الصفحة 239
وقال ـ أيضاً ـ: "لا يجتمع في قلب مؤمن حبّ الله وحبّ عدوّه".

والأحاديث في هذا المجال كثيرة جدّاً، ويكفي العقل وحده دليلا بأنّ الله سبحانه حبّبَ للمؤمنين الإيمان وزيّنه في قلوبهم، وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، فقد يكره الإنسان ابنَهُ أو أباه أو أخاه لمعاندة الحقّ والتمادي في طريق الشيطان، وقد يحبّ ويوالي أجنبي لا تربطه به إلاّ إخوّة الإسلام.

ولكلّ هذا يجبُ أن يكون حُبّنا وودّنا وموالاتنا لمن أمر الله بمودّتهم، كما يجبُ أن يكون بغضنا وكرهنا وبراءتنا لمن أمر الله سبحانه بالبراءة منهم.

ومن أجل ذلك كانت موالاتنا لعلي والأئمّة من بنيه من غير أن تكون لنا علاقة مسبقة بمودّتهم، وذلك لأنّ القرآن والسنّة والتّاريخ والعقل لم يتركوا لنا فيهم أي ريب.

ومن أجل ذلك كانت ـ أيضاً ـ براءتنا من الصّحابة الذين اغتصبوا حقّه في الخلافة، من غير أن تكون لنا علاقة مسبقة ببغضهم; وذلك لأنّ القرآن والسنّة والتاريخ والعقل تركوا لنا فيهم ريباً كبيراً.

وبما أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمرنا بقوله: "دعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك" فلا ينبغي لمسلم أنْ يتّبع أيّ أمر مريب، ويترك الكتاب الذي لا ريب فيه.

كما يجبُ على كلّ مسلم أن يتحرّر من قيوده وتقاليده، ويحكّم عقله بدون أفكار مسبقة ولا أحقاد دفينة; لأنّ النّفس والشيطان عدوّان خطيران يُزيّنان للإنسان سوء عمله فيراه حسناً، ولنعم ما قاله الإمام البوصيري في البردة:


الصفحة 240

وخالف النّفس والشيطان واعصهماوإن هما محّضاك النصح فاتّهم

وعلى المسلمين أن يتّقوا الله في عباده الصّالحين منهم، أمّا الذين لم يكونوا من المتّقين فلا حرمة لهم، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا نميمة في فاسق" ليكشف المسلمون أمره، فلا يغترّون به ولا يوالونَه.

وعلى المسلمين أنْ يكونوا اليوم صادقين مع أنفسهم، وينظروا إلى واقعهم المؤلم الحزين المخزي، ويكفيهم من التغنّي والتفاخر بأمجاد أسلافهم وكبرائهم، فلو كان أسلافنا على حقّ كما نصوّرهم اليوم لما وصلنا نحن إلى هذه النتيجة التي هي حتماً حصيلة الانقلاب الذي وقع في الأُمّة بعد وفاة نبيّها، روحي وأرواح العالمين له الفداء.

{يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أنفُسِكُمْ أوِ الوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنِيّاً أوْ فَقِيراً فَاللّهُ أوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الهَوَى أنْ تَعْدِلُوا وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا فَإنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}(1).

قول أهل الذكر بخصوص بعض الصحابة

قال الإمام علي (عليه السلام)، يصف هؤلاء الصّحابة المعدودين من السّابقين الأوّلين:

"فلمّا نهضت بالأمر، نكثتْ طائفةٌ، ومرقتْ أُخرى، وقسط آخرون(2)،

____________

1- النساء: 135.

2- يقول محمّد عبده في شرح نهج البلاغة من الخطبة الشقشقية في هذا: الناكثون أصحاب الجمل، والمارقون أصحاب النهروان، والقاسطون أي الجائرون وهم أصحاب صفين. (المؤلّف).


الصفحة 241
كأنّهم لم يسمعوا كلامَ الله حيث يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلا فَسَاداً وَالعَاقِبَةُ لِلْمُـتَّقِينَ}(1)!! بلى والله لقد سمعوها ووعوها، ولكنّهم حليت الدنيا في أعُينهم، وراقهم زبْرجُها"(2).

