إقناع البسطاء من النّاس بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مات في حجرها بين سحرها
____________
1- راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9: 197.