وقال ـ أيضاً ـ سلام الله عليه فيهم: "اتّخذوا الشيطان لأمرهم ملاكاً، واتّخذهم له أشراكاً، فباض وفرّخ في صدورهم، ودبّ ودرج في حجُورهم، فنظر بأعينهم، ونطق بألسنتهم، فركب بهم الزّلل، وزيّن لهم الخطل، فعل من قد شرّكه الشيطان في سلطان، ونطق بالباطل على لسانه"(3).

وقال (عليه السلام) في الصّحابي المشهور عمرو بن العاص: "عجباً لابن النّابغة... لقد قال باطلا، ونطق إثماً، أما وشرُّ القول الكذبُ، إنّه يقول فيكذب، ويعد فيُخلِفُ، ويُسْأَلُ فيُلحِفُ، ويسأل فيْبَخلُ، ويخونُ العهدَ ويقطَعُ الإلَّ"(4).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذبَ، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان"(5).

وكلّ هذه الرّذائل وأكثر منها موجودة في عمرو بن العاص.

وقال (عليه السلام) في مدح أبي ذر الغفّاري، وذمّ عثمان ومن معه الذين أخرجوه إلى الربذة، ونفوه إلى أن مات وحيداً:

____________

1- القصص: 83.

2- نهج البلاغة1: 36، الخطبة 3.

3- نهج البلاغة1: 42، الخطبة 7.

4- نهج البلاغة1: 47،الخطبة 84.

5- تحف العقول: 10، صحيح البخاري 1: 14 كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، صحيح مسلم 1: 56 كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق.


الصفحة 242
"يا أبا ذر، إنّك غضبت لله فارج من غضبتَ لهُ، إنّ القومَ خافوك على دنياهم وخفتَهُم على دينك، فاترك في أيديهم مَا خَافوك عليه، واهرب منهم بما خِفتَهُم عليه، فَما أحوجهم إلى ما منعتهم، وما أغناك عمّا منعوك، وستعلم من الرابحُ غداً والأكثر حُسَّداً، ولو أنّ السّماوات والأرضين كانت على عبد رتْقّاً ثم اتّقى الله لجعل الله له منهما مخرجاً، ولا يُؤْنِسَنَّك إلاّ الحقُّ، ولا يُوحشَنَّكَ إلاّ الباطِلُ، فلو قبِلتَ دنياهم لأَحبُّوك، ولو قرضت منها لأَمنوك"(1).

وقال (عليه السلام) في المغيرة بن الأخنس، وهو ـ أيضاً ـ من أكابر الصّحابة: "يابن اللّعين الأبتر، والشجرة التي لا أصل لها ولا فرع، والله ما أعزّ الله من أنتَ ناصِرُهُ، ولا قامَ منْ أنتَ مُنْهِضُهُ، اخرج عنّا أبعد الله نواكَ، ثمَّ أبلغْ جهدَكَ فلا أبقَى الله عليك إنْ أبقيت"(2).

وقال (عليه السلام) في طلحة والزّبير الصّحابيين الشهيرين اللذين حارباه بعدما بايعاه ونكثا بيعته:

"والله ما أنكروا عليّ مُنكراً، ولا جعلوا بيني وبينهم نصَفاً، وإنّهم ليطلبون حقّاً هُمْ تركوه، ودَماً هُمْ سفكُوهُ..."(3).

"وإنّها للفئة الباغية فيها الحِمَا والحُمَّةُ، والشبْهةُ المُغْدِقَةُ، وإنّ الأمر لواضحٌ، وقد زاح الباطلُ عن نصابه، واقطع لسانُه عن شغبهِ...

____________

1- نهج البلاغة 2: 13، الخطبة 130.

2- نهج البلاغة2: 18، الخطبة 135.

3- نهج البلاغة 1: 59، الخطبة 22.


الصفحة 243
فأقبلتُمْ إلي إقبال العوذِ المطافيل على أولادها، تقولون: البيعةَ البيعةَ، قبضْتُ كفِّي فبسطتُموها، ونازعتكم يدي فجاذبتموها.

اللّهمّ إنّهما قطعاني وظلماني، ونكثا بيعتي، وأَلَّبَا النَّاسَ علىَّ، فاحلُلْ ما عقَدَا، ولا تُحكم لهما مَا أبرما، وأرِهمَا المسَاءَة فيما أَمَّلاَ وعَمِلاَ، ولقد استتبْتُهُمَا قبل القتال، واستأنيتُ بهما أمَامَ الوقاعِ، فغَمَطَا النّعمة، وردَّا العَافيةَ"(1).

وفي رسالة منه إليهما أيضاً:

"فارجعا أيها الشيخان عن رأيكما، فإن الآن أعظمُ أمركما العارُ من قبل أن يجتمع العارُ والنارُ، والسلام"(2).

وقال (عليه السلام) في مروان بن الحكم، وقد أسره في حرب الجمل ثمّ أطلق سراحه، وهو من الذين بايعوا ونكثوا البيعة:

" لا حاجة لي في بيعتِهِ ; إنّها كـفٌّ يهوديّة، لو بايعني بكفَّهِ لغَدَرَ بسبَّتِهِ، أَمَا إنّ لَهُ إمْرَةٌ كلعقةِ الكلْبِ أَنْفَهُ، وهو أبو الأكبش الأربعة.، وستلقَى الأُمَّةُ منْهُ ومِنْ ولَدِهِ يوماً أحْمَرَ"(3).

وقال (عليه السلام) في الصّحابة الذين خرجوا مع عائشة إلى البصرة في حرب الجمل، وفيهم طلحة والزبير:

"فخرجوا يجرّون حُرمَةَ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما تُجرُّ الأمة عند شرائِهَا،

____________

1- نهج البلاغة2: 21، الخطبة 137.

2- نهج البلاغة3: 112، الخطبة 54.

3- نهج البلاغة1: 123، الخطبة 73.


الصفحة 244
متوجّهين بها إلى البصرة، فحبسَا نساءهُما في بُيوتهما وأبْرزَا حبيس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لهُما ولغيرهما، في جيش ما منهم رجلٌ إلاّ وقد أعطاني الطاعة، وسمح لي بالبيعة طائعاً غير مكره.

فقدِمُوا على عاملي بها، وخُزّان بيت مال المسلمين وغيرهم من أهلها، فقتلوا طائفة صبراً، وطائفة غدْراً، فوالله لو لم يصيبوا من المسلمين إلاّ رجلا واحداً متعمدين لقتله بلا جُرم جرّهُ، لحلّ لي قتل ذلك الجيش كلّه إذْ حضروه فلم ينكروا ولم يدفعوا عنه بلسان ولا يد، دع ما أنّهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدّة التي دخلوا بها عليهم"(1).

وقال (عليه السلام) في عائشة وأتْباعها من الصّحابة في حرب الجمل:

"كنتُمْ جند المرأةِ، وأتباعَ البهيمة، رغا فأجبتُمْ، وعَقَر فهربتُم، أخلاقُكم دقاقٌ، وعهدُكم شقاقّ، ودينكم نفاقٌ"(2).

"أمّا فلانة فأدركها رأيُ النّساء، وضغنٌ غَلا في صدرها كمرجَلِ القين، ولو دُعيتْ لتَنال من غيري ما أتتْ إلىّ لم تفعَلْ، ولها بعدُ حُرمتُها الأُولى، والحسابُ على الله تعالى"(3).

وقال (عليه السلام) في قريش عامّة، وهم صحابة بلا شكّ:

"أمّا الاستبدادُ علينا بهذا المقام ونحنُ الأعلونَ نسباً، والأشدّونَ برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نَوْطاً، فإنّها كانت أَثَرَةٌ شَحّتْ عليها نفوس قوم، وسخت عنها

____________

1- نهج البلاغة2: 86، الخطبة 172.

2- نهج البلاغة1: 45، الخطبة 13.

3- نهج البلاغة2: 48، الخطبة 156.


الصفحة 245
نفوسُ قوم آخرين، والحكمُ الله، والمَعودُ إليه القيامةُ.


ودع عنك نهباً صِيحَ في حُجَراتهولكن حديثاً ما حديث الرواحل

وهلّم الخطبَ في ابن أبي سفيان، فلقد أضحكني الدّهرُ بعد إبكائه، ولا غروَ والله فيا له خطباً يستفرغُ العَجَبَ ويُكثِرُ الأوَدَ، حاول القومُ إطفاء نور الله من مصباحه، وسدّ فوَّاره من يُنبوعِهِ، وجَدَحوا بيني وبينهم شِرباً وبيئاً، فإن ترتفعُ عنّا وعنهم مِحَنُ البلوى أحملهم من الحـقّ على محضِهِ، وإنْ تكنِ الأخري {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرات إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ} "(1).

وقال في هذا المعنى عند دفنه سيدة النّساء فاطمة الزّهراء، وهو يخاطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

"وستُنْبئُكَ ابنتك بتضَافِرُ أُمّتِكَ على هضْمِهَا، فأحفها السؤال، واستخبرها الحال، هذا ولم يطل العهد، ولم يخلُ منك الذكر..."(2).

وقال (عليه السلام) في رسالة إلى معاوية بعث بها إليه:

"فإنّك مُترفٌ قد أخذ الشيطانُ منك مأْخذَهُ، وبَلَغَ فيكَ أَمَلَهُ، وجَرى منْك مجرى الروح والدَّم.

ومتى كنتم ـ يا معاوية ـ ساسة الرعيّة، وولاّة أمر الأُمّةِ بغير قدم سابق ولا شرف باسق، ونعوذ بالله من لزوم سوابق الشّقاء؟! وأُحذّرك أن تكون مُتمادياً في غِرَّة الأمنيةِ مُختلفِ العلانية والسريرة.

وقد دعوت إلى الحرب فدع النّاسَ جانباً، وأخرج إلىَّ وأعفِ الفريقين

____________

1- نهج البلاغة2: 64، الخطبة 162.

2- نهج البلاغة2: 182، الخطبة 202.


الصفحة 246
من القتالِ، ليُعلمَ أيّنَا المَرينُ على قلبه، والمُغَطَّى على بصره، فأنا أبو الحسن قاتلُ جدّكَ وخالِكَ وأخيك شدخاً يوم بدر، وذلك السيفُ معي، وبذلك القلب أَلْقَى عدوّي، ما استبدلتُ ديناً، ولا استحدثتُ نبيّاً، وإنّي لعلى المنهاج الذي تركتموه طائعينَ ودخلتم فيه مُكْرهين..."(1).

"وأمّا قولُكَ إنّا بنو عبد مناف فكذلك نحنُ، ولكن ليس أُميةَ كهاشم، ولا حربٌ كعبد المُطّلب، ولا أبو سفيان كأبي طالب، ولا المهاجرُ كالطليقُ، ولا الصَّريحُ كاللّصيقِ، ولا المحقُّ كالمُبطلِ، ولا المؤمِنُ كالمُدْغِلِ، ولبئْسَ الخَلَفُ خَلَفٌ يتتبعُ سلفاً هَوَى في نار جهنّم.

وفي أيدينا بعدُ فضل النبوّة التي أذلَلْنا بها العزيز، ونعشنا بها الذّليل، ولمّا أدخل الله العرَبَ في دينه أفواجاً، وأسلمتْ له هذه الأُمّة طوعاً وكرهاً كنتم ممّن دخَلَ في الدِّين إمّا رغبةً وإمّا رهبةً، على حين فازَ أهل السّبقِ بسبْقِهم، وذهب المهاجرون الأوّلون بفضلهم"(2).

"وقد دعوتنا إلى حُكْمِ القرآن ولَسْتَ من أَهْلِهِ، ولسنا إيّاكَ أَجبْنَا، ولكِنَّا أجبنَا القرآن في حُكْمِهِ، والسّلام"(3).

{وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً}(4).

____________

1- نهج البلاغة3: 12، الخطبة 10.

2- نهج البلاغة3: 17، الخطبة 17.

3- نهج البلاغة3:78، الخطبة 48.

4- الإسراء: 48.


الصفحة 247

الفصل الخامس
فيما يتعلّق بالخلفاء الثلاثة أبو بكر وعمر وعثمان


إنّ أهل السنّة والجماعة ـ وكما قدّمنا ـ لا يسمحون بنقد وتجريح أىّ صحابي من صحابته (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويعتقدون بعدالتهم جميعاً، وإذا كتب أيّ مفكر حرّ، وتناول بالنقد أفعال بعض الصّحابة، فهم يُشنّعون عليه بل ويكفّرونه ولو كان من علمائهم.

وذلك ما حصل لبعض العلماء المتحرّرين المصريين وغير المصريين أمثال الشيخ محمود أبو ريّة صاحب "أضواء على السنّة المحمدية"، وكتاب "شيخ المضيرة"، وكالقاضي الشيخ محمّد أمين الأنطاكي صاحب كتاب "لماذا اخترت مذهب أهل البيت"، وكالسيّد محمّد بن عقيل الذي ألّف كتاب "النصائح الكافية لمن يتولّى معاوية"، بل ذهب بعض الكتّاب المصريين إلى تكفير الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر عندما أفتى بجواز التعبّد بالمذهب الجعفري.

وإذا كان شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية يُشنّع عليه لمجرّد اعترافَه بالمذهب الشيعي، الذي ينتسِبُ لأُستاذ الأئمة ومعلّمهم جعفر الصادق (عليه السلام)، فما بالك بمن اعتنق هذا المذهب بعد بحث وقناعة، وتناول بالنقد المذهب الذي كان عليه وورثه من الآباء والأجداد؟! فهذا ما لا يسمح به أهل السنّة

الصفحة 248
والجماعة، ويعتبرونه مروقاً عن الدّين وخروجاً عن الإسلام، وكأنّ الإسلام على زعمهم هو المذاهب الأربعة، وغيرها باطل!!

إنّها عقول متحجّرة وجامدة، تُشبهُ تلك العقول التي يحدّثنا عنها القرآن، والتي واجهت دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعارضته معارضة شديدة; لأنّه دعاهم إلى التوحيد وترك الآلهة المتعدّدة، قال تعالى: {وَعَجِبُوا أنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهاً وَاحِداً إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}(1).

ولكلّ ذلك فأنا واثقُ من الهجمة الشرسة التي سوف تُواجهني من أُولئك المتعصّبين الذين جعلوا أنفسهم قوّامين على غيرهم، فلا يحقّ لأحد أن يخرج عن المألوف لديهم، ولو كان هذا المألوف لا يمتّ للإسلام بشيء!! وإلاّ كيف يحكم على من انتقد بعض الصّحابة في أعمالهم بالخروج عن الدّين والكفر، والدّينُ بأُصوله وفروعه ليس فيه شيء من ذلك؟!

بعض المتعصّبين كان يروّج في أوساطه بأنّ كتابي "ثمّ اهتديت" يشبه كتاب سلمان رُشدي، ليصدّ الناس عن قراءته بل ويحثّهم على لعن كاتبه!!

إنّه الدسّ والتزوير والبهتان العظيم الذي سوف يُحاسبه عليه ربّ العالمين، وإلاّ كيف يُقارن كتاب "ثمّ اهتديت" الذي يدعو إلى القول بعصمة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتنزيهه، والاقتداء بأئمة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً; بكتاب "الآيات الشيطانية" الذي يشتمُ فيه صاحبه الملعون الإسلام ونبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويعتبر أنّ الدين الإسلامي هو نفثة الشياطين؟!

____________

1- ص: 5.


الصفحة 249
فالله يقول: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أنفُسِكُمْ}(1).

ومن أجل هذه الآية الكريمة فأنا لا أُبالي إلاّ برضاء الله سبحانه وتعالى، ولا أخشى فيه لومة لائم ما دمتُ أُدافعُ عن الإسلام الصحيح، وأُنزّه نبيَّهُ الكريم عن كلّ خطأ، ولو كان ذلك على حساب نقد بعض الصّحابة المقرّبين، ولو كانوا من "الخلفاء الراشدين"; لأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أولى بالتنزيه من كلّ البشر.

والقارئ الحرُّ اللّبيب يفهمُ من كلّ مؤلّفاتي ما هو الهدف المنشود، فليست القضية هي انتقاصُ الصّحابة والنيل منهم بقدر ما هو دفاع عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعصمته، ودفع الشبهات التي ألصقها الأمويون والعباسيون بالإسلام وبنبىّ الإسلام، خلال القرون الأُولى التي تحكّموا فيها على رقاب المسلمين بالقهر والقوّة، وغيّروا دين الله بما أملته عليهم أغراضهم الدنيئة، وسياستهم العقيمة، وأهواؤهم الخسيسة.

وقد أثّرتْ مؤامرتهم الكبرى على كتلة كبيرة من المسلمين الذين اتبعوهم عن حسن نيّة فيهم، وتقبّلوا كلّ ما رووه من تحريف وأكاذيب على أنّها حقائق، وأنّها من الإسلام، ويجب على المسلمين أن يتعبّدوا بها ولا يُناقشوها!!

ولو عرف المسلمون حقيقة الأمر لما أقاموا لهم ولا لمروياتهم وزناً.

ثمّ إنّه لو كان التاريخُ يروي لنا بأنّ الصّحابة كانوا يمتثلون أوامر رسول

____________

1- النساء: 135.


الصفحة 250
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ونواهيه، ولا يناقشونه ولا يعترضون على أحكامه، وأنّهم لم يعصوه في أواخر أيام حياته في عدّة أحكام; لحكمنا بعدَالتِهم جميعاً، ولما كان لنا في هذا المجال بحثٌ ولا كلام.

أمّا وإنّ منهم مكذّبون، ومنهم منافقون، ومنهم فاسقون بنصّ القرآن والسنّة الثابتة الصحيحة. أمّا وأنّهم اختلفوا بحضرته، وعصوه في أمر الكتاب حتّى اتهموه بالهذيان، ومنعوه من الكتابة، ولم يمتثلوا أوامره عندما أمّر عليهم أُسامة.. أمّا وإنّهم اختلفوا في خلافته (صلى الله عليه وآله وسلم) حتّى أهملوا تغسيله وتجهيزه ودفنه، واختصموا من أجل الخلافة، فرضي بها بعضهم ورفضها بعضهم الآخر.. أمّا وإنّهم اختلفوا في كلّ شيء بعده حتّى كفّر بعضهم بعضاً ولعن بعضهم بعضاً، وتحاربوا فقتل بعضهم بعضاً، وتبرّأ بعضهم من بعض.

أمّا وإنّ دين الله الواحد أصبح مذاهب متعدّدة وآراء مختلفة; فلابدّ والحال هذه أنْ نبحث عن العلّة وعن الخللْ الذي أرجع خير أُمّة أُخرجت للنّاس، وأهوى بها إلى الحضيض، فأصبحتْ أذلّ وأجهل وأحقر أُمّة على وجه البسيطة، تنتهكُ حُرماتها، وتحتلُّ مقدساتْها، وتستعمرُ شعوبُها، وتشرّدُ وتطردُ من أراضيها، فلا تقدر على دفع المعتدين، ولا مسح العار عن جبينها؟!

والعلاج الوحيد فيما أعتقد لهذه المعضلة هو النقد الذّاتي، فكفانا التغنّي بأسلافنا وبأمجادنا المزيّفة التي تبخَرتْ وأصبحت متاحف أثرية خالية حتى من الزوّار، والواقع يدعونا أن نبحث عن أسباب أمراضنا وتخلّفنا، وتفرّقنا وفشلنا حتى نكتشف الدّاء فنشخّص له الدواء الناجع لشفائنا، قبل

الصفحة 251
أن يقضي علينا ويأتي على آخرنا.

هذا هو الهدف المنشود، والله وحده هو المعبود، وهو الهادي عباده إلى سواء الصراط.

وما دام هدفنا سليماً، فما قيمة اعتراض المعترضين والمتعصّبين الذين لا يعرفون إلاّ السّباب والشتائم بحجّة الدفاع عن الصّحابة، وهؤلاء لا نلومهم ولا نحقد عليهم بقدر ما نرثي لحالهم; لأنّهم مساكين منعهم حسنُ ظنّهم بالصّحابة وحجبَهم عن الوصول للحقيقة، فما أشبههم بأولاد اليهود والنّصارى الذين أحسنوا الظنّ بآبائهم وأجدادهم، ولم يكلّفوا أنفسهم جهد البحث في الإسلام، معتقدين بمقالة أسلافهم بأنّ محمّداً كذّابٌ، وليس هو بنبىّ، قال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ}(1).

وبمرور القرون المتتالية أصبح من العسير اليوم على المسلم أن يُقنع يهوديّاً أو نصرانيّاً بعقيدة الإسلام، فما بالك بمن يقول لهم بأنّ التوراة والانجيل اللذين يتدالونهما هما محرّفان، ويستدلّ على ذلك بالقرآن، فهل يجد هذا المسلم آذاناً صاغية لديهم؟

وكذلك المسلم البسيط الذي يعتقد بعدالة كلّ الصّحابة، ويتعصّب لذلك بدون دليل، فهل يمكن لأحد من النّاس أن يقنعه بعكس ذلك؟

وإذا كان هؤلاء لا يطيقون جرح ونقد معاوية وابنه يزيد، وأمثالهم كثير الذين شوّهوا الإسلام بأعمالهم القبيحة; فما بالك إذا كلّمتهم عن أبي بكر وعمر وعثمان (الصديق والفاروق ومن تستحي منه الملائكة)، أو عن عائشة

____________

1- البينة: 3.


الصفحة 252
أُمّ المؤمنين زوجة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وابنة أبي بكر، والتي تكلّمنا عنها في فصل سابق بما رواه عنها أصحاب الصحاح المعتمدين عند أهل السنة؟!

وجاء الآن دور الخلفاء الثلاثة لنكشف عن بعض أفعالهم التي سجّلها عليهم صحاح السنّة ومسانيدُهم وكتب التاريخ المعتمدة لديهم، لنبيّن ـ أوّلا ـ أنّ مقولة عدالة الصّحابة غير صحيحة، وأنّ العدالة انتفتْ حتى عن بعض الصّحابة المقرّبين.

ولنكشف ـ ثانياً ـ لإخواننا من أهل السنّة والجماعة بأنّ هذه الانتقادات لا تدخل في السبّ والشتم والانتقاص بقدر ما هي إزالة للحجب للوصول إلى الحقّ، كما أنّها ليست من مختلقات وأكاذيب الروافض كما يدّعي عامّة النّاس، وإنّما هي من الكتب التي حكموا بصّحتها، وألزمُوا أنفسهم بها.

أبو بكر الصدّيق في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)

أخرج البخاري في صحيحه من الجزء السادس صفحة 46 في كتاب تفسير القرآن سورة الحجرات، قال: حدّثنا نافع بن عمر، عن ابن أبي مليكة، قال: كاد الخيّران أن يهلكا; أبا بكر وعمر رضي الله عنهما; رفعا أصواتُهما عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين قدمَ عليه ركبُ بني تميم، فأشار أحدُهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخرُ برجل آخر، قال نافع: لا أحفظ اسمه، فقال أبو بكر لعمر: ما أردتَ إلاّ خلافي، قال: ما أردتُ خلافك، فارتفعتْ أصواتُهما في ذلك، فأنزل الله: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُمْ}(1)الآية.

____________

1- الحجرات: 2.


الصفحة 253
قال ابن الزبير: فما كان عمر يُسمِعُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد هذه الآية حتّى يستفهمَه، ولم يذكر ذلك عن أبيه يعني أبا بكر.

كما أخرج البخاري في صحيحه في الجزء الثامن صفحة 145 من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة، باب ما يكره من التعمّق والتنازع، قال: أخبرنا وكيع، عن نافع بن عمر، عن ابن أبي مليكة قال: كاد الخيّران أن يَهلكا أبو بكر وعمر; لما قدم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفْدُ بني تميم، أشار أحدُهما بالأقرع ابن حابس التميمي الحنظلي أخي بني مُجَاشِع، وأشارَ الآخرُ بغيره، فقال أبو بكر لعمر: إنّما أردتَ خلافِي، فقال عمر: ما أردتُ خلافكَ، فارتفعت أصواتُهما عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فنزلت: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض أنْ تَحْبَطَ أعْمَالُـكُمْ وَأنْتُمْ لا تَشْعُـرُونَ * إنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ اُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللّهُ قُـلُوبَهُمْ لِلتَّـقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأجْرٌ عَظِيمٌ}(1).

قال ابن أبي مليكة: قال ابن الزبير: فكان عمر بعدُ ولم يذكر ذلك عن أبيه يعني أبا بكر إذا حدّث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بحديث حدّثه كأخي السرار لم يُسمعه حتّى يستفهمه.

كما أخرج البخاري في صحيحه من الجزء الخامس صفحة 116 من كتاب المغازي ـ وفد بني تميم قال: حدّثنا هشام بن يوسف، أنّ ابن جريج أخبرهم عن ابن أبي مليكة، أنّ عبد الله بن الزبير أخبرهم أنّه قدم ركبٌ من بني تميم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال أبو بكر: أمرِّ القعقاع بن معبد بن زرارة،

____________

1- الحجرات: 2 ـ 3.